«قدس برس» تفتح ملف الإصلاح السياسي والديمقراطية في تونس

المعارضة: الدولة تعاني انسداداً سياسياً وغياباً للحريات وهيمنة فردية

تباينت آراء كتاب وسياسيين تونسيين في تقييم الوضع السياسي الذي تعيشه بلادهم، بعد أن دخلت مع إطلالة العام 2007 الأشهر الأخيرة من العقد الثاني لحكم الرئيس زين العابدين بن علي. وبينما تحدث البعض عن انسداد آفاق الإصلاح السياسي في تونس وطالب بثورة إصلاحية حقيقية تكون فيها المبادرة للحكومة التي تمتلك كل أدوات الفعل السياسي، ذهب آخرون إلى أن تونس في العقدين الماضيين استطاعت أن تقدم إنجازات اقتصادية وثقافية واجتماعية متكاملة، وأن الذي يشغل قيادتها في الوقت الراهن هو معالجة قضايا التنمية والتشغيل والبطالة والحفاظ على مكانة تونس الدولية التي استطاعت أن تكتسح مواقع هامة.

فهل يحتاج الوضع السياسي التونسي إلى جهود إصلاحية؟، وما طبيعتها؟ ومن يتحمل مسؤولية إعاقة تلك الجهود؟ وعلى من تقع مسؤولية الإصلاح السياسي؟ وهل صحيح أن تعثر التحول الديمقراطي في تونس سببه الخشية من الحضور الإسلامي في المشهد السياسي؟ أم أن اليسار استخدم أجهزة الدولة واستغل الخصومة بين السلطة والإسلاميين لكي يقوّض إمكانية التحول الديمقراطي في حدود معقولة؟ وأين ذهبت الأصوات التي عرفتها تونس سابقا وحاضرا كأحد أبرز روافد الإصلاح: الاتحاد العام التونسي للشغل، الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، المجلس الوطني للحريات، الجمعية الوطنية للقضاة، اتحاد المحامين الشبان، واتحاد الكتاب، وغيرها من منظمات المجتمع المدني. وهل يمكن الحديث عن المصالحة في تونس بعد نحو 20 عاما من حكم الرئيس ابن علي الذي تميز بالانغلاق وضآلة المشاركة السياسية؟.

هذه الأسئلة هي محور ملف خاص فتحته وكالة "قدس برس" عن تحديات الإصلاح السياسي في تونس، وقد شارك فيه كل من أحمد نجيب الشابي الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي التقدمي، وأبو بكر الصغير رئيس تحرير مجلة "الملاحظ" التونسية، وعامر العريض رئيس المكتب السياسي لحركة النهضة، وأحمد القديدي الكاتب والإعلامي التونسي، وعمر النمري الباحث والناشط الإسلامي المعارض.
وضع متميز
يقول الكاتب والإعلامي التونسي أبو بكر الصغير في معرض حديثه عما إذا كانت مسألة الإصلاح السياسي مطروحة في تونس أم لا: "أعتقد أن مقاربة الوضع السياسي في تونس لا يمكن أن تطرح في سؤال بهذه الصيغة، فالوضع السياسي مستقر، وهو يراكم تطوره النوعي يوما بعد يوم، رغم القناعة بأن الطموحات والآمال لدى مختلف الفاعلين في هذا الوضع مشروعة، وهي لا تتوقف عند مستوى معين".
وأشار الصغير الذي ترأس جريدة "الرأي" المستقلة أيام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، إلى أن الوضع التونسي بشكل عام إذا ما قورن ببلدان مشابهة لتونس يأتي في مكانة متميزة، وقال: "الوضع السياسي مقارنة مع عدد من الدول الشبيهة بتونس في موقعها الجغرافي وفي إمكانات نخبها هو وضع متميز، ووضع يبشر بكل خير".

 واستند الصغير في هذا إلى ما قال إنه رؤية للرئيس ابن علي، مضيفا: "أعتقد أن مقولة الرئيس ابن علي نفسه بأن التغيير وبما تعنيه الكلمة من مضامين سياسية وثقافية وحضارية واقتصادية، جهدٌ يومي لا يتوقف، يعكس هذا الشعور نحو مزيد من الطموح الذي بات يسكن كل التونسيين".

مخيبة للآمال
إلا أن أحمد نجيب الشابي الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي التقدمي، لا يرى أن الوضع السياسي في تونس على هذا النحو الذي يصوره الإعلامي أبو بكر الصغير وتقدمه وسائل الإعلام الرسمية، ويقول: "بالطبع الوضع السياسي التونسي يحتاج إلى إصلاح جذري، لأن التونسيين وُعدوا منذ عشرين عاما بإصلاح سياسي متدرج، لكن النتائج جاءت مخيبة للآمال تماما".واستشهد الشابي بوضع الصحافة والأحزاب والنقابات، وقال: "وضع الصحافة والأحزاب والنقابات المهنية والثقافة عامة، كل ذلك ارتدّ إلى الوراء بدرجات كبيرة".

وأشار السياسي التونسي إلى الانتخابات الموريتانية الأخيرة، وقال إنها تقدم درسا في الإصلاح الجدي لتونس. وأكد أن الإصلاح الذي تحتاجه بلاده يتطلب جهودا كبيرة، وقال: "بيت الداء في الإصلاح هو النظام الرئاسي الذي أنشأه دستور عام 1956، (وهو تاريخ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي)، فبحسب الدستور فإن جميع المؤسسات تتلخص في يد واحدة، والقضاء يخضع في ترتيباته إلى هيئة يعينها رئيس الدولة، لذلك أقول إن الإصلاح هو دستوري جذري يلغي الحكم الفردي".

ولا يختلف الدكتور عمر النمري وهو ناشط إسلامي معارض يقيم في لندن في تقييمه للوضع السياسي الراهن في تونس، عما ذهب إليه أحمد نجيب الشابي، وقال إنه واقع: "يتميز بسيطرة كاملة للحزب الحاكم على مقدرات الدولة، وتفرد مطلق بإدارة الشأن التونسي دون مساهمة تذكر من بقية الفرقاء السياسيين، كما يتميز بخنق للحريات، وتضييق على المعارضة السياسية، وتعد على الحقوق الفردية والشخصية".
واعتبر النمري أن وضعا كهذا من شأنه "تضافر جهود المعنيين بالشأن السياسي في تونس على اختلاف مشاربهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية - سواء كانوا في المعارضة أم في السلطة - من أجل تحقيق أقدار من الانفتاح السياسي، والوفاق الوطني، ولمّ الشمل ورأب الصدع".

صنفان مخطئان
أما الدكتور أحمد القديدي وهو كاتب وإعلامي مخضرم، فيرى أن "الإصلاح في كل مجتمع هو مسار مستديم لا ينقطع، فإذا كانت هناك حياة لها مشكلاتها المتعاقبة وتحولاتها المتلاحقة، فلا بد أن يكون هناك إصلاح". وميز القديدي في تقييمه للحالة التونسية بين صنفين من النخبة التونسية "الأولى تقول لنا ليس لدينا أي إصلاح، لأنه ليس لدينا ما يصلح فالكل صالح، والثانية تقول لنا نعم للإصلاح ولكننا لا نحتاج إلى رأي مختلف يدعونا للإصلاح، وكلاهما على خطأ، لأن الإصلاح الحقيقي والمستديم هو الذي يكون نتيجة حوار بين مختلفين لا بين متفقين". وأكد الدكتور القديدي أن "الإصلاح السياسي هو أول إصلاح يسبق الاقتصادي والاجتماعي والتربوي، لأن السياسة هي المقود الذي يحدد الخيارات الأساسية، ويرسم الخيوط الرئيسة للتقدم في جميع المجالات، والبداية لا تكون ذات معنى إلا متى كانت سياسية".

وهو نفس الاتجاه الذي عبر عنه عامر العريض رئيس المكتب السياسي لحركة النهضة، حيث طالب بإصلاحات سياسية جدية، وقال: "لا شك أن قضية الحريات والإصلاح السياسي تأتي في مقدمة الإصلاحات المطلوبة، إذ أن تونس تعيش أزمة وانسدادا سياسيا تحتاج معه الحياة السياسية إلى إعادة بناء جديد يرفع معه الحظر الموجود على الحريات، وتزال فيه القيود على الرموز السياسية، وإطلاق سراح السجناء السياسيين ورفع القيود عمن تم إطلاق سراحه، هذا هو مدخل الإصلاح".

الحل الأمني
وإذا كانت الغالبية تتفق على أن الإصلاح هدف مطلوب على الدوام، وإن اختلفت المقاربات حول المقصود منه، كما هو الشأن بالنسبة للنخب التونسية، فإن الاختلاف نفسه يطال الجهة التي تتحمل المسؤولية، فبينما تحمل المعارضة السلطة الحاكمة مسؤولية عدم الإصلاح، يرى أنصار الحكومة أن المعارضة تمارس نوعا من المزايدة السياسية التي لا تقدم شيئا يعين على إنجاز ذلك. وإلى التيار الأول الذي يحمل السلطة مسؤولية إعاقة الإصلاح، ينتمي أحمد نجيب الشابي، الذي يرى أن مسؤولية الإصلاح تقع بالدرجة الأولى على الحكومة، ويقول: "الدولة هي التي تحاصر الحريات، وبالتالي ما لم تعمل على الاعتراف بحقوق المواطنين بالمشاركة فلن تكون هناك ديمقراطية". وأوضح الشابي أن الدولة هي التي أعاقت الإصلاح "بإشاعتها للحلّ الأمني الذي خلق حالة من الإحباط لدى المواطن، وأوجد نوعا من اختلال موازين القوى بين الحكومة والمعارضة".

ويتفق عامر العريض مع وجهة النظر تلك، حيث يحمل ما اعتبر أنه "سياسة السلطة المنغلقة ورفضها للحوار مع مكونات الحياة السياسية مسؤولية مراوحة مطالب الإصلاح مكانها"، لكنه قال: "إذا كانت السلطة مسؤولة عن تعطيل جهود الإصلاح، فإن مسؤولية الدفع بالإصلاح تحتاج الجميع، فالإصلاح هو تحدٍ لكل قوى المعارضة والنخب التونسية بمختلف اتجاهاتها وانتماءاتها الحزبية".

مجال للمزايدات
وعلى النقيض من ذلك يرى أبو بكر الصغير أنه لا يمكن لأي كان أن يزايد على الرئيس زين العابدين بن علي في الإصلاح، ويقول: "لا يمكن لأي شخص أن يزايد على الرئيس وصدقه في الرقي بالحياة السياسية في تونس إلى أفضل المراتب، والتي لا تختلف في شيء عما هو موجود في البلدان المتقدمة". واتهم الصغير المعارضة بعرقلة الإصلاح باعتمادها على جهات خارجية لا تكن الخير لتونس، وقال: "ما يؤسف له أن هناك في تونس من ما زالت لديه حسابات أخرى غير تلك المدرجة ضمن الأجندة الوطنية، مع أن مرجعياته ليست نفس المرجعيات التي أجمع وتوافق عليها التونسيون". وأشار إلى أن من يقصدهم بهذا الكلام هم "أطراف من اليسار واليمين متحالفة في إطار تجمع سياسوي لا يجمع بين أطرافه إلا هدف واحد، وهو عرقلة هذا الإنجاز الوطني الذي تحقق ويتحقق في تونس". وهذه إشارة إلى ما بات يعرف في تونس بتجمع 18 أكتوبر الذي يضم قوى يسارية وإسلامية لأول مرة، نظمت عدة فعاليات وأنشطة سياسية أيام قمة المعلومات العام الماضي احتجاجا على ما اعتبرته تضييقا على حرية الإعلام في تونس.

مسؤولية مشتركة
وبين هذين الرأيين يقف كل من عمر النمري وأحمد القديدي، وكلاهما يعيش في المنفى، حيث يقول النمري: "يتحمل الجميع مسؤولية الإصلاح والسعي للخروج من هذا المأزق السياسي، ويتحمل الحزب الحاكم على وجه العموم، ورئيس الدولة على وجه الخصوص، المسؤولية الكبرى في تحقيق الإصلاح السياسي بالبلد، وذلك لما يخوله له الدستور من صلاحيات، ولما يتوفر عليه الحزب الحاكم من مقدرات جعلت موازين القوى مختلة لصالحه .. هذا الاختلال في ميزان القوى لصالح السلطة هو المسؤول الأول والأخير عن إعاقة جهود الإصلاح التي سعت إليها أطراف عدة في المعارضة لكنها باءت جميعها بالفشل لعدم استجابة السلطة لهذه النداءات".
أما الدكتور القديدي فيرى أن إعاقة جهود الإصلاح ليست فقط مسؤولية النخبة الماسكة بدفة الحكم، لكن كل شرائح المجتمع، ويقول: "الوفاق الوطني العميق هو الكفيل بدفع عجلة الإصلاحات المحورية، فالعائق أمام الإصلاح هو غياب الوفاق الحق بين مكونات المجتمع التونسي وغياب الاتفاق على الحد الأدنى من تعريف المعاني الكبرى كالحرية والمسؤولية والتنمية والمواطنة و العلاقات الدولية"

مسار التحول الديمقراطي
يعيد مراقبون أزمة الإصلاح السياسي في تونس إلى نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي، حين عمد نظام الحكم الجديد والاتجاه الإسلامي، الذي غيّر اسمه إلى حركة "النهضة" في جرأة سياسية نادرة في وقتها في العالم العربي، إلى التنافس في انتخابات تشريعية انتهت بفوز التجمع الدستوري الحاكم بالأغلبية، وأبرزت الإسلاميين الذين شاركوا كمستقلين قوة ثانية وأساسية. ولم تمض فترة وجيزة على الانتخابات حتى دخل الخصمان في مواجهة لا يزال غبارها يلبد سماء الحياة السياسية، فهل كان الحضور الإسلامي البارز في المشهد السياسي عائقا أمام عملية التحول الديمقراطي؟. يقول رئيس المكتب السياسي لحركة النهضة، الذي يقيم في المنفى، "إن تونس لم تشهد تحولا ديمقراطيا حتى يمكن الحديث عن قوى أعاقت هذا التحول، هذا أولا، أما بالنسبة للإسلاميين فقد بذلوا جهدا وما زالوا من أجل تيسير تحول تونس نحو الديمقراطية سواء كان ذلك على مستوى الأطروحة السياسية التي تتسم بالإصرار على تكريس التعايش، أو من حيث التدرج في مطالبهم، أو مراعاتهم لمجمل الأوضاع الداخلية والإقليمية بما يجعل التحول نحو الديمقراطية أمرا سهلا".

تونس والتجانس المجتمعي
أما الدكتور أحمد القديدي الذي رفض استخدام مصطلح "الزحف الإسلامي"، في إشارة إلى حضور التيار الإسلامي القوي في الخارطة السياسية، فيقول: "تونس من أكثر المجتمعات تجانسا عرقيا وطائفيا وثقافيا واجتماعيا، وأنا لا أرى أي زحف من أي اتجاه كان، إنما بلادنا تتطلب الأمان الاجتماعي والمزيد من الحوار الوطني حول المستقبل، لا أن ننتظر هزات لم يسلم منها غيرنا لنعتبر بها، بل من واجبنا استباق المصير والاستعداد له، ثم إن عددا كبيرا من الإسلاميين أعادوا النظر بشجاعة في كثير من استراتيجياتهم وأخذوا مواقع فكرية جديدة فتحت أمامهم أفاق التواؤم الذكي مع مقتضيات المحيط الدولي ونواميس العلاقات الدولية مع احتفاظهم بثوابتهم".
أما الدكتور النمري فقد استغرب من طبيعة السؤال، ورأى أن المستمع "يخيل إليه أن الفرقاء السياسيين في تونس - سلطة ومعارضة - قد تواطؤا على الاحتكام إلى الاختيار الشعبي الحر، وتراضوا على ما يمكن أن تنتهي إليه نتائج الاقتراع السري في انتخابات ديمقراطية شفافة ونزيهة، يمكن أن تفضي إلى فوز ساحق للتيار الإسلامي، يزحف فيه على الأخضر واليابس، بما تتضاءل في حدوده حظوظ الفرقاء السياسيين الآخرين في الحصول على الحد الأدنى من الأصوات الذي يمكن في ضوئه حفظ الموازنة اللازمة لضمان التحول الديمقراطي من أي انحراف أو جنوح إلى الاستبداد، ومع أن هذا في الحقيقة لم يحدث، وليست هناك أي بوادر على حدوثه، فإن حركة النهضة عبرت في أكثر من مناسبة عن عدم رغبتها في الدخول في منافسة حادة لا على مستوى الرئاسة ولا على مستوى البرلمان، وأبدت استعدادها للتحكم في قوائمها الانتخابية بما يحفظ الموازنة ويبعث شيئا من الاطمئنان في نفوس منافسيها السياسيين".

هواجس نفسية
واعترف النمري بوجود شكوك لدى بعض أطراف المعارضة اليسارية على وجه الخصوص، من الحضور الإسلامي، لكنه قال إنها "شكوك قائمة في الحقيقة على هواجس نفسية، وحكم على النوايا أكثر من كونها قائمة على حقيقة ماثلة للعيان، وهو أمرٌ لم يتح لحركة النهضة ولم تُجرب فيه حتى يحكم عليها في ضوء الممارسة الميدانية سلبا أو إيجابا".
وهذا أمرٌ يخالفه فيه أبو بكر الصغير، حيث يقول: "إذا حاولنا أن نعيد قراءة تطور المسار الديمقراطي في تونس، بلا شك سنتوقف عند محطة نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي، وندرك أن طرفا كان من المفروض أن ينخرط في هذا المسار لم يكن في مستوى الثقة التي أعطيت له، إذ كانت له حسابات أخرى غير الحسابات الوطنية، وطغت عليه الأنانية والفردانية، مما جعل كل الفعاليات السياسية الوطنية تجمع أنه كان أحد الأسباب التي لم تجعل المسار الإصلاحي الديمقراطي يسير بنفس النسق الذي انطلق به مع التغيير، إذ اضطر الجميع وأمام ما استجد وقتها من تطورات وأعمال خطيرة إلى وقفة تأمل وحتى أحيانا مراجعة".
إلا أن المحامي أحمد نجيب الشابي، الذي أكد حدوث بعض الأخطاء التي تنسب للإسلاميين، قال: "الحقيقة أن تلك الأخطاء بالإضافة إلى الوضع في الجزائر ومصر قد تم توظيفها لتشديد القبضة الأمنية، حيث كان بإمكان السلطة أن توقف تلك التجاوزات، لكنها لم تفعل، وقد انطلى هذا في البداية على أصدقاء تونس لكنها الآن سقطت، فالإدماج والمصالحة هو الحل، إذ لا مخاوف على الاستقرار أصلا".
ونفى الشابي أن تكون المبالغة الأمنية في مواجهة التيار الإسلامي تنطلق من خلفيات أيديولوجية هدفها الثأر من الإسلاميين، وقال: "صحيح أنه بعد التغيير عام 1987 كان هناك فراغ سياسي حاولت بعض الجهات ملأه، وتسربت بعض العناصر اليسارية إلى أجهزة الدولة، لكن هذا لم يتحول إلى ظاهرة، ومسألة الحل الأمني مسألة تخص الحزب الحاكم ولا تخص اليسار". وهو تحليل يتفق مع ما ذهب إليه أبو بكر الصغير رئيس تحرير مجلة "الملاحظ"، حيث قال: "السلطة لديها مشروعها المجتمعي الواضح، ولديها حزبها المولد لهذا المشروع، وهو التجمع الدستوري الديمقراطي، الذي يلتقي مع اليسار في بعض توجهاته كما يلتقي مع غيره من التوجهات ذات القيم النبيلة". واعتبر أن من يقول إن اليسار استغل أجهزة السلطة لتصفية خصومه، هم الإسلاميون، وقال: "هذا الاتهام فيه إهانة للسلطة نفسها، هناك حزب مولد للأفكار قد يلتقي في بعض التقاطعات مع بعض التوجهات، لكنه قطعا هو الحزب الأكثر تقدما حتى على الدولة، كما قال الرئيس ابن علي نفسه".

تقارب ثم افتراق
لكن عامر العريض القيادي في حركة النهضة يرفض استخدام مصطلح "اليسار" بالمطلق، ويقول: "أولا أرى أن كلمة (اليسار) تحتاج إلى إعادة تعريف، أما الذين استخدموا أجهزة الدولة لضرب الإسلاميين وغير الإسلاميين، هم الاستئصاليون". ويؤكد العريض أن من يقصدهم بالاستئصاليين "تيار طائفي لا يمثل العائلة اليسارية، وهم الذين يرفضون حق الآخرين في التعبير وبعضهم من اليسار، لكن ليس كلّهم".
أما الدكتور النمري فقد أقر بأن العشرية الأولى من حكم الرئيس زين العابدين بن علي تميزت بتقارب واضح بين السلطة والمعارضة غير الإسلامية، وقال إن ذلك كان بهدف "التخلص من خصم سياسي شاب بتلفيق تهم الإرهاب والعنف لحركة النهضة، والاستقواء عليها بالسلطة الحاكمة؛ طمعا في حدوث انفراج سياسي يحقق لهم بعض المصالح الحزبية ويفتح لهم أبواب المشاركة السياسية، وتحقيق أقدار من الديمقراطية". لكن هذا الحلف لم يدم طويلا برأي النمري "حيث وجد بعض أقطاب المعارضة غير الإسلامية أنفسهم في مواجهة مع السلطة الحاكمة، ونالهم ما نال غيرهم من ظلم، وحبس، وتهميش، ووجدوا أنفسهم في خندق واحد مع حركة النهضة في مواجهة السلطة، وبرز ذلك واضحا في مجموعة 18 أكتوبر التي ضمت، إلى جانب أطراف المعارضة غير الإسلامية، اثنين من القيادات التاريخية لحركة النهضة".
وينظر الدكتور القديدي بشكل مختلف إلى مسألة العلاقة بين اليسار والإسلاميين في تونس، ويقول "الصراع بين الشيوعيين والإسلاميين قديم وقائم على قواعد أيديولوجية عريقة. وأعتقد أن لا مجتمع في العالم، شرقه وغربه، سلم من هذا الصراع، إلى أن انهار جدار برلين وتوحدت ألمانيا وسقط الاتحاد السوفياتي وبدأت تلتحق شعوب أوروبا الشرقية بالاتحاد الأوروبي الديمقراطي والقائم على اقتصاد السوق، لكن هذا الإعصار التاريخي لم يدفع الشيوعيين إلى اليأس والاستقالة بل وجدوا في كل أرجاء الدنيا متنفسات جديدة للتعبير عن ثوابتهم وتحالفوا مع تيارات أخرى كانت تعاديهم، و أنا لا أريد أن أحمل تلك النخبة التونسية التقدمية وحدها مسؤولية المشكلات الطارئة، فالسياسة هي لعبة توازنات متحولة وتعادليات متغيرة".

المجتمع المدني في خدمة الديمقراطية
انعكست الأجواء السياسية المترددة على عمل منظمات المجتمع المدني التي تعتبر تونس من بين أقدم الدول العربية في عمل هذه المؤسسات. وغني عن التعريف أن الاتحاد العام التونسي للشغل، ساهم، تحت قيادة زعيمه الراحل الحبيب عاشور، في إنجاز الاستقلال وإعطاء الأجراء والطبقة الشغيلة حقوقا لا تقل أهمية عما يتمتع به العامل الأوروبي.
كما كانت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان من أبرز المنظمات الحقوقية العربية وأقدمها، وقد أسهمت بفاعلية قلّ نظيرها في الدفاع عن الملفات الحقوقية، فيما يعتبر المجلس الوطني للحريات رافدا مهما للحركة الحقوقية التي أخذت في العودة مؤخرا إلى العمل بعد سنوات من التراجع، فأين موقع هذه المنظمات اليوم؟.

أرضية مشتركة وأهداف متباينة
كان لافتا للانتباه الأرضية المشتركة التي عبر عنها كل من النمري والقديدي والشابي والصغير والعريض، على الرغم مما بين تلك الشخصيات من تباينات قد تصل إلى حد التناقض.
 فقد اعتبر الدكتور النمري، أن"منظمات المجتمع المدني بكاملها منخرطة أو في طريقها للانخراط في معركة الحريات، وهي كمثيلاتها من منظمات المجتمع المدني لا بد أن تلعب دورا مركزيا في إي إصلاح سياسي في البلد، ولا يمكن العمل في معزل عنها أو التغاضي عن دورها في تحقيق الوفاق الوطني والأمن والاستقرار".
وهو نفس ما عبر عنه الدكتور القديدي، أحد الشخصيات الإعلامية في الحزب الدستوري الذي تحول لاحقا إلى التجمع الدستوري الديمقراطي، حيث قال: "إن مكونات المجتمع المدني هي الموكول لها القيام بالإصلاحات الجوهرية ومن مصلحتنا جميعا أن تكون هذه المكونات حرة وقوية وشرعية وفاعلة وذات تأثير ينظمها قانون عادل مترفع عن الاتباع ومستند إلى دستور راسخ وعتيد".
أما أحمد نجيب الشابي، فقد أشار إلى بداية يقظة في حياة منظمات المجتمع المدني في السنوات الأخيرة، وقال: "لقد تضررت منظمات المجتمع المدني كثيرا بالإعصار الذي عرفته تونس مطلع التسعينيات، والآن هناك بداية يقظة، فقد بدأ الاتحاد العام التونسي للشغل في اتخاذ مواقف مستقلة حين رفض الدخول إلى مجلس المستشارين، كما أن نقابات المحامين والقضاة والصحافة والرابطة، بل حتى السينمائيين والمسرحيين، كلهم يحاولون الخروج عن بيت الطاعة".
ونحا أبو بكر الصغير نفس المنحى، حيث أكد قوة هيئات المجتمع المدني وعراقتها في تونس، وقال: "المجتمع المدني يعيش فترة من أحسن فتراته، صحيح أن هناك مدّ وجزر بين بعض المنظمات والدولة، لكنه يصب في مصلحة المجتمع، فالاتحاد العام التونسي للشغل منظمة مستقلة وتعيش استقلالية تامة، والمحامون يتحركون باستقلالية تامة أيضا، وفي الرابطة مدّ وجزر، وهناك خلافات داخلية تتحمل مسؤولياتها أطراف لم تكن وفية للمبادئ التي تأسست عليها الرابطة، مما جعلها محتكرة من طرف فصيل سياسي من أقصى اليسار"، وذلك في إشارة إلى ما يدور الآن بين الهيئة المديرة للرابطة برئاسة المحامي المختار الطريفي وعدد من الأعضاء الذين تقول الهيئة المديرة للرابطة إنهم مدفوعون بقصد إضعافها وتدجينها، وهو اتهام تنفيه الحكومة والأطراف المعارضة للهيئة.
أما القيادي في حركة النهضة عامر العريض فقد اعتبر أن الحديث عن منظمات المجتمع المدني ككتلة واحدة ربما فيه بعض التعميم والتجاوز، وقال: "يختلف الوضع من منظمة إلى أخرى، ففي حين برز قطاع المحامين مدافعا عن الحرية فإن منظمات أخرى تعرضت للمحاصرة وعطلت أعمالها مثل وضع الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، أما الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعتبر من أعرق المنظمات النقابية ذات الدور الفاعل في الدفع بالإصلاح، هذه المؤسسة العملاقة تعيش مخاضا داخليا نأمل أن يزول لكي تساهم هذه المنظمة في عملية الإصلاح السياسي في البلاد".
واجب أم مبالغة؟
ما الذي يمنع إذا من أن يتحول هذا الحوار بين الفرقاء السياسيين والمختلفين في الرأي إلى حقيقة ملموسة؟ هل يستدعي هذا الخلاف الذي يصل في بعض الأحيان حد التناقض وجوب الحديث عن مصالحة وطنية شاملة؟ وإذا جاز التعبير: هل المصالحة بين التونسيين ممكنة؟.
هنا اختلفت الآراء، فبينما اعتبر الدكتور النمري أن المصالحة الوطنية واجب وضرورة، لأن الأمر يتعلق برأيه "بالحديث عن أمر عظيم، ألا وهو الإصلاح بين الناس، وهل هناك أفضل وأعظم وأجلّ من صلح بين الناس ورأبٍ للصدع؟"، رأى أبو بكر الصغير أن مطلب المصالحة يحتوي على مغالطة ولا يستقيم في تونس، "هل المكاسب والنجاحات التي حققها التونسيون في كل المجالات السياسية (مجلس حقوق الإنسان)، وفي الاقتصاد (تقرير دافوس) والثقافة والرياضة والفن وغيرها من المجالات، جاءت بشكل عفوي؟".
ويرد الدكتور النمري قائلا: "إن ما حصل بين الفرقاء السياسيين في تونس على مختلف مشاربهم الأيديولوجية ومناهجهم الفكرية لا يعدو أن يكون خلافا في الطرح، وتباينا في وجهات النظر، لم يصل بهم إلى حد التناحر والاقتتال، وإن شهد في بعض الحالات حدا كبيرا من التوتر، خاصة بين السلطة والمعارضة، ومع ذلك فإني أعتقد أن المصالحة بين التونسيين ممكنة وقابلة للإنجاز، وخاصة لما عرف به الشعب التونسي من تفهم وتسامح، ولكن لابد لذلك من شروط لعل من أهمها:
1 ـ تصالح التونسيين جميعهم: يسارييهم وإسلامييهم، سلطة ومعارضة، مع تراثهم ودينهم وهويتهم وثوابتهم العربية والإسلامية. ذلك أنه لا يمكن بحال من الأحوال مصادمة أو محو ذاكرة شعب بأكمله، ضاربة في التاريخ، متأصلة في الأنفس، منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرنا من الزمن... لا أقول هذا انطلاقا من الواقع فحسب بل استشرافا للمستقبل أيضا، إن الأمة الإسلامية تشهد اليوم تحولا كبيرا في تركيبتها الثقافية والاجتماعية يتجه نحو مزيد من التمسك بدينها والاعتزاز بعروبتها.
2 ـ التأسيس لديمقراطية وفاقية متدرجة والبحث عن الطرق السلمية لحسم الصراع على السلطة في البلاد، حيث لا يزال هذا الصراع هو المعضلة الحقيقة التي لم تستطع الأمة الإسلامية عبر قرون عديدة إيجاد حل سلمي لها، والسؤال الجوهري الذي لم يلق إجابة حتى الآن من الفرقاء السياسيين معارضة وحكاما في الدول العربية والإسلامية هو: إلى متى يظل الصراع السياسي في هذه الدول محكوما بقانون: إما ذابح أو مذبوح! ، إما قاتل أو مقتول!؟ إلى متى تظل جثث الجماهير سلما لارتقاء الحكام إلى سدة الحكم؟! ومن جهة أخرى إلى متى تظل هذه الشعوب تدفع حكامها إلى طريق مسدود لا مخرج منه إلا الموت؟!

ومن شروط نجاح هذا الحل الوفاقي:
- إخلاء السجون التونسية من سجناء الرأي مهما كانت انتماءاتهم الحزبية، وتمكين المهجرين من العودة إلى بلدهم من دون قيد أو شرط والعيش فيها بأمان وسلام.
- رفع القيود عن التدين والسماح بأقدار من الحريات العامة واحترام الفرقاء السياسيين جميعهم لهوية تونس العربية والإسلامية.
- ضمان حرية الرأي والتعبير والتنظم.
- ضمان المواطنة للجميع والتساوي في الحقوق والواجبات.
- العمل على قاعدة التلاقي والحوار لا التنافي والقطيعة.
- التسامح ، والاعتراف بالآخر والاحترام المتبادل.
- التوزيع العادل للثروة الوطنية".

لسنا في دارفور!
لكن أبو بكر الصغير استغرب هذا الطرح، وقال: "عندما أسمع هذا الكلام أتوقع وكأن الوضع في تونس هو نفسه الذي يجري في دارفور أو في رواندا!، والحال أننا بعيدون كل البعد عن هذه الأمثلة". وأكد أن شعار المصالحة غير مطروح أصلا في تونس، وقال: "هنالك أقلية لو جاءهم إفلاطون وأقام لهم جمهوريته الفاضلة لا يرضون، على الرغم من عمق الخلافات التي تخترقهم". ودعا الصغير الذي يصنف على أنه قريب من التوجهات الرسمية للنظام الحاكم في تونس، الجميع إلى الاحتكام إلى صناديق الاقتراع والدخول في المنافسة السياسية من خلال برامج سياسية، وقال: "إذا كان هناك صاحب رأي فليعرف بنفسه وبقاعدته وقدرته على جمع ألف شخص فقط". واتهم دعاة مشاريع المصالحة بأنهم "أعجز من يملؤوا كراسي لحملة صغيرة".
أما المحامي أحمد نجيب الشابي فقد استبعد أي إمكانية للمصالحة في الوقت الراهن وأرجع ذلك إلى غياب شروطها، وقال: "المصالحة مطلب لا يمكن لأحد أن يعارضه، ولكن شروطها غير متوفرة، ذلك أن النظام مقتنع بأن الحرية وحقوق الإنسان في أحسن حال، والمشكلة كلها بعض الرتوشات، وعليه فهذا التصور يدل على عدم استعداد للحوار مع الأحزاب، وبالتالي أحد شروط المصالحة منعدم".
وهو رأي يلتقي فيه مع رئيس المكتب السياسي لحركة النهضة عامر العريض، الذي اعتبر الحديث عن المصالحة من الأشياء المباحة، وقال: "المصالحة تستوجب إرادة، وهذه الإرادة مشكوك في توفرها، خصوصا عند السلطة التي أغلقت الباب أمام كل جهود الحوار مع باقي أطياف المعارضة". وأوضح العريض أن "تونس تحتاج إلى مصالحة كبرى بين كل مكوناتها، مع هويتها ومع محيطها العربي والإسلامي".
لكن الدكتور أحمد القديدي كان له رأي أكثر تفاؤلا حيث قال: "المصالحة هي الشرط الأول للسلام الاجتماعي، وتونس بفضل نخبها المتميزة وأصالتها الديمقراطية وسبقها الدستوري مؤهلة لا للوفاق فحسب، بل للريادة في إقليمها المغاربي ومحيطها العربي ورقعتها الحضارية الإسلامية. المهم أن نبدأ".

 

خدمة قدس برس (وحدة الدراسات والأبحاث)