الحضور الثقافى عند عفيفي مطر

قراءة فى ديوان (معلقة دخان القصيدة)

عادل سميح

يعد المنجز الشعري للشاعر المصري الكبير محمد عفيفى مطر إضافة عظيمة إلى فن العربية الأول، وهو إسهام يشكل تجربةً جماليةً وثقافيةً ضخمة، حيث بلغ عدد دوايينه أربعة عشر ديوانا منذ صدور ديوانه الأول في مطلع الستينات، وحتى صدور أحدث دواوينه "معلقة دخان القصيدة" الذى يحمل عنوانه صدمة ثقافية ربما كانت مفاجئة فى سياق الشعرية المعاصرة. ولعل مفردة "معلقة" لا تعنى بالضرورة ـ رغم ما تستدعيه ـ أننا بإزاء قصيدة جاهلية، ولا تعنى أيضاً أن الشاعر بصدد إنتاج معلقة حديثة، تتمثل عمود الشعر المعروف، بل هى إحالة معرفية إلى ما للمعلقة من أهمية خاصة فى سياق الشعر العربي، ابتداء من احتفال القبيلة بميلاد شاعر لها، ينافح عنها ويمجد مآثرها، وليس انتهاء باحتفاء الجماعة العربية بقصائد خاصة (معلقات) تتجلى فيها وجهة نظرهم للشعر ولغته، من خلال تعليقها مكتوبة على جدران الكعبة، حيث تكتسب نتيجة ذلك قداسة من نوع ما. إن عفيفى مطر يتعمد ـ باختياره ذلك العنوان ـ إحالتنا إلى عصر موغل فى القدم بالنسبة إلى الشعرية العربية (عصر الاحتفاء بالقصيدة)، حيث القصيدة تحمل وجهة نظر الجماعة وتتمثلها، لذا فإن هذا الاختيار المتعمد، ليس من قبيل الردة الشعرية بقدر ما هو فعل مضاد لما يجرى من "عولمة" أو "أممية" تحاول إذابة الفروق بين ثقافات الشعوب المختلفة، وتسعى إلى خلق مزيج معرفى تتماهى فيه ثقافة تلك الشعوب فى ثقافة القطب الأوحد قائد العالم، مما سيُنتِج بالضرورة في أي منجز ثقافي مسخا منبتَّ الصلة عن جذوره الضاربة فى أعماق أرضه الحضارية، تمهيدا لاستئصال تلك الثقافات (أو تلك الشعوب) بدافع الانتقام ـ غير المنطقيّ ـ من عراقتها الحضارية أو الثقافية، يقول مطر:

.... لكن الطغام
هيجوا آلهة القتل البدائيين
واستغشوا تهاويل الظلام
جاهليات تبغّمن الدم الموتور
أوشاب لغات من ذحول
وخرافات انتقام
زحموا الليل بظلمائهمو وانحدروا
فى صرخة تستأصل الأغيار 
                    (معلقة دخان القصيدة، ص51،52)
صدر الديوان عن الهيئة العامة للكتاب، فى قصيدتين طويلتين تحمل الأولى عنوان "معلقة ماتادور الأبد" كتبها مطر فى ذكرى مئوية الشاعر الإسبانى الكبير "لوركا"، مستفيدا من قصيدته فى رثاء صديقه "ميخياس" مصارع الثيران، الذى لقى مصرعه فى حلبة المصارعة فى تمام الخامسة، ويكرر عفيفى مطر الإشارة إلى دقات الساعة الخامسة باعتبارها وقوف ساعة الكون عند الخامسة، ضربات الموعد المقطوع لتكرار سقوط المصارع الذى يلاحقه مصرعه منذ أول الوجود الإنسانى.. وإلى الأبد، يقول:

إنه الثور الإلهى الذى سدد عينيه إلى
كلِّ وميض من دمٍ أو شفقٍ أو وردةٍ
كلُّ الحضارات غوايات حرير أرجوان
والتواريخ نجيع نابض فى طرف قرينه..
وقد دقت تمام الخامسة
إنها من أزل البدء وحتى أبد القتل تدق الخامسة
                    (معلقة دخان القصيدة ص 12، 13)

يحمل الإهداء أو العنوان الجانبيّ للقصيدة مفارقةً في حد ذاته (فى مئوية لوركا.. وحوليات الإبادة الجماعية) تعضد تلك المفارقة الإشارة المتكررة لدقات الساعة الخامسة، فلوركا يرثي صديقه ويخلده، رغم موته الاختيارى إلى حد ما، فى حين يقف العالم متفرجا سلبيا أمام مجزرة جماعية تجرى فى العراق، وجرت قبل ذلك فى البوسنة، ومن يدرى أين ستقع أحداثها التالية، وتتأتى المفارقة من رثاء الفرد الذي اختار موته، في مقابل الصمت المريب إزاء إبادة شعوب بأكملها، يقول عفيفى مطر:

كم أبقت لنا الزلزلة الكبرى من الأحياء
أو أبقت لنا من جمرة الحلم
ومن برد اليقين؟!
ما الذى يحمله الشاعر من أزمنة القتل الجماعى
ما من مطر أو نهر يغسل ملح
الموت عن عينيه أو قيثارَهُ؟! 
                    (معلقة دخان القصيدة ـ ص 34)

أما القصيدة الثانية "معلقة دخان القصيدة" التى يحمل الديوان عنوانها فتأتى محتشدة بحضارة الشرق ومحملة بالثقافة الإسلامية ورموزها، فى مواجهة الثقافة الغربية التى تنكرت للمنجز الحضاري العربي والإسلامي، مشيرة إلى نماذج من المسيئين ـ عمدا ـ إلى ذلك المنجز والمتنكرين له، فنجد مطر ينتقد شعراء "التروبادور" (الجوالون) الذين خرجوا من عباءة الشعر العربي فى الأندلس مستفيدين منه فى تقاليدهم الفنية وموضوعاتهم، ثم انقلبوا إلى بوق دعاية وتحريض ضد العرب. كما نجده ينتقد " دانتى ألليجيرى "الذى وضع نبي الإسلام فى الدَرْك الثامن من النار فى ملحمته "الجحيم"، رغم ما أثبتته الدراسات الحديثة من تأثر دانتى بالعديد من المفكرين المسلمين كابن عربى، وابن رشد، وغيرهما، وربما تأثره بقصة المعراج حيث اكتشف مؤخرا ـ فى طليطلة ـ ثلاثة نصوص بالقشتالية والفرنسية القديمة واللاتينية لتلك القصة، ويرجح الدارسون أن دانتى قد اطلع عليها وأفاد منها، يقول مطر:

فكيف احترقت نفسك يا شاعر حتى
أصبحت حفرة نار فى الجحيم
وأنا علمت أجدادك روح الرب فى "الكلمة"
......
وأنا أسرجت من أخيلة الرؤيا براقا،
ثم فتحت من الدهشة والنشوة
                    معراج ذهول، 
                    (معلقة دخان القصيدة ـ ص 54)

والقصيدة تعد جدلية شعرية بين الحضارة العربية والإسلامية والثقافة الغربية، وتعلى بشكل جليّ من القيم الروحية الشرقية، وتوضح المدى الذى وصلت الثقافة الغربية من إهالة للتراب على تلك الحضارة، والتنكر لدورها التنويرى فى عصور أوروبا المظلمة.

*     *     *

وقد أصبح من معاد القول إن عفيفى مطر شاعر يتشح بالغموض وصعوبة الفهم، إذ لا يمنح نصه نفسه إلا لمن يجتهد اجتهادا فى فض مغاليقه وفك رموزه، متسلحا بمعرفة كبيرة وثقافة واسعة. ويدفعنى هذا إلى القول بأن عفيفى مطر بحسب ما يصنفه الكثيرون شاعر الخاصة، والشعر بالأساس وعلى امتداد عصوره فن للصفوة أو فن الصفوة. فلا عجب إذن أن يكون كذلك الآن، ولا عجب أن يكون مطر نموذجاً لذلك أيضاً، إذ يستهدف فى قصيدته تقديم نص شديد الخصوصية فى دواله ومدلولاته وإيقاعه، نص يعكس حالة من المعاناة والجهد يجب أن يصيب القارئ شيءٌ منه كى يستطيع التواصل معه.

وغموض مطر الشعرى غير ناتج فحسب عن لغته الصعبة، التي يمكن وصفها بالجزالة، وإلا لتلاشى ذلك الغموض بمجرد الرجوع إلى المعاجم اللغوية، ولتحولت القصيدة إلى مجموعة من مفردات صعبة نتجاوزها حال فهمها، وليس ناتجا كذلك (الغموض) عن لجوء مطر إلى استخدام الجملة الشعرية الطويلة، ذات النسق الإيقاعى المتتابع، أو صور مركبة معقدة تؤدى ـ أحيانا كثيرة ـ إلى إرباك القارئ وتوجيهه توجها مغايرا لوجهة النص. إن الغموض الشعرى عند مطر يتكون وينتج عن كل ذلك مجتمعا، حيث يقدم فى قصيدته نصا محتشدا بلغة ثرية فوارة، وصور مدهشة عجيبة، وعوالم متباينة متباعدة، وكل ذلك يكوِّن عالما نصيا مزدحما يدفع بالقارئ إلى منطقة الحيرة التى تفضى به ـ فى ظنى ـ إلى منطقة القراءة الفاعلة، ومن ثمَّ توصله إلى بوابة إعادة إنتاج النص وإدراك دلالته.

وربما الإشكالية الأولى فى فهم مطر شعريا تكمن فى تعدد العوالم والسياقات والإحاطات فى فضاء النص، حيث لا يمكن قراءته جزئيا بقدر ضرورة هذه القراءة، إذ لابد من تفكيكه ثم إعادة تركيبه وصولا إلى الإلمام به كليا، وتشكل اللغة عند عفيفى مطر عالما من عوالم النص، ليس على مستوى كونها حاملة للدلالة، بل لكونها دلالة فى ذاتها، بانحرافها السياقى والنصي عن دلالتها المعجمية، صانعة دلالة خاصة بها بإحالاتها التاريخية والثقافية، التي تصنع بدورها سياقا خاصا ممتدا ما امتد النص، مما يشكل دلالة منفردة عن سياقه الكلى مضفَّرةً فيه وموازية له فى الوقت نفسه، يقول مطر:

ليس هذا الذهب المصهور فيضان من

مسامير الكتابات على المرمر والطين (معلقة دخان القصيدة ص ـ 29).

ويقول:

وشال الموت نضاح على أكتافه..
من قصب الأهوار حتى نينوى المرمر (معلقة دخان القصيدة ص ـ 33).

ويقول:

ودس النقشبنديون جمر الذكر
والترتيل فى القلب
وسال الدمع من حبر الكتاب (معلقة دخان القصيدة ص ـ 56).

ويقول:

أقاموا حلقة الترتيل والتخمير والذكر،
وداروا دورة الأفلاك فى
رقص الرعاة القادريين (معلقة دخان القصيدة ص ـ 60).

إن هذه النماذج ـ وغيرها كثير ـ لا يمكن عزلها عن سياقها النصى وقراءتها منفردة، لكن الإشارة إلى: مسامير الكتابات ـ الأهوار ـ نينوى ـ النقشبنديون ـ القادريين، يحيل بالضرورة إلى تاريخ عتيد وحضارة عريقة تتمتع بها منطقة الشرق، بداية من الكتابة المسمارية، وليس انتهاء بالتراث الصوفى، حضارة مادية وثراء روحى كبير، والإشارة إلى الصوفية فى سياق النص لا تعنى الانعزال عن الحياة، بل تؤكد على تراث كبير من مقاومة الظلم والاحتلال، يحمل رايتها جيل بعد جيل.

ولعل قارئ نص عفيفي مطر الشعري يلحظُ دائما حالةً من خصوصية الإيقاع في نصه الشعري، تلك الخصوصية تجلت تماماً في الديوان الذي بين أيدينا، فالنص يحفِلُ بزخمٍ إيقاعيٍ على قدرٍ عالٍ من الخصوصية ـ على اعتبار أن الديوان نص متكامل ـ ذلك الإيقاع التفعيلى الذى يمسك بتلابيب المرء ساحبا إياه خلفه، والذي يشكل عند مطر عصب القصيدة، ويمثل لديه ضابط حركة العالم فى الوجود، وكان الشعر ما هو إلا صورة من صور تجلى الإيقاع في ذلك الوجود، فنراه يقول:

 وما المد والجزر إلا شهيق الامتلاء بالإيقاعات
وزفير الأحلام المكتمة فى خزائن الرصاص
وأوزان العروض المجهولة، (معلقة دخان القصيدة ـ ص 18).

*     *     *

هذا الديوان يعيد الاعتبار للقصيدة بوصفها صوت الجماعة الذي ينطقه الفرد، وإبداع الفرد الذي يتمثل رؤية الجماعة، حيث لا يقف صامتا إزاء ما يجرى حوله من أحداث فينفعل بها لأنه جزء منها، وهى بالتالى تؤثر فيه وتحرك لديه روح الإبداع. إن هذا الديوان تجربة جديدة تنضم إلي سابقاتها من تجارب مطر الثرية، منتجا نصا فريدا قادرا على إثارة دهشتنا، ويمكننا اعتباره ـ بحق ـ معلقة العصر الحديث.