المثقفون جروح مفتوحة أو الحياة في "اللاّدور"

شهادة

سامي دقاقي

يعرّف جاك بيرك المثقف على أنّه "ذلك الشخص الذي يستجيب لواقع الجماهير ولحاجاتها، كما يستجيب بصورة أوسع لمطالب العالم الذي يعيش فيه، ويعطي هذا الواقع وهذه الحاجات مضمونا أكثر دلالة وأكثر عمقا عن طريق التحليل"، وهو تعريف إن أضفنا له الوظيفة النقديّة للمثقف يصبح هذا الأخير مسؤولا قليلا أو كثيرا عن مستقبل أمّته ومجتمعه، سواء في أزمنة الرخاء أو في أوقات الأزمة. والمثقف منذ فجر التاريخ، أو تحديدا منذ بداية وعيه بدوره الطليعي والريادي في توجيه المجتمعات التي ينتمي إليها، لم يكن مثقف تغيير بالمعنى المباشر، وإنما كان ممهدا للتغيير، ومعبّدا الطريق لأقدام أخرى، وحتى في أوج السلطة التي كانت للمثقف خصوصا في القرن المنصرم وإلى حدود الثمانينات، لم يكن مصدر قوة المثقف العربي خصوصا، نابعا من ذاته كفرد، وإنّما نتيجة وعي جمعي، وحراك مجتمعي تتوحّد فيه رؤى المثقفين كلهم، ممّا جعل لأدوارهم ومقولاتهم صدى عميقا ومخيفا يضرب له ألف حساب، وذلك في ظلّ شروط مجتمعية وكونيّة تحترم المنظومة القيميّة والأخلاقيّة التي يتأطر بها العصر.

السؤال اليوم، هل مازال يضرب حساب من الألف للمثقف؟ وهل لازالت مقولاته تجد لها صدى مجتمعيّا كما كان الأمر من قبل؟ بمعنى هل أصبح مثقف اليوم يعي وجوده كفاعل ويدافع عن هذا الوجود، أم أنّه أضحى يهيم في اللاّدور؟

الحقيقة التي لا يجادل فيها أحد، أنّ المثقف العربي اليوم يعيش أزمة عميقة تطال الذات في وجودها، كما تطال المفاهيم في نشأتها ودلالاتها المتسارعة التبدّل، وهي أزمة تنبني على ثلاثة حدود أساسيّة:

سيّاسّية: تتمثل على سبيل المثال في غياب مناخ الحرية على جميع المستويات، وغياب التمثل والممارسة الصحيحين للديموقراطيّة بدءا من الحكم وانتهاء بالأسرة، ثمّ انتظام العلاقة بين المثقف والسلطة على الترهيب والضغط والمحاذرة.

اجتماعيّة: على رأسها ـ مثلا ـ طبيعة التعليم التقليديّة في مجتمعاتنا، المعتمدة على التلقين والذاكرة، وقتل الذكاء والإبداعيّة والممارسة النقديّة العميقة التي تشكل أساس الفكر لدى المثقف، استشراء الأميّة وغياب الوعي، ثمّ انفساح الهوّة التواصليّة بين المثقف والإنسان العادي داخل المجتمع.

اقتصاديّة: تتجلى على سبيل التمثيل في رغبة بعض المثقفين في الاغتناء السريع على حساب الثقافة والبحث والتنوير، تردّي الأوضاع الاقتصاديّة وتدنّي الدخل الفردي يجعلان المثقف مشغولا بتلبية كفاف العيش على حساب إنتاجه الفكري والثقافي، وفي هذا الشأن يقول سرفانتيس: "عندما يكون المبدع فقيرا فإنّ نصف إبداعه يجهض بسبب حرصه الدائم على كسب لقمة العيش".

ولعلّ الخطأ الجسيم الذي سقط فيه المثقف العربي، هو حين سمح للسياسة أنّ تؤطّر دورا يفترض فيه أن يظلّ ثقافيّا ومجتمعيّا لا يستجيب لأمراض السلطة ومحاذيرها، وهكذا تأدلج المثقف وانحصر في جدليّات الفكر السياسي للسلطة، الأمر الذي سحب الفكر العربي إلى خنادق ضيقة بعيدا عن الهموم المجتمعيّة الحقيقيّة، وصار همّ المثقف هو امتلاك السلطة بذريعة التغيير، فإذا به ينتهي إلى التغيّر، حتى إذا ما تمكّن له ذلك صار أداة للتنميط والتدجين والعرقلة، بل يصبح أحيانا أكثر سلطويّة من السلطة الحقيقيّة، هنا بالذات يظهر مفهوم آخر للمثقف، وأعني به "مثقف السلطة"، الذي يقيم وجوده وجهازه المفاهيمي على خطاب فصامي زائغ ينتهي به إلى الانفصال عن المجتمع، وعن ذاته في نهاية المطاف، ولعلّه النموذج الذي تحدث عنه والتر بنيامين حين قال: "المثقف رجل يحمل على أنفه نظارة طبّية وفي قلبه الخريف".

على النقيض من هذا النموذج المريض الذي استفحل بكثير في مجتمعنا العربي، ينهض نموذج آخر للمثقف، إنّه "مثقف نفسه"، أو "المثقف الطوباوي" الذي يظلّ يهيم بفكره وقوله في بروجه العاجية، غارقا في عوالمه المثاليّة، نائيا عن العامّة وعن هموم الشعب، مؤمنا بالكتب أكثر من إيمانه بالواقع. بين المثالين، يظلّ المثقف الحقيقي الذي ينطق من الأسفل، أي بمحاذاة القواعد، وكل فئات المجتمع، محاصرا ومحاربا من الجميع (سلطة وأشباه مثقفين)، إذ يسخّرون كل الوسائل والإمكانات لتكميم الصوت و هرس القلم، ولعلّ من الوسائل الخطرة التي تنافس المثقف في أدواره، وتحدّ من تأثيره، بل ومن وجوده الفاعل، استشراء واستشراس وسائل التواصل الأخرى، وعلى رأسها وسائل الإعلام/ الإعلان بما تمثله من شوفينيّة السلطة وآلتها القمعيّة، وهي حرب حضاريّة راهنة أدت إلى تغيير المفاهيم وقلب القيم، وعلى رأسها مفهوم المثقف ذاته، إذ بات ينظر إلى المثقف المرتبط عضويّا بمقولات التغيير الاجتماعي، والدفاع عن الجماهير والمغلوبين، على أنّه من بقايا الزمن البائد، ومخلفات الفكر الميّت.

إنّ أوجه الصراع ـ الخفية والمعلنة ـ بين الخطاب الإعلامي والخطاب الثقافي، ساهمت في تغريب المثقف الحقيقي وإقصائه من وسائل التبليغ والتواصل المجتمعيّة، وخلق مثقف استهلاكي، جاهز ومفصّل على طول وعرض المناسبات والسياسات، ولعلّ هيمنة التكنولوجيا والاقتصاد الموجه والتبعيّة الثقافية والحضاريّة، أسباب رئيسيّة وراء انحسار دور المثقف العربي، بل وراء اختلاق الأزمات والزجّ به في متاهاتها، إذْ عوض أنّ يفكّر في خلق شروط التغيير، يظلّ فكره مرهونا بفكّ تلك الأزمات والخروج من دوّاماتها، "أليس "المثقفون جروح مفتوحة" كما قال إريك بنتلي؟

إنّ السؤال في النهاية عن دور الأنتلجينتسيا العربية في خلق شروط التغيير، وفي ظلّ أسئلة الهويّة وارتباطها بالآخر، يدعو إلى مساءلة هذه الإنتلجينسيا في وجودها الثقافي والحضاري، في ظلّ الهجمة الأمبرياليّة/ الثقافية التي يتعرض لها الإنسان العربي من العقل إلى الأرض: ما الذي يبرّر صمت هذه النخبة أو الصفوة الثقافيّة المسمّاة أنتلجينسيا؟ وهل لدينا أصلا إنتلجينسيا على حدّ تعبير أحدهم؟ هل يجوز لنا الحديث حتى عن مفهوم المثقف في الوقت الذي صرنا نرى فيه تساقط الجُدُر التي تسندنا تباعا وبدون مقدّمات؟ في حين أنّ المثقف الذي يفترض فيه أن يتحلى بصوت تحليلي/نقدي معارض، أصبح ينحو شيئا فشيئا إلى المنطق التبريري المدافع، الغارق في التهويمات والمصطلحات المنحوتة بدهاء أو المستقدمة بغباء.

أعتقد أنّ حضور المثقف اليوم مشروط بطبيعة تمثله لدوره في ظلّ متغيرات كونيّة كثيرة وعظيمة، دور لم يعد يشتغل بمنطق الانعزال، كما لا ينصهر في آليّة الاحتواء والاستفراغ، وإنّما يسعى إلى خلق توافقات وموازين قوى من أجل تحقيق المشروع التنويري والتوعوي بمواصفات العصر ودونما قتل لجوهر الإنسان العربي ومعناه، إنّها اليوم مسألة استرجاع الدور الحقيقي، أو بالأحرى البحث عن أدوار جديدة مناسبة. 


كاتب مغربي