يكشف الباحث المغربي هنا عن منطلقات القراءة لدى المفكر الراحل في كتاباته المهمة التي بدأت مع «مفهوم النص» وتواصلت في «نقد الخطاب الديني» وغيره من الأعمال التي حارب فيها ضد تسليع الدين والاتجار اليومي به في فضاء عربي ينهض على الحصر الاجتماعي والعجز الاقتصادي والفقر الفكري.

نصر حامد أبو زيد والنص القرآني

منطلقات القراءة ورهانات التنوير

يحيى بن الوليد

نصر حامد أبو زيد، أو "الأفندي المحدث" كما يلقبه نقاده، واحد من الأسماء البارزة التي تشتغل على التراث الديني وفق منهجية دالة ووفق منطلقات فكرية محكمة، وبنوع من الجرأة والشجاعة اللتين لا تتوفران إلا عند القليل من المثقفين والكتاب العرب المعاصرين. والمزج بين هذه المستويات هو ما يجعل من "القراءة"، في خطابه، "حدثا" معقدا وملتبسا بمجمل "الأسئلة الحية" و"الحارقة" التي راحت تلوي ــ وبحدة ــ بالثقافة العربية المعاصرة خلال العقود الثلاثة الأخيرة. ويهمنا، هنا، أن نركز على "قراءته" للنص الديني وبما في ذلك "المنطلقات الفكرية" التي تسند فعل القراءة، بل وتجعل منه "تدخلا" لا مجرد "وصف" أو "شرح". ولذلك سنشدد على دراسته "مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن" (1990)، لأنها جديرة بأن تدنينا من جانب مهم من مشروع الباحث، إضافة إلى أنها تفضي بنا إلى دراسات الباحث السابقة واللاحقة. وهذه إحدى العلامات المائزة للمفكر النسقي الذي لا يمكن البتة أن نفصل بين إنجازاته المتفرقة أو أن نتعامل معها من منظور "العرض" أو "التبسيط". ولا بأس من أن نشير، هنا، إلى أن "مفهوم النص" من بين الدراسات التي كانت وراء ضجة "تكفير" الباحث والمناداة بفصله عن زوجته، بدليل أنه لا يجوز لـ"مرتد" أن يتزوج من مسلمة. ونحن لا نهتم بهذه الدراسة لهذا السبب، وإنما نهتم بها لقوتها التمثيلية لفكر الباحث من جهة، ولأهميتها اللافتة من ناحية "ترهين" الأسئلة المطروحة ــ وبإلحاح ــ على المثقف العربي من جهة موازية. وكل ذلك في إطار نوع من الانتظام داخل التراث، هذا وإن كان من الصعب حصر النص القرآني في التراث، بالنظر إلى "أصالته الدائمة" كما نعتها محمد عابد الجابري في نص مقدمة الجزء الأول من كتابه "فهم القرآن الكريم" (ص7).

 

1 ــ منطلقات القراءة:

في الحق لا يتيح عنوان الدراسة إمكانية التعرف إلى أي نص يقصد الباحث "النص الأصلي" (القرآن الكريم) أم "النص الثانوي" (السنة النبوية واجتهادات الأجيال المتعاقبة من الفقهاء والعلماء والمفسرين)؟ غير أن هذا "الالتباس" يظل، في النظر الأخير، مشدودا إلى مجال الدين؛ ومن ثم فإن الباحث آثر أن يقذف بنفسه في دوائر ما يمكن اعتباره بمثابة "حقول ألغام" في الثقافة العربية المعاصرة. ومعنى ما سلف، وهذا أول منطلق للقراءة، أن الباحث يتحرك في دائرة "العلاقة" التي تصل ما بين التراث والدين؛ وهي ذات العلاقة التي تشرح صيغة "التراث الديني". وهذه الصيغة لا تخلو من "سوء فهم" من قبل "الخطاب النقيض"، لأن الحاصل هو "توحيد" الطرفين إلى درجة أنه كلما ذكرنا "التراث" إلا وانصرف بنا المصطلح إلى مجال "الدين". ولذلك كان من الجلي أن تصطدم أية نظرة للتراث، من خارج دائرة "التوقير" و"التقديس"، بجدار"التوحيد" أو "الوحدة" كما ينعتها البعض الآخر. وقد كان لمثل هذه النظرة انعكاس سالب على معالجة التراث في أنماطه المختلفة من بلاغة وآداب ونقد وفلسفة وتصوف ... إلخ. فالمسألة تفترض إعادة نظر أو ترتيب للعلاقة التي تصل ما بين الطرفين، وكل ذلك في المنظور الذي يفضي إلى اعتبار الدين جزءا من التراث، لا اعتبار التراث جزء من الدين كما يقول أستاذ الأفندي المحدث المفكر المصري حسن حنفي في كتابه "التراث والتجديد" (ص23). وتقود هذه العلاقة الباحث إلى مراعاة ما ينعته بـ"تعددية" التراث (الفكري العربي الإسلامي) التي تجعل من هذا الأخير "نتاجا عقليا أنتجته عقول بشرية" في سياقات تاريخية متفاوتة. وكما أن هذه التعددية قرينة تلك النظرة التي تجعل من الدين "جانبا" من الإنسان لا الإنسان كله، وهو ما سنوضحه بعد حين.

ويفضي بنا المنطلق الثاني، في خطاب "مفهوم النص"، إلى ما عبر عنه الباحث نفسه، في مقدمة الدراسة، بـ"كينونة النص". ومصدر تشديده على هذه الكينونة، كما يشرح، هو "فلسفة التأويل" التي بالغت في "دور القارئ" إلى حد إهدار هذه الكينونة والتضحية بها لفائدة "فعالية التأويل". ويضيف أنه بنفسه لم يسلم من مأزق هذه النظرة في دراسته الأولى "الاتجاه العقلي في التفسير" (1982) التي افتتح بها مشروعه الفكري. غير أن التشديد على كينونة النص لا يفيد البتة أي نوع من إلغاء الباحث لذاته أو لفعالية المؤول كما توهم بذلك مفردة أو مفهوم "الإهدار". فالذات تظل، وسواء عن وعي أو غير وعي، حاضرة في ثنايا القراءة؛ إنها أشبه بـ"النقطة في الدائرة".

أجل إن التأمل في أبواب الدراسة (وهي: النص في الثقافة، وآليات النص، وتحول مفهوم النص ووظيفته) يوحي بالكينونة سالفة الذكر، لكن على نحو لا تغدو بموجبه العودة إلى التراث وكأنها بمثابة "عودة معرفية معزولة". فثمة دلالات "وجودية" (بالمعنى الهرمينوطيقي للمفردة) تنتظم العودة، وإلا صارت هذه الأخيرة من باب "النزق" أو "السياحة الفكرية". وقد سبق للباحث نفسه أن ركز على الموقف نفسه قبل عشر سنوات من نشر "مفهوم النص" إذ انتهى في عرض مركز لـ"الهرمينوطيقا" (1981) إلى ما يلي: "ولكنها ــ أي الهرمينوطيقا ــ بين البداية وتطورها المعاصر فتحت آفاقا جديدة من النظر، أهمها ــ في تقديرنا ــ لفت الانتباه إلى دور المفسر، أو المتلقي في تفسير العمل الأدبي والنص عموما. وتعد الهرمينوطيقا الجدلية عند جادامر بعد تعديلها من خلال منظور جدلي مادي، نقطة بدء أصيلة للنظر إلى علاقة المفسر بالنص، لا في النصوص الأدبية، ونظرية الأدب، فحسب، بل في إعادة النظر في تراثنا الديني حول تفسير القرآن منذ أقدم عصوره وحتى الآن، لنرى كيف اختلفت الرؤى ــ ومدى تأثير رؤية كل عصر ــ من خلال ظروفه ــ للنص القرآني" ("إشكاليات القراءة وآليات التأويل"، ص49).

ومن البين أن هذا النص، الذي استحضرناه على طوله لأهميته وللتوضيح في آن، في غير حاجة لكي نشرحه أو نزيد عليه؛ غير أن ما يجب التشديد عليه أن كينونة النص ــ وهذا وجه آخر لها إن لم نقل أساس آخر لها ــ ملتبسة بـ"منظور جدلي"، إضافة إلى أنها لا تتعارض مع "عصر المؤًوِل" في نطاق ما يمكن نعته ــ بلغة دارس التراث العربي جابر عصفور ــ بـ"علاقات التناص الموجبة" التي تصل ما بين "تاريخية القارئ" و"تاريخية المقروء" ("قراءة التراث النقدي"، ص60). ويبقى أن نسأل الآن حول المنطلق الثالث المتمثل بـ"الدراسة الأدبية" باعتبارها مدخلا يقع في صميم "التناص الموجب".

ومن المؤكد أن تثير مسألة الدراسة الأدبية للنص القرآني شكوك المشايخ من ذوي الفهم الأوحد للنص الديني وقضايا الفكر الديني عامة. ولقد كان مفكر متمرس في مجال قراءة التراث العربي وهو محمد أركون محقا حين أشار، في دراسته "قراءات القرآن" (Lectures Du Coran) (1982)، إلى "السكوت" الحاصل في التعامل مع النص القرآني من هذا الجانب. وينسحب هذا السكوت على القرن الثاني للهجرة الذي كان من المرفوض أن يزدهر فيه مثل هذا التعامل، إذ وازى فيه نشوء "التفسير" أن غرق هذا الأخير في مباحث كلامية وفقهية وأخلاقية كما يتصور سيد قطب في كتابه "التصوير الفني في القرآن" (ص27). وقد حصل ما سلف رغم أن لغة القرآن أقرب من لغة الشعر كما يضيف أركون في كتابه سالف الذكر (ص108). القرآن الذي هو "حمال أوجه" كما قال عنه الإمام علي، وهي القولة التي لا يتواني نصر حامد أبو زيد عن ترديدها في حواراته وسجالاته.

غير أن السكوت سالف الذكر لا يفيد البتة انتفاء دراسة النص القرآني ولا سيما في منظور "الدراسة الأدبية" التي عرفت إحكاما نظريا هائلا في وقتنا الحاضر. وفي هذا الصدد يمكن أن نعود إلى أعمال سيد قطب (1906 ــ 1966) قبل "التصوير الفني في القرآن" (1945) جنبا إلى جنب "مشاهد القيامة في القرآن" (1949) في نطاق ما يعرف بـمرحلته الأولى التي اصطلح عليها دارسوه بـ"المرحلة الأدبية" أو"الإسلاميات الفنية" (1930 ــ 1950)، ولعل هذا ما يفضي بنا إلى موضوع أوسع يتصل بفكر سيد قطب أو"النقد الإسلامي" عامة وفي صلته بما يعرف بـ"التفسير الأدبي للقرآن". وتجدر الإشارة إلى أن عمل "التصوير الفني في القرآن"خطا خطوات لافته على مستوى "الفصل" بين مبحث "التصوير الفني" (الغالب) و"الجدل الذهني" أو بلغة أخرى بين "الجانب الفني" و"مباحث القرآن". إن صاحب "مفهوم النص" ينحو منحى مغايرا لسيد قطب في فصله بين الجانبين. ومن هذه الناحية فهو يواصل ما كان قد دعا إليه الشيخ أمين الخولي (1895 ــ 1966)، وقبل ستين عاما من ظهور "مفهوم النص". وتراعي الدراسة الأدبية عند أمين الخولي خطوتين: أولا دراسة ما حول القرآن (أو ما حول النص)، وثانيا دراسة القرآن (النص). ويلخص أبو زيد، في "مفهوم النص"، هاتين الخطوتين قائلا: "إن دلالة النص تتكشف من خلال تحليل بنائه اللغوي أولا ومن خلال العودة إلى سياق إنتاجه ثانيا"، إضافة إلى "أن إهدار أحد الجانبين يعيق المفسر عن اكتشاف الدلالة والمعنى" (ص108).

وعلى مستوى آخر تفيد الدراسة الأدبية عند الباحث من المناهج القرائية الحديثة والنظريات النقدية المعاصرة. واستخدام الباحث لهذه المناهج والنظريات، وفي مجال قراءة النص الديني تحديدا، لا يشير إلى أي نوع من "الفيتيشية" أو "الصنمية المنهجية" التي تقود حتما إلى "تسطيح" العلاقة مع التراث؛ فتوظيفها قائم على ضرب من "التمثل" ومراعاة "الموضوع" المدروس في مجاله التداولي المخصوص. وكما أن قراءة التراث الديني، واعتمادا على هذه المناهج، لا تنطوي، في تصوره، على أي نوع من "الإساءة" لهذا التراث ... بل إنها تمثل "احتراما" له. فلا خشية، إذا، على التراث الديني من هذه المناهج التي تؤصل تاريخيته وتعيده ــ بالتالي ــ إلى "قلب التاريخ" ... في مقابل التيار الذي يسعى إلى إخضاع "القارئ" لما ينعته أبو زيد، في مقدمة كتابه "دوائر الخوف"، بـ"ضغط التجهيل".

والأهم، في خطاب الباحث، أن الدراسة الأدبية، ومحورها "مفهوم النص"، كفيلة بتحقيق ما ينعته بـ"الوعي العلمي" الذي يتجاوز موقف "التوجيه الإيديولوجي" السائد في ثقافتنا وفكرنا (ص11). والملاحظ أن الباحث يلح على هذا "الوعي"، وهو ما لا يوافق عليه البعض كما لاحظنا مع علي حرب. ويبقى أن نسأل الآن حول تخصيص الدراسة الأدبية ومحاولة استجلاء بعض ركائزها، وهو ما يفضي بنا إلى المنطلق الرابع المتمثل بـ"المنهج الواقعي". وفحوى هذا المنهج ــ الذي يتسرب في ميكانيزمات الدراسة الأدبية ــ أن النص (الديني) يتشكل بالواقع. وبكلام آخر: إن النصوص الدينية، وإن تشكلت من خلال الواقع والثقافة، تستطيع، بآلياتها، أن تعيد بناء الواقع، فهي لا تكتفي بمجرد تسجيله أو عكسه عكسا آليا مرآويا بسيطا (ص69). وهذه النقطة من الأفكار الأساسية في "الموجز الأصولي" أو "البيان النظري" ("التراث والتجديد") لأستاذ الأفندي المحدث المفكر حسن حنفي الذي سلفت الإشارة إليه من قبل.

وللمناسبة فثمة أكثر من علامة تصل ما بين حسن حنفي ونصر حامد أبو زيد بدءا من النظر إلى التراث بعامة الذي يقول عنه "ممثل اليسار الإسلامي"، في كتابه سالف الذكر، بأنه ليس له وجود صوري مستقل عن الواقع الذي نشأ فيه، فهو يعبر عن "الواقع الأول" الذي هو جزء من مكوناته ، بل هو وسيلة لتغييره. ولذلك فما أسماه القدماء بـ"أسباب النزول" يدل على أسبقية الواقع على الفكر، مثلما أن "الناسخ والمنسوخ" يتحدد طبقا لقدرات الواقع وبناء على متطلباته، فإن تراخى الواقع تراخى الفكر، وإن اشتد الواقع اشتد الفكر. والشيء ذاته يقال عن الوحي، إذ جاء تلبية للواقع مثلما تكيف على أسسه (ص56. 15. 34. 167). ولا تبدو هذه الأفكار غريبة عن الباب الأول من دراسة "مفهوم النص" (ص34. 397. 117). وكما يتناص أبو زيد مع حسن حنفي في مواضع أخرى من مثل النظر إلى "حامل الرسالة" بوصفه "شخصا" تأثر، فيما تأثر به، بالواقع ("التراث والتجديد"، ص136 وقارن بـ"مفهوم النص"، ص65).

والظاهر أن النظر إلى النص القرآني في ضوء الواقع الذي أفرزه كان قد تنبه إليه طه حسين (1989 ــ 1973) منذ عشرينيات القرن الماضي، من خلال كتابه الصادم "في الشعر الجاهلي" (1926). غير أنه، وفي تلك الفترة التي كانت تشهد على "سيادة التنوير"، كان قد أشار إلى صعوبة الموقف. يقول موضحا: "وليس من اليسير، بل ليس من الممكن، أن نصدق أن القرآن كان كله جديدا كله على العرب، فلو كان كذلك، لما فهموه ولا وعوه، ولا آمن به بعضهم ولا ناهضه وجادل فيه بعضهم الآخر" ("في الشعر الجاهلي"، ص26). ومثل هذا الموقف، وغيره من المواقف الحدية التي يطفح بها الكتاب، هو ما كان وراء الضجة التي أثارها والتي كادت أن تؤدي إلى "أزمة سياسية" في مصر.

غير أن ما سلف ذكره، عن الأفندي في علاقته بأستاذه، لا يشير إلى أي نوع من "التناص السالب"، لأنه ثمة فروق واختلافات جوهرية بينهما. فالأفندي أكثر "انضباطا" وأكثر "موضوعية"، وعلى افتراض أن هناك موضوعية في ميدان القراءة والعلوم الإنسانية عامة، بسب من تركيزه على "اللغة" التي هي جوهر كينونة النص. فالنص يتشكل بالواقع، لكن من خلال "وسيط اللغة". ومن ثم فإن دلالة النصوص ليست إلا محصلة لعملية التفاعل في عملية تشكيل النصوص، ومن جانبي اللغة والواقع (ص108). وكما أن اللغة، هنا، قرينة إنتاج الدلالة؛ ثم إن هذه الدلالة ليست قارة، بل هي متحركة تبعا لتحرك/ تفاوت سياق/ سياقات القراءة. فنصر حامد أبو زيد من أنصار "التأويل" الذي يحرك التاريخ، التأويل الذي "نحيا به". وليس من العجب في أن يرد على حيثيات "حكم الطلاق" بينه وبين زوجه ــ الذي أصدرته محكمة الاستئناف يوم الجمعة الرابع عشر من يوليوز 1995 ــ بـ"مأساة القراءة الحرفية".

 

2 ــ رهانات التنوير:

ويهمنا أن نشير، وفيما تبقى من الدراسة، إلى أن الإقرار بمبدأ "تحرك الدلالة"، في النص الديني، يوازي "تنوير النص الديني"، وهو ذات الإقرار الذي يفضي إلى التشديد على مبدأ تقدمية التاريخ وسند التنوير وفضيلة الحرية وقيم الحداثة. والظاهر أنه لا يمكن الفصل بين مستوى "التنوير" ومستوى "منطلقات القراءة"، وفصلنا بينهما الغاية منه التوضيح لا غير؛ فالعلاقة بينهما قائمة على "التأثر المتبادل" أو "الإضاءة والاستضاءة". ومن هنا منشأ "سياسة القراءة" أو "سياسة التأويل" في أفقها الكاشف عن التباس الفكر بمشكلات الواقع. ويبقى أن نعرض للتنوير، "تنوير النص الديني" عند نصر حامد أبو زيد، من خلال مستويين فرعيين: مستوى أول مرتبط بموقف الباحث من الدين، ومستوى ثان مرتبط بما يجاوز الموقف الشخصي إلى الفكر بمعناه "التاريخي" الذي يمس شجون الوطن والثقافة. وأول ما يستوقفنا، هنا، أنه مهما كانت نوايا الباحث فإنه لا يمكنه التزام الحيدة التامة تجاه موضوع في حجم موضوع الدين. ولذلك فإن الحديث عن "وعي علمي" بالدين أمر مردود؛ ولا يرجع ذلك إلى عجز متضمن في القراءة، وإنما يرجع لطبيعة الموضوع ذاته. ولذلك كان المفكر علي حرب محقا حين تصور، في قراءته لـ"مفهوم النص" ضمن كتابه "نقد النص" (1993)، أن دعوة الباحث إلى "فهم علمي" للدين خداع لدين وحجب للحقيقة، حقيقة الدين بما هو انقياد وجهاز كهنوتي وسلطة فوق الجدال (ص211). وهو النقد نفسه الذي وجهه حسن حنفي في قراءة لـ"مفهوم النص" حيث يتصور أن الإسلام ذاته رؤية أيديولوجية إسلامية عربية لتاريخ الأديان وللواقع العربي الجاهلي (مجلة "فصول"، المجلد التسع، فبراير، 1991).

وتصور الباحث للدين معلن عنه وغير مراوغ. وهو ــ في مستوى أول ــ ذو بعد أنثروبولوجي يشرحه قائلا: "الدين" مفهوم ثقافي عام يتجاوز حدود العقائد والشعائر (ص14). وفي هذا الإطار يمكن فهم انتقاده الشديد للإمام الشافعي (150 ــ 204 هـ) على نحو ما صاغه في كتابه "الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية" الذي كان قد ساهم بأطروحته الأساسية في ندوة "غرامشي وقضايا المجتمع المدني" التي صدرت في كتاب عن دار "كنعان" بسوريا عام 1991، الشافعي الذي أصل "هيمنة" مجال الدين والعقيدة على مجالات الحياة كلها، وهو ما سيواصله الغزالي (ت: 505هـ) ــ ومن حيث هو قطب شافعي اشعري ــ كما يتضح في الباب الثالث من الدراسة. ويذكرنا هذا الموقف بموقف أدونيس الذي كان قد أبداه سواء في أطروحة "الثابت والمتحول" أو في أحد كتبه الأخيرة "النص القرآني وآفاق الكتابة". يقول في الكتاب الأخير: "يجيب النص القرآني عن أسئلة الوجود والأخلاق والمصير، وهو يجيب عن ذلك بشكل جمالي ــ فني، ولهذا يمكن وصفه بأنه نص لغوي ــ أعني لابد لفهمه من فهم لغته أولا. "وهذه اللغة ليست مجرد مفردات وتراكيب وإنما تحمل رؤيا معينة للإنسان والحياة، وللكون ــ أصلا وغيبا، ومآلا" (ص20).

فالنص القرآني، هنا، تعبير عن "تجربة"، لكن بمعناها المبلور في "الهرمينوطيقا الفينومينولوجية": أي من حيث هي "منهج للكشف الأنطولوجي" أو "علة للوجود" أكثر منها "وسيلة تقنية". والمؤكد أن موقف أدونيس في حاجة إلى قراءة مستقلة، لا سيما وأنه لا يخلو من ملامح التصوف. غير انه ثمة فروق جوهرية بين أدونيس والباحث نصر حامد أبو زيد، لأن هذا الأخير يصل "المدلول الأنثروبولوجي" بـ"المدلول الديني" عكس الأول الذي لا نلمس عنده أي نوع من هذا الوصل. فصاحب "نقد الخطاب الديني" يعلن، وبصوت المؤذن، كما يقال، إيمانه. يقول (وفي سياق الحملة التي استهدفته): "ولكن بحمد الله مسلم، أديت وأؤدي الفرائض وامتنع عن إتيان ما نهى عنه الدين، ومع ذلك فأنا من المؤمنين بحرية الرأي أيمانا كاملا، وأقرأ قول الله عز وجل "لا إكراه في الدين" ("أدب ونقد"، العدد 101، يناير 1994، ص67).

ويهمنا الآن أن نصل موقف الباحث من الدين بالسياق الثقافي العام كما يفهمه الباحث نفسه. وفي هذا الصدد يسعفنا نص مقدمة الدراسة التي يقول فيها بأنه لا يقف عند حدود الهموم الأكاديمية، بل يتناول هذه الهموم في إطار من هموم أوسع هي هموم الثقافة والوطن بشكل عام (ص5). وصفوة القول، في هذه النقطة، إن الباحث لا يريد أن يسلك سبيل البحث الأكاديمي المعزول عن مشكلات المجتمع بكل مشخصاتها المستحكمة في السياق التاريخي. فتأويله أو قراءاته تبتعد عن "الانغلاق السكولاستيكي" الذي يزيد في تكريس "عزلة المثقف المحدث" وفي مقابل ذلك يفسح المجال لـ"المثقف التقليدي". غير أنه لا يمكننا أن نخلص إلى موضوع آخر دون أن نتوقف عند مفهوم "الوطن" الذي لا يحيد بدوره عن دلالات التنوير؛ لأن الوطن، أو أكثر تحديدا "الولاء للوطن"، هو ما لا تتوانى المجموعات الإسلامية عن رفضه بشكل حازم وصارم. فولاء، من هذا النوع الأخير، وفي نظر هذه المجموعات، "جاهلية" أسوأ  من تلك "الجاهلية" التي جاء الإسلام يحاربها، كما يعلق المستشار محمد سعيد العشماوي في كتابه "الإسلام السياسي" (ص27). والشيء ذاته يقال عن مفاهيم أخرى تتأطر ضمن مفهوم "المواطنة" كمفهوم "الشعب" و"الديمقراطية" و"الدستور" و"القانون"... كلها "كفر" و"إلحاد". فالوطن الوحيد الذي تؤمن هذه المجموعات هو "الإيمان" [أو "الإيديولوجيا الإيمانية"] الذي هو "علم العلوم وقوام الحياة اليومية" كما يقول الناقد الفلسطيني فيصل دراج في مقاله ضمن الكتاب الجماعي "طه حسين العقلانية الديمقراطية الحداثة" (ص55. 59).

ومن هنا منشأ "الأسئلة الحارقة" التي على المثقف أن يخوض في غمارها أو أن يواجهها بدلا من أن يخايلها. ولقد ظل خطاب التنوير، في نظر الباحث، يدور مع نقيضه السلفي داخل السجال الإيديولوجي ولم يجاوز ذلك إلى تأسيس أفق معرفي جديد. وهذا القصور، في الاتجاه التنويري، ساهم، وفي إطار عوامل موضوعية اجتماعية اقتصادية، في تمكين الخطاب الديني من استعادة الأرض التي فقدها ("نقد الخطاب الديني"، ص189). غير أن الاستعادة،هنا، بمعناها الذي يلتبس بـ"السياسة" في بعدها الإجرائي الأدواتي التسلطي لا في بعدها "الثقافي" الذي يلتبس بالمعرفة والعلوم. يقول الباحث موضحا الفكرة ذاتها: "إذا كان الخطاب الإسلامي المسيطر في علاقته بالتراث يمثل ضعفا وتهافتا، فإنه في بعده السياسي يمثل قوة على الحشد والتجييش" ("الأرثوذوكسية المعممة"، الناقد، العدد 74، غشت 1994، ص27).

فمن الجلي، إذا، أن الباحث يستند إلى قاعدة "التنوير": "تنوير النص الديني"؛ ودون أن نتغافل، هنا، أنه يفضل مفهوم "الأنوار" بدلا من "التنوير"، وحجته ــ في نص حوار ــ أن المصطلح الأخير "ابتذل" ("العربي"، العدد 450، مايو 1996، ص74). ولا يخفى أن التنوير، في بعض الكتابات، قرين العلمانية التي ترادف ــ في أذهان المجوعات الأصولية ــ "الإلحاد". فما يقصده الباحث منها، وفي نطاق قراءة التراث الديني، لا يتجاوز محاولة مناهضة "حق امتلاك الحقيقة المطلقة" كما قال في "التفكير في زمن التكفير" (ص82). هذا بالإضافة إلى أن هذه المواجهة تقوم على أرض ما ينعته بـ"الاعتزال المعاصر" الداعي إلى مناصرة العقل والاجتهاد. وفي هذا السياق أمكننا فهم انتقاد الباحث للفكر الذي ينعته بـ"الرجعية" في مواضع كثيرة من الدراسة، وخصوصا في الباب الثالث (والأخير). ويعكس هذا الفكر "تحولا" عن "المفهوم"، ويمثله أبو حامد الغزالي. والمفهوم، هنا، بغير معناه المتداول أو المحصور في الإبستيمولوجيا، هو أشبه بـ"أطروحة" تلتبس بسياق تاريخي وإيديولوجي.

ويشرح الباحث التحول السالف بأن النص لم يعد يستهدف الإنسان، وإنما صار أداة لاكتشاف قائل النص والتوحد به. وفي ضوء "المنهج الواقعي" الذي ينطلق من "الداخل" إلى "الخارج" أو ــ وبلغة الهرمينوطيقا عند د. هيرش ــ من "الدلالة" (Meaning) إلى "المغزى" (Signifiance) لم يكن لمثل هذا التحول أن يتحقق إلا بعد حدوث تحول في حركة الواقع الذي يتفاعل معه النص (ص249). وكان الغزالي يمثل نقطة البدء في الانقلاب عن "علمانية" الإسلام إلى "كهنوت" الفكر الديني ("التفكير في زمن التكفير"، ص83). والأخطر ما في خطاب الغزالي أن نسقه مناسب للنظم السياسية الديكتاتورية، وكما أن النظام الصوفي الذي يقدمه مناسبة للشعوب المضطهدة، ولهذا فهو نظام متكامل: للمضطهدين عزاء، وللحكام مشروعية (الحوار السابق، ص75). وتجدر الإشارة إلى أننا كنا فيما سبق نتحرك، ومع نصر حامد أبو زيد، حتما، في نطاق قراءة الماضي الذي لا يخلو من صلات مع الحاضر. وفيما يتعلق بالحاضر فإن كتابه "نقد الخطاب الديني" (1992)، وخاصة الباب الأول منه، يفيد على مستوى الكشف عن "الابتذال الفكري" للخطاب الديني المعاصر. ويبدو هذا الكتاب، وبحكم مساجلته الصريحة للفكر الذي يناقضه، مكملا لدراسة "مفهوم النص". ولذلك لا نتصور أن الباحث بدا في "مفهوم النص" "باحثا أكاديميا" مشغولا بسؤال المعرفة، بينما بدا في "نقد الخطاب الديني" "خصما سياسيا" للجماعات الإسلامية كما ذهب إلى ذلك عمر حفيظ في مقال "معارضات لقضية نصر حامد أبو زيد" ("الآداب"، العدد 3-4، أبريل 1996، ص21). أجل إن الباحث بدا في الكتاب الثاني أكثر ارتباطا بالمناخ الساخن أو بـ"حريق الإسلام السياسي" وأكثر استفزازا لممثلي هذا الحريق؛ غير أن ذلك لا يحول دون التأكيد على أن جميع إنجازات الباحث، وبما في ذلك مقالاته المتناثرة في المجلات، قائمة على النقد والتحليل وعلى عدم التساهل أو التسامح على مستوى ــ وإذا جاز مفهوم لويس ألتوسير ــ "تشخيص" الخطاب النقيض.

ولعل ما سلف ذكره، وما لم نذكره، هو ما عجل بما ينعتهم أبو زيد نفسه "أعداء النور والحرية والأوصياء على العقول والأبدان" إلى تدميغه بـ"التكفير" بل و"المطالبة بإهدار دمه"، لا لشيء إلا لأنه ضد "تسليع الدين" و"الاتجار اليومي" به في فضاء اجتماعي قوامه الحصر الاجتماعي والعجز الاقتصادي والفقر الفكري.