حنظلة

ناجي العلي

عزيزي القارىء:
اسمح لي أن أقدم لك نفسي أنا "أعوذ بالله من كلمة أنا"، أنا اسمي حنظلة اسم أبي مش ضروري، أمي اسمها نكبة.. نمرة رجلي مابعرف لأني دائمأ حافي، ولدت في 5 حزيران سنة 1967، جنسيتي أنا مش فلسطيني.. مش أردني.. مش لبناني.. مش مصري مش حدا الخ... باختصار معيش هوية ولاناوي اتجنس محسوبك إنسان عربي وبس!!!

حملت بـ (حنظلة) في الكويت وولدته هناك، خفت أن أتوه أن تجرفني الأمواج بعيدأ عن فلسطين. ان تهزمني السيارات والثلاجات والمكيفات، ولد (حنظلة) أيقونة تحفظ لي روحي وتحفظني، من الانزلاق، حنظلة شاهد وشاهد (شاف كل حاجة) أنه لايستدير للقارىء، ولكن القارىء الذي لايفهم مرارته هو الذي يستدير له.

يقولون أن حنظلة سلبي دار ظهره وشبك بيديه ووقف يتفرج، انهم لايستطيعون أن يروا الدموع المعلقة في عينيه.

ولد حنظلة في العاشرة من عمره وسيظل دائما في العاشرة، ففي ذلك السن غادرت الوطن، وحين يعود حنظلة سيكون بعده في العاشرة، ثم سيأخذ في الكبر بعد ذلك.

وقوانين الطبيعة المعروفة (تطبق عليه) انه استثناء لأن فقدان الوطن استثناء، وستصبح الأمورطبيعية حين يعود الى الوطن، حنظلة وفي لفلسطين وهو لن يسمح لي أن أكون غير ذلك، إنه نقطة عرق في جبيني، فلسطيني إذا ماجال بخاطري أن أجبن أو أتراجع.

لقد رسمته خلافاً لبعض الرسامين الذين يقومون برسم أنفسهم ويأخذون موقع البطل في رسومهم.. فالطفل يمثل موقفأ رمزيأ ليس بالنسبة لي فقط بل بالنسبة لحالة جماعية تعيش مثلي وأعيش مثلها.

قدمته للقراء وأسميته حنظلة كرمز للمرارة. في البداية قدمته كطفل فلسطيني لكنه مع تطور وعيه أصبح له أفق قومي، ثم أفق كوني وانساني، أما عن سبب إدارة ظهره للقراء، فتلك قصة تروى. في المراحل الأولى رسمته ملتقيأ وجهآ لوجه مع الناس، وكان يحمل الكلاشنكوف، وكان أيضأ داثم الحركة، وفاعلأ، وله دورحقيقي، يناقش باللغة العربية والانكليزية، بل أكثر من ذلك فقد كان يلعب الكاراتيه.. يغني الزجل، ويصرخ ويؤذن ويهمس ويبشربالثورة، وأثناء الانتفاضة في الأرض المحتلة يحمل الحجارة ويرجم بها الاعدا،ء وأثناء خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت كان يقبل يد هذه المدينة الجريحة، مثلما كان يقدم الزهور لها.

كنت أحرض الناس على هذه الأنظمة، أحرض بعفوية الطفل الذي عقد يديه خلف ظهره. ولكن بعد حرب اكتوبر 1973 كتفته باكراً، لأن المنطقة سوف تشهد عملية تطويع وتطبيع مبكرة قبل رحلة السادات، وكان لدي احساس أن هذه الحرب ساخنة، سيعقبها حلول تسوية. من هنا كان التعبير العفوي لتكتيف الطفل، هو رفضه وعدم استعداده للمشاركة في هذه الحلول.

وقد يعطي تفسير أن لهذ الطفل موقفأ سلبيأ ينفي عنه دور الايجابية، لكنني أقول أنه عندما يرصد تحركات أعداء الأمة، ويكشف كافة المؤامرات التي تحاك ضدها يتبين كم لهذا الطفل من اسهامات ايجابية، في الوقوف ضد المؤامرة وهذا هو أمره، وهذا هو المعنى الايجابي.

أريده مناضلأ ورافضأ لكل مايجري على الساحة من مؤامرات وخذلان. وحقيقة الطفل أنه منحازللفقراء لأنني أحمل موقفأ طبقيأ لذلك تأتي رسومي على هذا النحو، والمهم رسم الحالات والوقائع، وليس رسم الرؤساء والزعماء. إنه شاهد العصر الذي لايموت، الشاهد الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادر أبدأ.. إنه الشاهد الأسطورة، وهذه الشخصية غير قابلة للموت، ولدت لتحيا، وتحدت لتستمر.

هذا المخلوق الذي ابتدعته، لن ينتهي من بعدي بالتأكيد، وربما لا أبالغ اذا قلت أنني استمر به بعد موتي. أما لماذا يأخذ حنظلة دور الطفل، فالحقيقة أنها لمعت في ذهني صورة طفل. لأن الطفولة هي رمز الصدق والبراءة والحقيقة.. قصدته أن يكون حافيأ وشكله (مش ولابد). كان ذلك الطفل رمزأ أتذكر فيه طفولتي في عين الحلوة.

داومت على خلق تلك الشخصية بشكل يجعلها الرمز الشاهد على مايجري، فقد لاحظت أن رسم الكاريكاتير كان متجهأ للنخبة وليس للجماهير. وقدمت حنظلة بشعر القنفذ لأن القنفذ يستعمل شعره أيضأ كسلاح. هو شخص لايطاق خارجيأ، لكنه محشوبالمسك هوسجين وأسير. بعضهم كان يرسم مواضيع تدغدع مشاعر الناس، وتقصد اضحاكهم والهاءهم عما يجري، رسمت بالحس الطبقي، الذي يلفت النظرلهذه القوى المسحوقة التي يجدربها الحياة، وهي عملية لفت نظرلأصحاب القضية الحقيقية في الثورة كي يتجهوا وينتبهوا لهذا الواقع.

إنه الولد البسيط لكنه جادأ، ولهذا تبناه الناس وأحسوا أنه يمثل ضميرهم الواعد. فهو لن يخسر شيئأ لأنه فقير كادح ومسحوق، ويمتلك القدرة على التحدي والتصدي. لقد حاولت من خلال مواقفه أن أبرز القضايا التي يتبناها، جعلته يتعامل مع الواقع بشجاعة خالية من أي رياء أوكذب أو نفاق. ويبقى التعب الأكبر في مواصلة المشوار بكل مافيه من تناقضات وهموم. ويبقى في الأعماق تعب الوطن، ذلك الوطن الذي يبشر به حنظلة بكثير من الأمل.