المثقف والسلطة

إدريس كثير

المثقفون أنواع، والسلط أضراب، والموضوع "المثقف والسلطة" ليس جديدا كل الجدة. لكن جزء من جدته فيما يبدو تتحكم فيه مفاهيم قليلة بسيطة يجب إحصاؤها وتأملها. وتتحكم فيه ظروف وملابسات لابد من الوقوف عندها. المفاهيم والظروف هي التي تتجدد.

المغرب هو جغرافية "المثقف والسلطة" في هذا المقال وملابسات هذا الأفق هي "المغرب الجديد". والمفاهيم المتحكمة في هذا الأفق هي "المفهوم الجديد للسلطة" و"التنمية البشرية" و"مدونة الأسرة" وتصالح المغرب مع نفسه و"إصلاح البنية التحتية" و"الاهتمام بذوي الحاجيات الخاصة" "وقانون الصحافة"... إلخ. لا يهمني موقف المثقف السياسي*هاهنا؛ بقدر ما يهمني تلقي المثقف الأكاديمي والمثقف الذي يجعل من الثقافة التزامه تحديدا.

المثقف السياسي أبان عن انتهازيته وعن حساباته، ورغم ذلك مازال يملك في اعتقادي دورا ما يلعبه في إطار الصراعات السياسية الجارية على الساحة المغربية، داخل الإدارة الكلاسيكية للصراع السياسي إلا أننا نشهد حاليا دعوة جديدة لثقافة سياسية ولإدارة جديدة، تمزج بين ثقافة المجتمع المدني وهيئات المجتمع السياسي. وتدعو إلى "مفهوم التجاوز" وما يعقد الأمر قليلا انضمام أسماء كانت محسوبة على "المثقف المشاكس"* إلى هذه الحركة. إن مستقبل علاقة المثقف بالسلطة في المغرب سيبقى مرهونا بهذه الدعوة وبما سيتمخض عنها من نتائج.

لكن هذه الإشكالية لا يمكن إدراك أبعادها إلا بالعودة بها إلى:

1ـ المفهوم الجديد للسلطة.. وقد كانت هذه الأخيرة هي أول خطوة تجديدية على مستوى الثقافة السياسية بالمغرب الجديد، "ونريد في هذه المناسبة أن نعرض لمفهوم جديد للسلطة" وما يرتبط بها مبني على رعاية المصالح العمومية والشؤون المحلية والحريات الفردية والمحافظة على السلام الاجتماعي وهي مسؤولية يمكن النهوض بها داخل المكاتب الإدارية التي يجب أن تكون مفتوحة في وجه المواطنين ولكن تتطلب احتكاكا مباشرا بهم وملامسة ميدانية لمشاكلهم في عين المكان وإشراكهم في إيجاد الحلول المناسبة والملائمة. إن على إدارتنا الترابية أن تركز اهتمامها على ميادين "أصبحت تحظى بالأهمية والأولوية مثل حماية البيئة والعمل الاجتماعي وبأن تسخر جميع الوسائل لإدماج الفئات المحرومة في المجتمع وضمان كرامتها" (من خطاب صاحب الجلالة محمد VI 12 أكتوبر 1999)*.

يتضح من خلال هذا المقتطف الملكي أن هناك إرادة عليا وقوية لإصلاح مفهوم "السلطة" في حد ذاته أولا، بحيث تبدو الدعوة واضحة للانتقال من "السلطة" إلى "الحكامة". بما هي اشتراك في معالجة المشاكل وإيجاد الحلول الملائمة لها والاحتكاك المباشر والميداني بالمواطنين في ميادين حساسة كالبيئة والعمل الاجتماعي والفئات المحرومة.

"لقد كانت كل الدعوات الإصلاحية الداعية إلى اللامركزية تصطدم بالبيروقراطية وبمركزية القرار. وبات واضحا أن نقل الاختصاصات تعترضه معوقات بنيوية لابد من مجابهتها. أولها العمل على تصالح المغرب مع ذاته بإحداث هيئة تحكيم مستقلة إلى جانب المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان بهدف تحديد تعويض ضحايا وأصحاب الحقوق ممن تعرضوا للاختفاء والاعتقال التعسفي وأصدرنا تعليماتنا بأن تشرع هذه الهيئة في مباشرة أعمالها". (من الخطاب الملكي 20 غشت 1999) ثم إحداث مؤسسات عدة اجتماعية قانونية بيئية إعلامية إحسانية.

* لكن ما الذي يجعل كل هذه المبادرات لا تجد آذانا صاغية؟ أي لا تقدر حق قدرها؟ لا من عامة المواطنين ولا من النخبة؟ ولا تمس سلوكهم ولا تغيره؟ كيف نفسر هذه اللامبالاة؟ أيعود السبب في ذلك إلى كونها فوقية؟ كما خلص إلى ذلك التقرير الأخير لمؤسسة كارنيغي Carnegie للسلام الدولي عن المغرب والعالم العربي؟ أم إلى كونها دعاية ليس إلا؟

2ـ جزء من الجواب عن هذه التساؤلات نعثر عليه في المواقف المختلفة والمتضاربة التي عبرت عنها القوى السياسية والثقافية بالبلاد من "مدونة الأسرة".

* المدونة، في العمق، تمس عدة سلط، هي المتحكمة بشدة في سير البلاد والعباد. السلطة البطريركية، السلطة الذكورية، السلطة اللاهوتية... وهذه السلط فيما يبدو غير قابلة للتنازل عن امتيازاتها. لقد انقسم المجتمع المغربي إلى قسمين كبيرين بصدد هذه النقطة. قسم تقليدي لا يريد المساس بمسألة الأحوال الشخصية وقسم حداثي ينشد الإصلاح والتغيير. هذا الأخير يلتقي موضوعيا مع إرادة الإصلاح الرسمية القائمة الآن في المغرب.

3ـ الجزء الآخر من الجواب نلامسه في مسألة الإعلام وقانون الصحافة. إلى حد البدء في تطبيق المفهوم الجديد للسلطة، كانت جرائدنا اليومية في أغلبها حزبية أو قريبة من الحزبية. وكان الإعلام التلفزي والإذاعي ممركزان في يد السلطة المركزية. أما الآن وبعد إنشاء الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري (هاكا)، فإننا نشهد حالة صحية من تعميم الخبر وحرية في التعليق عليه، وتجاسرا على معالجة موضوعات كانت إلى عهد قريب تعتبر طابوهات لا يمكن التفكير فيها حتى. ومصداقية هذه المعالجة باتت كامنة في مقاييس المهنية والاحترافية في هذه الجريدة أو تلك، وفي هذه الإذاعة أو تلك. وكان من الطبيعي أن تتشابك أيادي السلط المختلفة وأن تتدخل السلطة القضائية في العديد من القضايا وأن تحتد وتتوتر العلاقة بين الأطراف المتضررة والمتنازعة.

وفي كل هذا، الذي كان في محك الامتحان هو تقدير السلطة الإخبارية والتعليقية، المرافقة لصحوة صحافتنا؛ ونزاهة الصحفي ومروءته. هذه هي القيم التي يجب العناية بها كما نعتني ببؤبؤ العين. فأمام السلطة الرابعة مسؤولية كبرى يجب وزنها وتقديرها برابع الأثافي.

4ـ وجه آخر في مقاربة إشكاليتنا هو "المجتمع المدني" الذي انتقل من وضع التهميش والإهمال إلى وضع الاهتمام واقتسام مسؤولية السلطة.

* كادت جمعيات المجتمع المدني فيما مضى أن تخلط بين ما هو مدني وما هو سياسي. لكنها وفي جميع الأحوال كانت دائما مع الجد والتغيير والتحديث. ولم تهاجمها في هذا الاختبار السلطة الرسمية بمفردها؛ بل أحدثت هذه الأخيرة جمعيات البحار والسهول والوديان للقيام بتلك المهمة. وقامت بها ومازالت تنشد الروحانيات والموسيقى الإنسانية وحوار الأديان... واستمرت الجمعيات الأخرى بهذه الخسارة أو تلك.

لكن الآن تغيرت براديغمات العمل الجمعوي وانخرط الكل في طموح الإصلاح والتغيير والتحديث. وبات القرب والاندماج والخدمة والحاجة الخاصة هي المفاهيم الإجرائية الجديدة للفعل الجمعوي؛ واحتاج المجتمع السياسي والدولة إلى هذه الخدمات فانفتح عليها (أي الجمعيات) وأعاد إليها الاعتبار. لكن وفي نفس الوقت اهتم بها المجتمع الدولي وسماها المنظمات غير الحكومية وأسدى إليها الأموال والدعم والمساعدات.. وما يزال.

في كل هذه التجارب كانت الاستقلالية والنزاهة والجدية والطوعية هي المفاهيم الواقعة تحت سلطة الامتحان.

وإذن سلطة المجتمع المدني كبرت وأمست مهددة بشتى أشكال الانحراف.

ـ المفهوم الجديد للسلطة.
ـ مدونة الأسرة.
ـ الإعلام وقانون الصحافة.
ـ المجتمع المدني.

هي المحاور الكبرى التي طرأت عليها تحولات عظيمة. وهي محاور ذات سلطة. الأول يحدد مفهوم السلطة في حد ذاته. الثاني ينقلها إلى الأسرة كأول خلية مكونة للمجتمع والثالث يهم السلطة الرابعة والأخير يرتبط بجانب من سلطة الحكامة المدنية والتطوعية.

وعليه ما هي طبيعة مواكبة المثقف لهذه التطورات التي طرأت على المجتمع المغربي؟ وهل مطلوب منه أن ينخرط فيها؟ وهل صفة المثقف الملتبسة كافية لتحقيق الانخراط أو لرفضه؟

لا يبدو أن السلطة المسيطرة في البلاد قد تعرضت لتغير ما. فمازالت سلط الملك هي هي. لكن مفهوم السلطة وممارستها باتت تحكمها إرادة سياسية جديدة وشابة. وهذه الإرادة لابد لها من طاقم استشاري وإداري لتنفيذها وتوجيهها. تنتج عن هذه الضرورة ازدواجية في مفهوم "الحكامة". هذه "الازدواجية" من حيث المفهوم تؤثر سلبا في ديمقراطية البلاد وفي التسيير والحكم. وبالتالي لا يمكن للمثقف الحداثي الذي ينشد العقلانية والشفافية وسلطة الإنسان والثقة في قدراته، إلا ان يتساءل عن هذه المفارقة وأن ينتقد أوجهها السلبية. ناشدا أنماط أخرى عن الحكامة والسلطة أو حالما بها.

مازالت الأسرة المغربية من الناحية العملية خارج روح وفلسفة المدونة. ربما لأن المغاربة لا يتكيفون بسرعة مع القوانين الجديدة وربما لأنهم في حاجة إلى وقت للتحايل عليها أو ربما لأنهم يرفضون التبدل والتغير. ولأن الانقسام حول المدونة كان واضحا من الناحية السياسية والثقافية، فإن حديثي يتوجه لأصحاب الموقف الحداثي من المسألة. فعلى مثقفي هذا الاختيار تقع مسؤولية إدماج المرأة في التنمية، وتنوير عقلية الأزواج وتوضيح مشروعية الاختيار والانخراط في ثقافة جديدة حول المرأة والاهتمام بكتاباتها والتعبير عن عالمها. إن مستقبل كل أمة تحدده الميمات الثلاثة الكبرى المال والمطر والمرأة. (جيرمين تيليون/ عبد الله العروي).

ـ للمجتمع المدني أهمية قصوى في "الحكامة"، وجزء من هذه الأهمية يستقيها من مثقفيه ونخبته. وهؤلاء أطياف عديدة واستعدادات متباينة وقناعات مختلفة. والأهم في هذا التعدد والتباين والاختلاف هو إدراك أهمية "المجتمع المدني" وما يتهدده من انزلاقات. لا يمكن الحديث عن هذا الوعي بلغة الأخلاق أو الإيتيقا فحسب؟ بل لابد من تعدي تلك المسؤولية وذلك الواجب إلى الاختيار الثقافي الذي يجعل من النقد معول البناء ومن المحاسبة غربال الشفافية ومن الاختلاف مدخل الائتلاف، ومن المجاملة مدخلا للمعاملة.

ـ للمجتمع المدني في الواقع مساحة واسعة من الحرية في التفكير، والمبادرة، وقوة الاقتراح. إن هو تشبع بهذه المنطلقات ورسمها في أرضيته الثقافية؛ وعمل على تطبيقها لنال احترام خصومه وأعدائه قبل أصدقائه. "المجتمع المدني" منذ هيجل؛ بل ربما منذ اليونان، قوة دافعة؛ مبادرة؛ مرآة ما ينساه الدوكسوفوس والتيكنوقراط في حساباتهم البراغماتية.

ـ في المغرب يميل بعض الفاعلين في المجتمع المدني إلى تقمص دور المخزن وهذا أمر محزن؛ ويميل بعضهم الآخر إلى التملق للغرب من أجل استمالة تدفق مالي ما وهذا أمر مخجل؛ ويبقى الفاعل الجمعوي المثقف الذي لا يريد لبلده الخير فقط بل يريد له المكانة المرموقة؛ ويريد له السبق في المباريات، لا الرياضية فقط بل والمتعلقة بالديمقراطية، والتنمية البشرية؛ وقضاء مصالح ذوي الحاجات الخاصة، هو الأمل.  


كاتب من المغرب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ أحمد شراك، "الثقافة والسياسة"، كتاب الجيب شراع. طنجة.
* ـ www. Maroc Portail. ma.