شهادات

ستظل معنا أيها العمران

محمد برادة

لو كان الأمر بيدك لعاتـَبناك على رحيلك، لأنك ستترك فراغاً كبيراً في مجال الصداقة والحوار وفنّ العيش. من مدينة آسفي مسقط رأسك، إلى الصويرة، إلى البيضاء، إلى باريس، ثم أخيراً الرباط، حيث آذَنَتْ شمسُك بالمغيب، وأنت هو أنت: المغربي ذو الجذور الضاربة في أعماق التربة، المتيقـّظ للدفاع عن حق شعبك في الاستقلال، المناضل من أجل كرامة البسطاء، الكاتب المجدد المـُراهن على الخلق والإبداع. أنت هو أنت: المغربي الذي لا يجعل من اختلاف الديانة سبباً للنزاع والمشادة، لأن الأسبقية عندك هي للعدالة وقيم الحرية والحق والجمال؛ ومن ثــمّ مساندتك غير المشروطة للفلسطينيين وإدانتك سياسـة َإسرائيل ومرجعيتها الصهيونية.

أذكر حين عرفتك، مطلعَ سبعينات القرن الماضي في باريس، كنـتَ شابا يتدفق عطاء وحيوية وجرأة، غيرَ معترف ببداية الشيخوخة التي كان عمرك بدأ يرتـادها. وكانت روايتك «المجرى الثابت» (1980) أروع شهادة مزدوجة قدمتها عن المواطنين المغاربة اليهود الذين تركوا بصمات عميقة في تاريخنا، وعن مأساة تـرحيلهم بالتحايـُل وغسل الدماغ ليفارقوا وطناً لــهـُم فيه أعمـق الجذور. وهذا هو جـرحك الذي لم يندمل قط، لأن ذاكرتك ممتـلـئـة بمشاهد حياتية تـواشجتْ عبـرَها روابط الجـِـوار والصداقة ولـغة ُالكلام المشتركة. ذاكــرتـُـك لم تقبل أن تمتدّ أيدي مستعمـلي الدين لأغراض سياسية احتلالية، انتـزعَتْ عشيرتَك من محيطها الطبيعي، وشــوَّهَتْ تاريخاً عرف لحظات الانسجام والتفاعل الخصب في مختلف تجليات الحياة، سواء في فترة الكفاح الوطني أو من خلال إبداعات الموسيقى والغناء والطبخ وكل ما يزرع بذور الفرح والانتشاء.

لم تمنعْك تجربتُك السياسية الطويلة داخل الحزب الشيوعي المغربي من أن تـُـقْدِمَ على النقد الذاتي، ومن أن تـُـوَلِّـيَ وجـهك نحو الكتابة التي طالما كَبَتَّ شرارتها تحت ثقل المسؤولية الحزبية. عُدتَ إلـى الكتابة مـُزوَّداً بالخبرة والمعرفة والذاكرة، ومزوداً بالأخص بمفهوم فني جمالي لا يجعل الأدب وسيلة للدفاع عن عشيرة أو حزب أو إيديولوجيا، بل يسعى إلى أن يضعها موضع تساؤل لالـتـقاط ما هو قيـْد المخاض، مُبشراً بدفقات حياتية تتحدى اللغة المـُتخشبة والشعارات الجوفاء التي تموت ساعة َولادتها.

وللحقيقة أقول إنك، وقدْ جاوزت التسعين من عمرك، لم تـعرف المهادنة ُسبيلاً إليك،لأنك احتفظت بحيويتك وروحك النقدية ومتابعتك لما تحبل به ساحة ُالفن والأدب من عطاءات. وكيف أنسى وأنا أسامرُك منذ أسبوع، رُفقة َالصديق خليل غريب، تلك الكلمات التي كنتَ تـتلفظ بها من صوت مُتعب لكنه مُصرّ على أن يقول بأن المسألة الثقافية تحتاج إلى إعادة نـظر؟ تسكتُ قليلاً ثم تضيف: أودّ أن أحضر معكم، إذا تحسنت حالتي، للمشاركة في الحوار.

ستكون معنا أيها العمران، فالذين عرفوك لن ينسوك، وأنموذجك الأنيق، السّمح في الحياة لن يفارقنا، وكلماتك ستزداد إشعاعا في ليلنا البهيم. لأجل ذلك، أقول إنك فقط تبتعد لتكون أقرب.

 

ناقد وروائي من المغرب