مقاربات

عندما تتجرد الصور الفظيعة من فاعليتها!

محمد الناجي

صدر مؤخرا عن دار نشر أوروبرينت بالدار البيضاء، المغرب، كتاب فني بعنوان "ثلاثة وثلاثون يوما في لبنان".. النص للكاتب المغربي الكبير إدمون عمران المليح، واللوحات للفنان التشكيلي حسان بورقية.. وقد سبق لهما ان اشتغلا معا عن غزة وقانا، خصوصا أن الثاني معروف بترجمته لأعمال ومقالات الأول. وقد سبق لحسان بورقية القيام بعدد كبير من المعارض الفردية و الجماعية في أهم أروقة المغرب وخارجه بكل من البرتغال، وفرنسا، والإمارات العربية المتحدة، والبرازيل، والمكسيك، وقطر، والسعودية، ورومانيا، وإيران، والجزائر، وسورية، والكويت، والأردن وموناكو وغيرها.. وله أعمال في متاحف مؤسسات مغربية و أجنبية، آخرها متحف الفن الحديث بنيويورك..كما عرف بكتاباته النقدية والقصصية، عرف أيضا بترجماته لبعض أعمال نيتشه، إدمون عمران المليح، بول ريكور، عبد اللطيف اللعبي، محمد نيد علي، بعضها فردي أو مع الناقد والروائي د.محمد برادة أو المترجم محمد الناجي.. جاء في الكتاب ما يلي:

«ها نحن في مرسم حسان صحبة بعض الأصدقاء... أشعر بالسعادة لوجودي هنا، ويهزني الشوق لمعرفة آخر الأعمال التي أنجزها حسان. بتواجدي في هذا المرسم أشعر على الفور، في جو من التأثر، بأن هذا المكان بمعماره وأقواسه، يجسد ذاكرة قديمة ومعاصرة في آن واحد. ترى ماذا يكون هذا المكان؟ إنه المادة والنواة الخصبة لعمل كبير يفرض نفسه بأصالة إبداعية تتميز بشاعرية المادة التي يشترك فيها حسان مع فنانين آخرين وعلى رأسهم خليل غريب. وأنتهز الفرصة هنا لأفتح قوسا غنيا بالدلالات لاعتبارات عديدة. أقول، كما جرت العادة بأن يقال، بأنني قد واكبت أعمال حسان، المكتوبة منها والمرسومة، بما كتبته عنها من نصوص. هاته الثنائية في النقد الفني تعتبر تبسيطية بشكل فظ، بل محزنة.

هل فكرنا حقا في سبر أغوار الدلالات، والتداخلات التي تتضمنها علاقة المشاهد باللوحة التي تعرض أمامه بقوة تكفي لإثارة انتباهه، والتأثير فيه بحيث يصبح بوسعنا الحديث عن ذاكرة بصرية؛ يزداد تعقد هاته العلاقة حين يربط المشاهد العلاقة كذلك بالرسام، بالفنان، فيفسح هذا المشاهد المكان للكاتب الذي يمارس النقد في ظل هاوية اللايقين والمخاطر التي تتضمنها كل الافتراضات. نقطة البؤرة هنا هي نشوء تأثير متبادل أو ما يشبهه بين الناقد والفنان، بحيث يمكننا التأكيد بأن أحدهما يرسم والآخر يكتب، كما يمكننا بذلك إثبات العكس. تكشف عبقرية النفري، هذا المتصوف الشهير، عن وجود الحقيقة في التناقض، وهو ما يشكل قطيعة مع منطق الفلسفة الغربية. هذا هو الثمن الذي ندفعه مقابل خوضنا غمار المياه العميقة للرسم والإبداع الجمالي كيفما كان.

يقول صامويل بيكيت في 'السروال والعالم'، وهو نص رائع، وحاسم، خصصه للرسامين برام ان يلد وأخيه، يهاجم فيه النقد الفني الشبيه بتشريح آلي، بأن المشاهد، حتى وإن كان ثرثارا، يلتزم الصمت حين يقف أمام اللوحة. يضعنا بيكيت على طريق حقيقة ما في هاته العلاقة الفريدة والمتميزة التي تربط بين المشاهد واللوحة التي يقف أمامها.

أتحدث هنا عن علاقة تدوم في الزمن، وهي مختلفة عن لحظة افتتاح المعرض التي يضيع فيها الرسام وأعماله المعروضة وسط جلبة الحديث وقرقعة كؤوس الشاي أو غيرها. لا أريد الاكتفاء بالعموميات. أكتب وحولي ما أتغذى به: لوحات الشرقاوي، خليل الغريب، يامو، التيباري كنتور، ان غوغ (أعمال مقلَّدة). في مثل هاته الظروف وحدها أستطيع أن أكتب، مقدِما على مجازفة كبيرة بحديثي عن الرسم، تحدوني الرغبة في أن أتقاسم مع القارئ قوة الشعور الذي ينتابني، ذلك الجرح السري كما قال عنه جان جينيه في النص الذي كتبه عن جياكوميتي. وفجأة، بعد هنيهة من معانقة سواد الحرف لبياض الصفحة، نجد أنفسنا خاويي الوفاض، مسلوبي القدرة على الكتابة، فالكلمات خانتنا وهجرت ساحتنا، خدعة تريد أن تبدو مطمْئِنة لنا بخصوص إمكانية القول والتعبير، كالنار التي تلتهب تحت الرماد. لهب ورماد مثلما عبر عن ذلك صديقنا حسان، هذا هو وهج السؤال. الاكتشاف، بالمعنى الأصلي للكلمة، الذي لا نستطيع معه الكلام للتو.

بلوحاته الثلاث والثلاثين، التي تطلب إنجازها شهورا من الجهد الدؤوب والمتواصل الشبيه بالتأمل، يقدم حسان إجابته عن تلك المأساة الجديدة التي جسدها العدوان الإسرائيلي على لبنان صيف 2006.
ثلاث وثلاثون قطعة مرتبة بشكل محدد يجب أن نعرف عن أي شيء يجيب. يتشكل هذا الترتيب من خمس سلسلات، حسب ما نستشفه من الأظرفة المتضمنة للصور. نجد ها هنا كتابة دقيقة لا تظهر فيها الطبيعة بجلاء. ومن جهة أخرى يعتبر هذا العمل فكرة تنم عن نضج كبير حين ننظر إليه في مجمله.
منذ النظرة الأولى، وفيما يشبه الحدس، شعرت بأنني أمام عمل كبير، عمل حاسم في المسار الفني لحسان، ولكن المفارقة هي خشيتي في ذات الوقت أن لا يحظى هذا العمل الجبار بما يستحق ويتم إدراجه ضمن أعماله دون أن يتم تمييزه. والحديث عنه يعتبر أمرا مهيبا. والحل الأمثل هو الانخراط في العمل الإبداعي، في محاولة للمتابعة الدقيقة للحركة التي ستبعث الحياة في بياض كل نقطة من العمل لتزرع فيها بذرة شيء أساسي يريد التعبير عن نفسه ككلام يغلفه الصمت.

يجدر بنا أن لا نغفل كون الرسم لغة، ويجب أن نتناوله من هذا المنطلق. بهاته الطريقة يتعامل حسان مع هذا الحدث، الذي تأثر له غاية التأثر، وهو حدث يندرج ضمن تاريخ طويل موصوم بسياسة الرعب التي رأيناها في صبرا وشاتيلا وفي قانا صيف 2006. ورغم كون الحدث سياسيا فإن العمل الفني الذي أنجزه حسان، هاته القطع الثلاث والثلاثين، يشبه في صداه ابتهالا، بالمعنى الأصلي للكلمة، قصيدة تعبر عن المشاعر، قصيدة رصينة، مجردة من النوايا الإيديولوجية أو السياسية. هنا، كما في أي مكان آخر، يحمل العمل الفني، مهما كان متواضعا، في ثناياه أصلَه، وغايتَه، كالجوهر الفرد، تلك الوحدة الكاملة كما عرَّفها الـيثاغوريون. بعيدا عن كل مرجعية فلسفية مفاهيمية هذا هو الشيء الذي يفرض نفسه في اللحظة الأولى المتميزة التي تقع فيها العين على اللوحة، والتي يضمن لنا فيها المعيش وسعادة الاكتشاف حقيقة مهما تكن نسبية. ثلاث وثلاثون قطعة كنبضات رعشة الحياة. لا يقوم حسان، كما نعلم، بالسرد التجريدي المريح نسبيا، بل ينتمي لتقليد بدأ مع ظهور لوحة بيكاسو المشهورة "غرنيكا". قبل المضيّ قدما في هذا المقال أشير إلى أن فنانين ورسامين آخرين قد قدموا هم كذلك أعمالا أتت ردا على أحداث كغزو العراق أو قضية فلسطين المصيرية. أذكر، على سبيل المثال لا الحصر، لوحات قاسمي وعملا واحدا من نوع التنصيب، وكذلك ما قام به فؤاد بلامين للتنديد بالحرب. أما خليل غريب فقد اختار أن يفعل ذلك من خلال تكريمه لمحمود درويش بعمل يلامس حافة الفراغ.. وهو ما جعل الناس لا يفهمونه.

أصبحت «غرنيكا» لوحة مشهورة ورائعة لاعتبارات عديدة، وبلغت في ذلك حدا لم يعد معه الناس يعرفون الظروف التاريخية التي واكبت ظهورها. كان ذلك خلال الحرب الأهلية الإسبانية، عندما تعرضت مدينة غرنيكا، وهي مدينة صغيرة في إقليم الباسك، للقصف الجوي في يوم 26 نيسان (أبريل) سنة1937. بعد هذا الحادث بقليل شرع بيكاسو، بطلب من الحكومة الجمهورية، في رسم هاته الجدارية، مسجلا بذلك حدثا بارزا في تاريخ الرسم والفنون التشكيلية. تم إنجاز هذا العمل ليتم تقديمه في المعرض الدولي الذي كان سيقام في باريز آنذاك. وكانت تلك قطيعة مع غويا، مع المنحوتات التي جسد فيه أهوال الحرب ومع لوحاته الرائعة 'دوس دي مايو'، التي رد بها على اجتياح جيش نابليون لاسبانيا. بذلك أبدع بيكاسو رؤية جديدة وجريئة، بل عبقرية، للرسم لفائدة تلك الحركة التي تعد فألا حسنا.

الآن وقد انتهيت من هاته التدقيقات يجب علي أن أتصدى للتحدي الذي تشكله هذه القطع الثلاث والثلاثون المكونة للعمل الكلي الذي لا يفتأ يفتننا نظرا لكونه يحاذي هاوية الصدفة واللايقين. لقد غير التلفزيون مقاربتنا للحرب، ونظرتنا لها، وللرعب الذي تجسده، تغييرا جذريا، جاعلا منا شهودا مباشرين نعيش الحدث إبان وقوعه. سيظل أبرز مثال على ذلك هو مشاهدتنا على الهواء مباشرة لأحداث 11 ايلول (سبتمبر) التي عرفتها مدينة نيويورك: رؤية الأجساد وهي تقفز في الفراغ كرموز مجهولة، وغامضة الدلالة. لقد أتخمتنا وسائل الإعلام بسيل من المشاهد، وصُوَر الرعب إلى حد يثير الغثيان. وبذلك تتحقق رؤية والتر بنيامين النبوئية حول مشاهدة الإنسانية عرضَ تدميرها. يؤدي كل هذا إلى طغيان السلبية، ويتم تجريد الصورة من فعاليتها بحيث يمكننا أن نقول، مع احتمال وقوعنا في تناقض، بأن الصورة تعمل على تدمير نفسها. إنه رعب فظيع... فالجثث والدمار لم تعد لهما الدلالة التي يفترض أن تكون لهما.. إنه العمى.

لست أدري ما إن كان حسان سيشاطرني هذا الرأي. ومع ذلك فهذا هو المناخ الذي يغلف التحدي الذي خاض غماره، ضرورة الرد على مجزرة قانا، التي هي عنوان العدوان الذي شنته إسرائيل على لبنان. ضرورة تكسير الصمت المتواطئ والنسيان الذي بدأ يطال القضية. من الواضح أن حسان لم يكن ليقدم على القيام بذلك من خلال لغة غير التي استخدمها هنا. فلو أنه لجأ إلى التجريد لانكشف الأمر وكان مآل عمله الفشل.

الآن حان أوان الدخول في صلب الموضوع؛ تخيلت خطة استوحيتها من كونه قسم الصور التي أخذها للقطع الثلاث والثلاثين إلى خمس سلسلات وضعها في خمسة أظرفة. نستشف من ذلك نيته وضع ترتيب لها من الصعب عليّ تبينه. أتصور نفسي بحارا يبحر إلى وجهة لن يعرفها إلا حين يبلغ أعالي البحار ويفتح الرسائل المختومة التي في حوزته ليعرف التوجيهات التي تتضمنها. خمسة مغلفات أو رسائل مختومة. ها قد بلغت أعالي البحار. فتحت المغلف الأول بانفعال، وجدت فيه صورا للقطع السبع الأولى من بين الثلاث والثلاثين. من المسلم أنني لا أستطيع المجازفة بوصفها، وليس هناك ما أصفه علاوة على ذلك. الشيء البارز فيها هي الكثافة الشديدة للون الممتدة من انعدام اللون الذي يغلب عليه اللون الرمادي، وهي أبجدية حسان إن شئتم القول، حتى لون الصدأ الأحمر. لهب ورماد، هذا ما يكتب به حسان. ولشعورنا بالإحباط نتساءل عن كيفية وإمكانية العثور على الكلمة المناسبة لنعبر عن ذبذبات اللون بحيوية النظرة الآنية وحِدَّتها. كيف نلمس بالأصبع هذا الخليط المعدني، واجهات القطع الشبيهة بالجدران التي تنطق بما تحمله من آثار. يتضمن المغلف الثاني صور ثلاث لوحات لها ميزة خاصة. قضبان حديدية يعلوها الصدأ، مسامير منثورة على خلفية بيضاء، تربة مستقدمة من كوبا اشتغل عليها الفنان. إحدى التقنيات التي يتميز بها حسان هي اشتغاله على أتربة لها مزايا جمالية بدل الاشتغال على الأصباغ. ما تتم إحالتنا عليه هنا بطريقة رمزية هو الدمار والأنقاض.

يجب أن أوضح أمرا هاما هنا. لا ينبغي أن يُفهم من طريقة تقديم اللوحات أن هناك قطيعة بين كل لوحة وبين الترتيب الكلي للوحات. لأن هناك بالفعل استمرارية في التنوع المسجل عبر الزمن، الزمن المعاش الذي يتغذى على دلالاته ومقاصده العديدة. في اللحظة التي يتجسد فيها هذا العالم الداخلي ويأخذ شكله على اللوحة، حينها فقط يتم تقديم اللوحات بشكل منفصل.

في المغلف الثالث كذلك نجد ثلاث صور لثلاث لوحات. الشيء المفارق في الترتيب، في نظري، هو كون هاته اللوحات تمثل لحظة تنفذ فيها الرؤية إلى قلب مشهد الرعب في صمت دون حمولة زائدة. رسمت سلسلة أولى من هاته اللوحات المجردة على خلفية رمادية متميزة نُثرَت عليها بقع سوداء متفرقة في حالة انتظار. يتركز النظر على هاته اللوحات التي تتخلل أعلاها وأسفلها خطوط عرضية. يقع النظر على أحجار سوداء متفحمة، وحطام معدني، البقايا وقد بعثرتها الفوضى... لهب ورماد، شغف حسان يتجسد في هاته التنويعات. التناقض الصارخ هو ما قد تمثله هاته القطع المعدنية الصدئة التي تطوق بياضا تجاوره في مكان آخر بقايا متفحمة.

وفي اللوحات التالية من حيث الترتيب تبلغ الرؤية أوجَها. وتعتبر في نظري هي الأجمل من بين اللوحات الثلاث والثلاثين كلها بسبب توهج المادة، والتحكم في الفضاء، وبنيتها الغنية بوفرة التفاصيل، تلك اللحظة التي تظهر فيها اللوحة أمام العين بأنفاسها الخفية. أعتقد أننا نلامس هنا شيئا أساسيا. نعرف عن تجربة أنه لا يمكننا حصر اللوحة في إطار قراءة واحدة، حتى وإن كانت هاته اللوحة عديمة الدلالة. وذلك انطلاقا من استراتيجية المقاربة أو التقييم التي يتبناها المشاهد، حتى ولو كان ناقدا للفن. بالنسبة للفنان بالأحرى ينشأ ما بين الرغبة، ذلك الطمي الثري بالإبداعية، وبين اللوحة، وقد أصبح لها وجود مستقل، فضاء من الحرية يجب النظر إليه على هذا الأساس. هاته اللوحات جميلة وتهب لنا نفسها كنعمة ضمن كينونتها المتصفة بالوحدة. ربما نقول عندها بأن حسان قد خالف قصده الأول، وفقد علاقة التواطؤ، بعد أن ألح عليه شيء من قبيل الإبداع الفني. لو فعلنا لكان ذلك شيئا متعجلا ولكان تعبيرنا عنه غير مناسب. كل شيء يقوم على التأثر، من أقصاه إلى أقصاه. التأثر الذي يبدع هاته اللوحات، ويبعث فيها الحياة، بعيدا عن الخضوع لتمثل وحيد، إنه الشرارة التي منها يكون التوهج، والنار، واللهب، وتفجر رؤية متواطِئة، ويتم تسليط الضوء على مشهد الرعب. يتماسك كل شيء وكأنه في عالم مغلق لا يتجزأ.

في كل ما تتم كتابته هنا، في توتره وبحثه، نجد خيطا رفيعا كجدول الماء الذي نسمع خريره وهو ينساب في 'الخطارة'. أريد الحديث عن الكتابة المجازية. من الواضح أن اللحظة التي كنت أنتظرها قد حانت. لقد خشيت أن أكون مملا، أن أقع في متاهة الاستطراد ـ مرة أخرى ـ أن أغرق في أعالي البحار بعيدا عن وسائل الإنقاذ. ها قد دخلنا المغامرة، فلنذكر بعض الأمور الدقيقة التي لا بد منها. 'الكتابة المجازية»هي عنوان كتاب ماري سيسيل ديفور المليح الذي صدر بعد وفاتها. وقد جاء بعد كتابين خصصَتهما لوالتر بنيامين: 'الملاك الجديد»و'الليل المنجّى'. هذا الكتاب ثمرة تأمل عميق، بعيدا عن أية مقاربة جامعية، مارست فيه القراءة ـ الكتابة على طريقة بنيامين، وأخذت على عاتقها، مقتفية خطى بنيامين، رد الاعتبار لمفهوم المجاز الذي أصبح مبتذلا، حيث ينظر إليه على أنه تصور مجرد لا غير. بإعراض المعنى الحقيقي للمجاز عن أية إمكانية لتعريفه أو تحليله تحليلا فلسفيا، يكشف لنا عن نفسه في أدب كافكا و بودلير، لدى كل أولئك الكتاب الكبار، عباقرة الإبداع الأدبي الذين جعلوا من الأدب ما هو عليه الآن. من الطبيعي إذن أن أعتبر أن عمل حسان يندرج، كشيء بديهي إذا أمعنا فيه النظر، ضمن سحر هاته الكتابة المجازية...

في كل ما تقدمه لنا هاته اللوحات المشحونة بإحساس كثيف نقرأ واقعا آخر، واقع الرعب الفظيع.
كذلك الشأن بالنسبة لتلك الجمل، والحروف التي نكتشف أنها رجع صدى لصفحة أو لنص من نصوص خوسي أنخيل الانطي، التي يتضمنها ديوانه 'إلى الإله المجهول»(دار النشر الإيببيرية، خوسي كورتي). خوسي أنخيل الانطي، الشاعر وكاتب المقالات الذي قيل عن أعماله إنها من أعمق وأرحب ما أنتجه الأدب العالمي، يقدم لنا في هاته الصفحة، هذا النص، رؤية يفرض علينا بريقها أن نورد أبياتها الأولى:

من قال
إن الكلمات تبدأ زاحفة
في زوابع النور الدامي
هل ونحن في هذا الظل
نستطيع الغناء؟

من الموت نظر أحدهم بلا نهاية
انظر هناك ترَ عينَه في الظلام".


يعتبر هذا النص ردا على قولة تيودور أدورنو التي أكد فيها استحالة الكتابة بعد أوشفـتز. رد وليس دحضاً يختمه بذلك السؤال المفتوح على ضرورة الكتابة، تحديدا بعد أوشـتز، وهيروشيما، اللتين جعلتا منا آلهة زمن محطَّم، الكتابة لكي لا يقوم أي كان بعد الآن بقتل الموتى. اليقظة، خيط غزْل المجاز وقد عاد لأصوله. الكلمة المرسومة تتبدى في أجزاء الحروف التي في أسفل اللوحات الأخيرة. الكلمة المكتوبة في ضوء النور الساطع لشعر خوسي أنخيل الانطي، كمخطوط قديم كتبت عليه من جديد حقائق معيشة. للتدقيق نشير إلى أن الأمر يتعلق هنا بلقاء فريد وبنوع من التعاون، بفعل.
في ربيع سنة 1996 تم، بمبادرة من حبيب سمرقندي، المدير المؤسس لمجلة «آفاق مغاربية'، تكريم خوسي أنخيل الانطي بحضور ومساهمة عدد من الفنانين والكتاب أذكر منهم خوان غويتيصولو، أندريس سانتشيز روبينا، أدونيس وماري سيسيل ديفور المليح. لقد كانت لحظة شهدت روحانية عالية امتزجت بالإحساس بفضل كلمات ونصوص خوسي أنخيل الانطي التي تمت قراءتها. تم تكليف حسان بترجمة تلك النصوص، وبالتالي دخل من هذا الباب عالم تلك النصوص الفريد. وظلت محفورة في ذاكرته تنتظر اللحظة المناسبة لتظهر كأصداء عميقة. هاته اللوحات الثلاث والثلاثون تتحدث عن نفسها، أولا وقبل كل شيء، في المجال الخاص بها: الرسم، الإبداع الجمالي... الرسم الذي يضع المقياس الأول للتقييم ويضفي على الرغبة معناها الكامل، وكذلك على القصْد، ذلك المجال الخصب الذي كان وراء بروز العمل الفني للوجود. يجب أن نبقى قريبين من هاته الحقيقة، مع كل ما ينطوي عليه ذلك من صدفة واعتباط. من هذا المنظور طرقت سبلا عديدة محاولا الإحاطة بما ترمي إليه هاته القطع الثلاث والثلاثون المنتظمة الإيقاع كالقصيدة.

 

باحث من المغرب