نعناع الأهل

لينا الطيبي

من بعيد نهتدي بالأهل
نشمُّ روائحهم
كأنا ما غرفنا من ثوابٍ
غير أصواتهِم في حناجرنا.

من بعيدٍ نهتدي بالصوت،

بحَّةٌ تردُّ الصدرَ إلى الصدرِ،

نبكي تلهينا عن بكائنا، وننخطف خلسةً لنكون يد الأهل.

نهتدي بالظلال التي وارينا
بمواسم زرع وحصاد
وبعرق لم نستمهله فينا.

من بعيد ترسم الزرقةُ أنهارَها
تنحو إلى ماضينا؛
وكأنما ننهضُ من غبارٍ لنستعيدَ سيرةَ الغبار
نصعقُ للشجرة التي توالدت مرارا
فما أثمرتْ غير ثمرتها الأولى.

الصوتُ والملاعب، الأرجاء تلك ودهاليز الضحك،

الولع بالنسيان، والولع بالتذكّر، النار وخمودها،

 أيضا الصور الكثيرة،

(...) كل هذا العشب وطأناه.

وما كان من بعيد غير صوتنا فينا
نهضنا
وأشعلنا في الفتائل زيت البيوت الجديدة،
قُلنا ابتنينا أرجاءنا
ضحكنا في صور جديدة
تزيّنا بالابتسامات
وغالبنا المرايا على سماتنا.

الأهل يأتون بالهال
بالرائحة وقمحها
ولما يكبر الموت فينا
الأهل يحصدون بمناجلهم جبال ظهورنا.

من بعيد يأتون، يستدرجوننا بالآمال؛

فنرتفع إليهم وننحفر على امتداد حبالهم؛

هكذا نتعرف على تاريخ بصمتنا.

الآخرُ فينا آخر وبعيد
ميتٌ قبل أن يصحو
حجرٌ قبل أن يبللنا المطر
سمتٌ وعتمةٌ
وترتيلة غريبةٌ لمعبد قديم
الآخر فينا غريب قبل أن نشتاق صوته.

الأهل يأتون بالضحكة
يهنئوننا على حكمة لم تراودنا
يكنزون فينا العويل
وينطقون صدورنا في الصراخ.

الأهل يطلقون بكاءنا
يدانوننا برعشة الصدور؛
ولما تمتدُّ أياديهم لتمسح عن جباهنا أقواس الألم
ينهض الأهل فينا
تنهض الزرقة سماء في فجوات أصابعنا.

الأمل في شمس الأهل.

من بعيد أصواتهم
الترجي والبكاء
الدمعة وملامات الشوق،
نحن وقع خطاياهم
نحتُ أناملهم
والصعقةُ التي تتمرأى في أعينهم
نحن الرجاء الذي لم يعتنقهم.

الأمل في ضحكة الأهل.

وبعد الأهل، من ذا يشعلُ في قميص المساء غرفة الكستناء، من ذا يُطوِّفُ بخور الورد في أسَّرة الليل، من ذا يقطف الزهرة عن شرفة الدار ليزيّن بحبق الأصابع ولادة الصباح، من ذا ينوِّمنا عند ترتيلة ويوقظنا على الهالِ، من ذا بعد الأهل يزرعُ في تُربتنا الضحكة التي استبقتنا.

الأملُ في ضحكة الأهل.

أصواتهم تَحفر وتحفر،
أصواتهم تأخذ أيادينا وتمرُّ على أيادينا،
أصواتهم تهبُّ
يقينٌ عذبٌ وجرحٌ في التاريخ ينهضُ.

نهضنا بالذي فينا.

الشاي يملأ ضحكتنا، ونعناعٌ، نعناعٌ كثيرٌ في السكَّر،

والرائحةُ لله تلك الرائحة، أصابعنا تفركُ النعناع.

الأهل في أصواتنا
في دمعتنا
في اشتياقنا، وعند اليأس.

الأهل في التاريخ
في تساقط الروزنامة
وفي ذبول الزهرة
والأهل عند نومنا.

الأهل ينخرطون في مهام أحلامنا.

ينهض الأهل فينا، يتناسلون في دمعة أعيننا،

يربتون على ألواح أكتافنا،

ويأخذوننا في أعينهم ننام في نومنا،

وعلى نومنا جيادٌ تصهل وتأخذ أجنحتنا إلى نوم الأهل.

عاليةٌ أصواتهم
ينسلون الغبطة من كؤوس ساخنة.
يرتقون ثقوب أصابعنا
ويأتوننا بتواقيعنا.

نحن الذين افترقنا في الوسائد
وفررنا بحيواتنا،
تنصلنا من سمعة أياديهم
وهدهدتنا الأمسيات السعيدة
نحن الذين قتلنا الأهل.

الأهل في البعيد يستعيدون ذكرياتنا
يستنطقون الحجر في غيبة أصواتنا.

نحن في بعيد الأهل.

اهتدى القمر ونزل إلى صلواتنا
وتلمسنا من بعيد البعيد
صوت اللمسةِ
فارتجفنا
وكأنهم ما عرفوا غير خطواتنا على صدورهم
مرروا الأيدي على طلل الصدور،
وندهونا بالصوت
تلمستْ شفاهنا عرق الصوت.

الأهل يتنادون ليجمعوا أشلاء خطوتنا.

سقط حاضرنا في حديقة الماضي
ونامت أحلامنا في عصفِ الليل
الطلل يُرحلنا إليه
نحن ربيبو الأهل.

مرّر المرج أعيننا على أجنحة عصافيره.