معطف المثقف وجُبَّة السياسي

وجهة نظر خاصة من وحي وضع عام

عبد المجيد شكير

1. عن تفاعل المثقف مع الحدث السياسي
يبدو لي أنه في السنوات الأخيرة ـ وبفعل تكالب عدة عوامل ـ صرنا لا نلمس تحققا ماديا لتفاعل المثقف المغربي مع الحدث السياسي بالقدر الذي يجلي فعالية المثقف وفاعليته، إلا فيما ندر، عندما يتعلق الأمر بالقضايا الكبرى (قضية الصحراء ـ حدث اقتراح الحكم الذاتي ـ الانفجارات التي عرفتها الدار البيضاء [وإن كان الحدث اجتماعيا لكن يلتبس فيه الفكري بالسياسي])، ومع ذلك فحضور المثقف لا يصل إلى حد ود الواجهة أو ينخرط في قلب الحدث السياسي (طبعا أنا هنا لا أتحدث عن المثقف المحسوب على السياسة أكثر من الثقافة، لأن الكثير من السياسيين هم مثقفون أيضا، إما بالصدفة أو محتاجون لغطاء ثقافي أو راغبون في أن يجدوا في حضن الثقافة ما يفتقدونه في البيت السياسي من مصداقية أو شفافية أو ديمقراطية).

على العموم أرى أن المثقف المغربي "الحقيقي" (أعني من لم تصبه لوثة الازدواجية: مثقف ـ سياسي) يتفاعل مع الحدث السياسي لأن ذلك من طبيعته (لا يمكن أن يكون مثقفا إن لم يتفاعل مع محيطه السياسي والاجتماعي). لكن هذا التفاعل غير معلن، أو أن فاعليته المادية/ الواقعية غير ظاهرة. إما لأنها مغيبة إعلاميا وعلى مستوى صنع القرار، أو لأنها أكثر عمقا وانتقادا فيكون غير مرغوب فيها لأنها "تعرقل" عمل السياسي، الشيء الذي قوض دوره وحضوره. لكن المثقف (لأنه مثقف) يظل منخرطا باستمرار في محيطه بشكل أو بآخر، لذلك تجده يبدي رأيه وانتقاده ـ وامتعاضه أيضا ـ كلما سنحت الفرصة، وبالمقابل تصنع السياسة ثلة من أشباه المثقفين الذين يزكون ويبررون ما "يرتكبه" السياسي، وربما يقلبون الحقائق أيضا من أجل هذا الهدف.

عندما يتعلق الأمر بانتخابات ـ جماعية كانت أو تشريعية ـ يظل المثقف "الخالص" في نفس موقفه (ولسنا ندري تحديدا هل بقاؤه في هذا الموقف اختيار أو اضطرار) بينما يسارع المثقف ـ السياسي إلى خلع المعطف الثقافي والإخلاص أكثر للجبة السياسية. ومع ذلك يظل المثقف معنيا بالأمر، ولو على المستوى المبدئي فيما يتعلق بالتصويت أو عدمه. تكون لديه قناعة واضحة حين يشارك، وتكون له مبررات معقولة ـ على الأقل من وجهة نظره ـ حين يقاطع.  

2. عن مساهمة المثقف في تشكيل التحولات
للاعتبارات السالفة أرى أنه من الصعب الوقوف عند مساهمات فعلية للمثقف المغربي في تشكيل التحولات. غالبا ما يتحقق التحول من طرف السلطة أساسا، ويركب السياسي مباشرة على هذا التحول، معتبرا أن المد السياسي هو السبب المباشر. صحيح أن القوة السياسية تساهم في خلق تحولات كبرى، لكنها لا تستطيع ذلك إلا بالأرضية التي يصنعها المثقف. غير أن المفارقة العجيبة هي أنه لما يسعى المثقف ليلعب الدور الفاعل مباشرة ودون قناة سياسية يكون السياسي أول من يقف في وجهه.. طبعا لا يمكن لبلد يضم مثقفين من حجم عبد الله العروي ومحمد عابد الجابري والمهدي المنجرة (وغيرهم كثير من المثقفين الحقيقيين) ولا يعرف هذا البلد تحولات على يد هؤلاء وأمثالهم. لكن الخلل ليس فيهم، بل في الأيادي الآثمة التي يزعجها وجودهم، الخلل فيمن تحرجه طروحات هؤلاء وأفكارهم ومواقفهم. لذلك يتصدون لهم حتى لا تظل هناك مرآة صافية وموضوعية تجلي خللهم، وأحيانا تواطؤهم.

بمعنى أوضح، حين يصير المثقف مرآة تجلي عيوب السياسي، يلجأ هذا الأخير إلى كسرها (أو نعتها بأنها بالية ومتقادمة في أحسن الأحوال). ويمكن أن أسوق دليلا ماديا في هذا السياق وهو حدث رفض القاص والمثقف الأصيل سي أحمد بوزفور لجائزة وزارة الثقافة للكتاب ذات موسم. حدثٌ حرك المياه الثقافية الآسنة، وكان الرفض "ثقافيا" ـ وهذا من حق سي أحمد ـ بمسوغات "سياسية" لتعليل الرفض ـ وهذا من حقنا نحن ـ لكن الذي حدث أن انبرت وجوه "ثقافية" للرجل وكأنه كفر. مما يعكس ـ في حقيقة الأمر ـ كون غضب أشباه المثقفين هؤلاء إنما سببه أن رفض الجائزة أعاد للواجهة علاقة المثقف بمجتمعه، وهي العلاقة التي نسي أغلب المثقفين ممن لبسوا معاطف السياسة أو ساروا في ركب السياسي مبادئَها وأدوارَها ووظائفَها وواجباتها. من هنا كان الإحراج، ومن هنا كان لابد لمرآة المثقف الحقيقي أن تنكسر، ويظل المجال رحبا للسياسي وأتباعه لكي يعيشوا وَهْم القدرة على تشكيل التحول الكبير (أو الأكبر) في البلاد.  

3. لماذا يتراجع الثقافي لصالح السياسي؟
أسباب انحسار الثقافي لصالح السياسي في المعارك الاجتماعية والسياسية واضحة، أولها هذا التغييب مع سبق الإصرار للمثقف إعلاميا وعلى مستوى صنع القرار، ففي بلد ديمقراطيته هشة، أو مفتعلة، أو من باب مسايرة الموضة السياسية العصرية، لا يمكن أن يوفر للمثقف إحدى أهم خصائصه وهي "متعة السباحة ضد التيار". يصير المثقف محكوما بأن ينخرط في سياق عام/ تيار جارف مرسوم سلفا لا يعكر صفو السياسي، وإن لم ينضبط يتم اغتياله بطرق كثيرة لا تخلو من سادية.. إما بتضييق الخناق عليه من أجل تهميشه، أو بخلق أشباه المثقفين والإنعام عليهم بالمناصب والسفريات والتلميع الإعلامي، أو بركوب حيلة القفز إلى الأمام بدعوى أن هذا المثقف أو ذاك رجعي/ لا يساير التحولات الكبرى/ مازال متشبثا بالإرث القديم وقيمه... وما إلى ذلك من الترهات التافهة التي تلمع صورة السياسي وأشباه المثقفين الذين يصيرون خدما له، على حساب المثقف الحقيقي/ الخالص/ الفاعل/ الفاهم للعبة والمترفع عن المشاركة فيها..  

4. عن المثقف والانتماء الحزبي
في وضع طبيعي ومناخ ديمقراطي ونزيه وشفّاف... لا يمكن أن يكون انتماء المثقف إلى حزب سياسي إلا ظاهرة صحية. لكن في المغرب، وبالنظر لطبيعة الممارسة الحزبية الآن ـ الناسفة أكثر منها البناءة ـ الرافعة لشعار "أرض الله واسعة" كلما حدث اختلاف في التوجه أو الرؤية، لا أعتقد أن بمقدور المثقف أن يحافظ في خطابه ومواقفه على النزاهة والمصداقية. فهو محكوم ـ بقوة الأشياء ـ أن يفقدها. لأن الحزبية خندق مهما كان رحبا فهو أضيق من أن يتنفس فيه المثقف بحرية. لذلك تجد المثقف الأصيل يهجر الحزب كلما أحس أن هذا الأخير يسير في اتجاه الحد من فاعليته وتضييق مساحة حريته. ألا يمكن اعتبار المفكر الكبير محمد عابد الجابري خير مثال في هذا الصدد؟!. ربما!.  

5. المثقف ينهزم أمام السياسي؟!
أعتقد أن هذه النقطة مرتبطة بالنقطة السابقة بشكل أو بآخر، بل مرتبطة بما قلته أيضا بخصوص المسائل الأخرى. وبالتالي، فأنا أؤكد أن المثقف ينهزم ـ بالفعل ـ أمام السياسي حينما يدخل المثقف سياسيا إلى الحكومة. الأمثلة كثيرة في الحكومتين السابقتين الأخيرتين (غير التي نعيش معها الآن). فكل من ظل متشبثا بصورة المثقف ولو بشكل جزئي اعتُبِر أداؤه ضعيفا أو ناقصا أو ما إلى ذلك من النعوت الجاهزة (حالة الأستاذ العربي المساري مثلا). وكلما انهزم المثقف في هذه المعادلة ليتقوى السياسي يظهر خطاب جديد من قبيل "طبيعة المرحلة"، "الإكراهات"، "الإرث القديم"، "التراكم السابق"، "نحن في بداية التصحيح". وما إلى ذلك من مفردات الخطاب التبريري، وكل من انتقد هذا الخطاب من المثقفين اعتبر ـ كما قلت سالفا ـ رجعيا، ملتصقا بخطاب الماضي "المتجاوز"، أو أنه مثقف عدمي لا يتقن إلا "لغة الخشب". من جهة أخرى، يبدو لي ـ والحالة هذه ـ أن انهزام المثقف أمام السياسي تحصيل حاصل بسبب المفارقة الصارخة بين امتدادين، امتداد المثقف الحالم، المتشبع بالقيم الكبرى، الذي يفكر في كلية الأشياء؛ وامتداد السياسي المتواطئ أحيانا، والبراغماتي أحيانا أخرى، والمهادن والدبلوماسي في أغلب الأحيان. لكن كل مثقف سياسي انهزم فيه المثقف يخسر معه مفكرا أو أديبا أو إعلاميا. وهي خسارة لا تعوض، فحين تنتهي المهمة السياسية لن تطاوعه الثقافة أبدا، ويجد نفسه في مفترق الطرق. أو ينعق كالغربان حنينا وحسرة على تاريخ مضى. 


قاص ومسرحي من المغرب
Chakir. majid@gmail. com