قراءة في ثورة الياسمين الأحمر

آية عبد الله الأسمر

كل ما يمكن أن يقال حول الثورة التونسية قد قيل، فلقد باركناها واحتفينا بإطلالتها وهتفنا لصمودها وانتشينا لنجاحها في اقتلاع أشواك الظلم والقهر التي جرّحت سنوات الشعب التونسي أكثر من عقدين من الزمان، وما زال الشارع العربي وكذلك الأنظمة العربية بل ودول العالم قاطبة تتابع تفاصيل الأحداث في المدن التونسية عقب فرار بن علي باهتمام بالغ وحذر متناهي، لما لهذه الثورة اليانعة الدافقة من أثر بالغ وتأثير عميق في تغيير مسار الأحداث لا في مستقبل تونس وحسب بل ودورها في تشكيل مستقبل المنطقة ككل من خلال إعادة صياغة مفهوم الإرادة الشعبية والدولة الديمقراطية وكرامة الإنسان.
إن انفراج أسارير الشعوب العربية المقموعة والتي لمحت بصيصا من نور يخترق ظلمة ليلها المدلهم في ألسنة اللهب التي احترق بها جسد \"محمد البوعزيزي\" لا يحتاج منا إلى فهم أو تفسير أو تحليل، فشعور الإنسان بالظلم والاضطهاد والقهر هو إحساس يشترك فيه جميع المضطهدين والمقهورين على اختلاف منابتهم ومشاربهم وأطيافهم السياسية والعقائدية وألوانهم الفكرية والثقافية، إلا أن الدول العربية جميعها تفرّدت في خاصية ميّزتها عن كل دول العالم ألا وهي أن الأنظمة العربية تمكنت من تكميم أفواه شعوبها منذ توليها الحكم سواء في أعقاب الحرب العالمية الأولى أو الثانية حتى وقتنا الحالي دون أن تتمكن هذه الشعوب من اختراق قضبان الخوف والعجز ورجال الأمن وغرف الاستجواب وأدوات التعذيب ولو لمرة واحدة، وعليه فقد وجدت هذه الشعوب الرازحة تحت كلاكل الحكم الأوليغارشي عقودا لا تنتهي بل تتجدد بالوراثة وجدت في ثورة تونس الشرارة الأولى التي ستشعل فتيل الثورة الكبرى وستعيد رسم الملامح السياسية للدول العربية جمعاء تقودها عربة خضار \"محمد البوعزيزي\".
لا يخفى علينا كذلك تأزم موقف الأنظمة العربية الراهنة المتورطة إعلاميا على الساحة الدولية في حالة الاستلاب الإنساني والوجداني والفكري الذي يعاني منه المواطن العربي، إلى درجة دفعته لإضرام النار في جسده وحُرقة أهله وربيع أيامه وبراعم مستقبله، كآلية بائسة ووحيدة وأخيرة للتعبير بها عن قهره وقمعه ورفضه لأنياب سلطة تلتهمه من المهد إلى اللحد دون أن تكف عن اجتراره ومضغه باستمرار ولا مبالاة وبمنتهى الاستهتار بوجوده وإنسانيته وكرامته.
كما أن ثورة الياسمين الغاضب المحترق وجعا ستتقيأ بأثر رجعي وبصورة غير مباشرة على اتفاقية سايكس-بيكو، ذلك أنها خرقت التابو السياسي الذي أُعد من قِبل دول الاستعمار ليكبل دول المنطقة العربية بأنظمتها وشعوبها، ليسم الأولى بالجبروت والاستبداد المطلق والهيمنة الكاملة ويصم الثانية بالخنوع والاستسلام الكلي والعجز اليائس، وما نراه اليوم من منتحرين ومحروقين هنا وهناك في الجزائر ومصر وسوريا والسعودية إنما يزيد من استفحال التعقيد الذي تواجهه الأنظمة العربية أمام موجة غضب شعبي لا يطفئ لهيبه سوى اللهب، وترجمة عملية للاختراق القوي الذي أحدثته الثورة التونسية لمعقل التابو السياسي العربي وقدرة الإرادة الشعبية على تخطي الحواجز الأمنية بل والنفسية والتاريخية إلى مناطق محظورة في الذاكرة العربية ليتخلّص من فوبيا الفشل التي راودته على مدار عقود وعقود.
لا يفوتنا أيضا أن هذا الانفجار البركاني الهائل الذي حصل في تونس ووصلت شظاياه إلى عدد من البلدان العربية قد جاء في لحظات تاريخية حرجة على الصعيد السياسي العربي، ذلك أن شعوب المنطقة الآن منهكة لا بسبب الجوع والفقر والبطالة والفساد والوساطة والمحسوبية والشللية وسياسة التجهيل وتقنيع الأمّيّة وعدم تكافؤ الفرص وانعدام العدالة الاجتماعية وقمع الحرية الفكرية وتشويه الهوية فحسب، بل إن المرارة التي تلذع فكر المواطن العربي وتقض مضجعه هي خيبة أمله الكبيرة في حكّامه الذين لا يحكمون باسمه ولا يمثلون إرادته ولا يحسنون إدارة مصالحه بل وينهبون أمواله وممتلكاته، وفي نهاية المطاف قد فشلوا أيضا في حماية أحلامه ومستقبل أبنائه بل وتراب وطنه وتاريخ أجداده وهويته المستقلة، ليجد نفسه من شعوب دول العالم الثالث مكوّما على رفوف الاستهلاك محروما من الإنتاج والإبداع ومعزولا عن عمليات الخلق والابتكار التي يمارسها العالم من حوله، مسلوبا للإرادة والفكر والحرية والكرامة والحق، مهمّشا سياسيا واقتصاديا لا حول له ولا قوة فيما يحدث حوله من نزاع ومعاهدات واتفاقيات وتطبيع وانفتاح وعولمة وبيع وشراء وتجارة وبورصة وخصخصة بالرغم من أنها تصب أخيرا في مجرى حياته هو.
عجز الحكومات العربية الملكية منها والجمهورية بامتداداتها عن تلبية طموحات الشعب العربي الكبيرة، المتمثلة سواء في القومية العربية أو العمل العربي المشترك أو تفعيل لاتفاقية الدفاع العربي المشترك، أو حل القضية الفلسطينية بصورة مشرّفة ودحر المحتل وتحرير القدس واسترداد فلسطين من البحر إلى النهر في ظل اللاءات الثلاث، والتمسك بالعراق كطرف أساسي وحيوي في المعادلة العربية الإسرائيلية لا التآمر عليه في سبيل خدمة كل الأطراف عدا الطرف العربي، ولمّ الشمل اللبناني واحتضان المقاومة اللبنانية كورقة ضغط مغروسة في الخاصرة السياسية في منتصف طاولة النزاع العربي الإسرائيلي المثير لكل القلاقل التي تعاني منها المنطقة، كذلك الحفاظ على وحدة السودان وإلصاقه قاطرته عنوة بالقطار العربي، ناهيك عن الحفاظ على الاستقرار السياسي في الأقطار العربية المختلفة كاليمن وسوريا ومصر، كل هذه الخيبات المتراكمة على كاهل المواطن العربي جعلته يفقد الثقة بحكوماته وقدرتها على إدارة أزماته بل وأزماتها النفسية والوطنية والمبدئية! مما جعله يدفن رأسه في الرمال الدنيا–بعدما جرّدته من ترف الكرامة وكمالية الأحلام- بحثا عن قوته ودوائه ومدارس أبنائه وفواتير الكهرباء والماء وملابس العيد، وعندما عزّت عليه حتى أبسط مطالب الحياة وأدنى مستويات حقوقه هاجت ثيران اليأس المتوحشة في أعماقه بحثا عن الدولة التي بناها لتتبنّاه فوأدته!
لا يفوتنا أن نذكّر أيضا بأن ثورة الياسمين الأحمر التي اتشحت بألسنة النار لا نريد لها أن تتضرج بالدم التونسي، كما ولا نريد لها أن تتآكل من الداخل بفعل ديدان الفوضى والهمجية وتخبط الأهداف، الغاية النبيلة الأصيلة التي قامت عليها ومن أجلها الثورة لابد وأن تبقى دائما نصب أعين التونسيين وبعيدا عن تنفذ المتناحرين على السلطة أو الاستغلاليين والوصوليين الذين سيحاولون الإطاحة بمكاسبها في قوالب مصالحهم الشخصية المتقزمة، وعلى الشعب التونسي أن يعي تماما أن الثورة تحتاج منهم الآن إلى الصمود إلى النهاية أكثر من أي وقت مضى حتى تتأتى أكلها بالكامل، والنهاية هنا هي نهاية الحزب الجمهوري الدستوري من خلال اجتثاث جذوره من الحكم والحكومة، كما ولابد للشعب التونسي أن يحاكم رئيسه المخلوع حتى تكتمل مقومات نجاح ثورته لا على صعيد الداخل التونسي فحسب، بل حتى تتصدر ثورته سلسلة تغييرات تاريخية واسعة ستشهدها المنطقة مستمدة مفاتيحها من وحي نتائج الثورة النهائية التي ما زلنا نترقبها بتفاؤل كبير وبحذر أكبر.
في الختام علينا أن لا ننسى أن الشعب التونسي وإن كان قد أزال العصابة وفتح الأبواب إلا أنه غير مسئول عن تحركات الشارع العربي أكثر من كونه ملهما ومحرضا وفاتحا، يأتي هنا دور النخب السياسية والوطنية والثقافية والفكرية في الرؤيا واستقراء الموقف واستغلال الحدث والولوج في الأبواب المشرعة حاليا أكثر من أي وقت مضى ليأخذوا مواقعهم المفترضة في إدارة عجلة الأحداث.