ما تبقى يشتمه الشعراء

جماليات تخطي الشعر مفهوميا ؟!!

خضير ميري

                        (لاشئ أكثر جدية من الطفل في لعبه)

 

                                                        فردريك نيتشه

                                (الشعر هو أصل تاريخ أي شعب من الشعوب)

                                                       

                                                            مارتن هيدجر

 

 

                               (1)

 

 

الكتابة التي تنسل من عبث كاف تستطيع أن توجد لها حيارى مناسبين، أن تكون  مثل نهايات مطر أو حافات ضوء أو طنين نحلة حبلى بالعسل.بالطبع أن مانختلف عليه من أهمية وجود نثر أو شعر أو بقايا تفعيلة تلفظ أنفاسها هنا وهناك هو ليس أن يكون للتعبير الشعري كل تبرير متاح لكي يقول شيئا. لا أحد من الأجيال المتعاقبة على حركة الشعرية العربية يستطيع أن يقدم يقينا منسجما على عمل الشعر أو يدلل على نشاطه الكيفي أوخط سيره اليومي، فقط صراع الأشكال هو الحلبة الكبرى للقول بماهو جديد أو بماهو قادم ولكن العمل الأكبرهو ذلك الظل المهدورالذي يتوارى حين تمتد يد الشكل إليه وتحاول أن تضع له أطارا أو تقترح له مرسى، وليس بعيدا عن هيدجر أن يكون "النداء" هو الصوت المواب الذي يغري الشعر بالمجئ مثل ضوء لشمعة أو رغبة لوردة أو حماقة لذبابة أو عزف طارئ لبلبل ، وكان لنا بالتاكيد بدايات لأنقلابات ومعاكسات يقين للشعرية الخارجة من معطف العروض بكل ماندلل عليه بأنه هو بدوره عرضي ،وأن الهم الشعري لايفترض بالضرورة مسافة كافية لأن يكون الشعر بمثل أقناع اللغة أو قناعها "الكمي" المشوب بالتكرار النحوي المحكم.

كان الشعر هو مجموع أفكارنا عنه بقدر مايقدم الشعر فهما تاريخا لنفسه فأنه يضع نفسه عبر حركة تظليل طويلة الأمد في مصاف الجنسانية الادبية او ما نعرفه من عمل المسرودات الكبرى في تاريخنا الفكري وهي عادات شرعية أكثر منها ممارسات أجرائية ،ولو قدر لنا أن نتحرر من كل فهم تارخاني لعمل الأجناس الفكرية لصار ممكنا أن لا نحفل بسطوة الأشكال أو جفافها الكمي الخارجي أو غلافها الظاهري المبالغ باهميته وسطوتة وعناده الثبوتي،وكان بذلك فهم الشعر من حيث هو تبرير للشعر هو الأساس للايدولوجية الشعرية التي صنفت نفسها في مدارس متقابلة وصارمة وعدائية بشكل أو بآخر وصارت ماهي عليه اليوم من تجريم لبعضها البعض وتكريس للفروقات التعبيرية في ضوء المبنى والمنحى الكتابي وليس في ضوء الطاقة الجمالية لعمل الشعر بوصفه لعبا لغويا أكثر منه هما قوميا للشاعر في مرعاه الأجتماعي أو سكنه الماضوي؟!!

أن الشعر بماهو خصوصية داخلية لعمل اللغة وتلعثمها الضروري داخل الكائن "المتفرد شعريا"لايحتمل على ضوء ما أعتدنا عليه إي تقيس خارجي إلا في حدود الأستعمال السلطوي للنحو السائد وهو الأستعمال القائم على كتابة اللغة في ضوء تعلم اللغة وذلك مايقع في حقل أعادة الأمتثال أو تمرير التبرير وأنتزاع خصوصية التفرد من "العبث " و"اللهو "المناسب" لكل أضافة متاحة لطاقة التعبير على حساب سلطة "التبرير" ولن يكون رامبو ممكنا على صعيد ماهو شعري إلا بمقدار الأستفادة من خيانة المرجعيات الأساسية لتعلم ماهو شعري حسب كونه منتوجا كتابيا من عمل اللغة ومن بعض حظواتها وليس بالطبع مزاولة فردية أو قطيعة "أعتباطية" يفترض بها أن تعطي عسلا بدلا من أن تخلف رمادا،ولعل أسطورة " الرائي" في طروحات رامبو مازالت شروعا منقوصا للتخلص من السلطة المفهومية لعمل الشعر ذلك الشعر الذي هو مكتوب وميت ومستعاد بفعل الواجب التاريخي أو دروس القراءة الرتيبة في قاعة المطالعة وهو ماكان الناثرين الكبار يحقدون عليه "بضرورة او بلا ضرورة " في تجارب عالمية غير قليلة وأكثرها شيوعا تجارب "رامبو"و"لوتريامون "و"سان جون بيرس" وما أدت اليه النثرية الشعرية من تيارات مفهومية أو مغالطات صحية على درب مسيرة الشعر التي مازالت لدينا في الثقافة العربية مثار نقاش وخلاف وأختلاف لأسباب يطول شرحها ولكن لابد من العودة إليها لاحقا في مناسبات أخرى.

 

                       (2)

 

أذا كانت الشعرية"أكثر الأصطلاحات ألتباسا في الخطاب النقدي العربي المعاصر"هي المفردة الأكثر بلاغية التي مازالت قابلة للتنشيط اليوم في أجمال عمل الوظيفة البلاغية التداولية للشعر كونه "مبتدع ومبتكر وخلاق" وهو الأساس الذي يذهب إليه ومن خلاله نقاد البنيوية ومابعدها إلى اجمال وظيفة معينة للمنتوج الشعري بوصفه قابلا للأحتواء العلمي فان ال"النثرية"اذا جاز التعبير لن تصلح مقابلا من الناحية البلاغية "للشعرية" منذ أنحدارها عن أرسطو طاليس"الاشتقاق من الفعل الوارد في القاموس الارسطي بpoiein""  وذلك لأن التراكم البلاغي للمتن النحوي "شعريا" أو منصوص عليه من قبل التلقي لايجوز أدراج النثر ضمن البلاغة الشعرية مع أن الكتابة عن الشعر نثرا هو عمل البلاغة في تعريف ماهو شعري أو ماهو بلاغي فيما هو شعري وهكذا

 فهل كان ذلك هو فعل الفهم الشعري للفهم المتاح للشعر أم هو فعل القراءة وحدها التي صيرت الشعرية كلها شعرا لأعتبارات خاصة بالقراءة على صحة المقروء وليس القراءه المنقبة على فهم القراءة نفسها كونها أداة الأداة ومكتوب الكتابة وقول القول ؟

لم يتقدم فهم الشعر كثيرا مع كثرة الشعراء وتعدد مشاربهم و أختلاف هوياتهم هوياتهم القومية ووجودهم الأجتماعي وكأن الشعر هو مانكتبه على ضوء مانقرأه وليس مانكتبه على ضوء مانقدر عليه؟! فمن أين جاءت سلطة "القراءة على الشعر"ولماذا لم تكن كتابة شعرية بل شكل شعري للكتابة ليس إلا؟ وإذا ما ذهبنا إلى الأسطورة كونها كتابة "شعرية" ولا نستثنى الأسطورة "الدينية"مثلا أو الموظفة داخل المتن الديني المقدس "والذي كان بدوره هامشا ملعونا ومعترضا عليه" فأننا لانقع على شكل نهائي بل على كتابة تتشكل لأسباب ليست كلها معلومة ومرئية صارت الأسطورة تراهن على نبذ الفهم كوسيلة  لتعاطيها ولكن الأساطير هي عادات خيالية للشعوب فلماذا لايكون الشعر بدوره عادة خيالية خالية من سلطة اللغة او من شكل مبناها؟

لاتبدو أسئلة الحداثة في الشعر شعرية بمافيه الكفاية لعل فهم الشعر هو الذي يعاني أزمة مزمنة وليس أمكانية الكتابة الشعرية كونها ممارسة لاتخضع للفهم كثيرا با المتناول "الكانتي" للمفردة اذاما كان هناك شكل قبلي للتعبير فان الأشكال المتواضع عليها لاحقة على التعبير مهما بدت لنا العكس عادة هو المنسرب الذي قام بتأجيل الآنية الشرعية لصالح القراءة القبيلية وهذه الأخيرة أتاحة فهما شعريا خالصا للشعر صيرته رهينا منطقيا للغة الأصل أو اللغة –الأم مما أنتيح لنا امكانية مشبوهة تتمثل با القياس على الشعراء القلبين للشعر الأسبق وبالتالي تقديم قراءة الشعر على عمله الكتابي ؟او انطلاقا منه، وهو المنحى الذي جعل الشاعر يصالح مفهومه التاريخي ويتمرغ فيه ولايقوى عليه، ولعل هذا هو ما تلمسته الحداثة الشعرية في منطلقاتها الأولى بالرغم من أفتقارها إلى القطيعة المفهومية المناسبة للشعرية القادمة في ضوء أنشاء التحلل من الشكل المفهومي للمنطق الدلالي الوحيد الجانب بالنظر إلى تاريخية الأشكال"الثابتة" وليس وفقا لخروقاتها ومطروداتها الهامشية وهنا لابد لنا أن نقدم موجزا لفهم العمل التفكيكي للشعر الساقط من متنه أو الشعر المضاد لمفهوم الشعر كونه فهما وليس عملا؟

                            (3)

 

لايقدم التفكيك الفهم على الممارسة، وهو فعل تحليلي أكثر منه تأمل مستقل عن نقصه الجوهري كونه بقاي لفهم ميتافيزيقي يشترط المعنى العام دليلا لخواصنا الصغيرة العابرة والمزعجة ولعل جاك دريدا متهما بالشعر حتى وهو في غاية تأملاته واستدلالاته المعرفية وهو دليل على معرفته بأن الحداثة الغربية لن تكون شيئا كبيرا لطالما بانها تعتقد بالشمولية والمركزية وتهميش الآخر واعتبار العقل هو مجموع مايعقله ومن هنا فان العنصر الاكثر قربا للفهم الجمالي هو نبذ الاصولية التاريخانية والتجرد عن المجرد الكوني والبحث والتنقيب بالنفايات الدالة على سلوك الحيوانات البشرية فوق بركان كوكبنا المهدد بالانهياروالضمور لطبيعي، التفكيك هو مدخل مناسب حسب اعتقادي للعمل الشعري بوصفه تغربا طويل الامد عن اصالته اللامفهومية وبعده عن شرعيات العقل المركزي الآمر والناهي وهو جاء متساوقا مع طروحات فكر مابعد الحداثة حتى وهي تبحث مازالت في بداياتها الأولى في ثمانينات القرن الماضي عن نهاية سعيدة للعقل والمنطق والحقيقة اللامتحققة أبدا، فبأية لاشعورية كان من الممكن لمابعد الحداثة أن تكون ضد نفسها وضد مشروعها البعدي بأسراف ؟

قد يبدو السؤال مطروحا بسياق لايخلو من قبلية ميتافيزيقية لأن الشعرية لاتقدم مفهومها على عملها وهي من صلب "هشاشة" حسب تعبير ظريف ومخيف لبول ريكور وبالتالي فهي لاتصلح ضدا لماهو قبلها لن يكون النثر شعرا بقدرته النحوية بل بقدرة شاعر وهو لن يكون نثرا صار شعرا أو العكس بل هو مالايكون شعرا من قبل ولن يكون نثرا بعد ذلك ولن يكون الشاعر ناثرا حين يقرر صياعة النثر نصا بل حين يؤدي وظيفة الهشاشة والفوضى واللانهائية المفتوحة لحقل التعبيربشقيه الواضح حد الاهمال أو المبهم حد التأويل المزدوج للشئ بنقيضه(على غرار ليس بعيدا عن عبد الكبير الخطيبي)، بأختصار حين يرى الشعر في أعماق ماهو مسطح نثريا أو مبذول لغويا ولذلك فأن الأحتفاظ بمصلح (قصيدة ونثر) مع شارحة صغيرة بينهما هو أحتفاظ بالمسافة المتناقضة بين نوعين من التعبير لايتولد الشعر منهما بل من خلال لا تماثلهما الكمي والنوعي أنه باختصار آخر ،مالايكون نثرا بعد شعرنته والأساءة اليه أكثر من مادة كتابية متأتية من صهر علامات؟!!

 

 

 

 

 

 

                                         (4)

 

 

 

السؤال الشعري المناسب لكل بحث هو السؤال القائل هل يصلح الشعر لأن يكون غيره في النثر ؟ ومن ناحية أخرى هو أختصار لسؤال خبيث متكرر ماهو الشعر؟ وهل هو ماكتب على أنه شعرا من قبل أم مايرفض أن ينكتب إلا بداية من الآن أو في المستقبل؟

والسؤال المشار إليه أعلاه هو سؤال المفهومية الشعرية ولن يكون سؤال الشعر إلا مايكتبه الشعر دون أن يكون مضطرا لفهمه، لأن الشعر في متنه التدويني ليس هو كل الشعر المتوافر في العالم من قبل ولن يكون هو كل الشعر الممكن كتابته الآن، واذا كان لكل شعر فهما للشعر سابقا عليه فباي بداية نبدأ؟ ولماذا ينبغي أن نقدم صورة الشعر على طاقاته الخاصة لاسيما وأننا نرفض شعراء كبار لأنهم لم يحققوا أسبابا معينة للأنتشارولم يكن ذلك حائلا لبعثهم بذائقة جديدة فيما بعد مثل أعادة قراءة الصوفية العربية على ضوء أتساع نطاق التأويلية وظهور السيمولوجيا النفعية لصالح النص المقصي القديم أو قراءة النفري في ضوء فهم نظريات الدلالة الجديدة والأستغلاق المرجعي...الخ

أذن لن تكون سلطة المفهومية بديلا لحركة الشعر أو تبريرا لجموده العقائدي وتراجعه عن كل ثورية جديدة لايشترط فيها أن تكون ثورية سماعية أو خطابية وهو من هنا على الأقل في الوسط الثقافي العربي مازال في نظر البعض أن مايكتب بحاجة إلى أعادة صياغة شعرية وهو أعتراض على ضوء فهم الشعر لا في ضوء عمله كما أن من يقف في صف قصيدة النثر يحار أي مفهومية يتكلم خارج نطاق الغضب والرفض والتمرد وهي عناوين لاتدل على الشعر ولاتبرره بل تقدمه بصورة حالة مرضية مقيتة أو محاولة عقلنة كلام مجنون أو مهلوس أو سكران؟

 

 

 

 

 

 

 

 

                       (5)

 

 

لكي لا نجد أي شعرية خارج حدود اللغة كما يحلو للبعض مط عبارات من هذا النوع الرخيص المتداول فأن السيمولوجيا كانت قبل التفكيكية سباقة إلى لفت أنتباه العامل بالكتابة الشعرية إلى كونه ينبوع علامات وليس خباز مدلولات أو صانع محاكاة .لأن الشاعر هو سارق علامات هو مايورط اللغة بغشاء خفيف مماهو غير قابل على التدليل علية إلا من خلال سياقة الخاص، أن الشعر لايجزأ على عكس الأدب وبذلك فأن العلامة لاتفسر أنها تؤول وأن الشعر يتحسس كلماته حتى لو رأيناه فالشعر هو خيانة الثقة بمانملك من لغة أو مانتعامل بها ومن هنا يصبح العالم شعريا بقدر نبذه "للموسيقى القبل سلسلسية post-seruelle وهو المعنى الأكثر الحاحا لمفهوم الأيقاع الموسيقي مع نسيان فكرة الموسيقى- البروفة التي هي محاولة التغلب على النشازات والوقفات والأرتجالات الممكنة داخل عمل النوتة في حال نقلها حركيا وذهنيا من النوتة إلى الآلة كما لوكان الأمر ذاته يحدث للشاعر في حالات الشطب والمحو الألغاء والتعديل فأين تذهب المخطوطة الملغاة بعد ذلك؟

باختصار ان الشعر "الآخر" يأكلها ويتمثلها ويصححها ولكن وفقا لأية شعرية يتم تصحيح الشعر وأذا كان الشعر خارج المفهومية التفسيرية وبأتجاه صنع العلامات فمن يصحح العلامات؟ وكيف يهتدي الشاعر إليها؟

باختصار أن من يصحح العلامات هو "لا أحد" انها مجرد موجة أستطلاعية حدثت وأن دونها الشاطئ النصي فقبض عليها القارئ الذي سيكون وحيدا ومهجورا في حالة موت الكتابة!!ومن هنا فأن العلامات لايوجدها الشعر بل هي بالأحرى الشعرنفسه قبل أن ينتبه اليها الشاعرويتشرب اعتباطها ومساراتها ومداراتها الصغيرة المندسة في المتن المشوش من فرط اهميته وانساقة الكبرى الصماء والعمياء، لايوجد عالم ماقبل الشعر وإلا لكان الله وحده هو الشاعر الأمهر والأوحد ولما كانت الكلمة هي "معنانا "نحن بقدر ما هي معنى لجميع الآلهة الأخرى والتي حدث وأن تمطت لغتنا للقبض عليهم ذات سؤال شعري وفلسفي مشترك مفاده من هو الوجود ؟ ومن نحن الذي نسأل عنه؟

ان العلامات تجوع اللغة بينما المدلولات تتخمها ،العلامات أستغلاقات صغيرة أنها صندوق توفير الطفل الشعري الذي لايريد العالم إلا لغة لآخر أو مع آخر بل أن يكون العالم هو دائما آخر كما كان، وهو ربما المعنى الذي قصده رامبو بتعريفه للشاعر الرائي في كونه هو الأنا –كآخر وهو المعنى المقارب نفسه لماذهب اليه هلدرلين بصحبة هيدجر في نعته الشعراء بأنهم يؤسسون ماتبقى ولنرى ماذا نستدل عليه من ذلك؟

وفقا لهيدجر لأتكون اللغة بحاجة إلى ابداع بل الابداع هو الذي يزرع الحاجة في كل اكتفاء لغوي واعترف بان هذا تفسيرا شخصيا نحتته على هيدجر او تهجيت قراءته لكي اتقدم بالتوصيل قليلا فلاتوجد لغة تضيف لتفسها كل يوم وإلا لما تعلم أحدا الكلام ولكن هناك لغة تغفلها اللغة وتقصيها عن طريقها لصالح معاملات الكائن الوضعي والنفعي والأستهلاكي والضعيف في تناوله لمايسد رمقه أو يسهل مهمة حياته بلا عون كامل من لغة متاحة ومحسومة ووضيعة فما الذي يتبقى من لغة اللغة ومن أستعمال الأستعمال ومن أهمية الأهمية ،من يفحص فضلات الكائن ويرى قبحه وتفاهته وأمراضه وصديده وبقاياه؟ من يستطيع ان يؤسس بماتبقى، ماهو ساقط مماهو سائد وصامد وقائم بالتكرار من هو الذي يتعبد للعلامات الضالة والشاردة والمنفلتة والمطرودة والمقصية بأختصار من يؤسس ماتبقى ؟

الشاعر الذي يؤسس ماتبقى لن يجد في التعامل باللغة مباشرة ما يسد رمقه أو يجزل له العطاء، العلامات وحدها تزرع عماءا خفيفا تساعده على استدراج اللغة الى نفسها ومعاملتها معاملة سيئة تخرج جنونها وتورطها بالشعر ولعل امبرتو ايكو وبارت من قبله بقليل كانا يدركان أن العمل الشعري هو "عبارة عن أستعمال أنفعالي للمراجع...والأستعمال المرجعي للانفعالات"، العلامات أنفعالات خارج المرجعيات ولكن بشرط أرتباط الخائن بها، لن يكون ثمة من يخون بلا مرجع أو أرتباط وظيفي أو دلالة نسقية لشئ متفق على ثبوته الأخلاقي أو موضعه الوضعي، ومن هنا لايسمى من يسرق من خزانته الشخصية سارقا بل هو مسرف وسئ التدبير ليس إلا ، بينما الذي يسرق من خزانة المنزل دون علم أهله  يسمى سارقا وخائنا ومن هنا فان العلامات خيانات للغة وليس ابتعادا كليا عن مرجعياتها الكبرى وسردياتها الشمولية ولعل هيدجر لم يكن مغاليا عندما اراد أن يقدم عبر هولدرين درسا عن الوجود والشفافية لابد من المرور عليه.

 

                         

                       (6)

 

 

وأذا كان جورج غادامير يعد مؤسس الهرمونطيقيا الفلسفية قد كان من أوائل الذين عملوا على فهم العمل الفني من منطلق فينمونولوجي حساس فان شروحاته على هيدجر تعد بحد ذاتها عملا أساسيا لايمكن المرور بجانبه ونحن نريد هيدجر  مقربا لنا بأداة غير أداة هيدجر الجارحة العنيفة والمستغلقة ولكن الجذابة والمغرية على قدر قلة فهمها،،ولا بأس من الألمام سريعا لكيفية فهم غادامير لفهم هيدجر للعمل الفني والذي أجدني مضطرا للأستعانة به لكي أتمكن من أيضاح الجذر الفلسفي أو الأفق التأويلي الكامن وراء ثورة الشعر ضد مفهومه الشعري(بالرغم من أن نظرية العلامات كانت كما أسلفنا قد حاولت أن تجد تبيريرا للعمل الفني من حيث طرق أستعماله لمادته الكتابية وهي قطعا العلامات وهذا أقرب إلى المنحى التطبيقي لعمل اللسانيات عموما)وهو الجذر الأستباقي لتقيم مفهوما جديدا وأقل جدية من مرورث الفهم الميتافيزيقي للعمل الفني من قبل فالبنسبة الى هيدجر يوجد العمل الفني لا بوصفه موضوعا يحيل الى شئ وراءه بل هو في حد ذاته "ينتصب في ذاته"جورج غادامير _طرق هيدجر_ص227"ت:حسن ناظم وعلي حاكم صالح_وهو يضيف في ذات الصفحة قائلا "لأن العالم الذي ينتمي إليه العمل هو عالم منحل.لذلك يكون عمل فني ما موضوعا عندما يصبح جزءا من عملية التبادل التجاري ،وحينئذ يكون بلا عالم وبلا بيت"-المصدر نفسه.

ولكي يكون ممكنا أن نظاهي عمل الشعر خارج مفهومه الشعري الذي يركز درجة قراءته على ايجاد عالم للشعر هو شعري بدوره  فان هيدجر يستعين بفكرة "الأرض "في مقابل فكرة "العالم "القديمة التي كانت تحاول ان تتساوى فيها القوى التعبيرية جميعا بحثا عن الأنسجام الماهوي للعالم وكأن الفطرة الالهية هي المردود اللغوي الوحيد الذي بحوزتنا عن العالم بدوننا،وبالتالي فان الشكل الامثل للسيطرة على العالم هو التساوي في الابعاد او تقابلها الشرطي والشطري وهو مايحققه الشعر لنفسه من شعرية زائفة تنشأ هي بدورها ميتافيزيقيا للتاريخ العالمي المتسامي على الأرض والمتعالي على المزاج والفوضى والأنغلاق الذاتي للأرض كونها كرة مكتضة بنفسها نحيا فوقها بصيغة أحياء ونسكن داخلها بصيغة موتى ولايمكن لنا أن نفترض العالم كونه عالما كبيرا حقا أو لا نهائي إلا وفقا لفكرة الزمن والزمانية التي هي نوعا من النشاط السرمدي لفعل الكمون الأرضي والمحايثة الارضية والأرضنة الذاتية المدينية المنقوصة بفعل دأبها وظلال غاياتها وعطشها السببي .

العمل الشعري أذن هو في منسربه الجديد عودة الى إصالة الارض وانغلاقها الذاتي وهو من هنا تدريب على أحياء فكرة العلامات الدالة على تيه معاش أو موحى به أو مضبب قليلا بفعل "العادية " و"اليومية" و"الانهمام المتعي" المعتاد اكثر منه بفعل قفزات الكنغر او هزات الحداثة بل كونه حدثا فريدا لايتكرر ولكنه ايضا لايتفكك كلية عن وحدته الارضية وسكونه النسبي الذي يجعل مجموع اجزاءه كلية تمتلك معين ذاتي لصناعته الانتاجية المادية التي تصيره كتابا ورقيا ملفوفا بغلاف يدل على استقلاليته كشكل مادي نفعي وتداولي وله سعر بيع وآخر للشراء كما له حالات اقبال وأدبار وفهم وسوء فهم وعدمه بل وكراهية وعداء ونبذ وتقيم الخ

العمل الفني هو الشعرية الأرضية أذن حسب هيدجر "والارض هنا استقاها فلسفيا من متن احدى قصائد هولدرلين" فهل يمكن للدرس الارضي ان يقدم شعرية مغايرة لسماوية العالم العلوي ولاهوت الطبيعة الشعري؟

هل كان رامبو وبلانشو و ميشو وتراكل وأدغار الان بو ومن هم على شاكلتهم مجرد كتاب ارضين ومتارضين الى هذا الحد؟

لايصح الاجابة بنعم تامة الصوابية فالأرضية تتساوى بها اختلاف الابعاد وفوضى العلاقات ويكاد ان يحوي مسطحها المعرفي حسب جيل دولوز على منزلقات افهومات لن تتيح لها الارض سكونا مناسا لأن تكون شرعية أو مستقرة على قفاها الذي مازال يواصل دورانه الثعلبي؟

مع هيدجر يصبح العمل الشعري نفسه انكشافا فمن اي طريق نأتي له بالدليل؟

ان العمل الفني سوى كان رسما خطيا او حرفا ايقونيا هو بالتالي توتر لايهدأ بين المعنى المفارق للعالم والمكوث الارضي للمعنى العابث والمقصود بهذا الاخير كونه منقاة من علية خارجية او خلفية لاهوتية  فمايقيم الدليل على العمل الفني هو انعدام كفايته الميتافيزيقية وتنفسه لهواء الارض وانحائه على غموضها الطيني وغرابتها الحياتية المتجددة!

 

 

                       (7)

 

ووفقا لما خلصنا إليه من خلال غادامير بخصوص هيدجير بخصوص العمل الفني هو ما يمكن أن يعد نهاية مطاف مؤقته لهذه الحدود المتاحة لهذه القراءة المقتضبة واذا ما عرفنا أن هيدجر يعرف ماهية الفن في كونه "عملية شعرنة" وأن المنحى الاساسي للشعر هو كونه رفضا لماهو خارجه واستبطان مافيه او مالا يريد العالم ان يؤسسه فان عمل العلامات ترغب بالشعر الخالي من جوهره المفهومي "العلامات لاتقبل الفهم وتراهن على التأجيل العقلي المتاح أو الغافل" ترى أين يكمن النسيان الصحي للعالم الذي يقتله التذكر ويحنطه العمل المفهومي ؟ هل يمكن لنا ان نأخذ الشعر بجدية الاحياء الذين يأكلون موتاهم؟ وماذا عن الشكل الذي يرفض ان ينسى او ينسى؟ كيف يمكن اجهاض الشعر في نثره الارضي لصالح العالم الشعري الشعري؟ وبالتالي هل يمكن ان يقال الآن مع فارق كبير بالركضة والاتجاه ان مايتبقى اليوم يشتمه الشعراء ويؤسسونه نثرا حرا ومتحررا من شعرية الشعراء لصالح شعرية الشعر ؟

ربما...ولكن لن اكون اقل وضوحا اذا ما استعرت غادامير من جديد وهو يرفض ان يكون الشعر هو ابن للغة ولكنه يراه بانه "مازال هو الطريق الى اللغة ...

وانا اكرر القول شعريا هذه المرة

ربما... ولم لا؟!