التحقيق والتخييل

طفرة الكتابات ما بعد السجنية بالمغرب

يحيى بن الوليد

"لا تقرأ التاريخ. لا تقرأ غير السيَر، ففيها تروى قصص الحياة بلا نظريات"

بنجامين ديزرائيلي.



 قبل عام واحد، فقط، من انطفاء العقد، عقده، الأول، في دنيا، أو، بالأحرى، أدغال "استقلاله" الوليد، وعلى وجه التحديد العام 1965، سيشهد المغرب، "المغرب الجديد"، تلك الرجة المفاجئة أو الهزة العنيفة التي سيصطلح عليها، في القاموس السياسي، أو تاريخ الاحتجاجات بالمغرب، بأحداث "23 Mars" الدامية التي راح ضحيتها مئات الأرواح من أبناء الوطن ممن قاوموا الاستعمار من قبل ودخلوا السجن من أجل ذلك، وممن علَّقوا آمالا عريضة على "أحلام الاستقلال" و"بناء المغرب الجديد". وكل ذلك في المتصل القريب، وليس البعيد، الذي سيكشف عن أحداث وهزات أخرى متتالية لن تختلف، ومن ناحية الدلالة السياسية، الحدية، ذاتها، عن الحدث السابق، إلا من ناحية الدرجة لا الطبيعة أو الجوهر. مما سيطرح، ومنذ وقت مبكر في "تاريخ الاستقلال"، أكثر من سؤال حول "فشل مشروع الدولة الوطنية" في تدبُّر دلالات "شعار التنمية" الذي رفعته أغلب الدول منذ الشهور الأولى من "حركات الاستقلال" أو بالأحرى "الاستقلال المضحك" كما نعتته الدراسات ما بعد الكولونيالية. "الفشل" الذي سرعان ما ستتسارع وتائره في المغرب، وكل ذلك في إطار من "التوتر" أو "الافتراس" الذي سيطبع "أداء الدولة" في علائقها مع المجتمع الساعي إلى "الهيكلة" والتخلص من "الجروح الكولونيالية". في أفق السعي إلى الانخراط في "آفاق العصر" في تلك الفترة، المفصلية، والحاسمة، التي كانت، ولا تزال، تشهد، وفي العالم العربي ككل، على تأثير الأحزاب (الإيديولوجية) ودعاوى التقدم والوحدة والاشتراكية.

غير أن الدولة، وفي إطار من "العنف الدولتي" كذلك، والذي كانت تؤدي دلالاته "أجهزتها الإيديولوجية" و"تجلياتها التسلطية المباشرة" معا، لم تكن مستعدة، ولا حتى مبدية لأي إشارة موحية ودالة، لأي نوع من "الحوار"، لكي لا نقول "الشراكة" أو "تقاسم السلطة"، على مستوى "الإصلاح السياسي" الذي كان، ولا يزال، وبغير المعنى المعجمي الأمريكي اللاحق لـ "الإصلاح"، "المدخل الأساس" لـ "التحرر" سالف الذكر، خصوصا وأن ذلك التحرر كان قرين تصور مجتمعي يستأرض زمان تلك الفترة. تصور يمتاح من منظومة يسارية خليطة غير مرغوب فيها؛ وبالقدر نفسه يعتمد، وفي الأغلب الأعم، "لغة متخشبة" و "نافرة" بسبب تحدرها من "الاختيار الثوري". هذا لكي لا نشير إلى "العنف الإيديولوجي" الذي كان، ومن وجوه عديدة، "رد فعل" على الفشل سالف الذكر. و"ليست الغلطة غلطتي إذا كان الواقع ماركسيا" كما قال الثائر تشي غيفارا (1928 ـ 1967) ملهم الشباب والثوار في العالم الثالث وقتذاك.

ومن ثم منشأ القمع اللاهب الذي ستصر عليه الدولة في مواجهة "الجدلية المجتمعية الصاعدة". وكل ذلك في "النفق المغلق" الذي سيفضي إلى الزج بعشرات الحزبيين والنقابيين والمثقفين... في غياهب السجون والمعتقلات المتفرقة. في مقابل العشرات من الذين سيفرون إلى الخارج نجاة بأرواحهم وأجسادهم من آلة القمع وحمم التعذيب البركانية التي أفضت إلى تلك النتائج الوخيمة التي بلغت حد التشوهات الجسدية والاختلالات العقلية في صفوف العديد من "معتقلي الرأي"، هذا عدا الأرواح التي تم إزهاقها في معتقلات لم تكن متداولة ولا معروفة في تلك الفترة البهيمة من تاريخ المغرب المعاصر. وهو ما سيتم الكشف عن جانب مهم منه بعد ثلاثة عقود، وعلى وجه التحديد في الثمانينيات النازلة والتسعينيات الصاعدة من القرن الماضي الذي ودعه المغاربة غير آسفين عليه. وهو ما سيتم الكشف عنه أكثر خلال العشرية الأخيرة التي ستشهد "شبه انفراج سياسي" بلغ حد رفع جوانب كثيرة عن اللبس الذي طال ملفات تلك المرحلة.

وتجدر الملاحظة إلى أن النبش في صفحات "الكتاب الأسود" لتلك المرحلة ما كان ليتم الشروع فيه خارج فرنسا، "فرنسا الأخرى" التي ظلت محط لغات مثقفين منشقين ونقديين وحالمين وساخطين على "أنظمة" بلدانهم. ودون التغافل أيضا عن أن العديد من الكتاب والصحفيين، وأغلبهم من الفرنسيين، أسهموا بدورهم في قلب صفحات الكتاب الأسود. وقد يطول بنا الحديث عن تلك "الكتب ـ القنابل" التي تسبب بعضها في أزمات دبلوماسية بين المغرب وفرنسا، وبعض هذه الأزمات كان شبيه بالأزمة التي ترتبت عن اختطاف المعارض المغربي الأبرز المهدي بن بركة (1920 ـ 1965) وتصفيته (الجسدية) على التراب الفرنسي. تلك العملية التي جعلت الرئيس الفرنسي شارل ديغول يذرف الدموع ويقول جازما: "إن العملية بأكملها عليها طابع تل أبيب". و"تل أبيب"، هنا، في تداعياتها أو امتداداتها خارج إسرائيل ذاتها.

العملية التي كان ـ وكما سيتضح في الحين ـ قد أشرف عليها الجنرال الدموي محمد أفقير (1920 ـ 1972) كما أشرف ـ وبواسطة هيلوكبتر ـ على "23 مارس" سالفة الذكر. وكل ذلك قبل أن ينتهي، بدوره، وبعد سبع سنوات، وعلى وجه التحديد العام 1972، وبسبب من "الانقلاب العسكري" (الثاني) الفاشل، إلى مصير "الانتحار" حسب "الرواية الرسمية".. وليزج بأسرته، وفي مصير معكوس ومشؤوم، في ذلك "السجن" الرهيب الذي ستروي عنه زوجته فاطمة أوفقير في كتابها "في حدائق الملك" (Les jardins du roi) (2000) جنبا إلى جنب ابنته مليكة في "السجينة" (La prisonnière) (2000) وفيما بعد ابنه رؤوف في "الضيوف" (Les invités) (2004). وجميع هذه الكتب نشرت أول مرة بالفرنسية: "لغة الطبقة الحاكمة" في تلك الفترة، و"الأفكار التي تَحْكم كلَّ عصرٍ هي أفكارُ الطبقة الحاكمة" إذا جاز تصور كارل ماركس. والأهم أنه لا يمكن أن نتغافل عن هذه الكتابات في سياق دراسة "طفرة الكتابات ما بعد السجنية بالمغرب" جنبا إلى جنب أطروحة "هناك ما وقع، وهناك ما يحكى" في التاريخ السياسي بالمغرب. هذا بالإضافة إلى أن هذه الكتابات لا تخلو من "دلالات" وسواء على مستوى الكشف عن "الآليات" التي كانت تحرك "جهاز الدولة" أو "الأطماع السياسية/ العسكرية" التي كانت ناجمة عن تغلغل "نفوذ أفراد" في "الجهاز" نفسه.

ويهمنا أن نعود إلى القمع السالف وعلى وجه التحديد حجمه غير القابل للقياس، وكل ذلك في إطار من تلك الدائرة التي تجعل الدارس، وقبل ذلك الملاحظ أو المتأمل، يشعر بأنه، وفي تلك المرحلة، لم يبق واحد، ممن كانوا متواجدين، وسواء من المثقفين أو غير المثقفين، وفي الخطوط الأمامية أو الخلفية، خارج "أسوار السجن". لقد تم حشر الجميع في أمكنة خانقة أشبه بـ "علب سردين" يصعب فيها التنفس ذاته قبل التمييز بين النفوس الآدمية. إلا أن جميع أصناف الإذلال التي كانت تلوي بنفوس المعتقلين، وقبل ذلك بأجسادهم التي كانت سندهم الوحيد من أجل الحفاظ على أرواحهم، وبكل ما طال هذه الأجساد من أساليب تعذيب مباشرة، لم تدفع دائما إلى تلك الحالات من الاستسلام أو الهزيمة المرسومة. ومن ثم منشأ "جبهة الأمل" و"أزهرت شجرة الحديد"... وغير ذلك من العناوين/ العبارات الموشومة التي لا تفارق دلالات المقاومة والتحدي والكبرياء والإصرار على البقاء.

وكما قلنا، في قراءة لـ "عريس" صلاح الوديع الذي يعد من النصوص المعبرة عن طفرة المتن السجني، وعلى لسان الروائي الأميريكي إرنست همنغواي في روايته "الشيخ والبحر"، "من الممكن تحطيم الإنسان، لكن هزيمته غير ممكنة". على أن أهم ملمح، ضمن هذا السياق، أو النفق، الذي يسعى إلى "استخراج الإنسان من قفاه" كما في واحدة من العبارات اللافتة في "بلاغة المقموعين"، هو ملمح "انفلات الذاكرة" وعلى وجه التحديد "الذاكرة الجمعية المضادة" جنبا إلى جنب الحفاظ على "الهوية السردية" للسجين. وكما هو مكرس، في الدرس النقدي المعاصر، فـ "كتابة السيرة الذاتية" هي "فن الذاكرة الأول"؛ غير أن حضور هذه الذاكرة، التي يصر الجلاد على "محوها"، يتضاعف، أكثر، في "السيرة السجنية" التي تتأطر، ومن وجوه عديدة، داخل "كتابة السيرة الذاتية" التي "تقبل دخول ألوان متعددة من الكتابة تكشف مرونة هذا الفن وعدم انغلاقه على قواعد تجنيس صارمة" كما يقول الناقد المصري جابر عصفور في كتابه "زمن الرواية" (ص187).

أجل "السجن سجن للسجن" كما قيل في "أدب السجون"، لكن وقوده هم هؤلاء الـ"آدميون تحت الحصار" تبعا لعنوان حسن حمادة (2003) أو الأجساد البشرية الهشة بطبعها مهما عركها الزمان وخبرتها الأوحال. ورغم سياقات التعنيف التي سلفت الإشارة إليها فقد نجت "الذاكرة" من "براثن الاستئصال"... والأهم أنها أصرت على أن تظل "حقل اختبار" و"نشاطا" يضاد "بيلدوزر" أو "مستنقع النسيان" إذا جازت لغة "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي". وقبل ذلك، واستطرادا، "نسيان أمر ما صعود نحو باب الهاوية" كما قال الشاعر الفلسطيني الأبرز محمود درويش الذي عركته القضية الفلسطينية واسترسال "ظاهرة الاستعمار". وعلى هذا المستوى لا يبدو غريبا أن نصل، وهو ما سارع نحو القول به البعض، بين "الكتابات ما بعد السجنية" و"كتابات ما بعد الاستعمار" التي تتأطر ضمن ما عرف خلال العقود الثلاثة الأخيرة بـ "نظرية الخطاب ما بعد الكولونيالي" التي أشرنا إليها قبل قليل والتي سعت إلى التصدي للتاريخ القذر للإيديولوجيا الإمبريالية. ذلك أن "عالم ما بعد السجن"، ومن ناحية التأثير، وليس من ناحية صرعة "الما ـ بعدية"، لا يفارق "عالم ما بعد الاستعمار"، ولا من ناحية "المساواة بين معتقل الرأي والاستعمار" فقط، وهو ما ذهب إليه البعض كذلك، وإنما من ناحية "الاختلالات" التي كان قد فصَّل القول فيها أحد أهم الممهدين للنظرية السابقة، ونقصد إلى فرانز فانون في كتابه "معذبو الأرض" (Les Damnés De La Terre)(1961) الذي كان قد قدم له الفيلسوف الفرنسي الأشهر، وقتذاك، جان بول سارتر. هذا إذا ما لم نقل بأن هذه الاختلالات بدت أبرز وأعنف في حال معتقلين كما ستكشف عن ذلك "كتابات ما بعد سجنية" سعت إلى "استعادة" عوالم السجون الرهيبة في العديد من تفاصيلها الناتئة. ولا داعي لتجميع إشارات، وهي كثيرة، في الكتابات ما بعد السجنية، تصل ما بين "الاستقلال" و"الاستعمار" أخذا بالشعار القديم: "مات الاستعمار، عاش الاستعمار". وكما لخص عبد الصمد بكبير (أحد وجوه يسار تلك الفترة): "كنا من عائلات أحبطت في شروط الاستقلال [...] ثم إن الاستقلال بدا كما لو أنه قد تحول ضدها" ("أقصى اليسار في المغرب"، ص 229). 

وقد يعترض معترض، هنا، على تسمية "الكتابات ما بعد السجنية" التي لا تخلو من "التباس" شأنها في ذلك شأن العديد من التسميات الإشكالية المتداولة في حقل الدراسات الأدبية التي تفيد، وبتفاوت، من مناهج العلوم الإنسانية ونظريات العلوم الاجتماعية. وبالقدر نفسه قد يسارع البعض إلى أن هناك أعمالا عديدة كتبت بين أسوار السجن، ولاسيما من الرسائل والقصائد وغير ذلك من الأشكال التي لا تتطلب مجهودا ذهنيا وجسديا في أحيان. وهو ما لا نشك فيه بدورنا. غير أنه، وهنا مصدر الخلاف، حتى الكتابات المكتوبة داخل السجن هي، وبأكثر من معنى، "ما بعدية"، ومصدر ذلك "اللحظة" أو "اللحظات" التي تحكي عنها. وتتضاعف "الما بعدية"، أكثر، في النصوص السردية ـ التي هي مدار هذه الدراسة ـ وسواء تلك التي تتراوح ما بين "التحقيق" و"التخييل" أو تلك التي تميل أكثر لـ"التخييل". هذا بالإضافة إلى أن تأثير السجن لا ينحصر في فترة "الإقامة" في السجن، وإنما يمتد إلى مراحل "ما بعد السجن" التي لا تحول دون أن تطفو جروح السجن وكوابيسه بالنسبة لهذا المعتقل أو ذاك. ومن ثم منشأ دلالة تسمية "الكتابات ما بعد السجنية" التي تقاس من ناحية تأثير "عالم السجن" لا من ناحية "زمن الكتابة" أو "طقوسها المفترضة".

وتقع الذاكرة في أساس الكتابات ما بعد السجنية التي بلغت حد "الطفرة" أو "السيل" داخل سياق الإنتاج الأدبي والثقافي بالمغرب خلال العشرية الأخيرة. كتابات تلفت الانتباه بـ "أسلوبها العاري" وبغاياتها المغايرة. كتابات تغاير الكتابات ما بعد السجنية السابقة، وبالقدر نفسه تسعى إلى التموضع في التبدل الثقافي العام الذي هو الوجه الآخر للتبدل السياسي العام منذ التسعينيات النازلة. كتابات لن يسهم فيها الأدباء فقط، وكما كنت تؤكد ذلك التسمية المسكوكة "أدب السجون" التي سادت، وفي شكل "تيار"، العالم العربي في فترات سابقة. صارت "الكتابة" هي "الميدان" لا "النظرية" في سياق الدفاع عن "التواريخ الفردية" داخل "التاريخ العام". وللحق فمفهوم الأدب ذاته، وكما كانت تكرسه المؤسسة الأدبية، سيتعرض، وسواء من ناحية مستوياته المعرفية أو أسسه الأنطولوجية، لرجة كبيرة إزاء مشكلات قديمة/ جديدة كمشكلة "الهوية" و"الأصولية"... التي وجدت تعابير لها من خارج الأسلوب المشهود له بـ "المعايير"، المسبقة في أحيان، التي كانت تسطرها المؤسسة النقدية في حرصها على "السلامة اللغوية". ومن ثم لن يعود "عالم ما بعد السجن" حكرا على رجال الأدب من "الممتلكين" لـ "ناصية الكتابة" في "عوالمها التخييلية" الساحرة التي يصفف فيها أصحابها الكلمات في "مجرى مدروس" يسعى إلى أن يحظى بتقدير النقد والنقاد. لقد دخل "على الخط"، خط "كتابة السجن"، وعلاوة على الأدباء، معتقلون سياسيون بل و"انقلابيون" عسكريون مفرنسون. هذا بالإضافة إلى من استنجد، وفي إطار الإصرار على تفجير "المكبوت السجني"، بكتاب وصحفيين.

وتجدر الملاحظة إلى أن الكتابات ما بعد السجنية بالمغرب راحت تشكل "متنا" قائما بذاته، ولا يبدر غريبا أن نقرأ عن بيبليوغرافيات [تقريبية] (بيبليوغرافيا سعيد الوزان، مثلا) سعت إلى حصر هذا المتن الذي أخذ بعض الدارسين يكترثون به ودون أن يتغافلوا عن الإلحاح على الصعوبات التي تصادفهم على طريق هذا المبحث والذي لا يخلو من "جدة" و"إضافة" وسواء في "سياقه المخصوص" الذي هو سياق "الكتابة" ذاتها في سعيها إلى "البوح" و"الفضح" و"عدم النسيان"... أو في "سياقه العام" الذي هو سياق "طي صفحة الماضي" لكن على أساس من "المحاسبة السياسية" و"تداول السلطة" و"الانخراط" بالتالي في مجرى التاريخ وبعيدا عن أي نوع من "الحقد الإيديولوجي". هذا وإن كان اهتمام الدارسين لم يرق بعد إلى حجم المتن السجني الذي يتطلب، بدوره، مقاربة، أو مقاربات، غير أحادية، تفيد من العلوم الاجتماعية المختلفة على الرغم من "الدلالة السياسية" التي تبدو مهيمنة داخل المتن.

وكما يطرح المتن نفسه، ورغم تجانسه الظاهري، مشكلة "التصنيف". ولا نقصد، هنا، إلى التصنيف بمعناه "التبسيطي"، لكن بمعناه "الإشكالي" الكاشف عن التنوع الحاصل في التعاطي لموضوعة السجن وتشغيلها الدلالي والثقافي. ومن هذه الناحية، وبالاستناد إلى نظرة عكسية لا طردية، تفرض الكتابات المتعلقة بـ "تزممارت" ذاتها بقوة، ولاسيما إذا ما تحررنا من سطوة "النقد الأدبي" نحو رحابة "النقد الثقافي" بمعناه المرن. ولا تطرح هذه الكتابات كبير صعوبة على مستوى إرجاعها إلى "السيرة السجنية" بسبب من "آليات الاستعادة" التي تلوي بـ "أسلوبها" في سعيه إلى أن يقول ما "كانته" الذات في فترة السجن السابقة. وتندرج هذه الكتابات في نطاق ما عبر عنه بعض النقاد، ولا نعتقد أنهم جانبوا الصواب، بـ "نصوص تزممارت"؛ المعتقل الرهيب في مكان قصي من الجنوب الشرقي بالمغرب المنسي، المعتقل الذي ظلت الجهات الرسمية تنكر وجوده على أرض المغرب إلى أن بادرت الصحافة الفرنسية إلى إثارة موضوعه جنبا إلى جنب شهادات ما تبقى من الناجين منه (28 من أصل 58) الذين سيفرج عنهم، وبعد ضغط حقوقي دولي، في مفتتح التسعينيات. ومن ثم لم يبق من مبرر للتستر على هذا "السجن" الذي صار "علامة" على مرحلة بأكملها: مرحلة سياسية سوداء ستظل تلقي بظلالها داخل التاريخ المعاصر بالمغرب.

وفي فترات سابقة، أو "سنوات الجمر والرصاص" كما اصطلح عليها، كان من الصعب حتى التلفظ باسم "معتقل تزممارت"، بل يخضع المرء للمتابعة والتحقيق في حال موضوعه. وظل الجميع يحجم عن الخوض فيه إلى بادرت، وفي مختتم التسعينيات، صحف متعينة إلى الإقدام على فسح المجال للكتابة في موضوعه. وقبل ذلك لا بد من أن نشير إلى ظهور "المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف"، في 28 نوفمبر1999، الذي سينظم جملة من الأنشطة والتظاهرات العامة للمطالبة بالكشف عن الحقيقة وعن مصير المختفين. والأهم، في حال موضوعنا، رحلته إلى تزممارت في أكتوبر 2000.

وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى مذكرات محمد الرايس "تذكرة الجحيم: من الصخيرات إلى تزممارت" التي ظهرت أول مرة مسلسلة في جريدة "الاتحاد الاشتراكي" قبل أن تظهر في كتاب مستقل باللغة العربية (2001) ثم باللغة الفرنسية (De Skhirat à Tazmamart: retour du bout de l'enfer) (2002) التي رواه بها صاحبه لمترجمه الصحفي عبد الحميد الجماهري. وفي السياق نفسه تتوجب الإشارة إلى كتاب أحمد المرزوقي "تزممارت، الزنزانة رقم 10" (Tazmamart:cellule 10) الذي ظهر أول مرة بالفرنسية (2000) وقبل ثلاث سنوات على ظهوره مترجما إلى العربية (2003)، وهذا الأخير بدوره أمضى، "ضيفا"، فترة طويلة في جحيم تزممارت. وكتاب علي بوريكات السابق، وبالفرنسية أيضا، والمعنون بـ "ثمانية عشر عاما في تزممارت" (1993)، وقد اعتقل هذا الأخير رفقة أخويه مدحت وبايزيد؛ وهو ما عرف بـ "قضية الإخوة بوريكات". ودون أن نتغافل عن نص (Tazmamart, côté femme: témoignage) لواحدة ممن كن على علم سابق بوجود تزممارت، ونقصد إلى ربيعة بنونة زوج أحد معتقلي تزممارت (القبطان عبد اللطيف بلكبير). ذلك قبل أن يُقْدِم الطاهر بن جلون، الكاتب والروائي المغربي ذائع الصيت بفرنسا، وفي العام نفسه الذي صدرت فيه "زنزانة" المرزوقي، وبالوكالة، أو بتكليف من "عزيز بنبين" أحد الناجين من معتقل تزممارت، على كتابة رواية "Cette Aveuglante Absence De Lumière" التي ستصدر عن واحدة من أكبر دور النشر في فرنسا (دار "لسوي" (Seuil) وسيترجمها الشاعر والمترجم اللبناني بسام حجار وستصدر تحت عنوان "تلك العتمة الباهرة" عن واحدة من أهم دور النشر في العالم العربي (دار الساقي) العام 2003. وقد نال الطاهر بن جلون عن الرواية، "الكتابة" لا "التجربة"، جائزة "إمباك الأدبية" بدبلن العام 2001. إلا أن ثناء الصحافة الفرنسية على الرواية، وإشارة بن جلون نفسه إلى أنه كتبها بـ "جسده" و بـ "مكابدة".. لم يحل دون العديد من الردود، وخاصة في المغرب، على "اختيار" الطاهر بن جلون "المدروس". ولا نعتقد أننا في حاجة لكي نستعيد هذه الردود خصوصا وأنها متداولة في الصحافة المكتوبة، في شبكة الاتصالات الدولية تحديدا. ويبقى أن نشير إلى أن بعض هذه الردود بلغ حد "محاكمة" الطاهر بن جلون بدليل أنه لم يتحدث عن الموضوع من قبل، وأنه لم يستثمر "وزنه الأدبي والإعلامي" بفرنسا وكآخرين ممن أثاروا الموضوع بل وطالبوا بإغلاق المعتقل الرهيب. ومجمل القول، هنا، إنه "استغل" "الانفراج السياسي" اللاحق، و "مأساة البعض".. وبالقدر نفسه سعى إلى تحقيق الأرباح من وراء العمل، ولاسيما في هذا الزمن الذي يشهد على "تسليع" الأدب الذي اشتكى منه، ومؤخرا، الطاهر بن جلون نفسه وبسبب من "التدخل" أو "العولمة" في صيغتها الأمريكية؟

على أن الخلاف، ضمن "نصوص تزممارت"، لا ينحصر في دائرة "المعتقل بالتبني" التي ارتمى في أحضانها الطاهر بن جلون لكي لا نشير إلى أسماء أخرى كتبت عن المعتقل دون أن تستأرضه لكن دون أن تثير كتاباتها شكوكا (عبد الحق سرحان مثلا). فالخلاف امتد إلى "الفاعلين" أنفسهم ممن "أقاموا" داخل المعتقل وعلى مستوى "الرؤية" ذاتها ومدى "مطابقتها" لـ "عالم المعتقل" الذي تؤثثه مفردات هي في حاجة إلى دراسات مستقلة. ولم يبق الخلاف حبيس "النقد الشفوي" الذي لا يزال عادة من عاداتنا السيئة، وإنما تم الارتقاء به إلى الحوارات المدونة. والمؤكد أننا نقصد، هنا، إلى الخلاف بين المرزوقي والرايس اللذين اكتويا بالمعتقل الرهيب لما يقرب من عشرين عاما. ويرجع الفضل للكاتب والمترجم عبد الرحيم حزل في تمكين القارئ من الاطلاع على هذا الخلاف في كتابه "سنوات الجمر والرصاص ـ نصوص وحوارات في الكتابة والسجن" (2004). والظاهر أن الخلاف يبرز، وأول ما يبرز، على مستوى العنوان الذي اختاره المرزوقي لنصه "الزنزانة رقم 10" في إشارة إلى "العدسة" التي اعتمدها في "استعادة" "عالم المعتقل" وبدافع من الحرص على "فهم ما جرى"، لكن دون النيابة عن "الآخرين". ولا تعدو أن تكون هذه الزنزانة سوى واحدة من زنزانات المعتقل الذي نجا منه، وبأعجوبة، 28 شخصا كما أسلفنا. يقول المرزوقي (ونستحضر نصه على طوله لأهميته التي تعفينا من التفصيل): "إن ثمة أشياء كثيرة تضاربت بشأنها الروايات. ولذلك آثرت أن أسمي كتابي "الزنزانة رقم 10" لكي لا أدعي أنني رأيت كل شيء، وحكيت كل شيء، أو أزعم أنني كنت في جميع الأماكن، شاهدا على جميع ما حدث، سواء في الصخيرات، أو في تزممارت. وإذا كنت قد عنونت كتابي بذلك العنوان، فإني أدعو كافة رفاقي إلى أن يكتبوا كل واحد من زنزانته عن تلك التجربة، وما كان فيها من أحداث، بكيفية مختلفة".

وثمة نمط كتابي ثان ما بعد سجني يجاور، وفي إطار من التمايز، أو التباعد، النمط السالف في استناده إلى تلك "الرؤية العسكرية" التي عبرت عنها "نصوص تزممارت" التي لا مثيل لها، وعلى أرض "التمثيل" ذاته، في سياق الإنتاج الثقافي السيري بالمغرب. ونقصد بالنمط الثاني إلى تلك الكتابات التي سعت إلى التعبير عن رؤية "الاعتقال السياسي" التي كانت مشدودة إلى تيارات اليسار الإيديولوجية المختلفة في سعيها إلى "أحلام الثورة" و "عنف التغيير". وأغلب هؤلاء كانوا من الشباب أو في اندفاعة الشباب الأولى التي ستفضي بهم إلى معتقلات أبرزها، أو بالأحرى أخطرها، "درب مولاي الشريف" هذا لكي لا نشير إلى السجن المركزي بالقنيطرة أو السجن المدني "أغبيلة" بالدار البيضاء اللذين احتضنا بدورهما عشرات المعتقلين اليساريين. وجميع هؤلاء المعتقلين نالوا أصنافا شتى من التعذيب والإهانة والإذلال... حتى وإن كان هذا التعذيب لم يبلغ حد التشويه الجسدي أو الاختلال العقلي كما في حال معتقلي تزممارت أو "مركز الموت" "الموت البطيء" كما اصطلح عليه.

والظاهر أن الكتابات ما بعد السجنية بخصوص اليسار لا تشد القارئ إليها بذات القوة أو الحدة إذا ما قورنت بنصوص تزممارت، ومرد ذلك إلى ما كان قد شاع عن هذا التيار وقبل ذلك أدبياته التي كانت متاحة ومتداولة رغم السرية الظاهرية التي كانت تطبع التعامل معها. هذا بالإضافة إلى ما سيكتب عن هذا اليسار من كتابات وتحليلات ستسعى، وبتفاوت، إلى "مقاربة" الموضوع و"موضعته" في سياقه التاريخي والسياسي. وتجدر الإشارة، هنا، إلى ما قام به عبد القادر الشاوي في محاولته، المبكرة، "اليسار في المغرب" (1992)، ومصطفى بوعزيز في "اليسار المغربي الجديد" (1993) ولحسن العسبي والصافي الناصري في "أقصى اليسار في المغرب" (2002)، ومحمد المريني في "اليسار المغربي: الثورة والإصلاح" (2005)... إلخ. ومن دون شك كل واحد من هؤلاء يستند إلى منظور متعين في قراءته، وكل ذلك في إطار من "التحيز الثقافي".

غير أن الكتابات ما بعد السجنية، وفي حال معتقلي الرأي، تفوق، ومن ناحية الكم ابتداء، المقاربات والتحليلات الأخيرة، بل وتقدم نظرة أخرى طالما أنها تتراوح، ونتيجة التباس الوعي بالذاكرة، ما بين "التحقيق" و"التخييل". ونصادف على طريق هذه الكتابات نصوصا مثل "تحت ظلال لالة شافية" لإدريس بيوسف الركاب (1989) و"حديث العتمة" لفاطمة البويه (2001) و"ذاكرة الجراح" لتوفيقي بلعيد (2001) و"الغرفة المظلمة أو درب مولاي الشريف" لجواد مديدش (2000) و"أحلام الظلمة" لمحمد أمين مشبال الذي استعان بقلم هشام مشبال (2003) و"أفول الليل" للطاهر المحفوظي (2004)... إلخ.

وأهم ما يميز هذا النمط، ومقارنة مع النمط الأول، أنه يضيف إلى "التحقيق" نوعا من "التخييل" الذي سعى، وفي نماذج منه، إلى "التحرر" النسبي من "المطابقة" و"الإغراق في التفاصيل" و"أرشيف الذاكرة". هذا بالإضافة إلى "السخرية" التي بدت بارزة في مقاطع بعض النصوص السابقة، مما أضفى عليها طابعا من "التنويع" والتخفيف من درجات "التوتر النفسي" والرغبة في "الاستغراق الكلي". ودون التغافل عن أن بعض هذه النصوص أبدا أصحابها اهتماما بالأسلوب واللغة كما في حال نص جواد مديدش، بل إن بعض أصحاب هذه النصوص ناب عن النقاد في تصنيفها ضمن خانة الرواية/ الأدب كما في حال خديجة مروازي التي تقول عن نصها "سيرة الرماد" (2000): "[...] أنا لا أتصور لها موقعا في علاقة بما يكتب الآن من شهادات ومذكرات ووثائق، بل في علاقة بالرواية المغربية، وأسئلة هذا النوع الأدبي".

فمن الجلي، إذا، أننا نتصور نوعا من "الكتابة" في النمط الثاني على الرغم من الرغبة في "الإحالة" على الموضوع، موضوع الاعتقال السياسي، التي تبدو هي الأبرز مقارنة مع فعل الكتابة ذاته الذي يتطلب وعيا مستقلا وموازيا. وتتمظهر هذه الكتابة من خلال جملة من المؤشرات في مقدمها مؤشر "التجنيس" الذي عادة ما يتأكد من خلال تصنيف صاحب العمل، ومن قبل صاحبه، ضمن دائرة "يوميات" أو "مذكرات" أو "محكيات"... جنبا إلى جنب تسمية "الشهادة" التي عادة ما يتم التنصيص عليها في تقديم الكتاب وفي إطار من "الصدق" الذي يتم "التلميح" إليه تارة و"التصريح" به تارة أخرى. وكل ذلك أيضا في المدار أو الحكاية التي يتم التشديد فيها، وبنوع من "الاطمئنان الوثوقي"، على "اليسار" في تنويعاته أو أطيافه المختلفة التي لا تفارق "الجذرية" أو "الراديكالية". وكل ذلك بدافع من "الأحلام" التي تدني بـ "الثورة" إلى حال قريبة، بل وتجعلها على "الأبواب"... "الأبواب" ذاتها التي يتجاور فيها، وعلى أرض "المواجهة"، مطلب "القضاء على مخلفات الاستعمار". وفي السياق نفسه، سياق "الحكاية ـ الإطار"، لا يمكن التغافل عن "التعذيب"، "المصير المحتوم"، الذي كان يتعرض له، ومن حين لآخر، المعتقل السياسي. التعذيب الذي كان يفضي بالسجين، الحالم، إلى المستشفى. ودون التغافل عن الأمراض التي تلازم السجين ويرغم على التعايش معها.

وثمة مؤشر آخر، ضمن النمط الثاني، يمكن توصيفه بـ "الميثاق السجني" الذي يبدو متسربا في دلالات "الكتابات ما بعد السجنية". ومن هذه الناحية يمكن التركيز، وضمن، عصب، الحكاية، على عنصر "المفاجأة" في الاعتقال. إجمالا إن المعتقل، ومن حيث هو مناضل، لم يكن يتصور أنه لن يعتقل، في قادم الأيام، غير أنه لم يكن يتصور أن يعتقل في غمرة الاحتفال، الاحتفالات، بعيد، "وطني"، في حجم "عيد العرش" كما حصل للطاهر المحفوظي في "أفول الليل" (2004). وكما تتم الإشارة إلى تاريخ الاعتقال وتاريخ السراح وفي إطار زمني يتراوح ما بين شهور وعقود (ثلاثة عقود كحد أدنى). وضمن هذا المدار، الفاصل ما بين الاعتقال والسراح، يتم رسم "عالم السجن"... ولاسيما من ناحية "الزمن" الذي يتم تزمينه وتنميطه و"المكان" الذي يتم تأطيره أو تكعيبه أو تحويله إلى ما يشبه "البئر" أخذا بعنوان عبد الفتاح فكهاني (1984) الذي يعالج الموضوع نفسه. غير أنه، ورغم هذا السياق، الخانق، يصر السجين، ومن حيث هو، مناضل، وقبل ذلك إنسان، حالم، على "نشيد البقاء" عبر "المقاومة" المتمثلة بـ "القراءة" في الحدود المتاحة و "الغناء" في اللحظات المنفلتة و"الرياضة البدنية" التي لا تتماشى والأجساد المنخورة، أو المنهكة، بالإيديولوجيا وقبل ذلك الرطوبة.

وثمة مؤشر آخر، في سياق رصد المؤشرات الدالة على كتابات الاعتقال السياسي، ويتعلق بفعل الكتابة ذاته وفي المدار الذي لا تفارق فيه الذات الكاتبة سعيها إلى "الانتشار" في إطار من التباس الماضي بالحاضر في دنيا الكتابة. وعلى هذا المستوى، مستوى الكتابة باعتبارها "فعلا"، يمكن أن نشير إلى "إستراتيجية البوح" أو "التسارر" التي تتفاوت من عمل لآخر تبعا لتفاوت الكاتب ـ المعتقلين على مستوى "الاعتراف" و "فضح الذات". وفي جميع الحالات فالكتابة، هنا، تظل، وإذا جاز أن نوظف لغة "التحليل النفسي"، "تنفيسا" عن "المكبوت السجني، وكل ذلك في إطار من البحث عن نوع من "التوازن النفسي" و"التكامل الاجتماعي".

على أن "البوح" سالف الذكر لا يحول دون الالتفات إلى ملمح "التأريخ" الذي يتمظهر من خلال كثرة التواريخ والأسماء، وعلى النحو الذي بموجبه تتحول الكتابة إلى "مادة إخبارية" لا تخلو من كبير أهمية وخصوصا على مستوى "الإشارات"، ولو "الموجزة"، إلى تلك "الأسماء المنسية" التي لم تنل حظها في "النضال التلفزيوني" الذي برع البعض، من المعتقلين، في "التسويق" عبره لتجاربهم التي كانت كالعديد من التجارب في سياق القمع اللاهب الذي طال كثيرين. وموازاة مع "التأريخ" نجد "التوثيق" الذي تتكشف عنه بعض الكتابات ما بعد السجنية. وهو ما يمكن التأكيد عليه من خلال قوائم المعتقلين وقوائم التيارات التي كان ينتمي إليها هؤلاء. غير أن التوثيق، هنا، بغير معناه "المتصلب" أو "المتشنج" الذي بموجبه ينمحي فعل الكتابة السابق. التوثيق، هنا، في المدار المنفتح الذي ينخرط في ذلك النوع من "التاريخ" القابل لأن "يقرأ من حين لآخر". هذا بالإضافة إلى "التفاصيل" التي تحفل بها الكتابة نفسها والتي ترتبط بـ "المعيش السجني"؛ التفاصيل التي عادة ما تخفى، وفي سياق "التأريخ" ذاته، عن "عين المؤرخ". وليس من شك في أننا نقصد، هنا، إلى التفاصيل المتحررة من "الجدية" و"الصرامة"... والمشدودة إلى عصب الكتابة ذاتها في تموجاتها، مما يحقق لهذه التفاصيل، وفي نماذج من هذه الكتابات، "متعة قرائية" قد لا تتحقق للكتابات المتفرغة للتخييل.

وثمة علامة أخرى مائزة للكتابة ما بعد السجنية وتتصل بـ "المعجم المخصوص" الذي يلازم هذه الكتابة بل ويميزها داخل فضاء السيرة الذاتية الذي يشمل كتابات مختلفة كما أسلفنا. ولا نعتقد أننا في حاجة لكي ننبش في النقاش، النظري، حول "المعجم" و"المعجمية"... غير أنه يمكن أن نوجز بأنه حتى وإن كان "المكان"، ومن حيث هو مكان "خانق"، يظل هو "علة" الكتابة ما بعد السجنية فإن ذلك لا يحول من "تذويت المكان" عبر "المفردات المشحونة" التي يجترحها الكاتب ـ المعتقل في سياق "الرد" على "المحو". بل إن السجن بأكمله يتحول إلى "كلمة" يكون الكاتب مطالبا بـ "إدارتها" و "حراستها" بل و"تجويفها" في سياق البحث عن "معنى" آخر "يضاد" المعنى الذي يراد لها.

وعلى ذكر المكان فالكتابات ما بعد السجنية لا تنحصر، ومن أولها إلى آخرها، في "السجن". والمؤكد أن مثل هذا "الاختيار" يسقط الكتابة في "الاختناق": "لاختناق المضاعف" إذا ما استحضرنا صاحب الكتاب أيضا. أجل يظل السجن، بالنسبة للمعتقل، كالإطار بالنسبة للزجاج أو الميدان بالنسبة للسباق... غير أن ذلك لا يحول، وفي دائرة الكتابة، ومن حيث هي فعل يتيح ما لا تتيحه باقي "الأفعال المتاحة" في السجن، من "استعادة" العديد من "التفاصيل" أو "اللحظات"... في إطار السعي إلى "الانفلات" من "القولبة الوجودية" التي لا تقل قسوة عن "التعذيب". والظاهر أن الكتابة، هنا، تلتبس بـ"الوعي" الذي يلتبس بدوره بـ "الذاكرة" أو "التذكر" الذي يكون بدوره مجالا أو هدفا لـ "المحو" و "التنكيل". وكما قال نيتشه: "نحن لا نتحرر إلا من خلال التذكر"، وهو قول كثيرا ما يشير إليه دارسو السيرة الذاتية. قلنا إن الكتابة تنطوي على إشارات أو لحظات ذاتية لا صلة لها بالسجن، هذا لكي لا نشير إلى الكتابة عن ما يعقب الخروج من السجن وسواء على مستوى "الجروح الداخلية" في صلة الذات بذاتها أو مستوى "الاندماج" الذي يصل الذات الأخيرة بالمحيط الاجتماعي الذي يستوعبها أو يؤطرها.

على أن محاولة الانغراس في "التخييل" هو ما يمكن أن نلاحظه في "النمط الكتابي" ما بعد السجني الثالث (والأخير) ضمن الترسيمة التي اهتدينا إليها، وهو ما يمكن الاصطلاح عليه بـ "رواية السيرة السجنية". ويبدو جليا مدى إفادة هذا النمط من التخييل الذي هو مدار التشكل أو الاستدلال الروائي. لكن دون أن يفيد هذا عدم إفادة التخييل من الذاكرة ذاتها التي تصل، هنا، وعلى أساس من "الحذف" تارة و"التمكين" أو "الإضافة" تارة أخرى، ما بين الماضي والحاضر وفي سياق أرحب هو سياق المخايلة في التباسها بالمواجهة بمعناها الأعرض والأشمل. ومهما يكن فإن التخييل عمل من أعمال الذاكرة وحتى في اللحظات التي لا تقارن بلحظات السجن الضاغطة على "المخيلة الاسترجاعية"، تلك اللحظات التي يسعى المؤلف ـ المعتقل إلى أن تطفو على سطح الوعي/ الذاكرة. هذا بالإضافة إلى أن التخييل، في هذه الحال، ومن ثم منشأ الإرهاص بالمستقبل، قرين التأكيد، المتجدد، وعبر أساليب السرد المداورة، على "دور" أو "أداء المثقف" المسكون بـ "مقولة التغيير" أو بهاجس "قول الحق في وجه السلطة" إذا جازت عبارة إدوار سعيد الشهيرة. وهذا الحلم بالتغيير هو الذي أفضى بهؤلاء الكتاب، من المنتمين، وهم في عز شبابهم، وكـ "جيل" كذلك، لـ "أسرة اليسار"، إلى المعتقل: السجن المركزي بالقنيطرة والسجن المدني بالدار البيضاء... بل و"درب مولاي الشريف" كما حصل لجواد مديدش.

وعلى هذا المستوى نصادف نصوصا كثيرة منها نص "مجنون الأمل" لصاحبه عبد اللطيف اللعبي (1983) الذي كان قد نشر وقبل عام واحد فقط على هذا النص "تجاعيد الأسد" (1982)، و"كان وأخواتها" لعبد القادر الشاوي (1987) التي فجّرت "النزيف السجني" مما حذا بالسلطات إلى منعها في حينها، وهي الرواية التي سيعززها صاحبها بنصوص روائية أخرى مثل "الساحة الشرفية" (1999) و "دليل المدى" (2003). وكل ذلك في المنظور الذي يفضي بنا إلى نص زهرة رميج "أخاديد الأسوار" (2007) حتى وإن كانت تطغى داخله "الأنوثة" جنبا إلى جنب الاعتقال الذي لا يحضر إلا كشرارة لدفق السرد في النص. عكس، وبعيدا عن أي نوع من "المفاضلة"، نص "حديث العتمة" لفاطنة البويه الذي آثرت، وبسبب من الفترة التي قضتها، ورفقة سبع معتقلات، في السجون، أن تعرض، ومن موقع "الأنوثة" ذاتها، لـ "جرح الاعتقال بتاء التأنيث". وكل ذلك في المدار المغلق الذي يفضي بالجلاد القامع إلى أن يستبدل بـ "الأنوثة" ذاتها "الذكورة الخشنة" في دلالة على التشويه والإهانة. هكذا أصبحت "فاطنة"، وفجأة، "رشيدا"... وبالقدر نفسه صار السجانون يتلذذون بهذا الاسم المذكر في دلالة، موازية، على مصادرة "الأنوثة" أسوة بمصادرة "الحرية" و"الكرامة". وفي السياق نفسه لا ينبغي أن نتغافل عن السيرة السجنية المبكرة، كما ينعتها حسن بحرواي في مقال "الرواية والديمقراطية"، "حياة مليئة بالثقوب" (1964) التي سيمليها صاحبها الراوي الشعبي العربي العياشي على الكاتب الأميريكي بول بولز والتي في إثرها سيهجر، وخوفا، إلى أمريكا التي سيستقر بها إلى أن وافته المنية.

إجمالا فالكتابات ما بعد السجنية ليست على حال واحدة كما لاحظنا على مدار هذه الدراسة، مما يؤكد على تنوعها وثرائها. هذا بالإضافة إلى أن هناك نصوصا أخرى كثيرة لم ندرجها ضمن هذه الترسيمة التي سعينا فيها إلى أن نصل، ومن ناحية "الهوية السردية" جنبا إلى جنب "مصفاة الذاكرة"، ما بين "عالم ما بعد السجن" و "عالم ما بعد الاستعمار". ويبقى أن نشير إلى أنه ثمة أشكال أخرى مختلفة سعت إلى تقديم العالم نفسه اعتمادا على "أدب الرسالة" و"القصيدة الشعرية" و"الرسوم" و"القصص المصورة" و"المذكرات" و"البيوغرافيا" و"الشهادة" و"الفيلم السينمائي"... غير أننا، وكما لاحظنا، آثرنا، أن نعنى بـ "السرد" لكن بمعناه الثقافي الرحب لا بمعناه البنيوي اللوكرتمي الميكانيكي الذي يتحدث عنه الرطان النقدي المعاصر. ومن ثم فإن الأنماط الثلاثة السالفة، وهو ما يمكن تقليصه إلى نمطين: "السيرة السجنية التاريخية" (النمط الأول والثاني) و"السيرة السجنية الأدبية/ الروائية" (النمط الثالث)، تستند إلى هذا النوع من السرد الذي يتراوح ما بين "السيرة الذاتية" و"الاعتراف" و"الرواية"؛ هذا بالإضافة إلى تداخل هذه الأنماط في حالات بعض النصوص، وهو ما يتطلب "قراءات" متفرقة تعنى بكل نص على حدة. وكل ذلك في المنظور الأعم الساعي إلى محاولة فهم التاريخ الذي صار بدوره "تخييليا" كما يتصور البعض. والنصوص السابقة، وعلى تفاوتها، تسعى، وعبر فعل "الخطاب" ذاته، إلى "تحريك"، ما ينبغي "تحريكه" وبالتالي عدم تركه لـ "الركود" الذي يسهم في تضخيم ما كان كارل ماركس قد نعته بـ "العفن"... وكل ذلك أيضا في إطار من السعي، المحموم، إلى "كتابة تاريخ مضاد" ينأى ـ وإذا جازت عبارة محمد برادة ـ عن "السديم المجنون" لتلك الفترة المظلمة من تاريخ المغرب العام. فالنصوص السابقة، وفي نطاق الترسيمة أو الخطاطة التقريبية التي اعتمدناها، لا تخلو، في أحيان، ورغم الطابع "التوثيقي" لبعضها، من "موقف نصوصي" يسعى إلى "التدخل" و"التجاوز" و"التأسيس" لمناظير مستقبلية حتى لا تستمر "الأزمة" بـ "معناها القديم" الذي أشار إليها أنطونيو غرامشي ذات مرة حين قال: "وما من جديد وتستمر الأزمة بالمعنى القديم". ومن ثم منشأ "القيمة المحايثة"، لا "التاريخية" فقط، لهذه النصوص.  


ناقد