أجرى الكاتب اللبناني هذا الحوار الشامل مع نصر حامد أبوزيد قبيل وفاته، وهو حوار يكشف فيه عن الكثير من أفكاره ومواقفه، ويطرح فيه رؤاه التنويرية إزاء دعاة والظلام والتخلف، وفكرهم المعادي للتاريخ والعقل، ويثير فيه الكثير من الأسئلة المهمة التي لابد للمفكر الحقيقي أن يثيرها، كي يتطور فكرنا، ويتخلص ديننا ومعه صورتنا في العالم مما علق بهما من أوشاب.

آخر حوار مع نصر حامد أبو زيد

تحدث فيه عن مشروعه الفكري والأسئلة الدينية والدولة البوليسية

ناظم السيد

رحلة طويلة تلك التي قطعها نصر حامد أبو زيد، الفتى الذي فقد والده في المراهقة فاضطر إلى إعالة أسرته باكراً، من تخرّجه في قسم اللاسلكي في المدارس الثانوية، إلى إعادة قراءة النص القرآني، ونقد الخطاب الديني. الفتى الذي عمل فنياً لاسلكياً عشر سنوات في إحدى مؤسسات الدولة، نال الليسانس في الأدب العربي، لكنه دُفع رغماً عنه من قبل أساتذته إلى اختيار الدراسات الإسلامية للماجستير قبل أن ينال الدكتوراه في الاختصاص نفسه. كان خوف أبي زيد من اختيار الدراسات الإسلامية أن ينتهي إلى ما انتهى إليه محمد أحمد خلف الله بسبب كتابه (الفن القصصي في القرآن) وأستاذه أمين الخولي. لكن نهاية أبي زيد كانت أقسى حين تم اتهامه بالردة، والتفريق بينه وبين زوجته أستاذة الأدب الفرنسي ابتهال يونس. حكم أخرج المفكر الإسلامي الشهير من مصر إلى هولندا حيث تم الاحتفاء به.

في حواري معه الذي اجريته في بيروت مؤخرا، يطرح أبو زيد مفهومه للظاهرة القرآنية وتاريخية النص القرآني ومعنى الوحي غير اللغوي، داعياً إلى تفكيك سلطة النص، أياً كان هذا النص. كما ينتقد النظم السياسية العربية والديكتاتوريات معتبراً في الوقت نفسه أن الجامعة المصرية تدعو إلى الخجل. نستعيد هن هذا الحوار الشامل معه الذي سبق وأن نشرته 'القدس العربي' وذلك لمناسبة رحيله المفاجىء والصادم.

 

ضد الشافعي والشافعية

* خالفت المذاهب السنية الأربعة إلى حد ما في اجتهاداتك، ولا سيما الإمام الشافعي الذي كان يقول 'من استحسن فقد شرّع'، بعكس أبي حنيفة الذي غالباً ما لجأ إلى الاستحسان والاستصلاح (الاستحسان هو أن تخالف الإجماع لاستحسانك فعل شيء، بينما الاستصلاح هو فعل شيء مخالف للإجماع لكنه يفيد المسلمين)، وكذلك يقول الشافعي في تعريفه للنص الديني بأن 'التنزيل هو ما يستغنى به عن التأويل'؟

** هو يتكلم عن النص. والنص في المفهوم الإسلامي ليس النص كما نعرفه اليوم (Text). هذا أيضاً من مخايلات الخطاب الديني. النص هو الوحدة داخل القرآن، داخل المقول، سواء كان قرآناً أم حديثاً نبوياً، والذي لا يحتمل إلا معنى واحداً. وهذا عزيز جداً. الفقهاء يقولون: والنصوص عزيزة. أي نادرة. وعندما أعطى الشافعي مثالاً للنص أعطى مثالاً للمخالفة في الحج، وهو الآية 'فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم'. إذا كان النص توقف هنا لما بات نصاً. لهذا يكمل 'تلك عشرة أيام' لئلا يخطئ أحد في العد. كأن العبارة هنا لم تترك لك مجالاً للغلط في الجمع. السيوطي يقول مثلاً إن الآية 'حُرّمت عليكم أمهاتكم' ليست نصاً لأنها يجب أن تقترن بالنكاح، فالمعنى هنا حُرّم عليكم نكاح أمهاتكم. طالما أنك تفترض محذوفاً في الكلام فهذا ليس نصاً. النص هو الوحدة اللغوية داخل القرآن، أو داخل الحديث، والتي يفهمها الجاهل والعاقل. طبعاً هناك تقسيمات للقرآن من بينها كلام ابن عباس عن أن هناك جزءاً في القرآن تفهمه العرب جميعها، وأن هناك جزءاً لا يفهمه إلا العلماء. لفظة نص هنا ليس بنية عامة. لهذا لا اجتهاد في ما فيه نص (أي لا اجتهاد مع وجود النص). النص الواضح الذي يفهمه الجاهل والعاقل، لا داعي للاجتهاد فيه. لكن الفكر الإسلامي يقول لك لا اجتهاد في ما فيه نص، ويجعل القرآن كله نصاً، وكذلك السنة كلها يجعلها نصاً، أي السنة كما وردت في البخاري وغيره. هذا تزييف معرفي.

* لكنك لم تسع إلى تأويل النص فحسب. أنت بدأت بتأويل النص عبر الدعوة إلى إعادة قراءته لكنك انتهيت إلى نسف النص

** هذا ادعاء طبعاً. على المدعي أن يبين هذا.

* مثلاً، كيف تفسّر عباراتك حول 'ظاهرة النص' و'الظاهرة القرآنية'. كأنما تنقل النص من مستوى إلهي إلى مستوى إنساني؟
** ده كلام - إسمح لي - خارج العلم. هل من المفروض أن أتكلم لغة المشايخ، من أجل ألا أتهم بأنني أنسف النص؟ العلم يفترض استخدام لغة علمية. عندما تستخدم اللغة العلمية في وصف القرآن كعبارة 'ظاهرة القرآن' فذلك للدلالة على أن القرآن مرَّ في مراحل، من المرحلة الشفاهية الأولى، التي كان فيها القرآن مجموعة خطابات، ثم هناك ظاهرة المصحف (مرحلة جمع القرآن). اللغة تتطلب هذا التمييز. المشيخية الدينية لا علاقة لها بالعلم، لأن هذه المشيخية تفرض عليك أن تستخدم العبارات نفسها التي كانت تستخدم في التراث. هذه المشيخية تفرض عليَّ كلما ذكرت محمد أن أقول عليه الصلاة والسلام، وتحاكمني على هذا الشيء. في الجامع أقول هذا الكلام، لكن في كتاب فكري ما الداعي إلى هذا التذييل. هناك عداء لطبيعة اللغة الأكاديمية التي يجب عليها طوال الوقت أن تكون لغة وصفية. هذه امتحانات مضحكة إذا سمحت لي. مضحكة يعني. ثمة موقف إيماني من النص وثمة موقف تحليلي. ثمة موقف إيماني من الظاهرة وثمة موقف تحليلي من الظاهرة. الباحث يجب أن يجنّب موقفه الإيماني. لا يجوز محاسبة موقف الباحث الإيماني على أساس خطابه الأكاديمي.

* دعني أتكلم حول خطابك. عندما تقول 'القرآن منتج ثقافي' أو 'القرآن ظاهرة تاريخية' أو 'القرآن منتج لغوي'، هذا التوصيف العلمي إلى أين يؤدي؟

** لأ مش إلى أين يؤدي؟ ليس هنا السؤال. السؤال هو: كيف وصلت إلى هذه النتيجة؟ هذا هو الأهم. وليس إلى أين يؤدي؟ عندما تسأل إلى أين يؤدي فإنك تعبر عن مخاوف. تعبر عن رعب وفزع من المعرفة. لم تتم مناقشة المقدمات التي أوصلتني إلى هذا الاستنتاج الذي لا ينكر مصدر القرآن الإلهي. الفزع مما يؤدي إليه هذا الاستنتاج هو فزع على الإيمان، ورقابة على الإيمان. فلنفرض أن كلامي سيؤدي إلى كفر بعض الناس. فلنفرض هذا. أنا لست رقيباً على إيمان الناس. السؤال إلامَ يؤدي ذلك هو سؤال نابع من هذا الفزع، نابع مما يُسمّى حماية عقائد العامة. هذا الكلام يضعنا في العصور الوسطى. كأنني أكتب كلاماً لناس جهلة يحتاجون إلى من يحميهم من الكلام. أنا أدرّس في الجامعة. ومهمتنا أن نعلم طالب الجامعة كيف يفكر، من دون أن نضع له حدوداً للتفكير. كل النقاش الذي حصل حول أفكاري إنما حصل كراهية للنتائج، وليس مناقشة للمقدمات. ما هكذا يا سعد تورد الإبل. من أجل نقد النتيجة يجب الانطلاق من نقد المقدمات. ويجب أن يكون النقد صادقاً. ما كان للعرب أن يقبلوا بوجود نبي مرسل ما لم يكن مفهوم الوحي قاراً ومستقراً في الثقافة. أن يكون القرآن مصدراً إلهياً فهذه مسألة إيمانية. وأنا أنطلق هنا من حكم انتمائي إلى الفضاء الثقافي الإسلامي. ما أود قوله إن بعض الناس لم يقرأوا الكتاب (يقصد كتاب «مفهوم النص» الذي ترقى على أساسه كأستاذ مشارك في الجامعة) لكنهم قرأوا المقدمة. وتحمّسوا كثيراً له ولا سيما أنهم وجدوا في هذه المقدمة هجوماً على التيارات الإسلامية المتطرفة والتخلف العقلي. وهي مقدمة إلى حد كبير سجالية. وكان الناس في القاهرة يحيونني على هذا الكتاب. أحد هؤلاء المثقفين (الذين لم يقرأوا الكتاب) قال لي: يا دكتور، الكتاب رائع وفتح وما عرفش إيه - وأنا المدح المبالغ فيه يشتتني - لكن إنت متردد ليه يا دكتور؟ قلت له: خير، متردد في إيه؟ قال: لماذا لم تقل إنه (القرآن) تأليف محمد؟ فقلت له: ده مش رأيي. ليس رأيي أن محمداً كان كذاباً أو نصّاباً أو أفّاقاً، وغير ذلك من الصفات. ثم تابعت: إذا كنت إنت شايف إنو من تأليف محمد إكتب حضرتك كتاباً. إلى هذا الحد يمكن أن ترى أشخاصاً لا يستطيعون قراءتك جيداً لأنهم مرعوبون من النتائج. وثمة أشخاص يرون النتائج ومتحمّسون لها من غير أن يقرأوها.

 

ظاهرة النبوة

* لكنك قلت إن 'النبوة ليست ظاهرة فوقية' في كتابك 'مفهوم النص'. وتحدثت كذلك عن إحساس محمد العميق باليتم والإهمال، معتبراً أن الصوت الذي أوحى إليه، لم يكن صوتاً بعيداً عنه، بل قريب من واقعه. ثم إنك تقول إن القرآن ابن بيئته، كيف تريد للقارئ أن يفهم هذا الكلام؟

** عندما أقول إن شعر محمود دروش أو شعر أدونيس أو شعر شكسبير أو شعر أبي العلاء المعري أو شعر فلان، هو شعر ينتمي إلى بيئة، لا أستطيع فهم شعر المعري دون أن أعرف معرّة النعمان والظروف التي عاش فيها الشاعر والسياق الثقافي للشعر العربي.

* لكننا نتحدث عن نص إلهي بحسب المؤمنين به.

** لحظة واحدة، سأرد على حكاية النص الإلهي. لكن لا أحد ينكر أن نص أبي العلاء منتج في ذلك الوقت. وإلى اليوم لم يمت نص أبي العلاء أو نص شكسبير. لماذا؟ لأننا حين نقرأ هذا النص التاريخي نعيد كل مرة إنتاج المعنى. نعود الآن إلى النص الإلهي والنص الإنساني. ما الفرق بينهما؟ هل يتطلب النص الإلهي منهجاً إلهياً لشرحه؟ الأسئلة اللاهوتية والأسئلة الدينية ساذجة جداً ولا تقدم أي شرح. الله أراد ذلك. كل شيء حدث بإرادة الله سبحانه وتعالى. هذه هي الإجابات اللاهوتية. هذا الجواب يكشف عن عمق إيمانك، لكنه لا يشرح شيئاً. النص الإلهي مصدره إلهي لكن الوسيط إنساني. الوحي معناه التواصل، وهو تواصل غير لغوي. القرآن يقول ' أوحينا إلى النحل' أو 'أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه' أو 'إن الكفار لا يوحي بعضهم إلى بعض'. إذاً، الوسيط الإنساني هنا فيه الصوت الإلهي، الذي لم أسمعه ولم يسمعه أي مؤمن. من سمعه هو شخص واحد (محمد) ونحن آمنا بصدق هذا الشخص - خلي بالك - بصدق هذا الشخص. أي لاهوتي مسيحي سيقول إن موسى تلقى التوراة والألواح أمام بني إسرائيل كلهم. مدخلي إلى التواصل مع الكلام الإلهي مدخل بني آدم، إنساني. بني آدم قرر لي ماذا قال له الله. بلغة هذا البني آدم. وحين نتكلم عن اللغة لا نتكلم عن مفردات ومعجم، بل عما يُسمّى تعبير اللغة عن المنظومة الثقافية. اللغة عبارة عن مفاهيم مستقرة في الجماعة. تكلمت عن أنواع الكود (الرموز) المستخدمة في القرآن. الكود المرتبط باللحظة والكود الذي يتجاوز هذه اللحظة وغير ذلك.

إذاً، هناك المتلقي الأول، المبلّغ، الرسول، حامل الرسالة، وهي تعبيرات دينية كما ترى. أنا شخصياً لم أقابل الملك. الملك لم يكلمني. الملك - مع الاعتذار عن التشبيه - بعث برسالة مع الرسول لكنها رسالة شفوية، لهذا فإن اللغة التي تتضمنها هذه الرسالة ليست لغة الملك، وإنما هي لغة الرسول. 'وما أرسلنا من نبي إلا بلسان قومه'. طالما أن النبي يتحدث بلسان قومه فهذا يعني أنه يتحدث بثقافتهم. اللغة ليست وعاء فارغاً بل بنية محمّلة بالدلالات. شايف حضرتك؟ إذاً، أولاً هناك الإنسان الأول الذي تلقى الوحي. ثانياً، هناك اللغة البشرية. ثالثاً، الرسالة غير مرسلة إلى محمد شخصياً. محمد هو وسيط لتبليغ الرسالة إلى قومه. رابعاً، الرسالة تلك لم تنزل مكتملة من الألف إلى الياء مرة واحدة، بل على مراحل زمنية. كانت تنزل آيات، يقابلها المجتمع برد فعل، فتعود آيات أخرى وترد على المجتمع.

* على مدار 23 سنة؟

** نعم، القرآن يرد على كلام الكفّار في اتهامهم محمد بأنه شاعر أو ساحر أو كاهن، أو يمليه عليه أعجمي، أو أنه أساطير الأولين وهو كتبها. كان وقتها العرف أن النبي يجب أن يكون معه كتاب. وهذا هو الفرق ما بين الأميين والكتابيين. الأميون هم الذين ليس لديهم كتاب. وحين سأل اليهود محمداً أين كتابك؟، قال لهم: هذا هو الكتاب. هذا الجدل هو الذي جعلني أستخدم مصطلح 'الظاهرة القرآنية'، لأن هذه الظاهرة تتضمن الجدل والإقناع والسجال والرد. القرآن يتضمن العديد من السجالات: إن قالوا، فقل، يسألونك، قل لهم ... هذه ظاهرة مهمة جداً وهي تختلف عن ظاهرة المصحف.

* تقصد جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان؟
** نعم ترتيب الآيات وجمعها. ما أود قوله إن المصدر الإلهي لا يلغي هذه الأبعاد الإنسانية، بالإضافة إلى أن تاريخ التفسير هو تاريخ تعاقد إنساني مع القرآن. وهنا دخلت الخلافات السياسية واللاهوتية والأيديولوجية الفلسفية.

* لهذا قلت إن تفسير المفسّرين الأوائل واللاحقين هو تفسير تاريخي؟

** طبعاً هو تفسير تاريخي. ذكرت لك قبل قليل عدداً من العناصر. لهذا لا معنى في إنكار هذه العناصر من أجل القول إن هذا كلام الله، ويجب اختيار منهج خاص للتعاطي مع هذا الكلام، مع أن أحداً لم يقل لنا ما هو هذا المنهج. الذين يردون على كلامي يقولون يجب التعاطي مع القرآن كما تعاطى معه الطبري مثلاً. وعندما نتأمل كيف تعاطى الطبري مع القرآن، نجد أنه يجمع آراء جميع المفسّرين، ويقسّمها إلى آراء مختلفة، ثم يختم بالقول: 'والرأي عندي ...'. داخل تفسير الطبري الذي هو معجم كامل تجد هذا الجمع والتعدد والرأي الشخصي. عندنا مثلاً ست قراءات للقرآن بسبب تنوع اللهجات. هذه القراءات لم يجر تقنينها إلا في القرن الرابع الهجري على يد ابن مجاهد في كتابه 'القراءات السبع'. القرآن نص إلهي؟ نعم. لكنَّ له رحلة منذ البداية في التاريخ الإنساني، لا نستطيع تجاهل هذه الرحلة بادعاءات لاهوتية. يجب أن يظل هذا النص (القرآني) منفتحاً على إنتاج المعنى. مشكلتنا في العالم العربي والعالم الإسلامي هي في هذا العداء للمعرفة. النص إلهي طبعاً. على عيني وعلى راسي. أنا لم أنكر إلهية النص. لكنك هل لديك منهج إلهي.

* هل هذا التواصل غير اللغوي ما بين الوحي الإلهي والنبي محمد الذي تقول به هو امتداد لمفهوم السيوطي حول الوحي، إذ اعتبر أن الوحي نزل على النبي كمعنى وليس كلغة؟

** هذا أحد الآراء طبعاً. تصوّر النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان ساعي بريد، هو تصور فقير جداً، وخاطئ تاريخياً، لأن القرآن يناقش النبي 'يا أيها النبي اتق الله'، أو 'يا أيها النبي لم تحرّم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم'. وكذلك 'عبس وتولى/ إن جاءه الأعمى/ وما يدريك لعله يزكّى/ أو يذّكر فتنفعه الذكرى/ أما من استغنى فأنت له تصدّى/ وما عليك إلا يزكّى/ وأما من جاءك يسعى وهو يخشى/ فأنت عنه تلهّى'. انتبه إلى هذه اللهجة التي يخاطب بها الله النبي. إنها لغة زاجرة. أروي لك حكاية عمر حين سمع رجلاً يقرأ القرآن، فسأله: أين تعلمت هذه القراءة؟ فقال: علمنيها الرسول. فأخذه إلى النبي من رقبته. وقيل إن القرآن أنزل على سبعة أحرف. وقد اجتهد العلماء في معرفة هذه الأحرف. أخيراً، تم الاتفاق على أنها لهجات مختلفة. لهذا قال عثمان: 'إذا اختلفتم في'شيء فاكتبوه بلسان قريش فإنه أنزل بلسان قريش'.

نعود إلى فكرة أن محمد ليس ساعي بريد. لهذا كتبت أن الوحي كان نوعاً من الاتصال. البعض قال إن جبريل تكلم العربية. أنظر إلى الآية ' ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء إنه عليّ حكيم'. حتى الرسول يوحي إذا انتبهت للآية. المشكلة في ضعف مناعة الإيمان. والرقابة على الإيمان وحماية الإيمان الدوغماطيقي وليس الإيمان الحر هما المشكلة. مفهوم الرعية يقوم على أن المسلمين يحتاجون إلى من يحميهم من الذئاب، وهو مفهوم السلطة أيضاً. هذا مفهوم الرعايا وليس المواطنين الأحرار القادرين على التفكير والاختيار بين جميع الأفكار. هذه مشكلة حقيقية. هذا جوهر الدكتاتورية وأزمة الاستبداد.

 

إهدار السياق التاريخي

* تتحدث عما يُسمّى إهدار السياق، وإهدار أسباب النزول في القرآن. في المقابل تحدثت عن تصنيف الآيات القرآنية في كتابك 'دوائر الخوف' إلى آيات تاريخية وآيات وصفية وآيات استنكارية وآيات حكمية وهناك آيات لا تفيد إلا العبرة كقصص الأولين، أي أنك جعلت عدداً كبيراً من آيات القرآن خارج إرادة التشريع. مثل هذه الآيات في رأيك لا تهدف إلى التشريع كما رآها ويراها البعض. هل يؤدي هذا التوصيف لبعض آيات القرآن إلى تعطيلها وبالتالي تحويلها إلى نص فني.

**يعني إيه نص فني؟

* يعني قصص الأولين لا تهدف كما ترى سوى إلى أخذ العبرة مثلاً؟ ألا يتنافى هذا مع اعتبار المسلمين أن القرآن دستور حياة شامل، لا حاجة بهم إلى سواه؟

** حين أقول إن هذه الآية فيها تهديد فهذا يشير إلى نمط الخطاب. هناك خلاف كبير حصل ما بين المعتزلة وخصومهم حول الآية "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمّرناها تدميراً". إذا أخذت هذه الآية لاهوتياً تفيد معنى الجبرية. كأن الله أراد أن يهلك القوم فرتّب كل شيء لإهلاكهم. كأن الله هنا لديه خطة لإهلاك القوم. هلاك القرية هنا هو الأساس، ثم إن الله يأمر مترفيها أن يفسدوا فيها. هذه القراءة اللاهوتية. الله أراد، والله أمر، والله حقق الهدف، وهو تدمير القرية. القرية هنا مظلومة بكل المقاييس. لأن من فسد هم المترفون، وليس جميع الناس. ما هو نمط الخطاب هنا؟ إنه التهديد. تهديد قريش. كلمة قرية هنا للدلالة. التفسير اللاهوتي هنا يصنع إلهاً ظالماً وقرية مظلومة. المعتزلة، أصحاب العدل، وقعوا في حيص بيص. خرجوا بهذا التفسير.

فعل أمر هنا ليس المقصود به الفعل الثلاثي، بل آمرنا بمد الألف، أي أكثرنا من عددهم، ومنها لفظة المؤتمر، وتآمر القوم إذا اجتمعوا بعضهم مع بعض. مع ذلك فإن المشكلة ما زالت قائمة، لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي أكثر من عددهم، أي لا يزال الجبر قائماً، وعندما كثر عددهم زادت قوة الفعل. هنا لا المعتزلة كانوا على حق، ولا خصومهم أيضاً. القرآن هنا تحوّل إلى ساحة صراع لاهوتي. الخطاب هنا خطاب تهديدي تماماً كالآية "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان". أيضاً أدخلنا التفسير العلمي لهذه الآية في حواديت حين تم اعتبار السلطان هو العلم. وهذا تخريف طبعاً. هذا فرض لرؤية المفسِّر على النص. الهدف من هذه الآية هو إظهار قدرة الله. هل الخطاب وصفي؟ هل هو تهديد؟ هل هو وعيد؟ هل هو وعد؟ هل هو بشارة؟ هل هو مساجلة؟ هل هو تشريع؟ وهذا الأخير فيه مستويات ودلالات. هل المقصود بالتشريع تحسين الفعل؟ هل المقصود بالتشريع تقبيح الفعل؟ هل المقصود به وجوب الفعل؟ والفقهاء القدماء كانوا أكثر وعياً إذ اعتبروا أنه ليس أمراً معناه الوجوب. هناك معانٍ في القرآن، منها المعنى الروحي، والمعنى الأخلاقي، والمعنى الكوني، والمعنى المجتمعي والمعنى التشريعي.

* بعكس مفهوم السلفيين للقرآن حول المعنى الظاهري له؟

** المعنى الظاهري بحسب ابن حزم مختلف. ما تسميه قراءة سلفية هي ليست قراءة. هم يعتمدون على قراءات قديمة ويعتبرونها صحيحة. وهم يختارون من القراءات الكلاسيكية ما يتوافق مع هواهم. لهذا هم إلى حد كبير انتقائيون، وأيضاً عاجزون عن فهم سياق هذه القراءات الكلاسيكية. ومعظم تفسيراتهم تجيء من تفسير ابن كثير أو القرطبي. الفكر الديني حتى في شكله المعتدل معادٍ للتاريخ. التاريخ هو مجال التلوث. حتى علماء كالشافعي مثلاً كانوا خارج التاريخ. لهذا قامت ثورة عليّ حين كتبت كتابي عن الشافعي (الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجيا الوسطية)، كأن الشافعي مقدّس كالقرآن.

* لماذا لم تقم هذه الثورة على أدونيس بسبب كتابه 'الثابت والمتحوّل' والذي أفرد فيه للشافعي جزءاً نقدياً، إذ اعتبر أنه أول من أصّل أصول الفقه بالمعنى السلبي لكلمة أصول هنا؟ وإلى أي حد استفدت من أدونيس في كتابك عن الشافعي؟
*
طبعاً استفدت من أدونيس ومن محمد عابد الجابري ومن قبلهما مشايخ الفقه المصريين كالسمنهوري وأبي زهرة.

* ألا تخشى أن تقع في الأقلوية بقراءتك هذه للتاريخ الإسلامي، كما فعل أدونيس في كتابه آنف الذكر، علماً بأن قراءاتك عموماً هي قراءة أقلوية؟

** أن تكون أقلية أو لا فهذا مفهوم سياسي. يقول الشيخ أمين الخولي: 'تكون الأفكار ملحدة، كافرة، ثم يمضي الزمن دورته، فتصبح أفكاراً تتغير بها الحياة'. أعتقد أن الناس لم يقرأوني بشكل مباشر. هم قرأوني بعين عبد الصبور شاهين. تصوّر أن شخصاً مثل مصطفى محمود قال: الشيخ عبد الصبور قال. محمد الغزالي قال أيضاً: الشيخ عبد الصبور قال. هذه من أشد علامات البؤس الثقافي، أن يؤخذ الحق بالرجال ولا يحاكم الرجال على أساس الحق. أحد أعضاء مجلس النواب الكويتي (سلفي) قال عني: إنه يقول في كتابه (مفهوم النص) إن الله غير موجود. أنت قرأت كتاب (مفهوم النص). هل وجدت مثل هذه العبارة؟ لا يمكن في هذا البؤس أن يوجد فكر أكثري أو فكر أغلبية يخترق هذا البؤس.

 

من الجامعة إلى الجامع

بهذه المناسبة أعرف أنك منعت من دخول الكويت سنة 2009 لإلقاء محاضرتين، وكنت وصلت إلى المطار، لكن لم يسمح لك بالدخول. عدت من حيث أتيت، وألقيت محاضرة صوتية حضرها 1500 شخص بعدما كان المكان معداً لحضور 150 شخصاً. أيضاً سنة 2008 واجهت مشاكل حين رفضت أكثر من جهة استضافتك في القاهرة، إلى أن تم تعيين محاضرتك «الفن وخطاب التحريم» التي كنت ألقيتها في بيروت في 'مسرح دوّار الشمس'، لإلقائها مجدداً في الجامعة الأميركية في القاهرة، ومع ذلك لم تتح أمامك إلا قاعة صغيرة مما اضطر الناس - على غرار ما حصل في الكويت - إلى التجمع خارج القاعة للاستماع إليك. هل تعيش فعلا« لعنة» تقيّد حياتك؟ ومتى تنتهي هذه اللعنة؟
*
* نحن نعيش في نظم سياسية أمنية، في دولة أمنية. قبضة الأمن في رقاب الناس في كل مكان. أحدهم قال لي: من حقك أن تطلب اعتذاراً. قلت له: الأنظمة دي حتعتذر لمين ولاّ لمين؟ ومين أنا؟ شخص معروف وأي قهر ضدي يغطى إعلامياً. لكن ماذا عن القهر الذي يطال المواطن العادي؟ ماذا عن القتل اليومي للمواطن في أقسام الشرطة، وللطلاب في أقسام المحاضرات. حين تقول لولد في المحاضرة: إخرس. أستاذ جامعة يقول لتلميذه إخرس، ما تبقاش سخيف. هذا نوع من القهر أيضاً. لا أريد أن أصنع من نفسي شهيداً وضحية. لكن هذه المجتمعات تعبر عن ثقافة بائسة، وأنظمة ديكتاتورية أشد بؤساً. والشكل الوحيد لحماية هذه الأنظمة الديكتاتورية أن تشارك المتطرفين في مطاردة أي فكر نقدي. لأن الفكر النقدي يهدد السلطة أيضاً. الفكر النقدي لا يتحدث فقط عن التاريخ والتراث. الفكر النقدي إذا كان يهدف إلى تحرير الناس من سلطة النصوص، فإن أول هذه السلطات هي الديكتاتورية. أنا أحتقر هذه السلطات رغم أنني لا أعتبر أن هذه السياسات موجهة ضدي شخصياً. هذه السلطة تخاف من رواية، من قصيدة، من لوحة، من أغنية. المشكلة أن الحكومات تتبنى ثقافة الإقصاء هذه قبل الجماعات المتطرفة. ثقافة البؤس هي الثقافة المعادية لأي شكل من أشكال الفرح الإنساني. الفرح الإنساني جزء منه الاستمتاع بالمعرفة، والاستمتاع بالموسيقى والأغنية والقصيدة، الاستمتاع بالجمال، جمال الناس وجمال الطبيعة. شوارعنا قبح، إعلامنا بشكل عام قبح، الوجوه التي تطالعنا أحياناً فيها قبح. فساد سياسي، فساد اقتصادي، فساد اجتماعي.

* وهل ستعود للعيش في مصر في ظل هذا القبح والفساد اللذين تتحدث عنهما؟

** أعيش في هولندا، لكن زياراتي إلى مصر زادت في الفترة الأخيرة. الآن بلغت سن التقاعد

* (ممازحاً) أنت متقاعد من مصر.
** (يضحك) قصدي تقاعد رسمي من الجامعة. حين دعيت للمشاركة في الاحتفال في الذكرى المئوية لتأسيس جامعة القاهرة سنة 2008، تفاجأت أن الفاعلية نظمت في فندق. قلت: معقول أن الجامعة المصرية تحتفل بمئويتها في فندق؟ هذه جامعة 'مكسوفة' من نفسها. خجلانة من روحها، زي ما تكون بتداري عورة.

* لديك عتب على الجامعة. هل السبب أن ما جرى لك إنما جرى داخل أسوار الجامعة؟
*
* مش عتب أشد من العتب. الجامعات في مصر تحولت إلى جوامع، جوامع بالمعنى السلبي طبعاً.

 

تحرير الإنسان من النص
*
طالبت بتحرير الإنسان 'لا من سلطة النصوص وحدها وإنما من كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان في عالمنا، علينا أن نقوم بهذا الآن وفوراً وقبل أن يجرفنا الطوفان'. هل يشمل هذا الكلام النص القرآني أيضاً؟
** إسمح لي أن أكون واضحاً. طبعاً هذا الكلام ورد في كتابي عن الشافعي. وقد تعرض هذا الكتاب لردود كثيرة. الإمام الشافعي تحوّل إلى نص وسلطة. حتى القرآن كيف يتحول إلى سلطة؟ يتحول عبر الجماعة التي تؤمن بأن هذا النص القرآني مرجعيتها. لكن ما يحصل في التاريخ هو اعتماد قراءة واحدة صحيحة واعتبار القراءات الأخرى هرطقة. هذا الأمر يحوّل النص طبقاً للقراءة الواحدة إلى سلطة. هكذا يصبح المتحدثون باسم النصوص هم السلطة. النصوص نفسها لا تمتلك أي سلطة. لو كان تم القضاء على المسلمين وبقيت صفحات من القرآن فلن يكون لهذه الصفحات أي سلطة. وعليه، فإن التحرر من سلطة النصوص في العبارة التي ذكرتها في سؤالك هو تحرر من سلطة التأويل السلطوي للنصوص والتي تحتكر تأويل النص الديني.

* أي النصوص الموازية إذا صح التعبير؟
*
* النصوص الثانية والثالثة والرابعة .. حتى القرآن نفسه كمصدر يحتاج طوال الوقت إلى إعادة قراءة مستمرة. إذا كان المقصود بأن سلطة القرآن تأتي من قراءته مرة واحدة وإلى الأبد، فهذا يعني أن هذه السلطة ضد النص نفسه، ضد طبيعة النص نفسه المتعدد المعاني وفقاً للتغيرات الزمنية والمكانية.

* هذا يعني أنك لا توافق على أن النص القرآني يحمل معنى العنف، كما يفسّره البعض ويعمل على أساسه من خلال الآيات التي تحض على القتال من مثل 'وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم' أو 'قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله' أو 'أقتلوهم حيث ثقفتموهم'.
*
* بعض الساسة اليمينيين في الدول الغربية، يأخذون هذه الآيات التي يستخدمها الإرهابيون ويعتبرون أنها تمثل جوهر القرآن. هذه قراءات غير سياقية. في السابق حض القرآن المسلمين على القتال: 'وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان'. هذه آية تحض الناس المترددين في القتال. السؤال هو: إلى من يتوجه هذا النص؟ ولماذا؟ وبأي لهجة؟ المسلمون الأوائل كانوا يقاتلون أهلهم وليس الصهيونية أو الإمبريالية. الأمر الآخر أن الذين دخلوا في دين محمد إنما فعلوا ذلك بداعي التسامح والقيم الإنسانية والإخاء. 'يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالي فيه كبير وصد عن سبيل الله' ( العرب قبل الإسلام كانوا يحرّمون القتال فيما يعرف باسم الأشهر الحرم وهي ثلاثة أشهر). لهذا فإن الآية المذكورة تحض المسلمين على القتال ضد أناس قريبين إليهم بمعنى النسب.

* يُخشى أن تحوّل هذه القراءات المتطرفة القرآن إلى شريعة فقط؟

** صحيح، اختصروا القرآن إلى تشريعات. وهم يعتمدون في هذه التشريعات على المتأخرين، أي على علم المتأخرين. لهذا حين أجري قراءة أقسم الموضوع إلى ظاهرة النص وظاهرة القرآن وما قبل النص وما بعد القرآن. وهذا تقسيم إجرائي علمي ضروري. يجب أن نعرف كيف تم تداول القرآن ومعانيه في علم الكلام والفقه والبلاغة والتصوف والفلسفة والأدب والشعر. هناك الكثير من القراءات الأيديولوجية من قبل إرهابيين أو مدعي حداثة. القرآن ليس نصاً إرهابياً ولا نصاً حداثوياً. أن تسأل القرآن أسئلة خاطئة من مثل إن القرآن لا يدعو إلى المساواة أو لا يدعو إلى حرية الأديان، هي أسئلة ساذجة لأن هذه الأسئلة هي أسئلة خاصة. كمسلم عليك أن تحاور القرآن لإيجاد أجوبة لهذه الأسئلة. خذ مثلاً موضوع الديمقراطية. فجأة اكتشف المسلمون أن القرآن نادى بالديمقراطية من خلال الشورى. لكن قبل القرن التاسع عشر ما كان في إمكان المسلمين معرفة أن الشورى قد تعني الديمقراطية، والسبب أن الديمقراطية لم تكن سؤالاً مطروحاً. هذا ما قاله محمد رشيد رضا في رده على الذين كانوا يقولون إن الشورى تعني الديمقراطية، متسائلاً كيف كنا سنعرف أن الشورى نص ديمقراطي لو لم تأتنا الديمقراطية من الغرب؟ أي إهدار للسياق حتى في النصوص التشريعية يؤدي إلى مخاطر كثيرة. مثلاً، آية "الرجال قوّامون على النساء" لا يمكن أخذها بحرفيتها، أي عدم وجود مساواة بين الجنسين. مثل هذا التفسير هو إهدار لنصوص كثيرة وإهدار لسلوك النبي نفسه.

* كأنك حين تتحدث عن الشورى تنفي أن ما جرى في سقيفة بني ساعدة عقب وفاة النبي، أي انتخاب أبي بكر الصديق خليفة أول للمسلمين، كانت نوعاً من الشورى؟

** طبعاً لم تكن شورى. ثم إن آية 'وأمرهم شورى بينهم' آية وصفية. آية "وشاورهم في الأمر" هي التشريع. والمقصود هنا مشاورة أهل الحل والعقد. لكن نحن اليوم لسنا في زمن أهل الحل والعقد. نحن في زمن انتخابات نيابية نختار من خلالها أشخاصاً ثم نرفضهم ونأتي بأشخاص غيرهم وبمعايير مختلفة كثيراً. خذ مثلاً حين تم تأسيس مجلس شورى في السعودية. أهل الحل والعقد عيّنهم الملك ولم يخترهم الناس. يعني الديمقراطية من أعلى وليس من أسفل. يجب أن نتجنب استخدام المصطلحات استخداماً خفيفاً. الديمقراطية من أسفل جوهرها الحريات الفردية. الناخب يجب أن يكون حراً فعلاً وليس مدفوعاً أو مدسوساً في جيبه 'عشرة جنيه' أو 'واخد' وجبة من الحزب وغير ذلك. هذا يدخل في الإكراه الاقتصادي والإكراه الاجتماعي والإكراه التوظيفي. من'ضمن الحريات الفردية حرية تغيير الدين مثلاً. الحريات لا تتجزأ. من هنا، متى لا يعود نصر أبو زيد أو أدونيس أو غيرهما أقلية؟ عندما تصبح الأقلية والأكثرية مصنوعة سياسياً طبقاً لمجتمع حر.

 

مخيلة القرآن
*قلت إن الدين فكر غيبي، ورددت ظاهرة الجن والثواب والعقاب والملائكة إلى مخيلة أسطورية. هل تنفي مثل هذه العقائد التي وردت في القرآن؟

** هل القرآن كتاب عقائد؟ كنص هو يستخدم ما في مخيلة العرب وما يملكون من أوهام. هذا كلام قاله محمد عبده وأمين الخولي. حين يقول القرآن 'تتخبطه الشياطين من المس'، فسرها محمد عبده كمعتقد شعبي وليس كنظرية قرآنية حول مس الشياطين. حين يتكلم القرآن عن السحر فإنه يتحدث عن كلام في ذهن العرب، وليس لأن القرآن يؤمن بالسحر. القرآن يحض على العطف على المساكين والعطف على الفقراء، فهل يعني هذا أنه يجب أن يكون لدينا مساكين وفقراء؟ يعني إذا لم يكن لدينا مساكين وفقراء نخترعهم أو نوجدهم. وطيب إذا لم يكن عندنا مساكين وفقراء فهل يعني هذا أن جزءاً من القرآن تم إلغاؤه؟ خذ مثلاً العبودية التي لها أحكام في القرآن. هذه العبودية انتهت اليوم. ماذا نفعل إذاً بهذه الأحكام؟ هذه الأحكام تحولت إلى شواهد تاريخية. هناك من يقول إنها منسقة أي مؤجلة، لأن العبودية قد تعود مجدداً. الله يبشّرك بالخير. هناك من يظن أن المعنى أزلي في القرآن. أنا أرفض تسمية منسق وأقترح بديلاً لها مصطلح المنسوخ التاريخي. أي أن نسخ الحكم في النص القرآني سببه تطور التاريخ. لا تستطيع إيقاف القرآن خارج التاريخ. القرآن بشكل عام يخاطب - إلى جانب مخيلة المتلقي ووجدانه - الحس الإنساني العام. إذا تأملت في القرآن ستجد أن خطابه عقلاني، ليس بالمعنى الحديث للكلمة، لكن بمعنى النظر والتبصّر والاعتبار والتفكر. هذه مثيرات يلجأ إليها القرآن. لكن إذا تأملت الواقع والآفاق وسنن الله في الأرض ستصل إلى نتائج توصلك إلى الإيمان. هناك سجال دائم في القرآن. حين كان الناس يسألون النبي عن العذاب الذي وعد الله به كان الرد القرآني يأتي بهذه الصيغة 'وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم'. القراءة العميقة للقرآن هي ما أسعى إلى تزويد القارئ بها، سواء كان مسلماً أم غير مسلم.

* أثناء مسيرتك الفكرية الطويلة أين أخطأت في رأيك؟ أين راجعت نفسك؟

** من المؤكد أن من يتابع عملي سيجد انتقالات. لا تعني هذه الانتقالات أنني كنت على خطأ ثم صححت. الباحث لا تتوقف عنده الأسئلة. عندما يتوقف الباحث عن طرح الأسئلة عليه أن يلف نفسه في كفن وينتظر الموت. لا أتحدث فقط عن كتبي، وإنما عن حواراتي مع طلبتي، وفي المؤتمرات الجادة. أنا أتعلم كل يوم. حين أتوقف عن العلم سأشعر أنني أصبحت مريضاً.

* دكتور، حدثت حالات نهضوية فردية في العالم العربي منذ القرن التاسع عشر. ما يطلق عليه النهضة الأولى، والنهضة الثانية، لم يكن أكثر من مبادرات نهضوية ظلت معزولة، إضافة إلى أن عدداً كبيراً من النهضويين تمت محاكمتهم: الطهطاوي نفي، محمد عبده هُمّش، علي عبد الرازق حوكم، طه حسين تم دفعه إلى تغيير بعض آرائه في كتابه 'في الشعر الجاهلي' وصولاً إلى لويس عوض ونجيب محفوظ وأمين الخولي وليس آخرهم نوال السعداوي. هل تظن أن فكر نصر حامد أبي زيد سينتهي معزولاً ومجهضاً أم تأمل عكس ذلك؟

** بداية دعني أوضح أن هؤلاء الأشخاص وإن لم يصلوا إلى كل المجتمع لكنهم كانوا مؤسسين وأساسيين. تتحقق النهضة بالأفراد، إذا كان هناك مؤسسات ثقافية وسيطة تنقل فكر هؤلاء الأفراد إلى مستوى أوسع. ثم هناك الوسائل الوسيطة الأخرى، أي الإعلام. وسائل الإعلام عندنا لا تقوم بهذا الدور. لهذا لا نستطيع أن ندين الأفراد أو نتهمهم بأنهم نخبة. أنا مثلاً كنت أدرّس في الجامعة. هذا يعني أنني مسؤول عن نحو 500 طالب. وهذا كان هدف الدعوى ضدي، أي فصلي من الجامعة. ولم يكن من سبيل لفعل ذلك إلا اتهامي بأنني مرتد. الإعلام لا يقوم بالدور الذي يمكن أن تقوم به الجامعة. حين تتم استضافتي في منبر إعلامي تطرح علي أسئلة سريعة وخارجية. الإعلام لا يلعب دوراً تنويرياً، لأننا نفتقد إلى حركة تنوير عامة. هناك طبعاً محاولات فردية في الإعلام المرئي أو المقروء أو المسموع، لكنها لا تشكل تياراً. ما أود قوله لا يوجد أفكار تموت. لكن السؤال هو: كيف يستطيع المجتمع أن يعطي لهذه الأفكار نفسَاً. هذا هو السؤال.

 

نقلا عن (القدس العربي).