خمس قصائد

رنا التونسي

(1)

كيف تصف العراء

وأنت ساكن فيه.

ممرات من الضوء مربوطة بأجنحة بعضها البعض

تربط أختي الضفيرات

واحدة فوق أخرى

بنات صغيرات يعبرن الظل ممسكات بأيدي بعضهن.

كم أود أن أخرج ذلك الخوف من صدري يا أمي

اخرجه شحاذا في ملابس رثة نائما على رصيف مسروق

أجذبه من شعره الطويل اللانهائي

أرميه لصا سرق حواديت عمر.

أتمنى أن اقتله

أن أمرغ رأسه في التراب

أتركه يبكي كعصفور

نواحا  صغيرا وهادئا

 ربما يجبرني أن أسامحه.

نسيان بدأ يطفو

وأنا لم أعد صغيرة

لأركض إلى البيت.

 

 (2)

سأعاقر الخمر والنساء

كنت أريد أن أقول هذا الكلام

لكني تذكرت أنني من "النساء"

وأنه لا يمكنني الحصول على خمر إلا ببطاقة

لا يحصل عليها إلا من عنده عمل

وأنا أعمل فقط

عندما أضجر من المشي في الممرات.

 

(3)

استسلمت للا سعادة
وضعت يدي على شعلة القلب واطفئتها..
أحب الحياة في بلدان العالم الثالث
أحلم بالحرية،
وبالثورة أحيانا أخرى.
أفكر في الفرق بين الحاجة والعوز
إن كان يوجد فرق أصلا أو مرارة عابرة.
أفكر في أنهار تبعدني عن العالم
خريطة تقلبني على وجهي خائبة
وأنه لأبد أن أكون ثائرة في زمن ما
وأن أكره اليأس.
أريد أن أرمي اليأس من النافذة
أو أتركه يأخذ نفسا عميقا
ويقفز وحده
قفزة واسعة
يمكنها أن ترسلني إلى البيت.
صورة فوتوغرافية
جرس باب
وأنا
لن أفتح.
عندما عدت إلى بلدي
أحسست أني فريق كرة قدم
يلعب وحده بحماس.
وجدت يدي تلعب في التراب
تأكل من على الأرصفة
تصطاد سمكا جائعا
وتمشي ببطء.
وجدت صديقي قد مات فعلا
ميتة لن تسامح عودتي
وترجعه من جديد.
وجدت أن لا أحد يسامح أحلامي
وأنه عندما أريد أن أرجع
لا يبتسم لي الطريق.
الحب وحده
قبلات تصعد
تدق الباب
تقف معلقة أدعية أم
تنظر من شراعة بيت
لم يعد له وجود
وعين لم تعد تخشى مَن الداخل.
سأرحل وحدي نحو بلاد جديدة
منتظرة أن يلاقيني شخص ما
ويسألني عن الشعر.
سأذهب وحدي
إلى دكاكين أخرى
إلى مقهى
وصالون شعر
أقص عليهم حكايات طريفة عن الأسرة.
والحنين كتاب مفتوح
ابتسامة
تنسل مني وردة حمراء خجولة
نهرا يسير ببطء
رسالة حب. 
أحب الحياة في الأفلام وحدي
حالمة بقوارب كثيرة تأتي لانقاذي
ترسو على شاطىء بحر أحبه.
قوارب
يقفز منها رجل يسكن في تلفاز
يخبرني أخبارا عن العالم
خلافات لن تهددني
"
نزاعات محلية"
يطمئنني.
أخر يقرأ لي كتابا
يقبل أصابعي،
يحب أمي
ولا يدعوها حماته.
حين تلتفت أختي الصغيرة إلى
تبعثر الكلمات أثناء نومها.
حين ترتفع الكرة إلى حائط خيالي
لا أعرف كيف أطوحها
من سأحضن ساعة الفوز،
وحين لا أفوز
ولا أشعر بالخسارة.
يبدو الآن أنه لم يعد لي أصدقاء
حبيب يعذبني
لم أعد أحلم بالسفر..
الطرقات كلها تتقاطع وتعبر من فوق جسدي المائل
أسماء الشوارع معلقة كأقراط من الحزن في صدري
السيارات المسرعة شرخ مستمر في شبابي
وبعض أغان جميلة
لم تعد تعرف كيف تحفظني.

 

(4)

صدى الصوت وطقطقة عظام تيبست قبل الزهور في أواني زجاجية رخيصة والمياه علامة على العطش، نمشي في أحدى الحارات مترنحين لا بهدف البقاء في القصيدة ولكن لأنا رأينا أنفسنا في الهواء الذي يهب على تسريحة الشعر ولمسة اليد الرقيقة. مكثنا هناك، تركنا الخيول تهز رؤوسها معرفة في المكان وحاولنا أن نمسك الضوء بالكاميرات الصغيرة. وضع يديه على يديها محاولا منعها من التقاط الصورة. في الحقيقة لم يضع يديه بل تحرك حركة بسيطة دليل عدم راحة لتعرف هى ألا تأخذ الصورة.

كان الرجل الذي يعزف الكمان يقف هناك كلوحة هزيلة في شارع مترب صغير منتظرا أن يترك الناس له النقود مقابل البقاء والعزف طويلا وحيدا. كنت أرى أن لا أحد يسمعه والرجل مازال باقيا هناك منكمشا كأنه يحتمي من رصاصة. فكرت أنه لو صرخت في وجهه كالمجنونة أو تركت له حجارة صغيرة بدلا من العملة المعدنية ربما سيبتسم ويرجع إلى الجدار ثانية. لا أحد يسمعه.

حاولت أن تضغط بأصبعها وتلتقط الصورة فارتعش العازف ارتعاشة سرت في البلاد كلها وانتفض صديقها قائلا : فكرت أنك ستأخذين له صورة؟!  تؤمى برأسها:  لا.

 خائفة من أن تكون نظرتها التي بقيت هناك ظلت تجرحه.

 

(5)

تسرح شعرها البني الطويل كحوريات البحار. شعرها مثل ألات موسيقية جميلة تعزف عليها شياطين تائهة. تسرح شعرها منذ زمن طويل ، تجمع المتساقط منه صانعة منه وسادة. تخبرنا أن هذه وسادتها وقت الموت: أرض القبر من الممكن أن تكون باردة. كانت هذه الوسادة هى كل ما عملت جدتي طيلة سنوات عمرها على اخذه معها . تتحدث عن وسادتها كأنها ستأخذ معها كتابا تقرأه.

عندما أزورها وفي يدي دمية صغيرة تمسكها تنظر اليها  بحب كأنها منها. بعدها لم  أكن أشعر أن الدمية تخصني أمام نظرات جدتي الحيرى .

كنت اُضرب دائما في المدرسة. حتى عندما ذهب والدي مرة واعطى لناظرة المدرسة كارتا شخصيا كانت الناظرة أمامه تداعبني تلمس شعري بلطف. لكن بمجرد خروجه لا أعرف ماذا فعلت لتضربني من جديد. حتى جاءت جدتي. وأصرت أن تضرب بيدها المدرسة التي ضربتني، نفس الصفعة في نفس المكان والجميع يحاول أن يمنع جدتي من الوصول.