في الحاجة لفهم طبيعة السلطة السياسية في تونس

طارق الكحلاوي

مقال صدر في صحيفة "الموقف" (الاسبوعية-المعارضة) بتاريخ 2 أفريل 2010... تم تعديل طفيف في العنوان من قبل هيئة التحرير في حين أن العنوان الأصلي يعبر بشكل أكثر دقة عن موضوع المقال.. إذ سأتحدث في مرات قادمة عن طبيعة السلطة السياسية في تونس لكن هذه المرة حاولت التركيز على "الحاجة" لفهم طبيعتها بما أن هذه المسألة مهمشة في الطيف السياسي التونسي عامة

إذا هذا أول مقال لي حول الوضع السياسي التونسي الداخلي في صحيفة تونسية للتفاعل بشكل مباشر مع القارئ التونسي و في سياق رغبتي للتركيز أكثر على الشأن المحلي و هو الأمر الذي أرغب في القيام به من خلال صحف تونسية و ليس منابر عربية كما اعتدت سابقا... و برغم أن صحيفة "الموقف" جريدة تتبع "الحزب الديمقراطي التقدمي" إلا أنها من بين الفضاءات النادرة المفتوحة في الداخل التونسي أمام الأقلام المستقلة... و رغم أن هذا الوضع غير نموذجي (إذ نحن في حاجة في تونس إلى صحف "مستقلة" فعلا إلى جانب الصحف الحزبية) إلا أنها تستحق كل التشجيع و الدعم على الدور الاعلامي الريادي الذي تقوم به.. و بالمناسبة أدعو جميع الأصدقاء لاقتناء الجريدة خاصة أنها محرومة من الدعم العمومي

في الحاجة لفهم طبيعة السلطة السياسية في تونس

1 ليس من الواضح بعد إن كان من حسن حظنا أم من سوئه أننا نعيش في تونس الآن عصر صراع الذاكرة. انسياب التاريخ الحاضر و السياسي منه بالتحديد شفويا و كتابيا لا يحدث دائما بل، مثلما هو الحال مع أي إنتاج فكري بشري، عندما تتوفر إليه الحاجة. و لعل ذلك هو أبرز سمات الراهن التونسي، أن هناك حاجة للذاكرة السياسية.

تحديد مصدر الحاجة للذاكرة السياسية أمر معقد. لكن من الصعب أن لا نرى علاقة بين نضوب السياسة في الوضع الراهن و الحاجة لتذكرها. و هكذا لن نبالغ إن قلنا أن صراع الذاكرة لا يتعلق بالماضي و لكن تحديدا بالحاضر، و بشكل أكثر تحديدا بالحاضر السياسي الخالي (تقريبا) من السياسة.
ربما من المغري، بناء على المقدمات أعلاه، أن ننطلق في جملة من الأحكام العامة من نوع أن جفاف السياسة من سمات النظام "التسلطي" (authoritarian)، و ما يعني ذلك من استسهال تعريف نظام السلطة بعد الكولنيالية (post-colonial) التونسية بأنها "تسلطية". غير أن مسألة تحديد طبيعة السلطة السياسية بشكل عام و السلطة السياسية في تونس بشكل خاص ليست مسألة يسيرة.

من المثير للانتباه أنه في مرحلة ما (السبعينات و الثمانينات) استنفدت قوى "اليسار الجديد" التونسية (على سبيل الذكر لا الحصر) طاقات نظرية و عملية غير هينة في سياق الجدال حول مسألة "طبيعة المجتمع" ("رأسمالي تابع"، "شبه-شبه"... إلخ)، و حينها كان ذلك منسجما إلى حد ما مع الجهد السياسي المنصب على جبهة "النضال الاجتماعي" (إقرأ "النقابي" و/أو "الطبقي"). و بمعزل عن جدوى الصراعات الماراطونية التي حصلت حول مسألة "طبيعة المجتمع" فإن إنزياح البوصلة السياسية لذات هذه القوى نحو "النضال السياسي" (إقرأ "الحقوقي" أيضا) لم يترافق معه أي جهد نظري جاد حول طبيعة السلطة السياسية، إذ كان ذلك يتم بشكل عابر من خلال منح توصيفات اصطلاحية محددة بدون تفاصيل من نوع "دكتاتورية" و "بوليسية" و حتى "فاشية" و غير ذلك. ما حصل بشكل عام في الساحة السياسية التونسية أنه بعد مرحلة ما يمكن أن توصف بـ"الإغراق الايديولوجي" (حتى الثمانينات) دخلنا مرحلة من "القحط الايديولوجي". إذ حصل ما يشبه الاجماع بفعل خليط معقد من مشاعر الاحباط أو الضجر، في سياق الظروف المحلية و الاقليمية و الدولية، من التعبير النظري. ربما كان فرانسيس فوكوياما مجانبا للصواب في عدد من استخلاصاته التجريدية لكنه كان مصيبا في تسجيله حالة "الانحسار" الايديولوجي (توخيا للدقة لم يسجل "نهايته" بالمناسبة بل توقع شيءا من ذلك القبيل في مستقبل ما) خلال مرحلة التسعينات. و ذلك حتى مع الوعي بالفروق الممكنة بين ماهو "نظري" و ما هو "ايديولوجي".

في ظل هذا السياق من المتوقع أن تبرز اعتراضات على أي دعوة للتنظير في طبيعة السلطة السياسية، مثل أن الوضع الراهن يحتاج مواجهة السلطة و ليس مزيد فهمها، أو حتى بأنها لا تحتاج إلي فهم معمق بدعوى أنها "سطحية" بالضرورة. غير أن الاعتراض الأول، على فرض أن هناك حاليا "مواجهة" ناجعة أصلا، يرى ضمنيا في الاستقصاء الفكري بالضرورة استتباعات غير مجدية على المستوى العملي (حتى أن مصطلح "التنظير" ذاته أصبح محملا بمعاني سلبية أساسا). كما أنه لا يرى أي علاقة ممكنة بين فعل "المواجهة" و عقلنة "المواجهة" أو مأسستها فكريا و استراتيجيا، كأن الصراع السياسي يجب أن يكون حالة من الاحتجاج الشعاراتي بدون رؤية. أما الاعتراض الثاني فإنه يدعي طبيعة "سطحية" للسلطة بدون دراستها و تفهمها في الوقت الذي توجد فيه أعمال ثرية في قراءة التجربة التاريخية و السمات النظرية للسلطة السياسية، إذ يحيل هذا المتن المعرفي على وضع معقد (و ليس "سطحيا" بالمرة) لطبيعة مسار تشكل السلط السياسية خاصة تلك الموسومة بشكل تعميمي و تبسيطي مخل تحت تعبير "التسلطية". و الحقيقة من الصعب ألا نرى علاقة ما بين استسهال معالجة طبيعة السلطة السياسية لدى الكثير من القوى السياسية التونسية و تحديدا وريثة "اليسار الجديد" و بين ميراث فهمها "المادي الجدلي" الذي يركز بشكل متكرر على "رئيسية" البنية التحتية في علاقة بالبنية الفوقية و القراءة اللينينية للدولة بماهي "احتكار للعنف" على وجه خاص، و هو ميراث لم يستفد حتى من بعض التجديد الوارد مثلا في القراءة الغرامشية لمسألة الدولة.

الحاجة التونسية لفهم طبيعة السلطة السياسية لا تنبع من عدم التوزان بين الفعل السياسي و الفعل النظري للأطراف التي تصدت لمواجهة السلطة القائمة. بل تنبع بالتحديد من محدودية جدوى الفعل السياسي القائم و محدودية نتائج الصراع الراهن و استمرار هيمنة السلطة السياسية بسماتها القديمة. إذ أصبح من الضروري فهم طبيعة السلطة السياسية القائمة منذ نشأتها مابعد الكولونيالية إلى اللحظة الراهنة، ليست بما هي سلطة سياسية معزولة عن سياقها اللاسياسي و تحديدا سياقها الاقتصادي-الاجتماعي و/أو الثقافي، و أيضا بدون تجاهل تقاطعها مع التجارب التاريخية الأخرى، و أخيرا محاولة حصر شروط تفكيك طابعها الراهن نحو وضع آخر. و هكذا فإن فهم الوضع القائم يستهدف أساسا و رأسا محاولة التأمل في أسباب تغييره. و بهذا المعنى فهو جهد نظري لا يستهدف التجريد فحسب بل أيضا تغيير الواقع.

من المفارق أن عملية التفكر هذه هي فعليا بصدد التشكل. إذ أن إعادة إنتاج الذاكرة السياسية القائمة على قدم و ساق الآن هي في مسارها محاولة للفهم بما في ذلك فهم السلطة السياسية و لو أنها تتم بشكل تجريبي و مؤدلج و تنتهي إلى خلاصات تبريرية في أحيان كثيرة. إذ أن الحاجة الراهنة لتذكر الماضي السياسي لا تعبر عن غياب السياسة راهنا فقط بل هي إنعكاس للحاجة الملحة لفهم استدامة ما هو قائم في سياق الحاجة المتصاعدة لتغييره. و هكذا عوض حدوث عملية التفكر هذه خارج إراداتنا النظرية فإننا لازلنا في حاجة لأن نقوم بها بشكل منظم و واع. و أحد أكثر مهام الناشط السياسي التونسي إلحاحا الانتقال من إنتاج و إعادة إنتاج ذكرى السياسة إلى إنتاج فهم الوضع السياسي القائم. و عندها فقط تتحقق أحد أهم شروط إعادة إنتاج السياسة ذاتها.