المثقف بين ثقافة السلطة وسلطة الثقافة

أحمد الخميسي

هناك أكثر من مئة تعريف للمثقف أو المثقفين تنطلق من معايير ورؤى مختلفة، لكن التعريف الأدق في تقديري هو القائل بأن "الانتلجنتسيا" شريحة خاصة لا تمثل طبقة، لكنها شريحة تمتد رأسيا في كل طبقات المجتمع وتضم كل المتعلمين وتشمل بتأثيرها المجتمع كله، ومن بين أولئك المتعلمين تبرز نخبة صغيرة تعمل في مجالات أكثر دقة تتصل بالإبداع الفكري، أي في مضمار الأدب والشئون الثقافية والعلمية والسياسية والفنية. ولأن المثقفين يردون من أصول اجتماعية وثقافية متعددة، فإن مواقفهم اشتملت دائما على مختلف ألوان التعبير الفكري عن مختلف المصالح: التعبير عن الوطنية وعن التبعية، استخدام المعرفة لتخليص المجتمع من أغلاله، أو "بيع المعرفة" للدولة، مؤازرة قضايا التطور وتحرر المرأة، أو تكريس الطابع الرجعي والغيبي للمجتمع.

وقد شهدت الثقافة المصرية بروز كاتبين، في وقت واحد، وكلاهما من أصل فقير، هما سلامة موسى وعباس العقاد، عاش الأول داعيا حارا للتطور منذ ظهوره حتى رحيله، أما الثاني فبدأ ثوريا وانتهى في مرحلة ثانية طويلة من حياته عميدا للفكر الرجعي. الظرف الاجتماعي والسياسي والتاريخي العام مشترك، والأصول الاجتماعية أقرب إلي الفئات الشعبية، لكن عوامل ذاتية حددت الاختلاف. ولهذا عندما نسأل "هل تحول دور المثقف إلي لا جداوه"؟ فإننا نجيب بأن دور "المثقف" لم يكن أبدا صافيا للجدوى والنفع، لكن السمة التي كانت تغلب عليه بحكم صعود حركات التحرر الوطني كانت المساهمة في تطوير المجتمع والمضي به إلي الأمام. وقد اختلف ذلك الظرف، بعد أن تراجع المشروع القومي للتحرر، ثم ضربت "أيديولوجيا" الاشتراكية، ولم يعد يلوح في الأفق سوى مشروع تطور واحد شاحب هو "الرأسمالية الرشيدة " أو الدين والأصولية التي تعكس رغبات الكثيرين في التمرد على الإذلال العالمي لكرامة وثروات وثقافات الشعوب الفقيرة.

والحق أن ثقل الأيديولوجيا لم يخفت، لقد خف فقط ثقل "أيديولوجيا المقاومة"، بينما تسود وتروج وترسخ كل يوم "أيديولوجيا" الاستعمار الأمريكي التي بدلت معاجم الفهم والثقافة والتصدي وغيرت مصطلحات تلك المعاجم، وأغرقت الفئات المتعلمة بأموال "لمشروع الديمقراطي"، فنبذ المثقفون صفة "مناضل" أو مثقف ثوري، وتحولوا إلي صفة "نشيط" أو مثقف ليبرالي مستنير، وسادت بأموال الجوائز الأدبية والصحافية فئة تكرس أن عصر "القضايا الكبرى" انتهى، وأن "الالتزام في الأدب" مقولة عفى عليها الزمن، وأن دور الأدب لم يعد "التعرف إلي الحقائق الموضوعية" بل الغوص في الذات البشرية المفردة، دون التوصل إلي القاسم المشترك بين كل الذوات والبشر، ومن ثم ترسخ يوما بعد يوم في الثقافة "الطابع الفردي" لخلاص الإنسان، ليحطم كل مشروع جماعي.

وقد يكون من المفيد في ذلك المجال الإشارة إلي كتاب "الأدب في خطر" للناقد الفرنسي المعروف "تزفيتان تودوروف" الذي ترجم مؤخرا في المغرب، والذي راجع فيه الناقد المعروف خطورة المدارس الحديثة التي تكرس "الأنا"، ولا ترى في العالم شيئا سوى تلك الذات الجميلة التي تستحق إما قصائد الرثاء، أو أناشيد المديح المطولة. هذه الصورة القاتمة لا تنفي أبدا، ويستحيل أن تنفي، وجود مثقفين آخرين، يجدون دورا آخر للمثقف يتمثل في ارتباطه بقضايا مجتمعه، وببؤس ذلك المجتمع، والتأكيد على أن فردا ما لا يمكنه بأية حال أن يعيش سعيدا في محيط من البشر التعساء. إلا أن صوت وتأثير أولئك المثقفين الآخرين ضعيف لأسباب موضوعية، تتصل بغياب "الرؤية المستقبلية" لتطور المجتمع بعد هزيمة مشاريع النهضة والتحرر القومية والطبقية.

وقد أصبحنا اليوم في أمس الحاجة لإعادة الاعتبار إلي دور المثقف، ليس وفقا لمعاجم قديمة، لكن وفقا لحاجة المجتمع، أي مجتمع، إلي العدل والحرية، فقد كانت تلك الحاجات سابقة على الفكر القومي، والاشتراكي، بل إن وجود تلك الحاجات هو الذي خلق كل المحاولات النظرية لتحرير المجتمع. فهل انتفت تلك الضرورة الآن ؟ بطبيعة الحال فإن المثقف يواجه ـ علاوة على غياب الرؤية المستقبلية ـ حجر عثرة آخر يتمثل في موقف السلطات القمعية التي تزدرد بصعوبة هامش التعبير المتاح، وتلجأ في حالات كثيرة إلي أجهزتها لوضع المثقف في "مكانه" إذا تجاوزه بمليمتر.

السؤال الآخر: هل مازالت الانتلجنتسيا العربية مؤهلة بحكم التزامها الفكري والسياسي لخلق شروط التغيير؟ أقول قد لا تكون مؤهلة بعد، طالما أنها تفتقد رؤية جذرية للتغيير، لكن ليس أمامها خيار سوى خلق شروط التغيير تلك، فالمسألة لا تتعلق برغبة أو قدرة الانتلجنتسيا، المسألة تتصل بضرورة موضوعية تفرض القيام بذلك الدور، خاصة أن الأنظمة الحاكمة لا تستطيع مهما اشترت من مثقفين أن تشترى تلك الشريحة بأكملها، ومن ثم يظل هناك من يجدون دورهم في الارتباط بالطبقات التي خرجوا منها، وفي الدفاع عن مبادئ العدالة والحرية والتسامح، وهي قيم خلقها المجتمع الإنساني ودعا إليها منذ نشأته وعلى مدى رحلة تطوره.

في ظل أسئلة "الهوية" على المثقف أن يدرك أن الهوية لا تقبع في الماضي، ولا في فضاء غائم يبدو كأنه المستقبل، الهوية، كل هوية، تستمد حقيقتها من الاشتباك باللحظة الحاضرة، وبالصراع الدائر، وبالتغلب على مشكلات الواقع الآني، فهل أنني سأجد هويتي إذا تشبثت بأنني فرعوني؟ أوعربي؟ أو مصري؟ هذا نقل للهوية إلي المستوى النظري، أي بإبعاد الهوية عن الاختبارات الاجتماعية والسياسية التي تصقلها. أما عن خلق مشروع نقدي في ظل ظروفنا الراهنة، فإن جزءا من ذلك المشروع متاح، وهو جزء يعتمد على الإنطلاق أولا من تعريف الواقع الذي نعيش في ظله: فنحن نحيا في ظل "أمية" ثقافية وسياسية وأبجدية، ونحن نحيا في مجتمعات لا تستنكف أن تبيع سنوات الأطفال لمسح أحذية وسيارات الآخرين، ونحن نحيا في مجتمعات تضع كل مثقف ذي كلمة حرة وراء الأسوار، وتتحكم في ثرواتها قلة قليلة، مقابل أغلبية تعيش في أتعس الظروف، ونحن أولا وأخيرا نواجه الاستعمار والتبعية في كل أرجاء العالم العربي بدرجات مختلفة، وعلينا إذا قمنا بتشخيص الحالة، أن نفكر في مشروع نقدي، لأنه من دون الاتفاق على أن العراق "محتل" وليس "جديدا" كما يدعي بعض المثقفين، ومن دون الاتفاق على أن مصر تعيش أسوأ مراحل "التبعية" وليس الديمقراطية كما يدعي البعض، ومن دون الاتفاق على طبيعة وضعنا التاريخي والثقافي الآن، سيكون من الصعب أن نبلور مشروعا نقديا على المستويات كافة: ثقافيا وسياسيا واجتماعيا وإنسانيا.


Ahmad_alkhamisi@yahoo.com