عفيفي مطر.. دهشة الزائر المقيم

لم أكن أبدًا بوقًا لتكريس ظلم ولن أكون

حاوره: ماهر حسن

توطئة:
ها هو "محمد عفيفي مطر" يبلغ السبعين، بعد أن خابت نبوءته التي أشاعها بين طيات مذكراته "أوائل زيارات الدهشة" حيث يستعيد قولة الأب "عامر مطر": إن كل العائلة تقضى في الثامنة والستين، يبدو الأمر مدهشا لمطر وتبدو أيامه بين القاهرة ومسقط رأسه في "رملة الأنجب" بالمنوفية وكأنها سؤال مدهش عن سر البقاء بعد الثامنة والستين. أيام عفيفي مطر التي تلت نبوءته تعج بشعر طازج وجديد، وربما عاش لأنه ما زال يملك ما يقول، ما زالت لديه خبيئات لم يفصح عنها، وما زالت عناصر الكون سؤاله الأولى بالتفكيك. ويجب ألا نخترع أو نتذرع بمناسبة لكي نتحدث إلى محمد عفيفي مطر، فكل الأوقات صالحة للحديث معه، فهو أحد أهم الوجوه الشعرية العربية منذ نهاية الخمسينيات وحتى الآن، ليس لأنه قدم منجزاً شعرياً يربو على الاثني عشر ديواناً فحسب، بالإضافة إلى عديد من قصص الأطفال والترجمات والدراسات، بل لأنه إحدى الذهنيات الشعرية التي يتبدى تفردها في مرجعية معرفية عميقة تتزامن وتتواكب مع مقترحات شعرية مغامرة ساهمت بشكل لافت في تأكيد المنجز الشعري العربي الحديث إلى جوار شعراء كبار مثل: السياب ودرويش وأدونيس وحجازي وعبد الصبور وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وسعدي يوسف.

ولعل هذه المغامرة التي انفتحت وتفتحت على عوالم أكثر ترميزاً وأكثر تركيبا هي ذاتها المغامرة التي دفعت الشاعر إلى إعادة النظر في بضاعته التي ألقى بها الأجداد. ومع ذلك لا يخجل "مطر" من رد الفضل إلى أهله، فهو يقف إجلالاً وإكباراً لمحمود حسن إسماعيل، ومصطف صادق الرافعي، ويهدي ديواناً بكامله للنبي العربي، ويستعيد رموز حضارته الإنسانية في قوسها الأعظم والأوسع، دون أن يظل مصوبا ناظريه تحت الأقدام. فمطر يعترف أنه ابن هذا الميراث الهائل منذ اليونان والرومان مروراً بما قبل وما بعد، فالإنسان في كل أرض هو الإنسان، ولم تدع الحروب ولا الظلم والطغيان شيئاً إلا وحطته في كف التنابذ الذي يدعو مطر إلى دحره ومواراته التراب، هذا الشاعر الحالم بالحق والعدل والحرية دفع وسوف يدفع الكثير من أجل حلمه لقد عاش مطر كل صنوف الاضطهاد والتعذيب والفقر والتغرب، وأخيرا السجن، لكن كل ذلك كان جزءاً من عجينة خلقه التي استوت ونضجت وما زالت تمتح من عطاء الإنسان.

هذا دليلي وبياني بين يدي
ـ استقبلت الأوساط الثقافي صدور أعمالك الشعرية الكاملة بارتياح وفرح، وعقدت احتفالي كبيرة في أتيليه القاهرة، ونود أن نسألك: ماذا يعني هذا بالنسبة لك؟

* ارتبكت واضطربت علاقاتي بالمؤسسات الثقافية والقائمين عليها لأسباب يطول شرحها، وحين قال صلاح عبد الصبور، رئيس مؤسسة النشر الرسمية في الستينات، وأمام الشاعر محمد سليمان وغيره من الأصدقاء: لن أنشر له ديواناً ولو على جثتي، نشرت دواويني في العواصم العربية المختلفة، بيروت ودمشق وبغداد وطرابلس، ثم لندن، وفي بعض دور النشر الخاصة في القاهرة في السنوات الأخيرة، وقد أحدث هذا النشر ارتباكا وفوضى في ترتيب نشر الدواوين من ناحية، وفي إمكان وصولها إلى القراء في مصر، من ناحية أخرى، فبعضها لم يدخل البلاد وبعضها في عدد محدود، ما لم يمكن أحد من متابعة مسيرتي في تدرجها وانتقالاتها، وقد حاولت تصحيح هذا الوضع بإعادة نشر جميع الدواوين(13 ديوان) عن طريق هيئة الكتاب، ووقعت عقداً، وكادت الدواوين تذهب إلى المطبعة، وفي لحظة صدورها تأتي الأوامر بسحبها وحجبها لأسباب سياسية، ولمواضعات شخصية تستهدف الترويض والتطويع في سلك البيروقراطية المصرية المهيمنة، من منظور أن رئيس المؤسسة هو مالكها الشخصي، قانونها مزاجه ومصالحه، ورضاه مشروط بان يكون المتعاملون معه خدماً أو جوقة من ماسحي الأحذية والجوخ وعبيد الكرسي وِأدوات خلوده في وظيفته ومكانته.

وبعد أن تقادم العقد لأكثر من عشر سنوات، سنحت لي فرصة نشر الأعمال في مجلدات ثلاثة عن دار الشروق، وتأكدت مرة أخرى أنه من أنني لا يغلبني أحد، وأنني سأبقى حجراً صلباً في حلوق من يتصورون أن كرامة الشاعر وكبرياؤه وعناده يمكن أن تنتقص منها أبوابهم أو طقوسهم الفرعونية. كما أن الأعمال الشعرية في ترتيب سياقها وتواريخها تجعلني، والقارئ معي، أستعيد الرؤية من أعلى الفروع إلى أخفى خفايا الجذور الأولى، فأرى خلاصة نفس ومكابدة روح واشتباكات عقل لم تكن في أي لحظة مخدوعة أو خادعة، لم تكن لحنا في جوقة ولا بوقا في احتفاليات التكريس لظلم أو ظلام،أو عبادة باطل أو تجميل خراب، أو تزييف باطل، بل هي مسيرة متجذرة في الهامش والهامشيين، فيها كبرياء الحنان الأمومي، وصولة البرق وصلابة الصخور، والتحديق الشجاع في وجه الظلمة والقبح، وهذا دليلي وبياتي بين يدي.

من هوامش الخليقة جئت وعشت وسوف أكون
ـ احتفت الأوساط الثقافية، أيضا، بكتابك "أوائل زيارات الدهشة" الذي قدم أسلوبا مدهشا في كتابة السيرة الذاتية غير مسبوق، فهل كنت تقدم توطئة لمسيرتك الشعرية، ومراحلها، هل هي تفسير لعالم الشاعر أو تحديد لمقدمات الوعي بهذا العالم؟

* في زيارتي الأولى لبيروت، وفي مهرجان الثقافة العربية الأول العام (1970)، كان على كل شاعر أن يقدم لقراءته الشعرية بحديث عن تجربته الشعرية، ونظريته الجمالية التي يحدد فيها ملامح رؤيته للشعر واللغة ووظيفة القصيدة... إلخ، فأخذني الرعب وشملتني انفعالات الغضب والحيرة، وجف حلقي بالارتباك والعجز، كان الكلام النظري في مساقات عجيبة من الافتعال والتلفيق والكذب، لها سحر المطلق، والتماع التفلسف، وقعقعة المصطلح الذي لم يترك شاردة ولا واردة مما قيل في الشعر في العالم، ثم تأتي نصوص القصائد مقطوعة الصلة بهذا الهول التنظيري المنمق الذي اختلسته المقدمات، كنت أتململ وتهدر جوانحي بصراخ يكاد يسمع: أيها الأنبياء الكذبة، يا فاقدي النزاهة والتواضع والحياء... حتى جاء دوري في الحديث والقراءة فغمغمت مجمجما بكلام غامض مرتبك، الخوف يمسك بخناقي فلا أستطيع التصريح، وجلافة الفلاح الخشن تدفعني إلى حدود الاشتباك في عراك بالأيدي وخلع الأحذية، استطعت التلميح بارتباك وغموض إلى مغالطات المصطلحات وتناقضاتها، والفجوة الهائلة بين أقوال الشعراء عن أنفسهم وعن الشعر، وبين ما قدموه من نصوص، حتى فوجئت بغضب واستهجان وسخرية مدير الأمسية الدكتور "ميشال عاصي" بجهازه النقدي وعدته الإيديولوجية الباترة، ثم لحق بي المرحوم حسين مروة وفي يده "ميشال عاصي" ليصلح بيننا وهو يقول: كلامك دقيق وصحيح، وهو أروع ما سمعت في هذا المهرجان، وسنتعشى معاً في بيت ميشال عاصي لنسمع منك في هدوء، وقد لاحظت بعد ذلك أن معظم النقاد يتخذون موقف المصدق المنبهر بما يقوله الشعراء في التنظير والدعاية لشعرهم، بنوع عجيب من الاستخذاء والانضواء والتواطؤ وسهولة السير على الطرقات المطروقة الممهدة، وليست أقوال الشعراء مقصورة على الكتابة أو التصريحات، بل هناك الأقوال الضمنية الملجمة بقيمها المضافة إلى النصوص، كالتنظيمات الحزبية والانتماءات الفكرية المفترضة والقضايا والحركات السياسية وملابسات الوقائع الحياتية بين سجن أو منفى أو معايشة احتلال... إلخ.

وحين قرأت ما كتبه عدد من الشعراء تحت عنوان: حياتي في الشعر، أو تجربتي الشعرية، أو ما شأنه من عناوين كنت أجد البلاء ذاته أغرق في الضحك والسخرية. أراهم يحاولون تقديم كائنات هلامية من الأكاذيب وارتداء الأقنعة، فهم الطفل المعجزة، والصبي العبقري، وصاحب الكشوف الروحية الصوفية في المراهقة، وهم محررو الأمة ومنقذو الشعوب، وأنبياء الرؤى الثورية في مطالع الشباب، وهم الرواد أصحاب الخوارق كاشفو المستقبل وهادمو الماضي الميت... إلخ.

وحين اقترح علي أن أكتب سيرتي الذاتية تذكرت كل ذلك وضحكت ساخراً من نفسي ومن المقترح، قلت: هل فتحت عكا أم حررت القدس أم اجترحت معجزة قول أو عمل! ألست ككل عباد الله المنكسرين الباحثين عن "الستر"! وبعد إلحاح وشد وجذب، قلت: من هوامش الخلق والخليقة جئت وعشت، فاكتب هوامش تكوينك مواطناً وإنساناً، سكنته وأقامت في حياته لحظات الدهشة العابرة، بما تركت من أحوال، وهكذا كان الكتاب مضموناً ومعنى وأسلوب قص ولغة، كل قيمته عندي أنني انتهجت بكتابته بهجة أصبحت عزيزة المنال في زماننا.. ولم أقصد منه أن يكون تفسيرا لشيء، أو تأريخا لمسيرة شعرية، إنه فحسب هوامش التكوين.

ـ أود أن أقف عند إهدائك الذي صدرت به ديوان (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) هل هو إهداء يعبر عن مرجعية إسلامية، حيث أحاط الشك بكل المرجعيات، أم أنه إهداء ينطوي على ازدواج المدلول بين الشاعر والنبي؟

* قد يكون الإسلام مرجعية من مرجعيات مبدعين مثل جيته الألماني، أو أنطونيو جالا أو بورخيس من اللاتين الكاثوليك، أو غيرهم ممن لا يحصيهم العد، ولكن الإسلام بالنسبة لي ولغيري من مواطني الأرض العربية والإسلامية، مسلمين وغير مسلمين، هو المحور التكويني لهوية الأفراد وعصب الرؤية والفكر والثقافة والإبداع، أنكر من أنكر أو ادعى غير ذلك من ادعى، وهو النور الذي يضيء ما نقرأ أو نحاور أو نبدع، ولست أدري مذلة حضارية ومهانة وإهانة ثقافية أبشع من القمع الذاتي الذي يمارسه المنحطون المتخاذلون وهم يظهرون انتماءاتهم العمومية، فرحين أو مزهوين أو برغماتيين، بينما يخفون هوياتهم الأصلية وتكويناتهم الأعمق، ومن زمن طويل وأنا لا أصدق المثقفين والكتاب في شنشناتهم التمويهية من وراء أقنعة تخفي التعصب والتحجر والعرقية والعنصرية في الأعماق. وتظهر أنماطا من الكذب والإدعاء وسيولة اللغو السهل، في حرب شرسة من التقية والمخادعة وتزييف الثارات المتضرمة بمستحدث الثرثرة، وكم من صروح صارخة من الأفكار والتنظيمات والتنظيرات والمدارس والمناهج في السياسة والعمل الاجتماعي والثقافي والإبداع، هي في حقيقة أمرها محكومة ومؤسسة بما لا يحصى من المذهبيات والطائفيات وأساليب نفي الآخرين أو قتلهم قتلاً رمزياً، على مستوى الأفراد والجماعات والشعوب والأمم، وخريطة الأحداث العالمية والمحلية دليل كاشف وضوء فاضح.

إنني أعتقد أنه بات من الضروري إجراء دراسات معمقة وشجاعة في حفريات المعرفة والثقافة والإبداع بحثاً عن نزاهة العقل وتحرير البداهة وتأسيس الصراحة والشفافية، دفاعاً عن حرية الاختلاف والتعدد وكرامة أن يكون الناس كما هم حقيقة وكما يحبون لأنفسهم أو يكونوا دون قمع أو تواطؤ، ولتأسيس العقد الاجتماعي على حرية أعمق وأوسع، لقد أوقعتني تجربة الحياة بين المثقفين على نوع رهيب من البؤس الخاص بهم، بؤس العامة، بينما تغلي التيارات تحت السطح بعنفوان الغرائز، ووحشية الغايات، والعاهات النفسية، وألغام الشراك الخداعية، ولعل الانهيارات الأخيرة في العالم، وسقوط صروح الكذب وجداريات الأوهام التي كانت في غاية الصلابة تحت معاول التفكيك والفضح وتعرية المستور، ورفع الأغطية عن الأهوال المكتوم من عذابات الأمم والشعوب، قد كشفت جميعا عن فصول رهيبة من بؤس البشر، وجرائم النخبة، ومسالخ الأيديولوجيات، وعبثية التاريخ.

وإن من شروط الدراسة الحفرية والقراءة الجديدة وإعادة التحديق في أسس العقد الاجتماعي أن تسقط نهائيا قوائم المصطلحات البذيئة: الرجعية والظلامية والتخويف ووحشية التعميم، وأن تسقط أسلحة المعارك التي يستأنفها أصحابها بانتهازية سلطوية غاشمة ليبلغوا ثاراتهم الفكرية والسياسية القديمة، وفي رأيي العالم كله الآن يخوض آخر معارك القرون الوسطى، بكل ترسانات العصور الوسطى والشعر هو المؤهل الأول لاستشراف حداثة أعمق وأرحب، وديوان (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) محاولة وإطلالة أولى على آخر معارك القرون الوسطى التي نعيشها ويعيشها العالم، ونحن الآن ندخل في حصار شِعب بني عامر الجديد، وعلينا أن نمضغ ـ كما حدث ـ نعال الأحذية من جوع، ونشرب بول المتوحشين، ونرفع فوق أيدينا أطفالنا المتساقطين من عطش وندرة دواء، لنخرج من ظلمات العصور الوسطى إلى فجر آخر.

أما مقولة الشاعر النبي أو العراف أو الكاهن، فهي مقولة تحتاج إلى دقة نظر، فقد بدأت هذه المقولة على أيدي الرومانسيين الأوائل في أبوللو، ومدرسة الديوان، منقولة عن ثورة الرومانسيين في أوروبا، ثم اتخذت طابع المقولة الفكرية والنقدية والإبداعية، وبإلحاح على يدي مدرسة "شعر" والشعراء التموزيين، مختلطة بأفكار البعث الفينيقي، والحياة من الرماد بلهب العرفان، شديد الاحتفاء بظواهر الجنون، وتحطيم الوعي وإشعال الغرائز والهلوسات السمعية والبصرية، وتشويش الحواس بالإدمان والبوهيمية والانفجارات الثورية... إلخ، وفكرة قناع النبوة والرائي والعراف قريبة المأخذ في ثقافة لها تاريخ طويل في حلول الروح القدس بالبابوات والقديسين، ومجاذيب الصراعات الدينية والمذهبية، ومجانين الحروب الصليبية... إلخ، ولعل هذا كان الموجه الأكبر في دراسات المستشرقين عن التصوف والمتصوفة في تاريخ الثقافة الإسلامية، وإذًا فإن هذا القناع يتخذ مدلولاته ومعانيه من الثقافة التي تستخدمه، فهو من علامات العلو والمفارقة والتقلي الميتافيزيقي، وتجذير اللغة في الكوني والتجريدي، ولهجات الشطح والتجريب الروحي الشخصاني المتشظي عند شعراء هذه الموجة حسب انتماءاتها الثقافية المعروفة.

وقناع الشاعر النبي الرائي العراف الكاهن يأخذ دلالات نقيضة ومعاني مغايرة عند من يفهمون نبوة الشاعر أو الرائي العراف من منطلقات الشاعر ـ النبي المناضل.. فردًا من شعب، مناضلاً من مناضلين، وسجينًا مقهورًا معذبًا بين محكومين، وجائعًا مكابدًا مهزومًا بين ومع جموع الأهل وحشود الفعلة وطلائع الأمل والعمل، فهو ليس مقولة ميتاواقعية، أو فوقية انفصالية، أو تراتبية كهنوتية، بين مثقفين ورعاع وقادة طلائعيبن وجماهير مجهّلة مجهولة. والكتابة النقدية حول هذه المقولة، أو التيمة الشعرية في حاجة شديدة للمراجعة والحفر المعرفي، والتحقيب التاريخي، بعد طرح المقولات والأفكار المسبقة والمشايعات الفكرية والإيديولوجية المتواطئة والمقارنات التفضيلية الهشة والغبية.

مجلة "سنابل".. دهشة الحنين
ـ هل يوجد وجه للشبه بين تجربة "سنابل" التي كنت تترأس تحريرها وأسهمت في رعاية تيارات واتجاهات أدبية مختلفة، ومن بين مجلات الهامش والماستر التي تصدرها الحركة الثقافية حالياً؟

* حينما أعود إلى تقليب صفحات مجلة سنابل (69 ـ 1972م) أمتلئ دهشة وعجباً وحنيناً لفتوة الروح والأمل والمصاولة، كانت الدولة قد أزاحت جميع المجلات بضربة واحدة، حكمت على مصر بالإظلام الكامل، وكأن ظلام الهزيمة لم يكن كافياً، وفي غفلة ومبادرة عشوائية، صدرت "سنابل" من محافظة كفر الشيخ، وفي غفلة ومبادرة عشوائية "أيضاً" كانت "سنابل" صورة من كرامة المثقفين والمبدعين الهامشيين، وبعيداً عن الانتباه من الرقابة ويقظة المسئولين، جعلنا منها موسماً باذخاً من الحوار الحر، ورحابة التعدد، وصراحة التعبير، فوجدت التيارات الثقافية والإبداعية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار مساحة مفتقدة للتفاعل والجدل، وهذا بالضبط ما تختلف فيه عن مجلات الهامش الثقافي التي يصدرها المثقفون حالياً. فما يصدر الآن ينتمي لجماعات مقفلة، وشلل رفاقيات ذات سمات انشقاقية وثأرية، وتوجهات عصبوية مماثلة لمنهجية السلطة، في نفي وإلغاء المغاير المختلف، وهي في أغلب الأحوال واجهات لفلول قديمة من جماعات وأحزاب تفككت، أو أخويات جديدة متعصبة ترى في غيرها، مثلما ترى السلطة ذاتها في الجميع، خونة أو رجعية أو ازدراء أي ثوابت أو قضايا عامة، وعلى رغم ادعاءات كثيرة بالحداثة والهامشية والمستقبلية والتبشير بالقطرية الضيقة والخروج على جميع موروثات الشعب والأمة، فإنها تسقط في امتحانا للموهبة والطاقة الإبداعية والقدرة على الدفاع عن توجهها العام، وهي على أي حال تتناقض وتختفي واحدة بعد واحدة دون أن تترك تراكما يعتد به.

ـ هل يمكن للمثقف أن يقيم علاقة مثلى مع السلطة دون أن يتنازل عن بعض أرائه؟

* المثقفون أصحاب المهن الفنية التكنوقراطية يستطيعون ذلك، لأنهم بلا آراء أصلاً، فالسلطة قد احتكرت الحياة ذاتها، وكل ما يبدو على السطح من ظواهر التعدد في الصحافة والأحزاب ومنابر الرأي والجدل مقطوع الصلة بواقع الحياة، متين الصلة بتكريس الوجه الإعلامي الذي لا عمل له سوى التأكيد على أنه ليس في الإمكان أبدع مما هو كائن، والقسمة أصبحت واضحة وعادلة: إن لكم أن تقولوا ما تشاءون بشرط أن نفعل نحن ما نشاء، ثروات تتضخم بلا إنتاج يذكر، وأعياد واحتفالات ومؤتمرات بلا ضرورة أو نفع، وفقر شرس ومفترس بلا صوت، وملايين من البشر لا علاقة لهم بالسياسة أو القرار أو التعبير، وإرهاب شائع أشد هولا من الحروب الأهلية يتضرم في كل العلاقات الفردية والجماعية، ونخبة باعت ضمائرها وأفكارها أو نسيتها في فزع الرهبة أو انحطاط الرغبة، فأين المفر؟ وهل لعلاقة مثلى من سبيل؟!

ـ إلى أي مدى يصير الشعر صدى للخطاب السياسي، وما هي الأفاق التي يمكن للسياسي أن يفتحها للشعري؟

* إذا كانت السياسة هي علم حركة القوى في المجتمع، ورؤيا تحريك هذه القوى حسبما يختار المجتمع من طرق العمل، وأفاق ووجهة إعلاء الحياة، وتفجير طاقات التقدم والحرية والازدهار، كما يرى ويستطيع هذا المجتمع، فإن الشعر لا يكون صدى بل يكون فعلا مباشراً ـ بطريقته ـ في عمل الحياة والسياسة، وتكون السياسة تجلياً من تجليات الشعر، والسياسي بهذا التعريف والتحديد شعري في الوقت ذاته، أما إذا كان السؤال يقصد بالخطاب السياسي خطاب السلطة السياسية في بلادنا العربية وفي زماننا العربي الراهن، فإنه خطاب الإعدام للشعر، والآفاق التي يمكن أن يفتحها ـ هذا ـ السياسي للشعري هي آفاق السجون وأبواب المعتقلات فحسب، أما الممكن في المنطقة الرمادية بينهما فهو الرفض، والتمرد، وتعرية زخرف الخراب، وأيضاً.. تعرية الجثة الشعبية التي طالت أزمنة مداراتها وإجلالها إلى حد التقديس. 

الشعر إبداع تراكمي
ـ مقولة أطلقت، وبدا التكريس لها مزعجا، وهي أننا نعيش زمن الرواية، والأبعد من ذلك أنها حصلت على صكوك وشهادات شعرية؟ فهل تراجع الشعر؟

* الأوصاف والمسميات التي يعمم إلصاقها وإطلاقها على الزمن، في القديم والحديث، تميل في الأغلب إلى أن يبتلع الناس ابتلاعاً قسرياً أهداف من يطلقونها وغاياتهم، وهي طريقة في الدعاية والدعوة والإفحام تكشف عن ميول فاشية كامنة، لطمس الفروق وإلغاء التنوع والثراء، والتضييق على تفعيل التجاور والحوار والجدل وحرية التنافذ المشترك وخصوبته.. ألسنا في زمن العولمة وزمن الشركات العابرة لكل التخوم وزمن "الميديا" وزمن الفياجرا وزمن الاتصال والكتابة عبر النوعية... إلخ؟! إن إحصاءات النشر والتداول وأعداد القراء والنقاد والدراسات يستدل منه ـ بلا شك ـ أن فن الرواية قد اكتسح الشعر حتى ذاعت مقولة "الرواية ديوان العرب"، ولكن الدراسات لا تقدم إحصاء بالعناصر والمساحات المشتركة التي توضح انتقال الشعر والشعرية إلى متون الفنون البصرية المختلفة، والشعر ـ في رأيي ـ أعدل الأشياء شيوعا وتوزعا بين أجناس الإبداع وقسمة بين الفنون والآداب، ومن ثم فإنه لا خوف على الشعر ولا تشاؤم من مصيره ومستقبله، أما إذا كان السؤال يشير إلى انتشار قراءة كثيرة ناتجة عن طبيعة كل من الفنين وأحوال قرائهما ومناهج تدريسهما، لقد كان الشعر دائما فن القلة لما تتطلبه قراءته من ثقافة لغوية خاصة، وتركيز الانتباه، وتكثيف وشحذ الذاكرة، وقدرة الخيال على التفكيك، وإعادة صياغة العناصر المكونة للقصيدة، وتلك أمور تحتاج قدرا كبيرا من التربية والتثقيف وإرهاف الذوق والحساسية اللغوية، كما أن الشعر من الإبداعات العربية ذات التاريخ التراكمي المتصل، يسهم أوله في تكوين آخره، وتضيء مراحله المختلفة وحركات التجديد فيه بعضها البعض، وتتحول رموزه ومناهج التخييل فيه على مساحة شاسعة من المنجزات، وكل ذلك يجعله فنا صعب المراس والممارسة وصعب التلقي.

أما فن الرواية فإن له ردائف من فنون السرد وكتابة السير والأخبار والملاحم النثرية وكتب التاريخ والوقائع، ما يشكل ثقافة قصصية وسردية وروائية شائعة وقريبة المأخذ، وتوطئة عامة وشعبية، ولعلك ـ مثلاً ـ تلاحظ الانتقال المتدرج البطيء من التأريخ إلى الإبداع الروائي في إنتاج نجيب محفوظ، ولعل أهم الموجات المعاصرة في الرواية العالمية ذلك الهجوم الصاعق لما يسمى "الواقعية السحرية" القادم من أمريكا اللاتينية، ولعل الانبهار بها يعود إلى الطاقة الشعرية الهائلة التي نقلت الروايات من المنهج الواقعي التاريخي إلى منهج الخلق الشعري، وتحرير الخيال، وبنائية القصيدة، كما أن عزلة الشاعر في زمن الطغيان الصحافي وسطوة الإعلام المرئي وهجوم المنطق الاستهلاكي الجديد، واستمرار الجريمة التربوية والتعليمية في وضع مناهج الدراسة اللغوية والأدبية لتلاميذ المدارس، قد وضع من الكراهية للشعر والأدب واللغة في عقول ونفوس الأجيال الناشئة، ما يحتاج لثورة انقلابية كبرى. ولعلي أقول: إن الزمن هو في الحقيقة زمن المسلسلات التليفزيونية، زمن الفكاهة الفجة والثرثرة الغليظة، وهل سمعت أن روائياً عربياً قد وزعت له وبيعت عشرة آلاف نسخة بين مائتي مليون من العرب المعاصرين؟!

ـ قال البعض أنك لم تستثمر رصيدك الهائل من الخرافة إلا في ديوان واحد، فما تعليقك على هذا؟

* كان ديواني (يتحدث الطمي) رصداً أولياً مخصصا لعدد من الخرافات، أعدت قراءتها وتأويلها أحياناً وقدمت بعضها تسجيلياً أحياناً، ولكنني كنت أقرأ الواقع، وأحداث الحياة، وصور الموت، في ضوء البحث الوجداني التكويني لفهم البشر من حولي، وتحليل اللغة الشعرية والتصويرية المتداولة على ألسنتهم، لقد كانت أمي كائناً يعيش على حافة عالمين عجيبين يختلط فيهما الحياتي الصارم والشعر التصويري الحافل بالمجازات والاستعارات ومنطق الخيال الحر، وكنت أرى وأسمع منها صورة من عالم مخلخل تتداخل فيه الحقائق والأحلام والمخاوف ونزعة التسوية بين الموت والحياة وبين الأحياء والجمادات، وما أسهل ما كانت تنتقل بين مسامراتها البليغة للجمادات والطير والحيوان. فكل شيء مسكون بروحه وشخصيته الحية التي تتبادل التأثير والتأثر والفعل والانفعال. وحين أردت الإشارة إلى بعض ملامح هذه الحيوية الذهنية والروحية في إطار ما تحكيه وتتعامل به من حكايات خرافية تفهم بها، وتعلل، وتستمد الأحكام والقيم الأخلاقية، ومعاني العلاقات الإنسانية، قررت أن تقتصر كتابتي واستلهاماتي وتأويلاتي على خرافات أمي بالتحديد، فلا أعدوها إلى الكتلة الهائلة من خرافات القرية، أو الخرافات المقروءة في الكتابات الفلكلورية، أو قصص الحيوان والطير في التراث.. إلخ، فالديوان "مقطوع" لهذه التيمة، خالص لها بهذه الحميمية الخاصة، أما بقية ما أعرفه من خرافات ومشاهد التراث الشعبي من مواويل وسير وتواريخ فهو يسري في كل شعري، سريان النسغ في النبات، والسر في الضمائر، قد يظهر إن كان ذلك يراد به الإشارة، أو مد الجسر بيني وبين القارئ، وقد يخفى على المتعجل أو سجين العادات الرديئة في القراءة والتلقي.

ـ أخذت المرأة صوراً وأدواراً ومدلولات مختلفة متنوعة وثرية في قصيدتك نود لو نرصد بعضاً من هذه الدلالات والرموز وروافدها الأصلية؟

* لعلي ممن يرفضون تحويل الكائن الحي، والمرأة والرجل في المقدمة، إلى رموز وتجريدات ومعادلات موضوعية، وأعتبر ذلك عدوانية واختراقاً لحرمات وكرامات مقدسة عندي، فالأفراد كيانات حرة تفيض بمعانيها الحية وتجليات وجودها التي لا تختصر ولا تختزل، ولكل فرد عندي مجال تفتحه الخاص ونموه وتحققه، ولا أطيق لنفسي أو لغيري فرض المصائر والقوالب وخانات التصنيف التي تمحو الفروق وأطياف الاختلاف وثراء التنوع، وكل فرد عندي، امرأة كان أو رجلاً، بل حيواناً كان أو طيراً أو نباتاً أو قطعة حجر، هو دهشة مبهجة، وسر مكنون مشع بالحياة كلها، وكم يبهرني معنى أن يكون الظلم والعدوان والقتل بغير حق ضد فرد واحد جريمة في حق البشر جميعاً، وكم تبهرني أحكام الصيد في تراثنا، وآداب التعامل مع الحيوانات، والطير، والنبات، كانت هذه المنطلقات تأسيساً لموقفي من البشر وإحساسي بهم. ولكن النزول إلى معترك الغابة التي تعج بوحوشها وأعرافها وتقاليدها ونظم التربية والتعليم والحروب الأهلية المستترة تحت جلد الأفراد والجماعات، قد أحدثت في حياتي ونظرتي شروخاً دامية، ويا لأهوال اضطرابي وتخبطي في فجائع التدمير والسحق وشرب الدم وطقوس الإعدام.

لقد شقيت شقاء لا يوصف وأنا أدافع وأدفع عن نفسي كوابيس هذه الحروب المستترة حتى أحتفظ بنقاء تصوري وإحساسي بالحياة، وفردية كل فرد دون الوقوع في التنميط والتصنيف والتحنيط، فإذا أردت الرجوع إلى عناصر تكوين موقفي من المرأة، أية امرأة، فإنني أظن أن الأم هي النول الأول الذي ينسج عليه جميع الخيوط التي تضاف فيما بعد إلى نسيج العمر، من صورة الأم الكونية "بنت وهب" إلى صورة أم الحياة والنضال إيزيس ومريم، إلى صورة الزوجة الباهرة المجاهدة في حصار شِعب بني المطلب في مكة، إلى قديسة الثأر "مدام ديفارج" إلى التلميذة الخالدة "مدام كوري" إلى الثورية الممزقة "روزا لوكسمبورج" إلى أجيال من أمهات الكدح والخير في براح الغيطان تتقدمهن أمي رمزية إلى أحياء أنفخ فيهن من مشاعري وخيالي توقد الروح، و أقرأ وأحب الحياة بأنفاسهن، و من هنا كانت المرأة في قصائدي كائناً حياً خلاقاً يأخذ ملامحه من تجربة القصيدة ومن تفرد شخصيتها وتشخيصها في كل قصيدة على حدة،و لم أنظر إليها ـ في الحياة والفن ـ باعتبارها أداة لهو أو متعة، أو ممسحة غرائزية، أو دمية لاستعراض الذكورة والفحولة والغزل الفاحش وتحطيم التابو، وقد هيمن على إحساسي مفهوم الخصوبة ومغالبة الموت وصناعة الحياة في مزيج من الأمومة والحرية ونضال العشق الخلاق. 

المسامرات والأخيلة
ـ كانت هناك دوافع وراء توجهك الكتابة للطفل نزعم أن من بينها وجود زاوية نقص أو اعتراض على المطروح في هذا المجال، فما هي طبيعة الإضافة التي حققتها؟ وكيف ترصد واقع أدب الأطفال في مصر؟

* بلغت ابنتي الصغرى "رحمة" سنتها العاشرة منذ سنوات، واكتشفت أن انشغالي عنها، وانشغال أمها ومن حولها بما نحن فيه، قد حرمها من عالم الحكايات، والقصص الشعبية الحميمة، والثقافة الشفاهية التي تربطها بالحياة والبيئة والمعارف الأولية بالكائنات من نبات وحشرات وطيور وحيوانات. واكتشفت أن التلفاز قد سرقها مني واستلب خيالها، ووجدتها تحفظ جميع الإعلانات عن ظهر قلب، وشاركتها في مشاهدة برامج الأطفال فهالتني تفاهتها، وروعتني قدرتها التدميرية المتوحشة، وتابعت انشغالها بجوائز أكياس "الشيبسي" وأغطية الزجاجات وانتظارها الممض للفوازير، ورأيت أبشع عمليات الاغتصاب الجماعي للبراءة والخيال والذكاء وهي تسحق أجيالاً من زهرة البلاد وبراعم المستقبل. وسألت نفسي: أما من مقاومة لهذا الوحش المفترس، الذي أطلقته على أطفالنا مجموعة من المرتزقة، فارغي العقول والضمير، معدومي الموهبة والخيال؟!

إنني أعرف مشقة الكتابة للطفل وصعوبة المطلقات التربوية والأخلاقية اللازمة، وأعرف فجاجة الوعظ وتفاهة التسلية التي يلجأ إليها مغتالو الطفولة، فهل من مقاومة؟! قلت: فلنحاول، وإنها لمهمة مقدسة تستحق أن أزيح ما على، مكتبي وأن أعيد ترتيب نفسي وانشغالاتي، وتنظيم إيقاعاتي النفسية والروحية، وأن أطلق من خيالي وخبراتي طاقات جديدة عليًّ. وهكذا بدأت الكتابة واستغرقتني بهجتها العجيبة، وتفجر الحوار بيني وبين الولد الصغير القابع في أحد أركان قلبي منذ زمن بعيد.. وانهمرت الحكايات والمسامرات والقصائد، وانفتحت أمامي آفاق المسامرات والأخيلة، واغترفت منها إلى الآن ما يزيد على مائة نص، نشرت منها كتابا، وفي ظني أنني سأنتهي من هذا المشروع في أربعة كتب أو خمسة، جميعها تحت عنوان جامع هو "مسامرة الأولاد كي لا يناموا".

والكتابة للأطفال إلى حدود المراهقة تعاني في مصر عيوبا وعاهات يتناقلها الكتاب، منها التعامل الانتهازي التجاري بالخضوع لمفاهيم التسلية، وملء وقت الفراغ بالتشويق المفتعل وتبديد الخيال. ومنها عدم الثقة بالطفل ومعاملته معاملة الحاضنة الجاهلة بتقديم ما يريح ويشبع الفضول بالثرثرة المضحكة. ومنها جهامة الوعظ والإرشاد وممارسة الفكرة الخاطئة التي تتصور الأطفال صفحة بيضاء وعجينة خاما لا بد من صياغتها وصبها في قوالب جامدة من القواعد النمطية وعدم الالتفات إلى حيوية "خيال الطفل" وإثارة الدهشة وتحريك القدرة على طرح الأسئلة والتأمل. ومنها مسايرة الطفل والخوف من إرباكه وإجهاده عقليا ونفسيا خوفا من انصرافه، أو عدم فهمه أو اضطراره للسؤال والبحث عن معنى كلمة أو مصدر معلومة، مما يرسخ طبائع السلبية، والاستسلام للضجر ونفاق الذات... الخ، وقد تركت العنان لخيالي ولغتي وأسئلتي وإرباكاتي وجعلت من مهامي أن تكون القراءة منازلة جادة على كل مستوى، وتوخيت أن تكون المنازلة أيضا، بيني وبين من يكتبون للأطفال، وبيني وبين الآباء والأمهات والمعلمين.. فهم جميعا مسئولون عما وصلت إليه عمليات السطو والاغتصاب التي تمارسها أجهزة الإعلام ومطبوعات الأطفال.

ـ قلت إن قراءة الشعراء في المحافل ضد نفسه وإن قراءة شاعر تشوش على قراءة آخر، فهل يعني ذلك أنك لست ضد قراءته إذا اقتصرت القراءة على شاعر واحد؟

* قراءة الشعر أو إلقاؤه في المحافل والمناسبات الثقافية أو الاجتماعية العامة طقس احتفالي بهيج، وممارسة عامة ممتعة، لها ميزاتها الكثيرة ولها عيوبها كذلك، والمسألة التي كنت أومئ إليها هي ما استقر من عادات القراءات الشعرية في المهرجانات ومعارض الكتاب. وقد أخذت شكل المشهد الاستعراضي والمزاحمة على قصعة وسائل الإعلام من أجل تحقيق هزيل أو التماع شهرة زائفة من جانب الشعراء. وأخذت شكل الاحتشاد الفارغ من المعنى والهدف، إلا إثبات الفاعلية والفرح التافه بـ "اللمة" وسطوة النفوذ وإشعار السلطة السياسية بقدرة المديرين على جلب الأنصار إلى سرادقات تشبه سرادقات الانتخابات والاستفتاءات، وإظهار قدرتهم الفذة على أن يكونوا خير الخدم وأنفع الأتباع. لقد رضيت مرة واحدة أن ألقي شعرًا في معرض الكتاب بعد أن أظهورا لي أنهم سيرضخون لشروطي، بأن تقتصر الأمسية على شعراء ثلاثة يكون معي فيها: سعدي يوسف وعبد الرحمن الأبنودي. ولكنني فوجئت بعشرين شاعرًا رتبت أسماؤهم أبجديًّا، فكانت أمسية من التشويش والشوشرة والفوضى لا تطاق، ناهيك عن تفاهة التقديم وتنطعه وبذاءاته التي لا تحتمل.. إن تقديم الشعر وقراءاته أمام جمهوره المحب عمل فني يجب أن يماثل تقديم حفلات الكونسير أو الباليه، من انضباط واحتشاد دقيق مرهف وتكامل مشبع، ولا أهمية لعدد الحاضرين، وأقول دائمًا: إنني مستعد لقراءة الشعر أمام مستمع واحد، يحب الشعر ويحترمه، وقد أسعدتني قراءة شعرية في "الرباط" أخذت شكلها الفني المتكامل بتقديم مسرحي لبعض المقاطع أداها ممثلون مسرحيون، وعازفو موسيقى وفنيو إضاءة. وتواصل جمهور مثقف محب للشعر، وكم تمنيت لو رأى منظمو القراءات الشعرية في كل البلاد هذه التجربة، لينكشف أمامهم بؤس الخرائب في احتفالياتهم الفجة المعتمة.  

قصة طريفة وحظّ تعس
ـ اعتمدت تجربتك "ملامح من الوجه الأمباذوقليسي" على أطروحات فلسفية، فهل كان مردها حضور وتأثير هذا الفيلسوف والشاعر اليوناني كشخصية محورية لهذا الديوان على الرؤى الشعرية المطروحة فيه، أم أنه كان مجرد إطار لطرح رؤاك أنت؟

* لهذا الديوان الصغير قصة طريفة وحظ تعس، كنت غارقًا في دراسة الفلسفة اليونانية مأخوذًا بالشعراء الفلاسفة الذين اشتهروا باسم «الطبيعيون الأوائل» وما أثاروه من إشكالات الوجود الواحد والموجودات المتكثرة، وثبات الوجود، وتفسير الحركة، وفهم التغير بين طرفي الوجود والعدم، أو الكون والفساد. ولفت انتباهي التفسير الدرامي عند «أمبيذوقليس» إذ جعل التغير والوجود والعدم مشخصات في العناصر الأربعة التي تخضع لعنصرين، أو قوتين: هما الحب والكراهية. كما أن حياته ذاتها تحف بها الأساطير التي كان له دور في نشرها بحكاية إلقاء نفسه في فوهة بركان "أتنا" ليعود إلى أصله الأول، معلنًا احتقاره للبشر والحياة من حوله، تاركًا نعليه على حافة البركان شهادة ودليلاً تبدأ منهما أسطورته.

كنا في أواسط الستينيات وقد بلغ بي اليأس والرعب والحصار الخانق والإحساس المتقد بالهزيمة أمام عصف الديماغوغية والكذب وتسلط المنافقين التافهين على مقادير الحياة في مصر كلها.. كان الغضب يعصف بي ويبدد فيّ العجز الذليل، وتشعل النار فيَّ قراءة ودراسة «هيدجر» عن «هيلدرلين» والشعر واللغة ونداء الوجود الأصيل في قطب اللغة، وقراءاة الفصلين المترجمين في مختارات «بنجوين» من مسرحة "موت أمبيدوقليس" من شعر «هيلدرلين». وأخذت بكتابة عمل درامي عن «أمبيذوقليس» من وجهة نظري وإسقاطاتي الخاصة على أحوال السقوط المصري، بين مخالب الهزيمة التي تجسدت أمامي في كل شيء، والهزيمة المصرية عندي تعني الهزيمة العربية والإسلامية الشاملة. وكتبت بعض المقاطع ورسمت دور الكورس وعددًا من الأغنيات والمشاهد، وتركت الأفكار تختمر بالبطء المعهود في حياتي كلها، وكنت قد تعاقدت مع الدكتور سهيل إدريس لنشر ديواني «الجوع والقمر»، أرسل لي خمسين جنيها ونشر إعلانين عن قرب صدور الديوان في مجلة "الآداب"، ثم اكتملت الهزيمة الشاملة بالحدث المروع في الخامس من يونيو (1967م). وهرع الشعراء والكتاب إلى اللحاق بسوق الندب، ونهش الذات، والادعاءات الكاذبة، وتجارة الشعر والدموع. وكتب إليّ سهيل إدريس يؤجل نشر «الجوع والقمر» ويطلب ما يواكب الأحداث، وكأنه يقتضيني الخمسين جنيهاً. وبارتباك الفلاحين الذين تؤرقهم ديونهم، أرسلت ما أنجز من مشروع «أمباذوقليس»، ونشر ديوانًا مبتسرًا وجنينًا لم يكتمل اختماره ومن ثم ولادته. والديوان، بالرغم من ذلك، استبطان مصري لتجربة انتحار الشاعر الفيلسوف، وقراءة شخصية لملامح واقع كابوسي مهين كان هو الانتحار بعينه.

ـ عالم القرية وأساطيرها وخرافاتها وقيمتها بدا تأثيره حاضرًا في كل نتاجك الشعري؟ نود أن نرصد طبيعة هذه التأثيرات على المستوى الرؤيوي والفني لقصيدتك؟

* لعلي مارست الحياة والعمل بين أهلي وفي قريتي بقدر كبير من الاندماج والتلقائية وبهجة المشاركة الجماعية، ما مكنني من النمو الطبيعي كما تنمو الكائنات في بيئاتها، وقد مكنني ذلك من القدرة الطيعة على إخراج نفسي بسهولة من كل ما هو مصطنع أو مفروض أو ذي سطوة وحضور ثقيل، في الفكر والنظر، أو في العرف وأنساق الممارسة، أو في الذوق وطرائق التعبير، إذا كان كل ذلك مقطوع الصلة بتلقائيتي أو بمرجعيتي التربوية وما أطمئن إليه فيهما.. فإنني أعود دائمًا لمساءلة هذه المرجعية وعرض ما أقرأ أو أفهم أو أعتقد وأظن على حركية هذه المرجعية الحية التي شكلتها مواريثي الأولى من الخرافات والأساطير والفنون والآداب، وتأسيس وجهة النظر على العلاقات الحية بين ما هو ثقافي فني وما هو ممارسة حية وفعل وانفعال في بوتقة الاشتباك الشخصي مع الحياة والأحياء، وأستطيع أن أشير إلى رؤوس أقلام:

1 ـ مفهوم العقل وآليات ومناهج التحليل لما هو إنساني كانت تقف عاجزة أو قاصرة أمام شمولية وغموض وفاعلية الثقافية الشعبية الحية، ما جعلني لا أستطيع الانخراط فلسفيًّا في نظريات الحتمية والعلموية المغرورة الباطشة التي أسفرت دائمًا عن معرفة ببغاوية هامشية هي عصب الدكتاتورية والأوهام المحركة لجماعات الصفوة وأحزابها، وهي الحارسة لخنادق الطغيان وممارسات الاحتكار المعرفي والكذب وآليات التبرير والنفاق، والانقلابات الممسوخة المتحولة أمام بوادر التسلط أو المنفعة التسلط أو المنفعة أو الخوف، وفي ملحمة الوقوف أمام الرعب من انتهازية الاتهام بالرجعية أو اليمينية والوقوف أما إغراءات الزهو ونشوة الادعاء الديماغوغي المنتفخ بالتسلط والسيادة، كانت حركتي الدائمة في المساحة الرمادية التي يصنعها الحوار بين ما أقرأ وأتعلم والغوص والفهم والمشاركة في هذه الثقافة الشعبية المكثفة الغنية هائلة العمق والاتساع.

2 ـ اعتمدت على التجربة الشخصية والملاحظة العينية المباشرة في مقارباتي الثقافية بعد أن درست ما استطعت من الأثنولوجيا والأنثروبولوجيا وعلوم الاجتماع عند «مالينوسكي» و«موس» و«مورجان» و«رتشارد» و«ليفي بريل» و«دوركايم» لأنني لم أصدق أو أحمل على محمل الجد العناصر الثقافية التي جمعها المستكشفون والرحالة وطلائع الغزو من التجارة والقناصل والسفراء والجواسيس والمبشرين، وهي العناصر التي جمعت تحت إلحاح الأفكار المسبقة ونزعات الاستعلاء العنصري وحس الرسالة العالمية السامية للرجل الأبيض... إلخ. وكنت أشعر شعورًا قويًّا بأن العوامل الذاتية قد أفسدت كل شيء، وكانت مرجعيتي تشعرني بالفارق النوعي الكبير بين الثقافة الحية في غمار حياة شعبها والثقافة المجففة المعلبة لبشر محنطين مكتوبين، ودليلي الأقوى هو مصادري في حياة الأحياء من الأهل والانخراط الشخصي المباشر في الطقوس والمراسيم والفنون الآداب.

3 ـ إسقاط الوجود الإنساني على الجوامد والخلط بين الإرادات والمشاعر والنوايا في نسيج متقد من معاني وقيم الخير والشر والحلال والحرام والخصب الولود والعقم المقفر وبهجة الوصول وحرقة الحرمان وصناعة واستئناس الموت، كلها عناصر تكوينية للفهم بالإبداع.

4 ـ حركية الخيال باعتبارها العامل الأهم في تكوين الواقع الفني وتكوين الأشكال وأساليب التعبير والأجرومية الخاصة بالتواصلات الإنسانية.

والخيال الشعري يقوم على حركتي هدم وبناء في وقت واحد، إعدام معنى المتعينات في الطبيعة وخلخلة وتشويش التأسيس المعرفي للعالم والأفكار، أي البدء مما يقارب نقطة الصفر في المعني والنظام وإزاحة التواطؤ والتوافق الضمني بين الشاعر والمعتاد والعرفي حتى يتمكن الخيال من رؤية الطبيعة والأفكار في جو من البراءة والوجود الخالص الفارغ من تعيناته وظهوراته، ثم إعادة الصياغة وتكوين العلاقات المفاجئة المدهشة في كيان جديد هو القصيدة، وليس معنى ذلك أن الخيال بريء من القصدية أو خالٍ تمامًا من مكنونات عناصره الأولى، فالمدركات الحسية وماضي الخبرة وحاضر الدوافع الحياتية الروحية والعقلية كلها من أدوات الخيال وعناصره التكوينية الموجِّهة والموجَّهة لسياقات تكوين الصور وقدح المعاني وإثارة لذائذ مضغ الكلام وبهجة التوازنات والإيقاعات ومتعة النظر إلى مشاهد مما لم يكن، وفرح الامتلاء الجديد بما هو كائن من الإيحاءات والمعاني عبر الصياغة.

5 ـ ترسيخ مفاهيم الجدل بين العقم والخصوبة وارتباطاتها بظواهر الطبيعة، وهي مفاهيم تختزن كمًا هائلاً من التراثات المنسية والمتحولة، علاقات الدم، الاستدعاءات الكونية للجن والشياطين والملائكة وأرواح الأسلاف، مقاومة صلابة الواقع ووحشية الموت وقهر الأحداث بالسيولة الفذة من الخرافات والخيال الحر.

6 ـ إن الاندماج الحي لهذه العناصر في قلب شاعر وعقله وحياته لا يكف عن القراءة ولا تخبو فيه روح التلميذ المنتمي للنضال بما يؤمن به من قيم الحق والعدل والحرية وقيم الخير والجمال وكرامة الإنسان، قد أسسته في البدء هذه الثقافة الشعبية.  

أوائل زيارات الدهشة
ـ "أوائل زيارات الدهشة" بدت كأنها تفسير نثري لسيرة شعرية، وكأن كل قصة متوافقة مع معطيات وملامح كل مرحلة شعرية في سيرتك وتفسير لروافدها كما يمكننا اعتبارها شهادة مزدوجة على ملامح وطن في فترة تاريخية، وترجمة لآلية التراكم المعرفي والشعري الخاص بك، فهل هذا التوصيف صحيح؟

* لم تكن "أوائل زيارات الدهشة" سيرة ذاتية، بل هي وفي عنوانها الفرعي المكمل: "هوامش التكوين" إنها مرحلة السفر الأول حتى سن العشرين، سفر بين مواقع الطفولة، وأوائل الشباب، محطاته هي لحظات الدهشة التي أقلقتني وحولت انتباهي وحددت بعض المعالم في تكوين علاقتي بالعالم منذ انفصلت عن أمي إلى عالم الكتّاب ودائرة الحياة القريبة الحميمة، وهي أول الدخول إلى المعرفة المباشرة بالبشر واللغة والثقافة والتاريخ، وأول المكابدات التي كابدها أمثالي من أبناء القرى الذين تعلموا واكتشفوا ذواتهم وعالمهم، وليس من شك في أن عناصر كثيرة من هذا العالم قد تركت آثارها وبصماتها على عناصر عدد من القصائد فيما بعد، ولكنها ليست تفسيرًا نثريًّا لسيرة شعرية، أو تحديدًا لملامح مرحلة ما من مراحل حركتي ومحاولاتي طوال العمر في تعددها وتدرجها، وأوافق على أنها تقدم بعض الملامح لمفهوم الوطن الخاص بمواطن في زمن تكوينه الأول، ومازال في الجعبة من زيارات الدهشة كثير أرجو أن تأتي لحظة القدرة على كتابته، وأهم ما في هذا الكتاب أنني استمتعت بكتابته جدًا.

ـ أود أن أقف على رأيك فيما يقول به شعراء قصيدة النثر بأنه ليس بالموسيقى وحدها يحيا الشعر، وأن قصيدتهم حققت فهمًا مغايرًا ونوعية مغايرة من الموسيقى الداخلية؟

* أجل، ليس بالموسيقى وحدها يحيا الشعر، وليس بغياب الموسيقى يحيا النثر، وحين نتحدث عن الفن، أي عن الجماليات التي تفرق بين شعر وشعر وبين نثر ونثر، أسأل بدوري مستفهمًا: هل يكون الكون كوننا، وعلى ما هو عليه، بغير الموسيقى؟! وهل بغياب الموسيقى يكون ما يكتبه سمير رجب وإبراهيم سعدة وأمثالهما نثرًا مماثلاً لنثر الكبار أمثال أبي حيان والتوحيدي والجاحظ والنفري ومحمود شاكر والرافعي؟! في نثر هؤلاء الكبار لا يخفى الحس الموسيقي المبثوث في أنماط التقسيم، والتقابلات، والتوازنات، وقدح المعاني والصور، بالاتكاء على عناصر التصادي بين الحروف، وقرابات المفردات بالتشقيق والاشتقاق، وبناء الجملة والعبارة، وبفيض من زحزحة التوقع ومشاغبة التقديم والتأخير والتعريف والتنكير والاستخدام المرهف لحروف الجر وأدوات العطف والفصل والوصل والسؤال والشرط... إلخ. وهي جوهر الأسلوبيات التي ترسخت بها الإيقاعات الداخلية العميقة في النماذج العليا للنثر العظيم، فكيف لهم بالظن أنهم ناثرون؟ وليس النثر عندي أقل مكانة وإبداعية من الشعر، بشرط أن يسمو في مراقي الإبداع إلى حدود النشوة الروحية والامتلاء بالحياة.

إن الإيقاعات الداخلية في النثر العظيم تنتمي للغة، وحركة الأفكار، وزحزحة الخطاب إلى مناطق من حرية الخيال والتصوير، ولكنها لا تنتمي بمعناها الرياضي الصارم، والخلط بين الإيقاع النثري في النماذج العظمى منه وبين الموسيقى يماثل الخلط بين شاعرية العبارة أو النص وبين نسق القصيدة، وقد لجأ بعض كتاب النثر إلى آليات منقولة من قصيدة التفعيلة، مفهومة ومعروفة في سياقها التفعيلي، ولكنها ممسوخة ولا معنى أو ضرورة في سياقها النثري، مثل تقطيع الجملة الواحدة على عدد من السطور، والوقفات بغير ضرورة من المعنى أو الشكل، والتماعات الخيال مجانية، وتعتمد على التقابلات أو الانعطافات التعبيرية المفاجئة، بعيدا عن سياق فني، أو نسيج كلي يضمها في نسق... إن الأفق الشعري للنثر ممكن ومتحقق عند عدد من المبدعين الجادين، ولا يستوي نثر هؤلاء الغوغائيين أرباع المثقفين ونثر التجارب الروحية والفنية الكبيرة عند القلة من المبدعين.

الشظايا والشذرات
ـ حدثنا عن ظاهرة "الشظايا" باعتبارها منهجا في الكتابة ورؤية العالم، ولماذا ظهرت في بعض الدواوين دون غيرها؟

* حين تنظر إلى العالم مفككا ومحللا إلى عناصر من فوضى الرؤية والانفعال، وغلبة الحيرة والأسئلة، وسقوط الأطر العامة للمعنى وسياقات الفهم، فإن شرارات متوهجة تندلع بلا رابط يربطها، أو مسار كلي يشكلها، والشظايا الشعرية هي عنف اهتزازي واضطرابي أمام هذه الحال التي أخذت بمجامع نفسي أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، ولعل من المواجهات الأولى لهذا الشكل من الرصد ولهذه التسمية ما غرقت فيها وقتها من دراسة الفلاسفة الطبيعيين الأوائل قبل سقراط، فقد اندثرت مؤلفاتهم ولم يبق منها إلا ما هو مستشهد به في مؤلفات أفلاطون وأرسطو وديوجين لايرتوس أومن خلال الجدل والنقد في الكتابات الباقية من المدارس الفلسفية المختلفة، وسميت هذه الأقوال التي جمعها ورتبها الدارسون من المدارس وبالأخص مؤرخو الفلسفة من الألمان بالشظايا أو الشذرات (fragments) وكنت أحاول ـ كنوع من الرياضة الذهنية ـ أن أعيد ترتيبها وقراءتها لأعرف هل تتغير المعاني والاستنتاجات النظرية أم لا، فإذا عاودت النظر إلى أحوال الدنيا من حولي رأيت عباءة هائلة من الرقع الملونة المتنافرة التي تتجاور فيها النقائض والثقوب والمعقولات واللامعقولات، في الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي، فهالني البؤس ووجدتني لافظا وملفوظا، مضطربا في غربة موحشة، ومن خلال هذه التجربة الحياتية والثقافية كان اهتمامي بالتقاط الشظايا وتأملها في انفراطها وفوضاها، ولم تسعفني راحة الركون للنسق العام في القصيدة السائدة، فقد كنت خارجا عليها، كارها لما فيها من تواطؤ عام، ومسلمات مطروقة، وابتعاد عن غليان الواقع بعناصر الهزيمة والهدم، وهذه الطريقة في كتابة الشظايا موجودة في أكثر من ديوان. وأن لم "أطلق عليها الاسم ذاته" مثل «أغنيات متجول» أو «كتاب السجين والمواريث» أو «افتتاحيات» أو «مدخل في بكاء السلالات» أو «سهرة الأشباح» أو «كتاب المنفي والمدينة»... إلخ.

ـ علاقتك بالشعراء السبعينيين على مستوى الرؤية والبناء اللغوي والفني ورغم ذلك، هناك حالة من التمرد والابتكار لدورك الريادي؟

* ملاحظاتك صحيحة، ولكنني أعدها من طبائع الأمور، ومعتاد العلاقات بين أجيال الورثة، إلا من كان ذا عقل صارم الأمانة، وقلب مفطور على أريحية الشكر والعرفان.. وهذا يذكرني بالدراما المتوحشة في العلاقة بين "نيتشه" و "فاجنر". الحقيقة أنني لا أرى نفسي صاحب حق على أحد أو عند أحد، وكثيرا ما تصورت نفسي زميلا مشاركا في جوقة كبرى من العازفين، لكل عازف دور ونوتة مستقلة، ولكننا جميعا نستمد قيمتنا وقيمة عملنا من وحدة المعزوفة الشاملة، وطالما اعتبرت القصيدة الحديثة جهدا جماعيا للكشف عن روح الأمة في التاريخ الحديث، ولعل الفوضى وممارسات التهارش الغوغائي ومبادلات القتل الرمزي، لعل كل ذلك صورة من تجليات "العسكريتاريا" سلطوياتها المتغطرسة في ادعاء الامتلاك الحصري المتفرد للحق والحقيقة وبدء التاريخ بها وإرجاع الحياة كلها حركتها من نقطة الصفر والخلاء المطلق، إنني أكون ممتنا وشاكرا لمن أسميتهم ب"السبعينيين" أن يقف حكم الإعدام عند حدود القتل الرمزي، وأن يتركوا لي حق التنفس ورؤية الشمس و "البرطعة" بين الحقول، وسوف "أبصم" بيدي وقدمي على اعترافي بأنني لم يسبق لي اقتراف جريمة الشعر والكتابة.. هذا فيما يتعلق بمهاويس قتل الأب، وتحطيم التابوهات، والبدء من صفر الشعر، أما أصدقائي منهم وزملاء هواجسي وأحلامي ومحاولاتي.. فإنني أدعوهم إلى مواصلة العزف المشترك.