الريادة الليبية لقصيدة النثر العربية

سليمان زيدان

كان لزامًا أن نعرف ومنذ زمن بعيد أنَّ هناك أنَّ شاعرًا ليبيًا اسمه (علي الزوي) وهو أحدُ الرِّجال من (واحة جالو) إحدى واحات الجنوب الليبي، وأحدُ أفرادِ القافلة التي استأجرها (أحمد محمد حسنين بك)* في رحلته من واحة (الجغبوب) إلى واحة جالو، قادمًا من مصر ، تلك الرحلة التي كانت في شهر فبراير من عام 1921م؛ قد كتب قصيدة النّثر قبل أن تعرفها السَّاحة الأدبيَّة العربيَّة بأربعين عامًا، أي قبل أن يُعلنَ عن مولدِها في مجلَّة شعر اللبنانيَّة في أواخر الخمسينيَّات. لقد وشى به أحد رجال القافلة أثناء الاستراحة الليليَّة، وأخبر الآخرين بأن (علي) يقول الشِّعر، فألحَّ عليه (أحمد محمد حسنين بك)* أن يسمعهم شيئًا من شعره فأنشد يقول:

أريد أن أغنِّي

ويلتفّ كلُّ الرِّجال ليسمعوني

إنها (خضرة)

التي تنتزع الأغاني من روحي

وجنْاتهُا حمراءُ مثل الدماء المسفوكة

نحيفةٌ وملفوفةٌ مثل العود

ليست طفلةً وليست عجوزًا

لن تعرفها

لكنني لو قابلتها في الطريق

فسوف أتباهى بها

كما أتباهى بنصل رمحي

....

أنت نرجسةٌ رشيقةٌ في بستان الكبرياء

من فمك يتدفق العسل

فوق أسنان من العاج

خصرك النحيل

مثل الأسد وهو يعدو خلف الفريسة

أتكونين لي

أم تفكرين في غيري؟

النوم على صدرك هو الجنة ذاتها ،

والحب لا يمكن إخفاؤه

ولكنْ القدر في يد الله(1)

فالوحدة العضوية تكاد تكون تامَّة، والصُّور تميَّزت بالكثافة والإيجاز، كما تجلت المجانيَّة ـ وهي أهم خصائص قصيدة النَّثر ـ في الدَّفق الشُّعوري، بالإضافة إلى سطوة الإيقاع الدَّاخلي الذي أحدث تناغمًا في التَّراكيب، مدعَّمًا بالوضوح في الألفاظ والتَّشبيهات والاستعارات، مع ما فيها من قيم فنيَّة، يُطابق نسقُها الفنِّي ما جاء في قصائد (حزن في ضوء القمر) لمحمد الماغوط الذي عُدَّ البداية لقصيدة النَّثر العربيَّة عام 1958م. ويقضي الإلزام بإن يُسجَّل هذا كما سُجِّل للشَّاعر الفرنسي (ألويزيوس برتران1807- 1841) إلقاءُ بذور التَّكوين لقصيدة النَّثر ضمن مؤلَّفه (غاسبار الليل) بعد أن تفطَّن الشَّاعر الفرنسي (بودلير) لما فيها من شعريَّة خفيَّة، ولكن من أين لـ(علي الزوي) أن يلاقي ذائقةً مثل التي عليها بودلير كي يُكتشف ما في قصائده من جمال التَّصوير، ومجانية التَّعبير ووضوحه وكثافته. كما أنَّه لم تكن في واحات الجنوب ولا في ليبيا كلِّها مجلة (شعر) ولا أدونيس، ولا أنسي الحاج، ولا يوسف الخال كي تقام الملتقيات الأدبيَّة، والحوارات النَّقديَّة فيذيع عبر أصواتهم ما في هذه القصيدة التي قد يكون زمن إبداعها سابقًا لتاريخ إلقائها بعام أو أعوام ـ أو ما في غيرها مما لم يصل إلينا، وقد يكون أحسن منها بكثير، ويُنصَفُ مُبدعُها، ومن ورائه السَّاحة الأدبيَّة التي ينتمي إليها.

وإنَّني ومن منطلق الاعتداد بهذا المرجع كونه لم يثبتها لأي غرض غير تدوين رحلة علمية القصد والطابع، أعدُّ قصيدة (علي الزوي) إرهاصًا أوليًا لقصيدة النثر العربيَّة، وإن ما قد يؤخذ عليها من مثالبَ مرجِعُه لانعدام أي تواصل لقائلها مع أي ثقافة. فهو لم يكن مطِّلعًا على الآداب الغربية (الأوربية والأمريكيَّة)، ولا على الآداب العربيَّة، بل كان تواصله منحصرًا ـ فقط ـ  مع الإبل و الصحراء برمالها وعواصفها، ومع ذلك استطاع أن ينجز هذه القطعة الشِّعريَّة بما فيها من ثراء تعبيري، وغنىً شعري، ومن تجنيس حرفي شواهده: (نون) أن و (نون) أُغنِّي في السَّطر الأول، واللام في (كلُّ ـ الرِّجال ـ ليسمعوني) في السَّطر الثَّاني، والتَّاء في (التي ـ تنتزع)، والياء في (الأغاني ـ روحي) في السَّطر الثَّالث، والهمزة في (حمراء ـ الدِّماء)في السَّطر الرَّابع، والفاء في (نحيفة ـ ملفوفة) في السطر الخامس.. وهكذا إلى آخر النَّص، مما يشكِّل إيقاعًا داخليَّا خفيًّا هو أحد سمات قصيدة النثَّر ومن أهمِّ خصائصها.

قد يقول أحدهم: إنَّ القصد والغرضيَّة هما الأساس الأول الذي يُعتمد عليه في التَّصنيف الانتمائي، بمعنى أن يكتب الأديب أو الشَّاعر النَّص وهو يعني انتماءه لجنس بعينه، ليكون منه، أو ليحسب له السَّبق فيه، فأقول: هل كان (محمد الماغوط) الذي عُدَّ ـ كما أسلفت ـ بداية قصيدة النَّثر العربيَّة قاصدًا كتابة هذا النَّوع، أو مدركًا لذلك حين كتب؟ الإجابة لا؛ فلم يكن قاصدًا ذلك باعترافه بنفسه، وبقول أدونيس المنظِّر الأول لقصيدة النَّثر العربيَّة الذي اكتشف مطابقة نصوص الديوان (حزن في ضوء القمر) لما  نظَّرت به (سوزان برنار) لقصيدة النَّثر في كتابها (قصيدة النَّثر من بودلير حتى الوقت الراهن) الذي عُدَّ المرجعيَّة لهذا النَّوع الأدبي المستحدث.

كما أنَّ المهلهل بن ربيعة، وامرئ القيس وغيرهما قد أبدعوا نصوصهم الشِّعريَّة قبل مسمَّى القصيدة التَّقليدية، أو العموديَّة، أو الكلاسيكية، وهم من ينسب إليهم بداية الشِّعر العربي، فهل يصح ـ بمقتضى هذا الفهم ـ عدم اعتبارهم أُولي سبقٍ وريادةٍ.



* هو ابن محمد حسنين أحد أكبر مشايخ الأزهر. درس وتخرَّج في أكسفورد كان الأمين الثاني للملك فؤاد، ورائد الأمير فاروق. تزوج ـ عرفيًا ـ الملكة نازلي والدة الملك فاروق. قرر عام 1921م القيام برحلة إلى واحة الكفرة الليبية عبر الصحراء منطلقًا من مصر. نقلاً عن كتابه : الواحات المفقودة، ترجمة: أمير نبيه، وعبد الرحمن حجازي، المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة ـ ط1/2005م، ص 9/10.

 

(1)  أحمد محمد حسنين بك : الواحات المفقودة ، ص 96/97.