مقاربات

أوراق مفتوحة:إدمون عمران المالح ووطن الكتابة

يحيى بن الوليد

يبدو لعطلة فصل الصيف وقع خاص بالنسبة لي لما تعودت عليه علي مدار هذا النوع من العطل علي القراءة التي لا تنأي بنفسها عن ما يمكن نعته بـ"العقل الأدواتي أو الصناعة الثقافية الثقيلة، ولذلك أكتفي بقراءة البورتريهات والحوارات والمقالات وغير هذه الأشكال التي لا تستلزم بدورها إعمال الذهن وبذل الجهد المضاعف.

غير أن كتاب إدمون عمران المالح (الأخير)، وهو حوارات

(Entretiens Avec Edmond Amran El Maleh) (2005)

أجرتها معه الكاتبة الفرنسية ماري رودونيه (Marie Redonnet) علي مدار زمني يزيد علي عام (2003 ـ 2004)، جعلني أنزاح عن هذه العادة التي درجت عليها منذ سنوات. وكانت البداية من تكليفي، ومن قبل أصدقائي وأصدقاء إدمون عمران المالح، وفي إطار من اتحاد كتاب المغرب بأصيلة، بإنجاز عرض حول الكتاب. وهو العرض الذي سيلقي في صالون فندق الخيمة الذي دأب إدمون، ومنذ زمان، علي قضاء شهر من عطلة الصيف به وأيام متفرقة علي مدار السنة. وكل ذلك قبل انطلاق فعاليات مهرجان أصيلة الدولي الذي يبدو عمران غير موافق عليه أو بالأحري لا يرتاح لوجوهه. والنشاط، كما قلت، لا صلة له، وسواء من بعيد أو قريب بـ"مهرجان أصيلة وطعام معاوية الذي آمل أن أكتب عنه في ورقة من أوراقنا المفتوحة".

وفي الحق لقد سعت بإهداء إدمون كتابه لي، خصوصا وأنه لأول مرة يهديني كتابا له. وعلي الرغم من أنني كتبت عنه من قبل، بل وأسهمت، وقبل عشر سنوات، في ندوة إلي جانبه في موضوع صورة أصيلة في المتخيل الروائي بالمكتبة العامة ذات الطابع الإسباني والتي لم بعد لها أثر، شعرت ببعض الصعاب التي يمكن لها أن تنجم عن تقديم الكتاب الذي بدا لي مغطيا لجميع مراحل صاحب المجري الثابت التي هي بمعني من المعاني مراحل جانب من جوانب المغرب في تنوعه الثقافي. ومصدر الصعوبة لا يكمن في اللغة الفرنسية التي يكتب بها إدمون عمران المالح، وإنما في التشظية و"الإيقاع اللذين يتخللان لغته المفتوحة التي تنعمق بتراث مخصوص هو التراث المغربي اليهودي الشفوي. وهذا ما جعل لغته تتعذر علي الترجمة من خارج دوائر التأويل الذي يستلزم، وعلي صعيد الترجمة ذاتها، نحتا في اللغة العربية. وهذا ما يفسر كذلك عدم ترجمة نصوصه أو كتاباته التي كتبها من خارج دائرة الرواية أو السرد؛ ودون أن نتغافل، هنا، عن أن ما ترجم له كاشف عن صعوبات يشهد بها الرجل نفسه، هذا بالإضافة إلي أن من ترجم له هم من أصدقائه المقربين.

والكتاب لا يخلو من أهمية بالغة سواء بالنسبة للمهتمين بكتابات إدمون عمران أو بالثقافة المغربية ككل. والكتاب، وباتكائه، وبالكامل، علي الخلفية الثقافية، يحيل، وبأكثر من صلة، علي ما راح يعرف، في العقود الثلاثة الأخيرة، وفي النظرية النقدية العالمية، بـ"النقد الثقافي الذي لم بأخذ، وحتي الآن، موقعا محترما له في الخطاب النقدي المعاصر بالمغرب... هذا وأن إدمون، بدوره، أسر لي، في حوار شفوي معه، بأن النقد الثقافي ضعيف.

وكما أن الكتاب لا يخلو من أهمية وليس بالنظر إلي مضامينه المتنوعة والغنية فقط، وإنما بالنظر إلي كونه يأتي في المرحلة الأخيرة من حياة إدمون (1917 ــ ) التي نأمل لها أن تطول أكثر. ثم إن من يعرفون الرجل يشهدون له بإصراره علي الحياة والأناقة والنقاش والحضور في الندوات والمهرجانات... بل والسفر وإلي صحراء المغرب كما قام مؤخرا رفقة ناشره ألان وصديقه الفنان الزاهد خليل لغريب. ودون أن نتغافل عن بديهته السريعة وذاكرته التي لا تزال حادة ومتوقدة.

لقد أصر إدمون علي أن يقول أكبر قدر ممكن من الأفكار وفي جميع المجالات أو الجبهات التي شغلته علي مدار زمني شهد المغرب الثقافي والسياسي خلاله قطائع سياسية و"هزات ثقافية". ولا يبدو غريبا أن يستهل حواراته بالحديث عن الالتزام السياسي في الحزب الشيوعي المغربي الذي انخرط فيه ومنذ فترة مبكرة من حياته، هذا علي الرغم من أنه لم يكن ينتمي إلي ما كان تسميه بعض كتب التاريخ بـ"البروليتاريا اليهودية حيث حياة البؤس في الملاحات، البؤس الذي لم يسلم منه المغاربة المسلمون بدورهم. وقد انخرط في الحزب بدءا من العام 1945، ومعني ذلك أنه كان من مؤسسي هذا الأخير الذي كان قد عرف طريقه إلي الوجود قبل عامين فقط وعلي وجه التحديد يوم 14 نوفمبر 1943 في إحدي التجمعات بمدينة الدار البيضاء. وقد تحمل مسؤوليات مباشرة في المكتب السياسي للحزب (1948 ــ 1959) إلي جانب مثقفين من نخبة بني عشيرته مثل صمويل شمعون ليفي. وكانت وظيفة إدمون، في الحزب، هي الكتابة في جريدة الحزب الأمل (L'Espoir) وتحت اسم مستعار هو عيسي لعبدي (Aia Labdi)، مما مكنه من إنجاز ملفات وتحقيقات اجتماعية عديدة مكنته من الاحتكاك بمجموعات أو شرائح اجتماعية مسحوقة من عمال وفلاحين وسككيين وعمال ميناء الدار البيضاء. لقد انخرط في الحزب في فترة كان العمل السياسي فيها صعبا ومكلفا. وهو ما سيؤدي ثمنه لاحقا، وقبل أن ينطفئ، وبعام واحد فقط، العقد الأول من عهد الاستقلال، وعلي وجه التحديد في أثناء الأحداث الدامية لما يعرف في تاريخ الاحتجاجات بالمغرب بـ"أحداث 23 مارس 1965 التي كشفت عن فشل الدولة الوطنية التي علق عليها أبناؤها آمالا عريضة في فترة الاستعمار.

وعلي الرغم من أن الرجل كان، ومنذ عام 1959، قد قطع مع السياسة {بمعناها الحزبي الإجرائي}فإنه لن يسلم من الاعتقال الذي بلغ حد اضطهاده و"تعذيبه، مما أرغمه، وصحبة زوجه ماري سيسيل مدرسة الفلسفة في إحدي ثانويات الدار البيضاء ـ موطن الأحداث، علي الرحيل إلي فرنسا والإقامة بالتالي بباربس.

ثم إن اشتغاله، وبـ عاصمة النور والحرية، في ملحق الكتب بجريدة لومند le Monde الشهيرة جعله يولد من جديد بل ويدشن مسارا ثقافيا ــ وحياتيا ــ مغايرا علي الرغم من الصعوبة القصوي التي سيجدها علي مستوي اختراق الأفق الثقافي لفضاء باريس مفترق اللغات والثقافات والجنسيات. وكل ذلك لم بمنعه من الاهتمام بما يجري في بلده المغرب.

أجل لقد نشر مقالات متفرقة في مجلات وازنة وفي مقدمها مقاله اللافت يهود مغاربة ومغاربة يهود {Juifs Marocains Et Marocains Juifs) المنشور، وضمن الملف المخصص للمغرب العربي، في مجلة الأزمنة الحديثة Temps Modernesالعدد 375، 1977}. . . غير أن إدمون الكاتب لم يظهر إلا مع إصداره الروائي الأول المجري الثابت (Parcours Immobile) الذي ستنشره دار ماسبيرو (Maspero) عام 1980. نص غير مجنس ومن قبل صاحبة، غير أنه لا يخلو من الطابع السيري المهيمن داخل فضاء الرواية بالمغرب ككل. نص يوقد شلال الذاكرة الغافية، ويفتح نوافذ مطلة علي الزمن البعيد ــ القريب. . . كما سيقول عنه أحد العارفين بإدمون أستاذنا محمد برادة في مقال له عن النص بمجلة المشروع، العدد الثالث، فبراير 1981، ص 214}.

إجمالا تشمل محاور الكتاب مواضيع مثل الكتابة والهجرة/ هجرة اليهود المغاربة، والرسم، والصداقة، والمدينة، والطبخ، والنضال السياسي، وفلسطين، وإدوار سعيد. . . إلخ. وكل ذلك في المنظور الذي لا يفارق دائرة الكتابة التي تتأطر داخلها هذه المواضيع، الكتابة التي تنأي عن الوثوقية و"الامتلاء والتي لا مجال فيها لـ"الكلمة الأخيرة". ومن هذه الناحية فحتي الطبخ، الذي يبرع فيه إدمون، لا يفضي إلي الوجبة ذاتها حتي وإن راعينا المقادير نفسها التي يحددها إدمون. تلك هي المواضيع أو الجبهات التي خاض فيها صاحب ألف عام بيوم واحد علي مدار زمني يكاد يعطي قرنا من الزمن. وكما أن الكتاب، ورغم خرائطية الكتابة التي تطبعه، لا بخلو من مواقف وأحكام مثل تشديده علي كون الرسم هو المعبر عن الثقافة المغربية وليس الأدب، بل إنه يشكك في هذا الأدب رغم عدم معرفته باللغة العربية.

لقد قادني الكتاب إلي أن أعيد النظر في ما كنت قد قرأته لإدمون من قبل في مجالات الرواية والفن التشكيلي وشرط الكتابة وفضاء المدينة. وكما قادني إلي قراءة كتاب بوعزة بن عاشير الذي درس فيه ما نعته بـ الاقتصاد السياسي لـ الكتابة أو مسارات الكتابة عند إدمون

 Edmond Amran El Maleh :cheminements d'une Ecriture) (1997). جنبا إلي جنب الملف المكرس للكاتب، وضمن عدد كامل، من مجلة آفاق مغاربية (Horizons maghrebinsالعدد 27، 1994، 1995}.

ومن هنا بدت لي فكرة كتاب عن إدمون الذي حظي بدراسات وأطروحات كثيرة وخصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية. وبالنظر إلي تشديده علي الكتابة الأليغورية، وسواء في كتاباته النظرية أو الإبداعية، فكرت في أن أضم إلي الكتاب الدراسة التي كنا قد أنجزناها حول كتاب ماري سيسيل ديفور المالح الكتابة الأليغورية الذي ظهر بعد عام واحد فقط من وفاتها عام 1998، والدراسة معنونة بـ"الكتابة الأليغورية: فجر البدايات وخيبة الفلسفة الأوروبية ومنشورة بمجلة فكر ونقد (العدد 26، فبراير 2000). وقد ركزت سيسيل أغلب جهودها علي فالتر بنيامين (1892-1940) أحد أبرز أعضاء مدرسة فرانكفورت الألمانية وإن كان حضوره فيها قد ظل هامشيا مقارنة ببعض أعضائها كتيودور أدرنو وماكس هوركايمر. هذا بالإضافة إلي مقال ثالث حول الأدب النقدي في تنظيرات مدرسة فرانكفورت التي يفيد منها كل من إدمون وسيسيل، هذا وأن إدمون دشن مشروعه الكتابي بكتاب هو في شكل حوارات مع ميكيل أبنصور(Miguel Abensour) الباحث المتخصص في مدرسة فرانكفورت بل وأحد الذين قدموها للعالم الفرانكفوني. ورغم أن إدمون لا يقوي علي القراءة بالعربية فكرت في تسليمه الدراسة حتي يطلع عليها بمعية أحد أصدقائه من الذين يترددون عليه في بيته بالرباط. وللحق فهذه أول مرة أسلم فيها المعني بالأمر دراسة حوله، وما جعلني أقدم علي هذه الخطوة تحسيس الرجل بأهميته التي تؤكدها ــ وابتداءا ــ كتبه العميقة التي قدمت إضافات للأدب المغربي أكثر بكثير من كتابات المتفرغين ـ وبالكامل ـ للكتــابة باللغة العربية. ومن ثم كان الاتفاق علي أن نلتقي في بيته يوم الأحد 29 تشرين الاول (أكتوبر) أي في اليوم الذي تحل فيه الذكري 41 لاختطاف المهدي بن بركة (1920 ــ 1965) الذي كتبنا عنه من قبل. وكل ذلك حتي أسلمه الدراسة وأطرح عليه بعض الأسئلة التي صادفت قراءتي لكتاباته.

وبمجرد ما اطلع علي عنوان النص الكتابة ومواجهة الهويات القاتلة تراقص حاجباه، وفسرت ذلك بمفهوم الهوية الذي يمقته بل ويراها كلمة شنيعة ذات نغمـة بوليسية كما ورد في كتابه المقهي الأزرق، ص 70 Le cafe Bleu/ وطمأنته علي أنني لا أقصد إلي الهوية بمعناها القومي المتطرف. وبعد ذلك استفسرته حول بعض المفاهيم والترجمة التي يقترحها لها، وكان يستأنس بمنجد قديم يظهر أنه رافقه علي مدار نصف قرن من الزمن كما تبرهن علي ذلك السرعة التي يبحث بها داخله. وكما دار بيننا نقاش حول الكتابات التي أنجزت حول اليهود وآخرها الكتاب الضخم الذي نشره روبير أسراف. إجمالا فإن الكتابات التي لا تنظر إلي اليهودي كـ"عابر قليلة. غير أني، وبالنظر إلي ذكري بن بركة سالفة الذكر، كنت أود أن استفسره عن ذلك اللقاء الذي جري في الأربعينيات بين صاحب الاختيار الثوري ووفد عن الحزب الشيوعي كان إدمون ضمنه؛ غير أن معرفتي المسبقة بعدم رغبته في مواضيع السياسة والنضال جعلني أعدل عن الفكرة.

وحتي إن كنت لم أجالس الرجل إلا ما يقرب من ساعة، بسبب من الوعد الذي كان لي مع المبدع الروائي عبد النبي كوارة، سعدت باكتشافي لبيته المرتب بشكل دقيق ودال علي الكاتب المحافظ علي جذوره بدءا من الإناء الخشبي ـ وفي دلالة علي التراث اليهودي ـ الذي سلمني فيه القهوة الصباحية. بيت تؤثث فضاءه كتب أجنبية ولوحات فنية في مقدمها لوحة الفنان أحمد الشرقاوي (1937 ـ 1967) الذي خصه إدمون بمقال لافت ضمن الكتاب الجماعي صباغة أحمد الشرقاوي (La Peinture De Ahmed Cherkaoui) (1976)،جنبا إلي جنب لوحات خليل لغريب وأحمد بنسماعيل وآخرين لم أتمكن من معرفتهم. هذا بالإضافة إلي صورة فوتوغرافية له مع الراحلة ماري سيسيل (1924 ـ 1998) التي أخلص لها إخلاصا كبيرا لا يعادله إلا إخلاصه للمغرب وفالتر بنيامين.

ذلك هو إدمون عمران المليح في وطن الكتابة"...كاتب استثنائي داخل المغرب الثقافي وعلامة لافتة في حقل الثقافة المغربية، بل إنه يمثل معلمة في المغرب الحديث والمعاصر. ويمكن أن نرد ذلك إلي هويته المركبة التي تنقسم علي الوعي المتضمن في كتاباته، مما يمنح هذه الأخيرة نبرة متفردة لا مثيل لها بين سائر الكتاب والمثقفين المغاربة. هوية كاتب يهودي لم يسقط في فخ الصهيونية، بل إنه ظل مصرا علي شجبها وبقوة أو بـ"صوت المؤذن" كما يقال.

 

ناقد وباحث من المغرب