سياسات القصيدة

في أسئلة المثقف، أسئلة الشاعر

عبداللّطيف الوراري

مدخل ليس سياسيّاً، بالضّرورة:
«أمّا الاستعداد الذي يكون بأن يعتقد فضل قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله فإنه معدوم بالجملة في هذا الزمان، بل كثير من أنذال العالم ـ وما أكثرهم! ـ أعتقد أن الشعر نقص وسفاهة. وكان القدماء، من تعظيم صِناعة الشّعر واعتقادهم فيها، ضدّ ما اعتقده هؤلاء الزّعانفة». حازم القرطاجني.

1. المثقّف وخطابه الآخر:
دائماً ما كان سؤال المثقّف سؤالاً إشْكاليّاً، في قديم الثّقافة وراهِنها. من هو المثقَّف؟ وما المحدِّدات المائزة له؟ وما هو الوعي الّذي يشرطه، ويمثّله في كلّ ثقافةٍ، وعصْرٍ؟ وما هو الدّور الّذي يضطلع به في المجتمع، وعلاقاته بأطرافه؟. هذه بعض الأسئلة الأساسيّة ضمن أخرى تضَعُنا في قلب الإشكاليّة، لكنّنا لا ننشغل، هنا، إلّا بواحد من مناحي النّظر، الّذي ظلّ معتماً ومحتجباً في الخطاب الثّقافي رغم قيمته الرفيعة، وهو وضْعُ الشّاعر في/ من زمنه، وهويّة قصيدته الثّقافية، وأخلاقيّاتُها، ورؤيتُها للذّات والعالم، من غير أن نغفل، في زخم ذلك، عن التبدّلات السوسيوثقافيّة الّتي طبعت مفهومات الشّعر والشّاعر، وأوضاع الكتابة.

يعرّف إدوارد سعيد المثقّف قائلاً إنّه "الشخص الذي يواجه القوة بخطاب الحقّ". ويؤكّد خطاب المثقّف أنّه من الطبيعي أن يكون له دورٌ طليعيٌّ، وأن لا ينفصل عمله عن أخلاقيّاته حيث يأتي الالتزام بالنسبة إليه في المرتبة الأولى. من هنا، يتميّز هذا الخطاب الّذي يوصف عادةً بالطّوباوي والمتعالي والحالم عن خطاب السياسي الّذي يتغيّر بين ليلة وضحاها، طالما أنّه يخاطب الآني والعارض. في الثّقافة، والفنّ تحديداً، هناك الحرص على النّقد والعمق الّذي يحمي الجوهر بمقدار قدرته على التكيّف واحتواء ما هو دائم ومتغيّر. لهذا نفهم خشية السياسي من الثّقافي، الذي له قيمٌ وأدوارٌ مختلفة أكثر قدرة على نقد المفاهيم كما الممارسات بعيداً عن سلطة المؤسّسة، وخارج فنّ الخداع واللعبة السياسية والمصلحة الضيّقة والرؤية المرتهنة بالحزبي و الأيديولوجي و الشّعاري السطحي إلى حدّ الفساد، الّذي يجيده الأوّل.

بهذا المعنى، فإنّ مفهوم المثقّف ارتبط، حديثاً، بالاستقلالية عن الجماعة، ثقافية كانت أم اجتماعية، كما ارتبط خطابه بالمعرفة والنقد والمراجعة والتمحيص في القيم العامة، وفي ما هو مُجْمع عليه.  

لمّا نهمّ ببحث أوضاع الثّقافة ينصرف بالُنا، للتوّ، إلى فئة معلومة من المثقّفين أمثال الأكاديمي والمفكّر والفيلسوف ورجل الدين وعالم السياسة وخبير الاقتصاد باعتبار نظريّاتهم وخطاباتهم العالمة، وقلّما يدخل في الفئة المشتغل بالفنّ والأدب عموماً، وبالشّعر تحديداً، كأنّ لعنة أفلاطون تلاحقهم من قديم، وزادت عليْها لعنة العصر الّذي قذف بهم في الهامش والتّيه.

لقد كانت للشّاعر، ضمن آخرين، مكانةٌ إلى جانب الأنبياء، وكان الواعظ والمعلّم الّذي يرى ما لا يراه غيره، والّذي يرشد النّاس، ويلتصق بقضاياهم، ويعلّمهم الحقيقة الضّائعة في كتب البيان والحكمة، ومشاهد النّفس والطبيعة والحياة، وعلى ألسنة الطّير والنّار. قصصٌ وذكرياتٌ وأنْفاسٌ يحفظها لنا خطاب القصيدة وتاريخها، من لبيد وزهير بن أبي سلمى، مروراً بالمتنبي وأبي العلاء المعرّي، وليس انتهاءً بأحمد شوقي وجبران والشابي والسياب وأمل دنقل والبياتي وأحمد المجاطي ومحمد الماغوط.

ولأنّ الشّعر دائم الإصغاء إلى زمنه، وإلى شرطه الإنساني، فقد كان للشّعراء في قصائدهم، باستمرار، المهامّ الملقاة على عاتقهم حتّى في الأوقات العصيبة من رفضهم وتهميشهم مثلما اليوم. ولا ينكر التّاريخ أنّ الشعر متى كان صوته إنسانيّاً مدوّياً يُضاهي صوت هدير القنابل عبر استخدامه الكلمات التي تشعل العواطف في قلوب الناس وتجعل الدم يغلي في شراينهم، كان القادر أكثر من ضروب الفنّ على تغيير العالم تغييراً جدياً من خلال إعلانه عن نفسه ووجوده في المجتمع، مثلما يُرشدنا إلى ذلك هنري ميللر، ويزيد عليه أدورنو أنّ الّذي "يتكلّم في الفنّ "هو "ذاتُه الحقيقيّة، وليس الذّات الّتي تُنْتجه أو تتلقّاه". من هنا، نفهم أنّ الذّات الشاعرة هي تُصغي للمجتمع بقدرما للتّاريخ. يعبر الكلّ كما لو كان يعكس علاقات القوّة. يخشى السّاسة ومنظّرو السياسة الشّاعر والفرد الوحيد، فيما الشّاعر لا يخشى من يسعون إلى سحقه.

يتمّ ذلك عندما يُدرك هؤلاء مهامّهم الأساسيّة كفئة من البشر أو الطّليعة الّتي تُقاوِم وتٌواجِه بثقافتِها المغايرة وغير المُهادِنة لسلطة القمع والاضطهاد، وبخلافه يزولون بزوالها من ائتمر بأمرها، وخان في سبيلها القيم الإنسانيّة والوجوديّة للشّعر. وتختلف تلك المهامّ تبعاً لاختلاف العصر والمجتمع والثّقافة.  

2. القصيدة في التّاريخ:
من الشّعر العربي إلى ثقافاتٍ أخرى كان يصدح في ليْلِ القصيدة لسانُ حقيقتها، ومن شرط إلى آخر كانت لا تكفّ عن سياساتها داخل خطابها المفرد والنّوعيّ. الخطاب باعتباره فعّالية لغة الذّات في المجتمع والتّاريخ. إنّ الكتابة، وبخاصة كتابة القصيدة، لا تكون ممارسةً نوعيّةً إلّا في الرّؤية النوعيّة للذّات عبر التّقعيدات الاجتماعيّة والثّقافيّة، وهذا لا يتمّ إلّا عندما يمثّل الشّعر الوجه الكاشف للمجتمع الّذي يرتهن به الشّاعر كفرْدٍ، وللُّغة الّتي تأوي وجوده كإنسان. إنّ القصيدة، كخطابٍ وتعبيرٍ، هي، في نهاية التحليل، تاريخيّة، ليس لأنّها تحمل تاريخها، بل أيْضاً مكانها وعبورها في الأزمنة والثّقافات. داخل أوضاع الكتابة ومعايير الجنس الأدبي، أوخارجها.

في مطلع الشّعر العربي القديم، كان الشاعر لسان القبيلة في الحرب والسلم، وراعي أيّامها وذاكرتها، وكانت القبيلة مهما بلغت من بأس تقف عارية أمام القبائل المنافسة لها إنْ لمْ يظهر فيها نابِغةٌ من شعراء وقتها يأمن لها صيتها ووجودها. ويحكى أنّه "كانت القبيلة من العرب إذا نبغ فيها شاعرٌ أتت القبائل فهنّأتْها، وصنعت الأطعمة، واجتمعت النساء ليلعبْن بالمزاهر". هذا الدّور كان، بدوره، يجسّد تجانُساً لغويّاً وسيكولوجيّاً، وتعاقُداً ثقافيّاً واجتماعيّاً بين الشاعر وأفراد القبيلة، وهو ما جعل العلاقة بينهما أكثر قرباً وفهماً ممّا ترتّب عنه أن يتبوّأ الشاعر منزلة رفيعة في السلّم الاجتماعي، ويجعله مصدر تفاخر وتناحر بين القبائل، ويجعل لشعره بالغ التأثير في النّفوس، ومعاني القداسة إلى حدّ أن عُلِّقت بعض قصائده على أستار الكعبة. وهناك مرويّاتٌ تؤكّد أنّ الشّعراء كان يقومون من العرب مقام الأنبياء في غيرهم من الأمم فيما رواه الأصمعي وابن العلاء وأبوحاتم الرازي. ومع التحولات التي طرأت على التشكيلة الاجتماعية، تراجع دور الشاعر قبليّاً لكن دوره لم ينتهِ اجتماعيّاً. صار دوره يمثّل المجتمع، ويعبّر عن أعرافه وقيمه الّتي كانت تتململ بالنّظر إلى البنى المتحوّلة، باعتبارها عاملاً محرّكاً لمنظومة المشاعر والأحاسيس الّتي تعتمل في وجدان المجتمع وكيانه النّاشئ، علاوة على أنّه صار يطمح أكثر إلى نيل رضا الآخرين وإعجابهم بعدما بدأت تظهر إلى الوجود فئاتٌ جديدة من المثقّفين تُنافِسه.

وفي تلك الأوقات من زمن الشّعر، كانت القصيدة العربيّة تتلوّن بلوْن الثّقافة الّتي تحياها، وترتهن للقيمة المهيمنة التي تشرط العصر نفسه، مع ما يصير من ذلك من تأثير وتأثُّر يفعل، سلباً أو إيجاباً، في البنْية الجماليّة للقصيدة. وعليه، لم يكن هناك نموذج واحد يقدّمه الشّاعر عن نفسه، بل رافقتْه نماذج كثيرة بدايةً من عصر صدر الإسلام تحت تأثير"الدّعوة"، وعصر بني أميّة في غمرة الصّراعات السياسية بين الأحزاب والمذاهب، وهلمّ شعراً. ولم يمرّ التّاريخ دون أن يرسم لنا خُروجات القصيدة عن المُجْمع عليه ثقافيّاً، فيما هي تجدّد آليّات عملها ورؤيتها إلى الأشياء والعالم داخل ما عُرِف في المدوَّنة النّقدية بـ(صراع القدماء والمحدثين). نذكر، هنا، مغامرة أبي نواس وأبي تمام أساساً. ولكن الشّعراء في مجملهم ظلّت قصائدهم تُشْبع استجابات المتلقّي، ولا تخلخل فيهم روح الكشف والسّؤال، إلّا إذا استثنينا المتنبي بخطابه الحكمي، وأبا العلاء المعرّي برؤيته المتفلسفة، واستثنينا لفيفاً من شعراء الصّعاليك والصّوفيّة الّذين ظلّ تأثيرهم معدماً، بحكم عزلهم أو اعتزالهم.

من الإيقاع إلى جهل القيمة
في عصر النّهضة,فتح الشّعر العربي عينيه على عالم متحوّل. وبالرّغم من وظيفته الإحيائيّة، أو بسببها، لا يستطيع أحدٌ أن ينكر ما كان يُستقبل به شعر البارودي، وشوقي، وحافظ، والرّصافي، وبدوي الجبل، والجواهري، والشابّي، وبشارة الخوري، ومفدي زكريا، ومحمد بن ابراهيم وغيرهم من حظوة القوم واحتفائهم، وما كان يشعله من الحماسة، ويلهبه من الأحاسيس، ويستنهضه من الهمم. ولم يمنع ذلك من نشوب الخصومات الكثيرة بين المحافظين والمجددين، إلّا أنّ الجميع ـ شعراءً ونقّاداً ـ كان يقرّ في أذهانهم وأسماعهم ما ثبت للشّعر من طبيعته ووظيفته، ومن ثمّة يحظون باحترام المتلقي وقناعته. ‏وكانت قصيدة شوقي تتصدر الصفحة الأولى من جريدة الأهرام، وقصيدة لحافظ إبراهيم تشعل حماس المتظاهرين ضدّ سياسة الاستعمار البريطاني، كما كان أهل مرّاكش يذكرون في مجالسهم كلّ قصيدة جديدة لمحمد بن ابراهيم، حتّى أصحاب الاتجاه الوجداني لم يغْفلوا، في غمرة احتفائهم بالذّات والخيال، عن القضايا الوطنيّة والقوميّة، من مثل أبي القاسم الشابي وعلي محمود طه وإيليا أبي ماضي وعمر أبي ريشة وغيرهم، وذلك أيّام كان الشعر يتصدّر كل أنواع الفنون، ويحتفظ بسلطته وكبريائه التّاريخي.

إستمرّ صوت الشعر العربي كذلك مسموعاً عند أصحاب الموجات الأولى من سيرورة التّحديث الّذي طاله، ووجد القارئ في روّاده أمثال السياب، ونازك، والبياتي، وعبد الصبور، ونزار قباني ومحمود درويش وغيرهم صور العلاقة المتفاعلة بين نصوصهم وبين واقعهم الذي عملوا، بدرجاتٍ، على نقده نقداً مباشراً حيناً، وتطهيره والسموّ به في الرّمز والأسطورة حيناً آخر. ولم يكن ينفصل ذلك عن مشكلات السياق السياسي والاجتماعي بعد الحرب العالمية الثانية وعام النّكبة، الذي ساهم في ولادة وعْيٍ شعريّ مغاير في تصوّر عمل القصيدة وسياساتها، وفي بناء الموقف النقدي وأطروحات الرّؤية ضمن فضاء الكتابة. وكان يتفاعل داخل الوعي الرّافض للسّائد والمتفاعل مع ما يجري حوله مشروع الشاعر النّاقد والمثقّف الّذي أخذ من الفلسفات والمعارف والنظريات الأدبية بنصيبٍ مؤثّر، وساعدته ثقافة الالتزام الرّائجة، وقتئذٍ، في بلورة أفكاره في مواجهة المجتمع والحياة والكون.

وفي هذا السياق، برز الشعراء التمّوزيّون والواقعيّون الّذين لم ينفصل تحديثهم للشّكل الشّعري عن الاهتمام بالمضمون السياسي والاجتماعي الرّافض، فدعوا إلى الالتزام بـ"المبادئ الوطنية والقومية والإنسانية"، وبـ"تحرير الأوطان من الاستعمار والتخلف الحضاري"، وبـ"الدّعوة إلى نهضتها ووحدتها ورفاه أبنائها"، بقدرما هم يتطلّعون إلى غدٍ أمثل تسود فيه الحريّة والعدالة الاجتماعية. وكثيرٌ من هؤلاء الشّعراء كان تجمعهم بمؤسّسات سياسيّة وأيديولوجية واجتماعيّة وإعلاميّة (أحزاب الحركة الوطنيّة، نظريّات فلسفيّة مثل الماركسية والوجودية، مجلّات وجرائد ثقافية مثل الآداب والثّقافة المصريّة، أشرطة مغنّاة تهدر بالثّورة...). علاقات انتماء أو تعاطف كانت صالحة للطّرفين معاً، ومنهم من تأثّر بهذه العلاقة حتّى صارت نصوصه مواقف اجتماعية مؤدلجة بحكم الواقع السياسي الضّاغط وتأثير النقد الإيديولوجي، لكنّها انتهت وذابت في الماضي فيما تبدأ كلّ لحظةٍ تلك النّصوص المنذورة، كتابيّاً وجماليّاً، للمستقبل وتأويلاته.

ونذكر قصائد كثيرة سارت بذكرها الرّكبان في المشرق والمغرب، وعقدت آصرةً سحريّة بينها وبين قرّائها، بله جماهيرها، في كتب النّقد، والتأليفات المدرسيّة، والملصقات الجامعيّة، والاحتفاليّات والمجالس الخاصّة، والأنطلوجيّات. نذكر، تمثيلاً لا حصراً، "غريب في الخليج" و"المومس العمياء" و "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب، و"لا تصالح" لأمل دنقل، و"القدس عروس عروبتكم" لمظفر النواب، و"سبتة" لأحمد المجاطي.

ونذكر إلى وقت قريب قصائد سعاد الصباح، ونصوص نزار قباني بما فيها الأخيرة مثل "المهرولون" و"متى تعلنون وفاة العرب؟"، و"لافتات" أحمد مطر، وقصائد محمود درويش داخل غنائيّته الشفّافة، الّتي لا تدير ظهرها لأساطير الشّعب المُحاصر في قوّة الأصغاء، حتّى قال السيّء الذّكر بين أساطيره المدعومة بالنّار شارون مرّةً: «إنني أغار من محمود درويش، وأحسد الشعب الفلسطيني على تعلّقه بأرضه بالطريقة التي يعبّر عنها شعر درويش». كلّ قصيدة من هذه الطّينة الملهمة تصنع لحظتها التّاريخيّة الّتي تتأتّى لها من محتواها أكثر من شكلها، بالقياس إلى ما تحدثه بنيتها، البيانيّة غالباً، من عمل في مرجعيّات التأويل السياسي، وإشْباعٍ لانتظارات الأفق العمومي للقراءة.

ظلّ شعراء هذه المرحلة يشخّصون الصراع، المعلن وغير المعلن، بين السياسي والثّقافي في الشعر العربي الحديث، ومثّلت الموضوعات القوميّة والاجتماعيّة، مثل الموضوع الفلسطيني والصّراع الطّبقي والاغتراب النفسي والموت والانبعاث، ضغطاً متصاعداً على نصوصهم الشّعرية. هكذا، أدمنت الذّائقة على التعامل معهم بوصفهم الصّوت السياسي للثّورة العربيّة من أجل التغيير والتقدّم والرّفاه، وكانت الدّراسات النقدية لكلّ من غالي شكري ومحمد النويهي ومحمود أمين العالم ومحيي الدين صبحي ويوسف اليوسف وعبدالواحد لؤلؤة ونجيب العوفي وفيصل دراج وآخرين، تعزّز هذا الإدمان بقدر ما هي مشدودة إلى رهانٍ نظريٍّ ومعرفيٍّ يرهن رؤى الشّعراء ومواقفهم بالقضيّة وتبعاتها وتداعياتها سياسيّاً واجتماعيّاً، أي يرهن "الشّعري" بـ"الأيديولوجي" داخل حمّى الاهتمام بجماليّات الأدب الواقعيّ، وإن كانت هذه العلاقة المزدوجة بين ما هو اجتماعيّ وجماليّ سوف تتسبّب، بلا شكّ، في خلق العديد من مشكلات الشّعر.

3. الرّعب في الآداب وخفوت صوت الشّعر:
عندما حدثت النّكسة لم تكن أقلّ من صاعقة ومدوّية. كانت، في نظر الكثير، زلزالاً لم يسبق له مثيلٌ في الوعي الثقافي الحديث، بحيث لم يسْلم من آثارها أحدٌ، وباتت قطاعاتٌ واسعة من نخب الثقافة والأدب والفنّ تُعيد، تحت هوْل ما حدث، النّظر في حقول الفكر والرّؤية والحساسيّة. وإذا عُدْنا إلى الفترة التّاريخيّة الّتي أعقبت النّكسة وجدْنا إرشيفاً مهمّاً يصوّر لنا حجم الآثار وقوّتها. ردود فعلٍ غاضبة، سخط شعبيّ، مراجعاتٌ مذهبيّة ونقديّة، إنقلابات العسكر، بيانات احتجاج. لكنّ أخطر ما حصل هو انهيار الأيقونات الماديّة والرّمزية الّتي حملتْها القصيدة واطمأنّ إليْها جمهورها، وأعني بها الرّموز والإيحاءات والأساطير الّتي كان يوحي بها الشّعراء إلى نهوض الحضارة وانبعاثها بعد انحطاط وموت. إرْثٌ كبيرٌ من الآمال تبخّر، ومن التطلّعات خاب، كما أجهضت الأحلام بالتّغيير والرّفاه والعدالة الإجتماعيّة.

من هذه اللّحظة بدأ الشّعر في الانحسار، وسقطت القصيدة من الصفحة الأولى في عدد من الجرائد القوميّة إلى صفحات داخلية، بعد أن غدت الشقّة تتوسّع بينها وبين الجمهور الّذي أحسّ بأنّ الشّعراء باعوه الزّيف والكذب، وأنّ ما وعدوا به لم يجلب إلّا المأساة، كما أحسّ الشّعراء أنفسهم بالخيبة واللّاجدوى والشّعور بالفاجعة من آثار الزّلزال المدّمرة، وممّا قفوا عليه من فشل المشروع الثّوري والنّهضوي، وتشرذم الكيانات السياسية الوطنية، وانطفاء روح العقل والنّقد، ومن لا جدوى "بحار المعرفة السّبعة" الّتي رفدوها نحتاً من لحمهم ودمهم. وسوف يزداد ذلك الانحسار نتيجة الميْتات المتقاربة لعدد من الروّاد بالموت أو الانتحار أوالمرض أو الصّمت أو الخذلان، لكنّ آخرين قبلوا التحدّي في مواجهة ما تبقّى عبْر رؤى ومضامين تقترب من الهجاء السياسي والسّخرية والباروديا، وانْزاح البعض إلى مناطق أخرى من الكتابة (الصّوفية، الجسدانيّة، التّخييلية، السّردية...). الّتي وصلت حدّ التّجريب، وتصادتْ نصوصهم الجديدة مع نصوص قصيدة النّثر الّتي كانت تشير من بعيد، وتغتنم أزمنة المنع والصّمت الّتي واجهتها منذ بروزها أواخر الخمسينيّات.

بموازاة ذلك، بدأت موضوعة الأزمة تمتلئ بها الأفواه، بعلم وغير علم. وبسبب ذلك، أخذ وعي الشاعر الحديث يتغيّر في علاقته بذاته ورؤيته وظيفته من جهة، وفي علاقته بفنّه ومفهوماته ومراجعه وأدوات عمله من جهة ثانية، وفي علاقته، ترتيباً على ذلك، بالقارئ والمجتمع بأكمله. وقد كشفت هذه العلاقات عن المكانة المتميزة التي أصبح يحتلها الوعي التّنظيري والجمالي لديه في سياق الحداثة النّاشئة باستمرار. وصار، من الآن أكثر من ذي قبل، يكتب الشّعراء شهاداتٍ عن تجاربهم الشعرية، ضمن سياق تقييم تجربة الشعر الحر، وما حقّقته من إنجازات واستجاباتٍ لدى المتلقّي العربي. فكتب عبد الوهاب البياتي كتابه "تجربتي الشعرية"، وأصدر صلاح عبد الصبور مثلاً "حياتي في الشعر"، وخرج سميح القاسم بكتابه "عن الموقف والفن: حياتي وقضيتي وشعري"، ولم يتأخر أدونيس طويلاً فأصدر كتابه "زمن الشعر"، وشغل نزار قباني النّاس بكتابه "قصتي مع الشعر"؛ وآخرون كتبوا مقدّمات تنظيرية لدواوينهم الشعرية، وأصدروا بياناتٍ شعريّة تتضمّن مجمل مواقفهم من الطريقة الجديدة الّتي يختطّها شعرهم.

داخل هذه الحدوس النظريّة كان تتكوّن شعريّة الأساتذة من روّاد الحداثة، الديالكتيكيّة والدوغمائيّة الّتي، عدا ما حملته من أفكارهم حول الشّعر، كان يحمل كثيرٌ منها إجابات على "الأزمة"الّتي تولّدت في سياق الهزيمة وتداعياته السياسية. إجابات تبرّر، وتُراهن على مراجعاتٍ جماليّة فيما هي ترسم ذلك التوتّر بين الممارسة والنّظريّة في المجال الشّعري.

إذا استثنيْنا الشّاعر محمد الماغوط الّذي استطاع، بغنائيّته الخاصّة والمتحرّرة من أعباء المعايير الناجزة، أن يُضيء مسارح التّاريخ من معذَّبيه ومهزوميه ومغتربيه، وينقلنا، بغير قليلٍ من الاحتجاج والسّأم والقسوة والسّخرية السوداء، إلى المنافي والسّجون والغرف المغلقة والعواصم الباردة التي تذوب في التّاريخ، فإنّ شعراء الحداثة من ممثّلي قصيدة النّثر سوف يشرعون، داخل جماليّات هذه الأخيرة، في كتابة نصّ العصيان مستأنساً بعزلته، وراضياً بمنفاه الاختياري ضدّ "المعيار"، وضدّ"الذّاكرة". الشّاعرالفرد المعزول لا الشّاعر العرّاف والنبيّ. لم تعد الحرّية تعني لديهم الالتزام العضوي بقضايا المجتمع، بقدرما ما باتت تعني أن يخلق كلّ فرْد عالمه ومداه، لكي يظهر إبداعه ويمارس حضوره المفترض. لهذا السبب، تحوّلوا، في رؤيا الشّعر، إلى شعراء نرجسيّين ومستقلّين وبالغي الهشاشة، يبحث كلّ منهم عن حرّيته بمعزل عن العالم، وعن سلطته الخاصة داخل كوكبةٍ من الرّموز الفالتة من كلّ عقال. صارت الذّات إحدى أهمّ شذرات الحداثة الشّعرية الأساسية لصالح أن يكون الشّاعر بمفهوم الفرد المعزول، والقصيدة "ليس لها هاجس سوى وجودها الذّاتي"، بتعبير أدونيس. وراح الشّاعر الحديث يتعالى على المتلقي وينفيه "من معادلة العمل الفنيّ ليصير النتاج الشّعريّ نتاجاً في ذاته ولذاته". لا وجود للآخر. الأنا وحدها هي الموجودة. هي العالم. ‏

ومن ثمّة بدأت تتململ مؤسّسة الشّعر، وداخلها تتراجع صورة الشاعر المعتادة بما في ذلك الفوطوغرافية نفسها، المختومة بحبره الشّخصي. وبدا كأنّ هناك تراجُعاً في الشّعر بسبب خفوت صوت الشعراء السياسي، وقد مثّل ذلك فرصة الرّواية السّانحة، الّتي بدأ ينعتونها بـ"ديوان العرب الجديد"، وحتّى للمسرح الّذي فجّر إشكالاتٍ مهمّة ظلّت محتجبة، لأسباب شكليّة، في القصيدة، بما فيها ذات النبرة الخطابيّة. وبدأ الصّراع، بالتّدريج، يتحوّل إلى الدّاخل، أي من صراع سياسيّ وأيديولوجي إلى صراع فنّي وجماليّ داخل فضاء الأدب، وبالأخصّ داخل فضاء القصيدة بين عموديّين وتفعيليين من طرف، ونثريّين من طرفٍ ثانٍ. لقد حلّ، من الآن، الحديث عن الشّعر أكثر من الشّعر نفسه، وهو حديث أكثر غير ذي شأن، لأنّه كان يبتعد عن جوهر القضيّة ومشكلاتها لاستغراقه المملّ في الشّكليّات والتّجميلات، وكان ذلك لا يثمر إلّا المواقف والمواقف المضادّة عبر البيانات ومقدّمات الدّواوين وغيرها، أمّا نقد الشّعر نفسه فقد استعاض عن المعرفة بالتشيُّع لهذا الطّرف أو ذاك. لقد بدا الأمر كأنّ، هناك، رعْباً يحدث داخل عمارة الشّعرالعربيّ. من الرُّعب التّاريخي الّذي نشأ من موْت الرّموز الواعدة بالبعث الحضاري، ومن غياب دورٍ ما، إلى رعب معايير الكتابة بسبب تداخل الشّعري والنّثري.

تحرير الدالّ:
عدا هوامش ووتجارب سابقة ومعزولة لم تشكّل ضغطاً على الذّائقة، يمكن لنا أن نزعم أنّ سنوات السبعينيّات كانت حاسمة في بروز وعي جديد داخل القصيدة العربيّة، تدعمها مرجعيّات جديدة في الكتابة الشّعريّة (السورياليّة، الصّوفية، خليط من العدميّة والجنون والهذيان...). الّتي ترافقت مع صعود الخطابات الشّكلانيّة في نقد الشّعر من مثل البنيويّة والبلاغة المقيّدة ولسانيّات النصّ والتفكيكيّة، الّتي كانت تصرف النّظر عن نظريّة المعنى والذّات والتّاريخ، وتدّعي «استقلالية العمل الأدبي»، «موت المؤلف»، «إساءة القراءة» و«لانهائية المعنى»، فيما هي راهنت على أولويّة اللّغة كانزياح غارق في الظّاهراتيّة، وخارج كلّ التزامٍ في الكتابة وأخلاقيّاتها. تأكّد هذا الوعي، تدريجيّاً، في فضاء قصيدة النّثْر باعتبارها "ضدّ الذاكرة". ومارست هذه الأخيرة، منذ نشأتها، سياساتها على خصومها بداية من اسمها، ولم تتورّع عن مغامرة التجريب «للخروج من طرق التعبير المستقرة أو التي أصبحت قوالب وأنماطاً، وابتكار طرق جديدة».

و لقد أسهم التّركيز على الدالّ في التّيه، وإشاعة الغموض في كثير من نماذجها الشعرية، ممّا أحدث تشويشاً بائناً لأفق انتظار الذّائقة نتيجة "عطالة" الدّلالة أو هدم العلاقة بين دلّ وفهم، حيث لم تعد الأدلّة تُحيل على مرجع، بل إنّنا ننتقل فقط في سلسلةٍ من الدوالّ لا تنتهي. بمقتضى ذلك، صار الدّليل في خطاب القصيدة محطّماً، ولم يعد القارئ يعثر على شيء ما كدلالةٍ، ممّا أقام، بالتّالي، جداراً بينهما، فعّم الحديث عن الأزمة. يقول نزار قباني: "أزمة الشاعر العربي الحديث أنه أضاع عنوان الجمهور، فهو يقف في قارة والناس يقفون في قارة ثانية، وبينهما بحار من التعالي والصلافة وعقد العظمة، وبدلاً من أن تكون ثقافة الشاعر وسيلة للتفاهم والاقتراب أصبحت قلعة من الغرور لا يدخلها أحد...". ولم تمرّ مثل هذه الاتّهامات بدون أن يردّ عليها الروّاد ومُريدوهم من أصحاب قصيدة العصيان، فمضوا يحمِّلون القارئ العربي مسؤولية العجز عن فهم إنتاجهم. وأقرّ أدونيس مبدأ «الانفصال عن المشابهة والمحاكاة»، من دون لجوء إلى معيار خارجي ـ المعيار القديم الموروث: «هكذا فالقصيدة الحديثة لم تعد تقدم للقارئ أفكاراً ومعاني، شأن القصيدة القديمة، وإنما أصبحت تقدم له حالة، أو فضاء من الأخيلة والصور، ومن الانفعالات وتداعياتها».

إنّها شعريّة الدالّ، ودالّ الذات، أساساً. لا نعني بالدّال، هنا، اسم الفاعل لفعل دلّ، كما في معنى دي سوسيبر، بل بالمعنى الذي يكون فيه، بالنسبة للشعرية، باثّاً للدلالية التي تتجاوز الدليل المعجمي للكلمات، عبر آثار تداعيها مع دوالّ أخرى. وتعكس الذّات، غير ما مرّة، القيم التي تؤسسها وهي تتبدّل في الخطاب، المفرد والنّوعي. نحن أمام قصيدة تمرّدت على الوزن، وجاوزت المدلول، ورضيت باللّعب في تجربة الحدود، خارج شرائط القيمة والوظيفة، ومعاييرالتجنيس الأدبي الاعتياديّة. ولم يعد يستهويها الحدث، حدث القضايا الكبرى. تلك القصيدة الّتي يكتبها شاعرٌ بمرجعيّة الرُّؤيا والكشف حيناً، والعبث والعدميّة حيناً آخر، في شكل نصّ كلّياني ومُتعالٍ ومُفارق للواقع الإنساني. التّرحال في اليوتوبيا، وما من يوتوبيا إلّا داخل الذّات.

من الجمعيّ إلى الذّاتي:
شكّل صعودُ الذات وتحوُّلها إحدى أهمّ عناصر فعّالية القصيدة الجديدة، وأكثر آليّات تعريف حداثتها. فقد انصرف أغلب الشّعراء المعاصرين عن المعضلات التّاريخيّة والسياسيّة، وعكفوا بدل ذلك على اليوميّ والآنيّ والعابر في ما يعجّ من تفاصيل وتيمات مادّية وحيوات بسيطة وقريبة، مرتفعين بأجسادهم وانفعالاتهم واستيهاماتهم وعلاقاتهم وسيرهم البيوغرافيّة إلى درجة الغائيّة الّتي بدت كأنّها "التزامٌ جديدٌ" داخل استراتيجيّة تصوّرهم للقول الشّعري في كتابة جديدة تُراهن على جماليّات معارضة تشي بالتنوّع والتعارض، على طرفي قصيدة النّثر والتّفعيلة. وعليه، لن نكون بصدد رؤى اجتماعيّة وأيديولوجيّة وشعاريّة، بل أمام رؤى بديلة بين نوسطالجيّة وإشراقيّة وشبقيّة وعدميّة ونسوانيّة في الأغلب. هكذا تكشف النصوص الشّعرية لهؤلاء عن صوت الذّات الكاتبة، ونزوعها إلى المجهول وهي تختبر هشاشة العالم والأشياء، وتعيد، في ضوء ذلك، تأمّل أوضاعها المركّبة والمتشذّرة في الحياة والكتابة. لم يعد السياسي المباشر والماورائي والشمولي شرط الكتابة، بل الجماليّ اليوميّ والمادّي ذاته. ولا الصّوت ذو الإيقاع الحادّ بل الصّمت ذو التّكثيف الضّوْئي. ما كان متخفيّاً سوف يصير أكثر حضوراً في سيرورة التّحديث الشّعري.

ترتيباً على ذلك، انتقل توصيل الشّعر وتلقّيه من الفضاء العموميّ إلى الأمكنة المغلقة من مثل المقاهي الثقافيّة والنّوادي اللّيلية والمجالس الخاصّة والحميمة، متساوِقاً مع انحسار دور المجلات الأدبية الفاعلة، ومنابر النشر الحرة، وضمور محفّزات الجدل والمعارك الأدبية، فيما دخلت التّقنية على الخطّ بوسائط مغايرة. وطُرِح السّؤال ثانية: هل نشهد تراجعاً في دور الشعر، ومن ثمّ الشعراء؟ هل يعني الأمر انسحابهم من المتن الى الهامش، واستقالتهم من اختلاطات الحياة اليوميّة؟، وتساوق الأمر مع أوهام الحداثة، ولاسيّما فيما يتعلّق بتصوّر الشّعر ووظيفته، حتّى بدا الادّعاء بأنّ الشّعر "كائن لا اجْتماعي" مغرياً للكثير، حتّى بالنّسبة الشعراء المنشغلون بـ"الموضات" الرّائجة. لا يمكن لنا، والحالة هذه، أن ننكر اجتماعيّة القصيدة حتى ولو امتلكت قدراً ما من الاستقلالية والتفرّد، لأن كتابتها لا تتحقق إلاّ بعملية إدماج بين الشّخصي واللّا شخصي، بين الفردي والاجتماعي، وأنّ العلاقة بين رؤيا الشاعر والوسط الاجتماعي ليست علاقة انعكاس آليّ، كما زعموا.

لقد تمّ اللّجوء إلى الوعي أو المفهوم الفردانيّ للشّاعر بطريقةٍ تُفْرغه من حديّتها غير المسموح بها، بما يُشْبه مُناورة أو أيديولوجيا أكثر منه تحليل تاريخيّ، وهو ما يُعيق عمل اللّغة والذّات في الفنّ. في الواقع، يمثّل "الفنُّ المرْصدَ والمختبرَ الّذي يُظْهر أكثر من أيّ ممارسة اجتماعيّة أنّه داخل الفنّ يتحقّق الذّاتي بقدرما يتحقّق الجمعيّ"، يؤكّد هنري ميشونيك. بهذا المعنى، لا يمكن لنا أن نخوض في حداثة القصيدة، أنّى كانت، بمنأى عن الأخلاقيات والتاريخ، وذلك حتّى في استغراق اهتمامها بالذّاتي. إنّ كتابة القصيدة حتّى في الهامش تظهر سياسيّة أكثر من المتن، وفي نصّ العصيان أكثر من المجمع عليه.

دائماً، ثمّة سياسة مّا في القصيدة، متحوّلة سرعان ما تنهض من الرّكام أوالفراغ في عمل التّأويل. تلك السياسة الّتي بمثابة الحركة الّتي تهجع في رحم القصيدة، وتحملها على أن تكون الرّاهنيّة الدّائمة للّغة الخاصّة، المهدّدة أكثر، والحيويّة أكثر. وهي، ككلّ عمل أدبي، ليست القصيدة سوى نوع من اليوتوبيا، من خلالها نرغب في أن نبني عالماً بديلاً يطفح بالحبّ والأمل، ويرشد إلى عدالة أكبر. ليس المهم أن نقسم الأدب إلى أنواع ومدارس، وإلى قضايا والتزامات، المهمّ أن نرشد أقدامنا إلى هذه اليوتوبيا في ليل القصيدة، القصيدة الأكثر تقشُّفاً، وتخفُّفاً من المحسّنات وصيغ البلاغة، وتخيُّلاً ما فتئ يُنادي على الأقاصي. من هذه القصيدة يقدم هؤلاء الشّعراء وغيرهم، ويصنعون عبورهم الخاصّ داخل الذّاتيات، وفي لحظة انْشغالهم باليوتوبيا، تقدم قصيدة الحدث من العمق حيث الذّاتي أكثر إدْراكاً للجمعيّ: من مأساة العذاب الفلسطيني إلى فاجعة سقوط بغداد، تمثيلاً. لا تُخْطئ القصيدة، على الأقلّ الّتي يكتبها روّادها ومُرْتادو سياساتِها من أمثال أنسي الحاج وأدونيس ومحمود درويش وسعدي يوسف وأمجد ناصر ومحمد بنطلحة وآخرين بما في ذلك المحتمُون برؤى عبثيّة أو عدميّة أو لا تاريخيّة، قوّة إصغائها للجمعيّ عبر علاقاتها المتوتّرة بالذّات التاريخيّة داخل الضّوء الخافت المتبقّي بعد عهود الانحطاط. كلّ شاعرٍ، هنا، هو سياسيٌّ بالمعنى العميق الّذي يفيد ابتكاره لأبعاد وفضاءات ممكنة يأخذ فيها التّاريخ معنى الهاجس الأساسيّ الّذي يورّط تاريخ الفرد بالتاريخ الجمعيّ، ولا سيّما تاريخ الهامش الّذي تسِمُه بلاغة المقموعين.

ولا يرفد الشّعراء، أنّى كانت ركائبُهم، نفس التصوّر للشّعر في زمنهم، وعبر ذاتيّاتهم. يصنع ذلك حيويّة الشّعر العربي الّذي يواصل، بجراحات خطابه، البحث عن المعنى الّذي لن يكون ضياعه، أليغوريّاً، إلّا ضياع معنى الحياة، التّاريخ والثّقافة. ولأنّ زمننا منذورٌ للتّباريح والعذابات فإنّ الأزمة هي الشرط نفسه للمعنى وهو يتخلّق باسْتمرار، إنْ ذاتياً أو جمعياً. وعندما يتوقّف المعنى يصير الشّعر ملفوظاً منتهياً.

عن جدْوى الشعر، إذن.
دائماً ما كان يُطْرح سؤال الجدوى من الشّعر، لكنّه يطرح اليوم بحدّة واطّراد شديديْن في ثقافتنا المعاصرة، لسببيْن: الأوّل، لكون الشّعر يشغل حيّزاً مهمّاً من شواهد إرثنا الثقافي والجمالي الضارب بأطنابه في أعماق التاريخ والحضارة، والهاجع في اللاوعي الجمعي. والثّاني، جرّاء الخوْف من التّقنيّة الّتي تسبّب للشعر مغْصاً عسيراً، وللشّعراء تيهاً في المجهول، وللذّائقة اغتراباً متصاعداً. بالكاد، داخل الثّرثرة الكونيّة الّتي تروّجها وسائط الميديا المختلفة والضاجّة، يصل صوت الشّعر الأجشّ والمبحوح، حتّى اعتقد الكثير، بما فيهم الشّعراء أنفسهم، أنّ زمن الشّعر ولّى، وأنّ الوظائف التّقليديّة الّتي ارتبطت به وتقول بخلاص الكائن صارت مضحكة، وأنّ قوله بات ضرباً من العبث، وأنّ جماله يائسٌ لا طائل منه. لكن يبدو لي، اليوم، أنّ المشكل الحقيقي للشّعر هو مشكل تاريخيّته الّذي لا يمكن أن يُطرح بهذه الصيغة من الاختزال والتّبسيط، فليست تاريخيّة الشّعر اختزال الشّعر إلى تاريخه، بل الحركة الّتي تحمل على أن يكون نفسه الرّاهنية الدّائمة للُغته الخاصّة الّتي تعِدُ بالمعنى، وتستأنفه. من هُنا، يرتبط السّؤال بسؤال القيمة والأثر، أي بالمستقبل الّذي يتمّ فيه فهمنا للشّعر كخطابٍ نوعيٍّ تغدو فيه القصيدة والذّات وفعّالية المعنى عناصر متحوِّلة، باستمرار.

إنّ الوضعيّة الّتي يمرّ منها/ بها الشّعر راهناً تحتاج إلى شيء من الرويّة، وإلى إعادة وضع سؤال الجدوى في سياق التحوّلات المتسارعة، ومشاغل الكائن الجديدة. بدل أن نسأل هل تراجع دور الشّعر في حياتنا، يجب أن نعرف هل هناك شعرٌ أم لا؟كما يجب أن نعرف هل أدرك الشّعراء سياسات القصيدة في زمنها، بمعنى هل انتبهت إلى الحاجات الرّوحيّة والجماليّة للإنسان المعاصر؟وهل ذهبوا هُمْ أنفسهم إلى أمكنة أخرى لبحث الشّعر ومقاربته؟ نطرح هذه الأسئلة من ضمن أخرى متشعّبة لنؤكّد ضرورة َالشّعر، وكتابتَه الّتي تتوجّه إلى المستقبل وتُصغي إليه، وأهمّية أن يستبدل الشعراء مفاهيم وآليّات عمل الشّعر وترهينه. ثمّة مستقبل للشّعر يصير بين شرائط ثقافيّة جديدة وعابرة للذّوات والخطابات والأزمنة، بما في ذلك غير الشّعرية الّتي تُشيعها وسائط العولمة. يفرض علينا الفضاء الاتصاليّ المعولم الوعي بلحظتنا الرّاهنة، من حيث التعاطي مع معادلات وسائطية ومفاهيمية جديدة كالفضاءات الافتراضيّة، والنشر الإلكتروني، والأقراص الممغنطة، الّتي يقابلها اهتمامُ الذّائقة الجديدة بالنصوص الإبداعية المتعالقة ومن ضمنها النصّ الشعري.

في الظّروف الراهنة، من عديم الجدوى أن يبحث الشّعر عن دوْرٍ جماهيريّ، أو بالأحرى يُبْحث له عن مثل هذا الدّور، ولا وهم التّمثيل والمحاكاة، ولا عن خطاباتٍ تعزّز الإجماع الكاذب. إنّ الّذين يرْبطون الشّعر بحالة الطمأنينة، وببلوغ الخلاص إنّما يتحاملون على الشّعر، ويكرّسون فهْم العامّة له كشيْء ساذج وعديم الجدوى. قوّة الشّعر في هشاشته الّتي لا تُزهرُ إلاّ في العتمة، وترقص على حوافّ الكارثة. وتنبت في الشّقوق، وتدبّ بين تصدّعات الرّوح. إنّه لا أقلّ من هذا السّفر العابر في الجوهريّ، وفي الشعائر الهامسة، وفي طقوس الحبّ والجمال والغناء ولحظات التأمّل والإصغاء وسخاء الطّبيعة، وفي تنْبيه النّاس إلى عدم الانتقاص من الشعريّة المتناثرة في الحياة أنّى كانت، وفي حفظه لغة الحلم والمجاز والعمق الّتي تنعش في الإنسان قوّة الذّاكرة ورهافة الإصغاء وسماحة التّأويل، وفي بثّه المعاني الوجودية الأساسيّة.

هو ذا مستقبل الشّعر الّذي تُراقبه سياسات القصيدة. نقصد بسياسات القصيدة معنى الاستراتيجيّة الّتي تترك القيمة والأثر في حالة اشتغالٍ وانْدفاعٍ وتيقُّظ، وهي قويّة الإصغاء لما حولها، ومتحوّلة في داخلها. أمّا إيقاعها، إيقاع ذاتِها فإنّه يهجع في لاوعيها حيث يحفُز الشعراء، ويرعى اليائسين منهم، متوتّراً بين القول بـ"فضل قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله" والاعتقاد بـ"أن الشّعر نقص وسفاهة". وكان القدماء، كما أخبرنا بذلك حازم القرطاجني في زمنٍ من الشّعر سحيق. ولنا أن نُشير، وسط الضّجيج حتّى باسم الشّعر، إلى أنّ هناك نماذجَ قويّة ولافتة داخل الشعريّة العربيّة المعاصرة تصنع عبورها الخاصّ، وتقدِّم للمستقبل شهادات حياةٍ، وعلامات عافيةٍ وصحّةٍ روحيّةٍ تليق بالجوهريّ في الإنسان وعداه، حتى وإنْ طغى على الرّاهن سمات العزلة واليأس والخراب. إذا كان الأمر يتعلّق، هنا، بالقصيدة، بسياسات القصيدة، فلأنّ ثمّة ما يُظهر أنّ المغامرة الشعريّة والمغامرة الذّاتية متداخلتان تقتسمان التّاريخ نفسه، والعمل نفسه. ويأخذ الشعريّ في سياسات القصيدة صفة غير المكتمل نظريّاً، لأنّ الأخيرة تتضامن والخطاب في أن تظلّ القصيدة تطفح بالأدلّة دائماً. بهذا المعنى، تعرض علاقات القصيدة، بطريقتها المميّزة، الرّهان الابستيمولوجي للشّعر كـ"عمل فنّي مفتوح" على المجهول. عليه، فليس الرّهان شعريّاً فحسب، بل سياسيّ أيضاً.

مراجع الدّراسة:
1. مصطفى الجوزو: نظرية الشعر عند العرب، دار الطليعة، بيروت، ط. 2، 1988.
2. غالي شكري: شعرنا الحديث... إلى أين؟، دار الآفاق الجديدة، بيروت، ط. 2، 1978.
3. جابر عصفور: مفهوم الشعر، دراسة في التراث النقدي، دار التنوير، ط. 3، 1983.
4. أحمد المعداوي المجاطي: ظاهرة الشعر الحديث، المدارس، ط. 2، 2007.
5. أدونيس: زمن الشعر، دار الفكر، ط. 5، 1986.
6. كمال خير بك: حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر، بيروت، ط. 1، 1982.
7. كمال أبوديب: جماليات التجاور أو تشابك الفضاءات الابداعية، دار العلم للملايين، ط. 1، 1997.
8. صلاح فضل: أساليب الشعرية المعاصرة، دار الآداب، بيروت، ط. 1، 1995.
9. محمد العباس: ضد الذاكرة، شعرية قصيدة النثر، المركز الثقافي العربي، ط. 1، 2000.
10 إدوارد سعيد: صور المثقف، تـ. غسان غصن، دار النهار، بيروت، ط. 1، 1996.
12. موريس بلانشو: أسئلة الكتابة، تـ. نعيمة وعبدالسلام بن عبدالعالي، دار توبقال، الدارالبيضاء، ط. 1، 2004.
13. هنري ميشونيك:ـ نقد الإيقاع، فرديي، 1982.
ـ الحداثة... الحداثة، غاليمار، 1988.