شهادة

الكاتب، النص، الحياة

الكتابة ليست نزهة ولا لعبا بالكلمات

سلام إبراهيم

في العلاقة المعقدة بين ذات الكاتب والواقع والأفكار وطبيعة الصراع المجتمعي يتبلور موقف ورؤية الكاتب. ومن هذه النقطة بالذات يتحدد مسار الكتابة وغايتها. هذه البديهية المبكرة يجري تناسيها من قبل البعض لدوافع لا تمت إلى الأدب بصلة كونه مسعى جماليا معني بالإنسان كقيمة مطلقة. وهذا التغافل لهذه المقولة يؤدي بالضرورة إلى لبسِ يخلط الأوراق، ويقلب المفاهيم والحقائق بجعل النص موظفاً لأغراض نفعية، فيقوم بتعمية وتزييف العلاقات والصراعات المجتمعية بأبعادها الروحية والنفسية مما يغلق طريق الوصول إلى الوضع البشري في التجربة المحددة. قد يبدو هذا الكلام ملتبساً للوهلة الأولى، ولكن عند الدخول في التجربة الحية وأقصد هنا التجربة العراقية الدامية خلال العقود الثلاثة الأخيرة سيبدو الكلام ليس واضحا فحسب، بل شديد السطوع. التجربة العراقية في المرحلة التي أشرت إليها عنيفة في كل مساراتها السياسية والثقافية والاجتماعية، فأنا مثلا من جيل نشأ على وقع ذلك العنف وتجلياته. فما كدتُ أبلغ التاسعة حتى وجدتني أفتقد بغتة للعديد من الرموز، وأكثر تلك الرموز حضورا لدى الطفل هو معلم المدرسة، ففي الأيام التي تلت 8 شباط 1963 اختفى من المدرسة بغتة نصف المعلمين، ومن ضمنهم مرشد الصف، معلمي المحبوب، أعمامي من البيت، والعديد من الجيران، وعندما كنت أتساءل يجيبونني همسا:
ـ أسكتْ. أخذهم الحرس القومي!.
وقتها تشكلت لدي صورة العنف مركزة وأبي النجار يقف كل يوم حاملا فأسه خلف الباب مخافة أن يأتي الحرس القومي ليأخذوا أمي وأختي الكبيرة النشطة في " رابطة المرأة العراقية" التي كانت وقتذاك واجه من واجهات الحزب الشيوعي العراقي. ثم تراكمت حكايات الرعب يهمس بها الناس آنذاك عن تحويلهم للمدارس وروضة الأطفال الوحيدة التي كانت بالديوانية وقتذاك إلى مراكز للتحقيق والتعذيب. حكايات جعلتني أتوجس خيفة لدى مروري بمبنى الأطفال ذاك سامعاً بالصمت صراخ من يعذبون، معلمي، أعمامي، الجيران، سأتعرف على تفاصيل ما كان يجري عندما أبلغ السادسة عشرة، وصديقي الشاعر على الشباني كان نزيلا في ذاك المكان عندما كان في عمري ورأى الجحيم مجسداً. منذ تلك السنة وفي بواكير وعيي تشكلت صورة الحرس القومي قوة قاهرة ترمز إلى الرعب. هذه التجربة المفصلية في حياة العراقي سيجدها المتابع الجاد في كل النصوص العراقية المهمة، وأذكر منها "القلعة الخامسة" "لفاضل العزاوي"، حيث الشخصية المحورية بالنص يعتقله الحرس القومي دون أن تكون له علاقة بأي تنظيم ـ وكان في المقهى ـ لشأن شخصي محض ليعيش تجربة السجن المهولة وسط ذلك العالم الأيدلوجي المغلق الذي ينبذه ويذيقه الويل. "الغلامة" لعالية ممدوح، الشخصية المحورية طالبة جامعية يسارية يغتصبها الحرس القومي ويغيب حبيبها، لتبدأ رحلة تدهورها الروحي والأخلاقي في معادل فني لتدهور الوضع العراقي بكل أبعاده في ظل الطاغية إلى حدود الاحتلال. "وداعا أيها الطفل" لجبار ياسين وهو من جيلي بالضبط. وجد نفسه في المنفى يستعيد طفولته الطافحة بالعنف المرتبط في نصه بالحرس القومي. وفي نصوص كريم عبد، جنان جاسم حلاوي، والعديد من الكتاب ممن كان طفلا في ذلك الوقت، ولست هنا بصدد هذا الموضوع، ولكن سيظل التاريخ العراقي السياسي والاجتماعي والأدبي والنفسي يعود إلى هذه النقطة المفصلية عندما يحاول دراسة العنف العراقي المعاصر في ذروته الصدامية بعلامة المقابر الجماعية المكتشفة بجنوب ووسط وأطراف كردستان العراق. عايشت ذلك الرعب الذي تضافر مع رعب وعنف العلاقات في العراق، فأنت معرض للضرب في أي وقت، في الشارع مع رفاق الطفولة، وفي المدرسة فكل معلم كان يخبأ عصا في خزانته بالصف، وفي البيت. المجتمع العراقي موسوم بالعنف.. سيتجّذر هذا الإحساس والرأي وأنا أعايش في صباي ومراهقتي ونضجي نفس أولئك الذين أرعبوا مخيلة طفولتي. سأعتقل أربع مرات بين 1970 ـ 1980 وأذوق ما ذاقه معلمي وأعمامي وصديقي الشاعر علي الشباني.. سيخرب نفس أولئك القساة حلم الاستقرار وتكوين عائلة وسط الأحبة وبمدينة طفولتي.. سيرسخ الإحساس ذاك إبحاري ببطون كتب التاريخ بحثا عن تعليل ما للعنف الطاغي في علاقاتنا السياسية والاجتماعية. سأطل على ذلك العنف وطرائق الموت الرهيبة في العصر الأموي والعباسي والتتري والعثماني.
ـ هل كان ذلك سبباً في تكوين بيئة مغلقة صارمة التقاليد شكلية؟!.
الأسئلة كثيرة وكبيرة وسلطة البعث ذهبت بالعنف التاريخي إلى أقصاه، يطلع العالم الآن على قطرة من بحره عبر الفضائيات. من هذا العالم الموشوم بالعنف يتبلور المثقف والمبدع العراقي محملاً بإرث جبار. تاريخ دموي لكنه حافل بالفخر وعلامات البناء والحضارة، وحاضر عنيف حيث الأمور والتفاصيل لم تقبل حلاً وسطاً في يومٍ ما. وإن حدث ذلك فالكل يعرف بأن ذلك مجرد توافق وقتي سرعان ما ينفرط. هذه السمة الفريدة التي وسمت الشخصية العراقية المضطربة لكنها في الوقت نفسه الرصينة بحيث جعلت العديد من المحللين الاجتماعيين يحارون في تفسيرها ويفردون كتبا لتحليل الشخصية العراقية تجعل خيار الأديب العراقي حاداً.

أقصد هنا تحديد الموقف مما يجري هنا في الراهن المجتمعي. ففي مطلع سبعينيات القرن الماضي، تمفّصل كل شيء وكما يود البعث الحاكم بوسطه الأدبي المحدود والفقير، شيوعيون حلفاء بوسطهم الأدبي الأوسع، وقوميون أكراد بوسطهم الأدبي، وكان البعث يعد العدة لذبحهما، أما التيار الشيعي فكان يذبح على طول الخط. ونُفِذَ السيناريو بدقة. جرى التخلص من الكل الواحد بعد الآخر ليصبح البعث وشخص الطاغية مهيمنا على كل شيء بتبعيث المجتمع بواسطة قانون رقم (200) تمهيدا لإشعال الحرب. ليبلغ العنف ذروته.
أين موقع الأديب والكاتب المستقل في هذه اللوحة المضطربة؟!.
وما أفرزت تلك الظروف العنيفة والكابوسية من وضع ثقافي داخل العراق؟!.
لم يكن أمام العديد من الكتاب اليساريين المحسوبين على الحزب الشيوعي العراقي شاءوا أم أبوا أي خيار، فأما التحول إلى بوق من أبواق الدعاية لإعلام النظام أو التغييب في المعتقلات، مما أضطرهم للهرب خارج العراق، ولغرض التوثيق لابد من ذكر ما تسعفني به الذاكرة من أسماء: سعدي يوسف، هاشم شفيق، فوزي كريم، هاتف الجنابي، كريم عبد، علي عبد العال، هيثم الجنابي، محي الأشيقر، عواد ناصر، عزيز سماوي، شاكر السماوي، خالد المعالي، فيصل لعيبي، يوسف الناصر، شاكر لعيبي، إبراهيم أحمد، عبد جعفر، أحمد ناهد، رياض النعماني، رشيد الخيون، أناهيد سركيس، زهير الجزائري، هادي العلوي، مشرق الغانم، فاضل الربيعي، فاضل السلطاني، حسين الموزاني، فاروق صبري، يوسف أبو الفوز، نجم والي، سلام صادق، صادق الصائغ، فالح عبد الجبار، عصام الخفاجي، عدنان الزيادي عبد الكريم كاصد، مهدي محمد علي، نبيل ياسين، عدا العديد من الكتاب الذين كانوا وقتها خارج العراق ولم يعودوا بسبب تلك الظروف المهولة أذكر منهم: غائب طعمة فرمان، برهان الخطيب، فاضل العزاوي، جبار ياسين، فاضل سوداني، جواد الأسدي، صلاح نيازي، سميرة المانع، هيفاء زنكنة، سالمة صالح، أسعد الجبوري، مؤيد الراوي، شريف الربيعي، مظفر النواب، ومحمد مهدي الجواهري. والعديد من الأسماء التي لا تحضرني الآن. وإزاء هذا الكم من الأسماء لابد أن يتبلور في المنفى لاحقا مفهوم أدب المنفى وثقافته التي تميزت وبشدة في نصوص الكتاب المذكورين بذلك التعلق الصوفي بتفاصيل بقعة ما بين النهرين الدامية هذه السمة خاصة في النص العراقي المكتوب بالمنفى، وهذا ليس موضع القول هنا.أعود إلى دوافع كتابة هذه الشهادة عما جرى في ظل ذلك الاضطراب المرعب، وأنت تحس أن رقبتك عارية تحت حد السكين في كل لحظة، ليس كونك كاتبا فحسب، بل كونك عراقياً محكوماً بالعيش في أمكنتك الحميمة، بيت أهلك شارعك والمدرسة والمقهى والنادي والجامع ومكان العمل. هذا الشعور بالتهديد السائد وقتها سممَّ المشاعر والجسد والعلاقات.
كيف سلك الكاتب والفنان ممن لم يلقِ ضميره جانباً في ظل تلك الظروف؟!.
كان من أكثر الأهوال فداحةَ كونك شاعراً معروفاً. أما أن تكتب بالعامية فتلك طامة كبرى بسبب توجه السلطة التي منعت الشعر الشعبي في أواسط السبعينيات بسبب هوى الشعراء الشعبيين المعارض ومثلهم الأعلى الحاج زاير ومظفر النواب. عادت إليه بشدة في الفترة الحرجة عقب سيطرة صدام على الحكم بشكل كامل عام 1979 وتنظيم مؤسسات السلطة الثقافية لمهرجانات خاصة للشعراء الذين يكتبون بالعامية كان يحضرها الطاغية شخصياً وتعرض بشكلٍ حي على شاشة التلفزيون العراقي ليستمتع الطاغية منتشياً بذلك المديح المهول المتماهي مع صفات النبوة. في ذلك الجو المحموم، الهستيري، في الفترة ما بين إزاحة "أحمد حسن البكر" وإعلان الحرب على إيران.
ماذا يفعل شاعر عامي معروف أصدر ديوانا مشتركاً عام 1970 "خطوات على الماء" مع شاعرين آخرين، الأول طارق ياسين مات عام 1975، والثاني "عزيز السماوي" هرب خارج العراق وقتها؟!.
لا بد من الإشارة أن الديوان وقتها كان له صدىً طيباً في الوسط الثقافي العراقي إذ كتب مقدمته الشاعر اليساري وقتها "يوسف الصايغ" ورسم لوحة الغلاف واللوحات الداخلية الفنان التشكيلي غريب الأطوار "نايف السامرائي".
كيف تصرف "علي الشباني" الذي بقى حياً إلى لحظة سقوط الطاغية وهو الآن في الديوانية التي لم يغادرها أبدا حاله حال القاص "محمد خضير" في ظل ذلك الظرف الذي بلغ ذروة العنف، وديوانه الوحيد "أيام الشمس" منعه الرقيب عام 1975؟!.
("مخطوطة الديوان" أتمنى أن تكون ما تزال في مكتبتي بالعراق، فهي طريفة كون الكتاب سمح له أول وهلة لكن "علي" كان فقيراً بحيث لم يوفر المبلغ الكافي لطبعه، وعندما هيأ المبلغ كان قد مرَّ على ذلك ستة أشهر مما توجب إعادة عرضه على الرقيب الذي منعه، فطمغ الرقيب قرار المنع على كل صفحة من المخطوط وتحت كلمة مسموح).
أول ما فعله في وسطه الاجتماعي وكان موظفا بسيطا في دائرة المبايعات الحكومية في ـ الديوانية ـ أنه أشاع بالاتفاق معي ومع العديد من الأصدقاء أنه ترك الشعر. وعندما يسأله أحد عن قصيدته الجديدة يسخر من الشعر والشعراء. كان ذلك في وقت مبكر أي قبل الحرب مع إيران، فالشباني خبر دموية البعث عندما أعتقل عام 1963 على أثر سرقته مع رفاق لهم مطبعة مدرسة وطبع بيان تحريضي، فقضى في السجن حتى عام 1967. هو الآخر حاول الهرب من العراق لكنه اعتقل وهو يحاول الحصول على جواز سفر من دائرة السفر والجنسية ببغداد أواخر عام 1978 بوشاية غامضة حتى الآن. وعندما لمته على محاولته الطائشة تلك وهو المتورط بزوجة وأربعة أطفال، وليس لديه أية علاقة بالحزب الشيوعي العراقي، بل كنا نسخر وقتها من فرحهم بجبهتهم الوطنية قال:
ـ الأمر ليس في التغرب، لكن هؤلاء القتلة سيجردوننا من شرفنا!. سيجعلوننا بلا كرامة!.
أكمل جملته بعناء مغالبا سعاله الذي أنفجر. كان قاحل القسمات فمنذ ساعات أطلقوا سراحه، يستلقي على فراشه في زاوية غرفة الضيوف ملفوفا ببطانية. كنت أدرك فداحة ذل من يعتقل في الأمن العام، وكنت مثله حائراً في ذلك المستقبل الغامض لأمثالنا ممن يتمسك بذلك الشيء الحميم الثقيل، الخفي الصعب المسمى ـ الضمير ـ تحت ظل سكين مشحوذة وأعناق مهيأ للقطاف وهنا أستعير ما نشره أخيرا الشاعر ـ أدونيس ـ من خواطر يومية في صحيفة الحياة بتاريخ 15/5/2003 عن زيارته المفردة إلى العراق عام 1969. هو أحس فعلا بحدسه ما تخبئه الأيام، لكنه لم يحترم هول ما كنا فيه وهو ينشر تلك الأحاسيس بعد زوال الطاغية، وكأنه يتشفى بنا لا يتضامن معنا. وما أسرده الآن من حكاية صديقي الشباني ما هو إلا عبرة للمثقفين والكتاب العرب، ممن يكتب عن العراق وما جرى من أمكنته الوفيرة الآمنة، وكأنه سائح يبدي انطباعاً عن سفرة ما قديمة، معرضاً عن عذاب تلك الأعناق التي قال عنها أنها مهيأة للقطع.. وأنا وصديقي الشاعر وكل أسم يرد في هذا المقال ما هو إلا عنق كان تحت حد السكين ونجا. فليسمع أدونيس وغيره من المبدعين والمثقفين العرب مواويل تلك الأعناق المسكينة التي أروي طرفاً منها الآن.

من تلك النقطة، ومن تحت رماد الوقت وهو ينوء بكيانه الذي أُذل كان يفكر بكيفية المحافظة على نقاء ضميره. وما الضمير إلا رمز للذات الصالحة بالمفهوم الإنساني المطلق. كنا في الغرفة الفقيرة الخانقة نفسها. الغرفة التي كان قبل اعتقاله يشب وينشد أشعاره الممنوعة:
"أسكت جزيرة الحكي
وبراسي يلعب سيل"
أشاع أن الشعر أصبح في خبر كان، وأنشغل في الدنيا والتفاصيل، مهملا، منسياً، لكنه كان يكتب القصائد ويخفيها عن الكل عدا صبحه المخلصين. في موته الشعري المعلن على الملأ تمكن الشباني من بلوغ التقية، فتخلص من ذل انقياده لكتابة وإنشاد قصيدة تمجد الطاغية. وكانت تلك سعادته القصوى التي كنا نتسارر بها في جلسات الود اليومية في بيتي أو بيته. وقتها كنت أمعن التحديق فيه.. في سلامه الداخلي وهو منتشٍ يشاهد أولئك الشعراء الطبالين يطلون من الشاشة الصغيرة يدبجون المديح الملل وصفات التأليه على الطاغية صدام الجالس في الصف الأول منشياً بسكر العظمة الموهومة.
كان ذلك قبل أن يشعل الطاغية حربه على إيران!. الحرب تلك فاتحة الخراب العراقي الشامل، فعقبها كل شيء أختلف، البشر والمكان والعلاقات والرؤية في ظل سلطة أصبحت أكثر وحشية وعنفا إزاء مواطنيها. فكيف بالأديب إذن؟!.
الصمت كان سيداً. لزمنا البيوت.. من العمل إلى البيت والتزاور يجري ليلاً. نتسمع الأخبار ونحلل ونخشى في كل لحظة طرقاً على الباب، وسعار كتّاب السلطة وشعرائها وسيل أغاني الحرب المتغنية بالعراقي الذاهب للحرب مثل عاشق يدافع من أجل محبوبته.. "وأحنه مشينا للحرب" وقتها كنا نخاف خوفا مركبا.. أن نعتقل لوشاية، أو نساق جنداً للحرب، وكنت أسعد حظاً من "علي الشباني" إذ لم أنشر وقتها سوى قصة يتيمة في صحفية "التأخي" عام 1975 رغم كتابتي ما يقارب الأربعين قصة وصلتني مهربة من العراق قبل أربع سنين، فكان رعبه معقداً وأشده كان من سوقه لكتابة قصيدة تمدح الحرب والطاغية. كنا نكتب سراً وكأننا أحرار ونقرأ لبعضنا في عمق الليالي داخل غرف مغلفة النوافذ والأبواب. وكنا نخبئ ما نكتبه لدي ولديه، متعاهدين بأن لو حدث للواحد منا شيء، فالآخر سيقوم بنشر ما لديه فيما لو قدر له البقاء. في ذلك المناخ المتوتر وعيشنا شبه المتخفي فقد كنا نتحاشى الجلوس في المقاهي عكس ما كنا نفعله في أواسط السبعينات. في ذلك المناخ الضاج بطبول الحرب ونشوة النصر باحتلال مساحات شاسعة من الأراضي الإيرانية بسهولة. أنهد قطيع مسعور من الكتبة في الشعر الفصيح والعامي، وفي النثر من قصة ورواية، فظهرت أسماء جديدة امتهنت حرفة تسويق قيم القتلة بتمجيد الحرب والنصر والدفاع عن الوطن في نصوص هزيلة، تافهة فعلا تظهر كل يوم في صحف السلطة الرسمية، الثورة والجمهورية والعراق. نصوص تتغنى بقيم الشر في الإنسان. نصوص شريرة غرضها تسميم العقل العراقي كي يقتنع بتراجيديا الذبح الذي يعاد يوميا في الأقبية السرية والذي يبدو لي الآن ومشهد القبور الجماعية عقب زوال الطاغية كان من الكثرة بحيث أضطرهم إلى إبلاغ بعض من ذوي المعدومين بين الحين والحين كما فعلوا مع أبي عام 1983
حينما صُفي أخي الرسام "كفاح إبراهيم" في المعتقل، لكنهم لم يسلموا جثته أي أنه ضاع هو الآخر في مقبرة من هذه المقابر الجماعية، وكذلك فعلوا مع العديد من الأصدقاء الحميمين، وأثنين من أولاد عمومتي، تفاصيل ذلك يجدها القارئ في روايتي "رؤيا الغائب" التي صدرت عام 1996، وفي الجبهات وسيل القتلى يتزايد مع شراسة المقاومة الإيرانية وطول الحرب. كنا نتلقى الصفعات في الشارع وعيون الشرطة السرية تلاحقنا، في العمل وزميلك يرصد كل مفردة تتفوه بها، ومن شاشة التلفاز ووجه الطاغية يطل كل يوم نصف وقت البث، والصحف تنشر قصص البطولة وعظمة الجندي العراقي الذي يموت في تلك النصوص سعيداً، منتشياً، مبتسماً، وفخوراً في لحظته الأخيرة. كنا نسير ونتنفس ونقول وكأننا داخل مكعب لكننا كنا سعداء لسبب بسيط أن كل ما كان يجري لم يمسنا بعد. لكن لم يستمر الأمر طويلاً. حدث ما يتوجب الإفصاح عن موقف، وذلك ليس له علاقة بكوننا أدبيين بل ما يحدث لأي عراقي في زمن حرب طاحنة، إذ سرعان ما دعيت لأداء خدمة الاحتياط في ربيع عام 1982. وسيق الشباني في صفوف الجيش الشعبي إلى إحدى الجبهات. هكذا أصبحنا مجرد خروفين جاهزين للذبح. وكان وقع ذلك علينا أخف وطأة من فكرة الكتابة وتمجيد ما كان يجري من حفلة ذبح العراقي المستمرة.
كان الخلاص في ما لو يلقي المرء ضميره جانباً، ويتشبث بالحياة بشكلها الغريزي، أن تكون حياً بأي ثمن متوفر لدينا. فبقصيدة تمجد الطاغية أو الحرب سيكون الشباني المثقف الموسوعي محرراً بإحدى صحف النظام معفياً من كل المهمة الجسدية على جبهات القتال، وبنص قصصي مني سأكون منتدباً في إحدى مؤسسات النظام الإعلامية. وبالمناسبة قرأت هذا اليوم 3/7/2003 رداً للشاعر "عدنان الصايغ" في موقع "إيلاف" الإلكتروني على مقالة لمحمد الحجيري نُشرت في ملحق جريدة النهار البيروتية الثقافي بعدما أستثار مشهد القبور الجماعية وعمليات التعذيب الوحشية المعروضة في القنوات العربية الفضائية ضمير الكتاب اللبنانيين وجعلهم يحللون تلك الظواهر، ويتساءلون سؤالاً مشروعاً حول الكيفية التي يتولى فيها أديب ما موقعاً "أي موقع" في مثل تلك السلطة الوحشية التي لا تتقن سوى الدجل والقتل وامتهان الإنسان وسحقه بهمجية فاقت همجية الحجاج وهولاكو. هذا السؤال الذي لا بد من أن يثار لدى كل إنسان لديه ضمير فكيف بالمثقف والكاتب والمحلل والفنان وهو يرى فظاعة القبور الجماعية التي لم يجدوا لها مثيلا حتى في صراع البوسنة والصرب والكروات. فتلك عُزيت لأسباب دينية أو عرقية، لكن في الحالة العراقية هي محض جريمة يرتكبها الطاغية ضد أبناء جلدته العراقيين. القضية هنا شكل من أشكال المرض النفسي من الذي نشاهده في أفلام الجريمة والرعب، حينما يتدله القاتل بالقتل والقتل، فكيف إذا تحول القاتل إلى حاكمٍ مطلق كما هو الحال مع "صدام حسين". في مثل هذا الوضع يصبح كل شيء شاذاً، يقول عدنان الصايغ أنه قضى كذا وقت في المعسكرات وسط الجنود، وفي الجبهات والإسطبلات ذاكراً موقعاً في أرياف السليمانية " معسكر عربد" على طريق "سليمانية ـ سيد صادق" ومن غريب الصدف أنني كنت هناك أيضا وبنفس الفترة التي ذكرها، لكن فاراً أدور مع المقاومين في الجبال البعيدة، وشظف العيش، وأعبر كمين معسكر ـ عربد ـ ليلاً مع المقاتلين فرداً فريدا متجهين إلى شاباجير، وبالعكس إلى قرة داغ. يذكر عدنان الصايغ كل ذلك مبررا سبب سحبه من تلك الوحدات العسكرية الخطيرة بمنظوره ذاكراً بأن ثمة ضجة أُثيرت في الوسط الأدبي "البعثي طبعا" في بغداد حول وجوده في تلك المواقع، فيستشهد بمقطع من قصيدة له مكتوبة بروح المنافسة بين أدباء السلطة كونه منسياً في الجبهات بينما الآخرون ينعمون بالراحة في الكراسي الوثيرة ويكتبون عن الجنود. وذلك السبب الوحيد الذي يورده "عدنان الصايغ" الذي جعلهم ينتدبونه للعمل الصحفي في حراس الوطن " مجلة الجيش العراقي التي تشرف عليها "الاستخبارات العسكرية العراقية بشكلٍ مباشر" والمواقع الأخرى في صحافة ومجلات السلطة ليقود ثورة أدبية وشعرية وثقافية من مواقعه تلك. وهذه الحكاية الملفقة قد تنطلي على العديد من الكتاب العرب، وقد تبدو غامضة لكتاب عراقيين ممن غادر باكراً، لكن بالنسبة لمن عاش ذلك الظرف بتفاصيله "مثلي" يبدو مجرد ادعاء وكذب وضحك على الذقون وركوب للموجة في معناه العميق يتساوى مع ركوب موجة السلطة والكتابة وتبوء المراكز الثقافية بظلها، والشيء الذي أثار استغرابي وما يزال هو جواب كل من التقيتُ به ممن عاش تجربة "عدنان الصايغ" وزمنه على سؤالي الصريح والمباشر:
ـ هل كنت بعثيا؟.
ـ لا.. مستقل!.
مع رجفة بصوته. للحدود التي جعلتني في يومٍ أقول ساخراً لهم في بيت الشاعر "زاهر الغافري" بمالمو السويدية:
ـ يبدو أحنه بس البعثية وما ندري!.
لم نفعل ذلك.. ليس سلام إبراهيم وعلي الشباني فحسب بل العديد والعديد من الكتاب العراقيين الذين سيظهرون لاحقاً في سياق الموضوع.
لِمَ لمْ نكتب مثل القصيدة التي أستشهد بها الصايغ كي ينقلوه إلى العسل الإعلامي؟..
والجواب هو أولا لأننا فعلاً لم نكن بعثيين، وثانياً الضمير والموقف الأخلاقي وإطلالة الذات في وحدتها على كينونتها الدفينة، جعلتنا نكتب عما يجري مصورين عذاب العراقي في التفاصيل، كتبنا عن الجنود والقمع والإرهاب نصوصاً لو وقعت بيد واشِ لكنا في إحدى القبور الجماعية الآن. لنسمع شيئاً من علي الشباني الذي كتب هذه القصيدة وهو في خندق بجبهة الحرب سماها ـ الحرب ـ لنستمع إلى هذا الصراخ:
دفعوني... جرف للنار
خطواتي متاهات
وظلام الروح... من يلتم على العتبة منارات
دفعوني التتر...
نزليت بالذلة عشر قامات.
يا ماي الوجه الضايع
وراك بحور.. مسكونة
وراك الموت يرفع راية مجنونة
إلى أخر القصيدة..
ألم يحمل دمه على كفيه من يقول مثل هذه القصيدة وهو مساق ليقاتل على الجبهات؟!. القصيدة مؤرخة في 12/1984.
أليس في هذا الموضع للقول قوة الفعل؟!.
ستصلني مخطوطة أشعاره إلى الدانمارك عام 1998 وسأجد المزيد من قصائد الهجاء للدكتاتور والقمع والحرب وبلغة شعرية صريحة تشبه الصراخ، سأحمله معي إلى الشام وأتدارس شأن طباعته ونشره مع الصديقين الشاعر والكاتب "جمعة الحلفي" والمصمم المعروف "طالب الداوود" سنقرأ القصائد بدقة لنقرر عدم إدراج قصيدة ملحمية طويلة عن الحرب والقمع لصراحتها خوفاً على حياة "علي الشباني". وصدر الديوان عام 2001 في دمشق دون تلك القصيدة المسماة "ليل التتر" مؤرخة في 11/1984. سأحاول نشرها كاملة في الأيام المقبلة مع تحليل القصيدة، هذه ستكون شاهداً مهماً على تلك المرحلة، وستلقي الضوء الساطع على هذا النمط الشجاع من شرف الموقف ومسؤولية الكلمة التي قد تقتل صاحبها، ولكن في الوقت نفسه ستبين زيف ووضاعة مبررات كتابة نصوص تمجد القمع والحرب إذا علمنا أن "علي الشباني" متزوج ولديه أربعة أطفال.
سوف أعود إلى سياق الموضوع.. أما أنا فقد أصابني الشلل بمعناه النفسي، فقد كنتُ متزوجا، ولتوي رزقت بطفل كان لا يتجاوز عمره الأربعة أشهر عندما ساقوني جندي احتياط للمرة الثانية في 4/1982. وأُلقيت في أتون الجبهة، التي سرعان ما اشتعلت في الهجوم الإيراني الشهير على شرق البصرة في 7/1982. وبعد ليلة ليس لها مثيل قضيتها في ملجأ شقي والقذائف الإيرانية تتساقط بجنون في كل لحظة حول ذاك الشق الذي نصحنا عريف مدفع 130 ملم الخبير الاختباء فيه طوال الليل كوننا جنود مستجدين وصلنا الوحدة قبل يوم واحد فقط من الهجوم الإيراني الكبير. تلك الليلة الدهر أحسست فيها بالهوان، فضعفت ذاك الضعف الإنساني حينما يحس الفرد كونه ضعيفاً وعاجزاً إزاء قوة الشر المتجسدة بهذا الكم الهائل من آلات القتل الضاجة في عتمة تلك الليلة إلى الحد الذي جعلني فيه أتشبث بجندي زميل أسمه "حميد" وهو يشرع في الانتقال إلى ملجأ شقي مجاور قائلا:
ـ وين راح حميد، أبقَ!
فردَّ على عجل لاهثاً:
ـ ليش على الأقل إذا وقعت قذيفة على الملجأ واحد من عدنه يموت.. ليش اثنينه!.
وقفز إلى الشق المجاور. عشت أثقل زمن وأمرّه في عمري في الفترة ما بين وحدتي في الشق الضيق وانبلاج حيث خف القصف مع فضة السماء.
لم أصدق ذاك الصباح الذي وجدته خلاصاً من هول ليل الهجوم والقصف، والعريف يقدم لي ورقة الإجازة الشفافة قائلا:
ـ قرار القيادة الإجازة والجنازة بنفس الوقت!.
وفعلا ركبنا ذات العربة مع جثث الجنود المساكين ممن قضوا في ليلة القصف الرهيبة. كانت الورقة الشفافة ساحل خلاص عبر بي إلى "الديوانية" والحيرة، فما أن وصلت البيت حتى قلتُ لزوجتي:
ـ لن أعود أبدا إلى الجبهة!.
ـ لكن!.
قاطعتها:
ـ بلا لكن.. الموت هو المشروع.. فلا أريد الموت في حربٍ لست مقتنعاً بها!.
ـ لكن كيف ستكون حياتنا والطفل.
قلت لها:
ـ لا أدري.. المهم هو عدم عودتي وحتى لو اعتقلت وقتلوني فذلك أشرف لي من الموت بقذيفة عمياء تسقط عليّ صدفة!.
وبت في ذاك الوضع.. مختفياً في بيتي، لا أخرج إلا في المساء كي ألتقي بـ "علي الشباني" حائرين بمصيرنا الذي مهما تلفتنا وتفاءلنا لم نجد سوى الزنزانة وحبل المشقة أو ساحة الإعدام، فقد كنا وقتها لم نتخيل بعد طريقة تفجير البشر التي رأيناها بعد سقوط الطاغية بفلم فيديو مسجل عرض على شاشات التلفاز. كانت مخيلتنا وقتها أضيق مما وصل إليه خيال الجلاد المبدع ذاك... إلى أن كنتُ في ليلة أسهر في بيت "علي الشباني" نخوض في الشعر والحياة وهواجسنا عندما قرع الباب ودخل علينا الصديق ـ محمد حسين ـ كان طالباً في الجامعة التكنولوجية ببغداد، وكان قد استشارني في صيف ذلك العام عن قدرته على الالتحاق بالحركة المسلحة في كردستان عن طريق زملائه الطلبة الأكراد في الجامعة ممن ينتمون لجماعة "جلال الطالباني"، فأشرت إليه بالالتحاق كي يمهد لنا طريقاً قد نحتاجه في ظروف الحرب. وكنت مدفوعاً بفكرة الخلاص من هول فكرة الموت في جبهة الحرب شهيدا بمنطق النظام وقتها. عاد متسللاً من الجبل وكأنه هبط من السماء وهو يقول بعد أن أخبرته بوضعي المضطرب:
ـ غداً سأوصلك إلى الجبل إذا أردت!.
عاد متسللاً من الجبل وكأنه هبط من السماء وهو يقول بعد أن أخبرته بوضعي المضطرب:
ـ غداً سأوصلك إلى الجبل إذا أردت!.
وكأنني وقتها وقعت في الجنة. عدتُ إلى زوجتي وطفلي الرضيع فرحاً لأسرَّ لها عن قرب الخلاص، لكنه خلاص غالي الثمن، فالمشروع نضال مسلح وفراق الزوجة والابن. أي حق الخيار العراقي بأي ساحة تموت ولأجل أي معنى؟!.
لا أنسى ما حييت الشحوب القاتم الذي أذهب تورد وجنتي حبيبتي، فالأمر الذي بدا لي خلاصاً كان بالنسبة لها فاجعة فراقاً قد يكون أبدياً. أقول ذلك الآن لكن وقتها لم أستطع تفسير ذاك الشحوب والكمد الذي أصاب حسها وجسدها، ولا أتذكر الآن كيف تصرفت. كنت منتشياً بفكرة التحاقي بالجبل والثورة ومخيال جيفارا، وهذا يضاف إلى فكرة الموت المجاني في جبهة القتل المحتدمة من أجل لا شيء. تركتها زوجة فتية وأبناً لم يجاوز الستة أشهر والتحقت بالجبل مقاتلاً رثاً بصفوف أنصار الحزب الشيوعي العراقي، وصديقي "علي الشباني" الشاعر ودعني بدموعٍ من دم.
ـ هل كنتُ منحطاً لم أقم وزناً للعائلة بحيث تركتها ورحت أجوب قرى كردستان النائية في حياة تشبه عصامية المتصوف المطلق؟!.
ـ هل كنتُ وقتها مدلها بالأيدلوجيا التي تعمي غالباً تفاصيل الحياة في معناها الوجودي القصير؟!.
لا هذا ولا ذاك. فوقتها لم أكن شيوعيا. ولم أستطع هضم هذه الفكرة رغم محاولتي. كانت لي رؤيتي المختلفة عنهم يجدها القارئ في تيمة نصوصي التي لم يرحبوا بها، وكنت لا أريد الموت بذاك الصف، ولا الكتابة كما فعل كتبة حروب صدام المخزية كي أضمن سلامتي كما برر "عدنان الصايغ" متباهياً بتحمله قسوة حياة الجندية زمن الحرب كي ينقلوه إلى الأعلام، أو القاص "فيصل عبد الحسن" الذي هاجم كتاب "سلام عبود" عن ثقافة العنف في العراق في صحيفة "الشرق الأوسط" بتاريخ 6/4/2003، فرد عليه ناشر الكتاب بنفس الصحيفة بتاريخ 27/4/2003 مما أثار غضب "فيصل عبد الحسن"، فردَّ بتاريخ 2/6/2003 بعنف خارجا عن طوره وكاشفاً ما يفور في أعماقه من شعور بالدونية جعله يدافع عما أقترفه من جريمة تسميم القارئ العراقي بنصوصه الحربية التي فاز إحداها بجائزة "قادسية صدام"، لا بل كتب في الرد متباهيا بها كون نصوصه تصف ما جرى حقاً، وما جرى حقا تظهره الآن شاشات التلفزة من فظائع ووحشية نادرة ومميزة في التاريخ المعاصر وأخرها هذا اليوم 1 ـ 7 ـ 2003 على شاشة "العربية الفضائية". مشاهد مسجلة بالفيديو مرعبة عن عملية تعذيب حية لمساجين عراقيين عاديين عراة وسط باحة سجنٍ والحراس ينهالون عليهم بالعصي، فيتجمعون متكدسين متشابكين جوار الجدران ووسط الباحة الصغيرة كتلٍ مذعورة، وعشرات الشرطة تمارس الضرب بلذة سادية بادية على الوجوه. و "العربية" حصلت على ملفات بعضهم فتبين أن العديد منهم مسجون لقضايا عادية، لمشاجرة عائلية، أو لشراء سيارة مسروقة. إذن فكيف بالسياسي المعتقل والجندي الهارب؟!. ذاك ما تعجز عنه المخيلة. فكيف كتب فيصل عبد الحسن، وجاسم الرصيف، وعبد الستار ناصر، وثامر معيوف، وناجح المعموري، والقائمة تطول عما جرى؟!.. وبأية طريقة جعلت تلك السلطة تمنحهم جوائز. وكي يبرر "فيصل عبد الحسن" نصه الحربي ويسوقه بالظرف الجيد يقول أن السلطة تراخت في أواخر الثمانينات وسمحت بكتابة تنقد الحرب أي أن تلك الكتابة تخدم السلطة أيضاً لتلبيتها حاجة السلطة نفسها في ظروف مستجدة.
وهذا إذن محض افتراء، وكي يضفي على نصه الفائز بجائزة الطاغية يورد أسماء اللجنة المانحة وكأنهم أنبياء، لا مثقفين براغماتيين رغم احترامنا لنصوصهم الإبداعية، لكنهم أسهموا بهذا الشكل أو ذاك "إذا كانوا فعلا كما يدعي فيصل عبد الحسن" في صحيفة الشرق الأوسط أنهم من أقروا بالجائزة لنصه الحربي. الأول "جبرا إبراهيم جبرا" المرحوم الذي قضى عمره في العراق يعمل في مؤسسات السلطة الثقافية، والثاني الصديق الروائي فؤاد التكرلي الذي كان أيضا ضمن ذلك الجهاز الثقافي الرسمي حتى هجرته إلى تونس حيث كان موظفاً أو ملحقا ثقافياً ولست واثقا من هذه المعلومة ( وثقت منها لاحقا من الصحافة التي هاجمت التكرلي والطالباني يعينه مستشارا ثقافيا له في هذه السنة 2005). ومن هذه الزاوية فأن ما ذكره فيصل عبد الحسن عن كونهم في لجنة تقييم نصوص حرب صدام يصب ليس في صالح نصه بل دليل إدانة للمبدعين المذكورين كونهما أسهما في تبرير تلك السموم وتقاضوا مكافآت على ذاك العمل المشين. ومن هنا أود أن يوضح الصديق الروائي فؤاد التكرلي هذا اللبس، فالذي رواه لي في لقائنا بدمشق ربيع 2002 في جلسة ببيت الصديق الشاعر جمعة الحلفي كونه عانى من الرقابة على نصه "الرجع البعيد" ومنع من النشر داخل العراق مما أضطره إلى نشره في بيروت ( لكن رغم نشر هذه الشهادة في شباط 2004 في جريدة الصباح الرسمية في العراق على حلقتين، وفي مجلة عيون الصادرة عن دار الجمل ألمانيا لم يرد التكرلي على ذلك وهذا يعني أن كل ما قلته حقيقة لا يستطيع مواجهتها والرد عليها لا سيما وهو يتلون الآن ويصبح مستشارا لرئيس العراق الجديد الطالباني). والشيء بالشيء يذكر، قلت أن الكاتبين براغمتيان وبذهني الروائي المبدع "غالب هلسا" الذي كان وقت تركز السلطات بيد الطاغية وإلغاء مظاهر الديمقراطية الزائفة وقت الجبهة الوطنية، بمحاولة تصفية الشيوعيين الحلفاء واليساريين، الديمقراطيين، في العراق ويعمل في مؤسسات السلطة الثقافية، وبدلاً من الصمت والتمتع بالمكاسب المادية الضخمة أعلن موقفه في مقالة طويلة وغادر العراق ليكتب رواية جميلة هي "ثلاثة وجوه إلى بغداد" والتي أزعجت الكل بسبب صراحتها في تناول المرأة العراقية في السرير، وهذه الموضوعة إحدى التابوات في الأدب العراقي، وحتى لدى اليسار الماركسي. أقول غادر العراق إلى بيروت بعد أن قال كلمته بكل شجاعة وجرأة سلوكاً وكتابةً، ولم يفعل مثل الكاتبين التكرلي وجبرا اللذين خلت نصوصهما من مديح السلطة لكنهما بقيا يتمتعان بامتيازات مؤسساتها كما بين "فيصل عبد الحسن" في رده الذي أجد في ادعائه شيئا من الصحة من خلال ما نشره التكرلي عن زياراته إلى بغداد في الصحافة طوال فترة حكم الطاغية البغيض دون إشكال. سجل الروائي "غالب هلسا" موقفا واضحا وصريحاً، وكان رسالة للمثقفين والمبدعين العرب بكتابته مقالاً صريحاً عن الوضع الميداني في العراق وقتها،والسلطة كانت تعد لحربها مع إيران. وفي نصه الروائي الجميل " ثلاثة وجوه إلى بغداد" صورَّ بشكلٍ مبكر أجواء القمع والرعب في بغداد وقت تصفية اليسار العراقي.
فمن أصغى ومن سَمِعَ من الكتاب والمبدعين العرب؟!.
القلة أو لا أحدَ!.

فمن أصغى ومن سَمِعَ من الكتاب والمبدعين العرب؟!.
القلة أو لا أحدَ!.
أستمر المربد وحشود الشعراء والنقاد والمثقفين تتوافد في الموعد المحدد بالضبط لتساهم بهذا الشكل أو ذاك في تجميل وجه النظام البشع، ولتغترف من مال العراقيين المساكين وتشكر الطاغية الكريم، فحتى منتصف الثمانينات وأواخرها كانت حشود الكتاب والمبدعين العرب تتجمهر في مهرجانات القتلة، والشاعر الفلسطيني "محمود درويش" الذي تغزل ببغداد زمن حاكمها الجائر فأثار وقتها جدلا في الصحافة الفلسطينية، إذ قام الصديق "محي الأشيقر" بكتابة مقالة حول قصيدة "درويش" وزيارته فقام بالرد وأثار جدلا واسعا في الوسط الثقافي العربي، صحبه في زيارته تلك "سليم بركات" لم يسمع وقتها أحد من أولئك الكتاب والشعراء العرب صراخ المثقف العراقي والمبدع العراقي المنفي الذي كان يرى بمجرد زيارة المبدع العربي للعراق زمن القتلة المتوحشين يعد إجحافاً بحق الثقافة والإنسانية وتبريراً لشرعية أولئك القتلة. بالعكس فقد صنعوا منه أسطورة قومية، وظاهرة تعوض غياب "جمال عبد الناصر" حبيبهم، فنزار قباني أسبغ عليه صفات كلية كما يقول الشاعر هاشم شفيق في مقالة بجريدة النهار في 20 نيسان 2003 مستشهداً بهذا البيت "هو من قطر اللون الأخضر في عيني" عدا حشد من الكتاب والمثقفين السوريين والمصريين والفلسطينيين والتونسيين والأردنيين والمغاربة من ذوي الهوى القومي كانوا يجدون به حامياً لبوابة الوطن العربي الشرقية وبهذا المعنى كانوا يباركون حربه نيابة عن أمريكا على إيران. الحرب التي أروي طرفاً من موقف الكاتب ذي الضمير منها، ففي الوقت الذي كانوا فيه ينامون في فنادق بغداد الراقية وينعمون بملذات الأكل والشرب وعطايا النظام، كنا نلوذ بأنفسنا ونهرب من جحيم القتل المجاني في جبهتهم الشرقية إلى الجبال النائية في كردستان العراق. ولتلك التجربة قصة أخرى، لكنني سأروي لكتبة الحرب العراقيين وللكتاب العرب ممن كان ينام قرير العين في فندق فلسطين ويأكل ويشرب ما لذ وطاب، هنا حكاية طريفة عن مبدع عراقي أخر له نفس حكايتي.. كنتُ وسط الثوار في الجبل، ندور بين القرى النائية الفقيرة. نبيت في الجوامع ونحصل رغيفنا من بيوت الفلاحين الأكراد، ونرتعب من صوت طائرة مروحية كانت تصطاد بين الحين والحين مجموعة منا محدثة مجزرة. كنا في قرية أسمها "مالومة" خلف سلسلة جبال "مكرون" المحيطة بالسليمانية. كنا نجلس في باحة الجامع نتسلى باصطياد القمل من آباطنا ومناحي أجسادنا. كان ذلك في أواخر كانون الأول 1982 في عز البرد والجبال مكسوة بالثلج عندما همس بأذني نفس الشخص الذي ساعدنا على الالتحاق بالجبل "محمد حسين":
ـ وصل القاص جنان جاسم حلاوي!.
فهرعت إلى مدرسة القرية المتحولة إلى مقر مؤقت، فوجده هنالك منهكاً يتفاوض مع أحد المسؤولين الذي كان يحاول أن يستبقيه معنا في السرية مقاتلاً. وفي غرفة المدرسة الرطبة المهجورة تلك تعارفنا. كان هو الآخر هرب من جبهة الحرب حاملاً على ظهره حزمة كتب، ساومته كي يتركها لي محذراً من بعد المسافة إلى المقر في "بشتاشان" ووعورة الطريق، فترك لي رواية "التكرلي" ـ الرجع البعيد، ورواية "ماركيز" ـ قصة موت معلن ـ لكنه أبى أن يمنحني كتاب "شرح أبن عقيل". ودعته في فجر اليوم التالي وذهب إلى المقر الرئيسي في "بشتاشان" ليعيش تجربة مهولة حينما تقاتل الثوار فيما بينهم. الشيوعيون والبرزانيون من جهة، والاتحاد الوطني الكردستاني من جهة أخرى. سيشهد مجزرة من نوع أخر. وسيصورها في روايته ـ ليل البلاد ـ التي صدرت عن دار الآداب 2002. الرواية التي تحكي قصة ذاك الجندي العراقي الذي كانه "جنان حلاوي نفسه" في جبهة الحرب، ثم في صفوف الثوار، مأساته وأحزانه من رؤية تعري كتبة القادسية الذين ما زالوا ودون خجل يدافعون عن ذلك السم الأدبي.
أما أنا فظللتُ أدور بين القرى مشدودا إلى زوجتي وابني إلى أن حزمت أمري وأقنعتهم كي يسمحوا لي بالتسلل سراً إلى المدن. لأعيش قصة أخرى بين المخبأ وجبهة الحرب من جديد ومعارك "الحويزة" على حافة أهوار العمارة 1984. ثم التحق ثانية إلى الجبل لكن هذه المرة بصحبة زوجتي تاركاً ابني.. سأصاب بقصفٍ كمياوي في 5/6/1987 سأترجح على حافة الموت وأنجو بعجزٍ قي الرئتين يبلغ 60% سيجد القارئ طرفاً من هذه الحكاية في روايتي "برازخ وأخيلة" التي منعها رقيب اتحاد الكتاب العرب في سوريا عام 2002. سأتشرد في معسكرات اللاجئين في تركيا وإيران. ولما وصلت إلى الدانمارك عرفت أن العديد من المبدعين العراقيين قد مروا بهذا المسار لكنهم لم يمكثوا بالحركة المسلحة إلا لبرهة وجيزة وقت العبور. "شاكر الأنباري" سيصور في نصوصه الروائية وقصصه المزيد من تلك الأجواء والتجربة رواية ـ ألواح 1995ـ و ـ ليالي الكاكا 2002 ـ . نفس مسار ذاك الجندي العراقي المسكين المقاد إلى الذبح لكنه يقاوم ويهرب إلى كردستان. "حميد العقابي" سيصور في كتابه ـ أصغي إلى رمادي 2002 ـ تفاصيل تجربته كجندي في معارك المحمرة وتلك المجزرة الرهيبة، وهروبه إلى كردستان وتفاصيل العيش في معسكرات اللاجئين الإيرانية ممزوجاً بسيرته الذاتية في الطفولة والصبا. "حمزة الحسن" والذي له قصة أخرى يقال أنه هرب من جبهات القتال مباشرة إلى إيران ليعيش رحلة معسكرات اللجوء الإيرانية والباكستانية قبل أن يستقر في النرويج نجد ذلك في ـ سنوات الحريق ـ و ـ الأعزل 2000 ـ نفس حكاية ذلك الجندي العراقي الحائر بوجوده والهارب المختفي المذلول في الجبهة ومعسكرات اللجوء والمتشبث بالحياة.
نستطيع هنا القول وبعد تراكم العديد من النصوص الروائية والقصصية القول بأن هنالك تيارا أدبياً تبلور له سماته الخاصة، يصور ما جرى حقا زمن الحرب الإيرانية العراقية ويكتب عن تجربة معايشة حيه ومن زاوية موضوعية تنحاز للإنسان كقيمة مطلقة. هذا التيار سيكون التاريخ الحقيقي لعذاب الجنود العراقيين والهاربين، قمع السلطة الهمجي، ويحضرني هنا مشهدان:
الأول: فصل من رواية ـ ليل البلاد 2002ـ لجنان جاسم حلاوي وهو يصور كيف يُجبَرْ المساجين في سجون الوحدات العسكرية على الزحف حتى فتحة المرحاض، وكيف تقوم الشرطة العسكرية بتغطيس رأس الجندي في الخراء، ومشهد الضرب المبرح للمساجين بالعصي والهراوات، وهو ذات المشهد الذي عرضته قناة العربية الفضائية الذي أشرت له.
والثاني: في روايتي "رؤيا الغائب" 1996 صورت تلك اللحظات العصيبة التي يدخل فيها الضابط إلى غرفة التوقيف ليختارني مع آخر فيكبلوننا بجامعة حديدية إلى الخلف، ويعصبوا أعيننا بقطعة قماش ويحملونا إلى معلب تكريت لكرة القدم، لنشد مع المحكومين بالإعدام، ثم نستثنى بعفو رئاسي في آخر لحظة، في تمثيلية مفبركة تُظهر للجموع المكتظة على مدرجات الملعب مدى حنان ورحمة الطاغية، لنشهد تلك المجزرة البشعة أنا وجندي متأخر ليوم واحد عن وحدته، جندي لا أعرفه وجدته في مركز التوقيف. كان ذلك في الشهر العاشر من عام 1983 بعد عودتي سراً من كردستان بمدينة ـ تكريت ـ.
هذا التيار يشتغل على نفس الفترة الزمنية والأحداث ـ الحرب العراقية الإيرانية ـ التي أشتغل عليها كتاب السلطة، وأبرزهم من فاز بجوائز قصص وروايات الحرب ـ قادسية صدام ـ ، جاسم الرصيف، فيصل عبد الحسن، عبد الخالق الركابي، وفهمي صالح، وعلى لفتة، ورهط من الكتاب، محسن الخفاجي، وميسلون هادي، وهدية حسين، محمد شاكر السبع، محمد مزيد، وارد بدر السالم، محمد حياوي، ثامر معيوف، عبد الستار ناصر، حامد الهيتي، وغازي العبادي، ـ ويستطيع القارئ الرجوع إلى كتاب "سلام عبود" ـ ثقافة العنف في العراق ـ الصادر 2002. ليطلع على المزيد من أسماء شعراء أو ناثرين ممن سوق قيم الموت وبرر القمع والحرب ليعين الطاغية بنصوص قامت بتزييف الواقع وتفصيله حسب مقاس أيديولوجية القتلة.
ستظهر المزيد من النصوص للكتاب المذكورين في الأيام القادمة، وستعرض المزيد من التفاصيل والتجارب لا سيما وأن الطاغية زال الآن وسلم البلاد للمحتل بقضها وقضيضها. إذ سيستطيع الكتاب المذكورين العودة إلى العراق وتعميق نصوصهم الجديدة التي تستند إلى وضوح الرؤية التي أزهرت نصوصهم الممتلكة ذلك الحياد الموضوعي غير المنحاز لفكر بعينه والمتمسكة بالإنسان العراقي كقيمة أهدرها نظام الطاغية سحقاً. ومن هنا أهميتها واحتفاء الوسط الأدبي العربي بها.
هذا الجهد سيتضافر مع جهد كتاب لم يكتبوا لحروب الطاغية مؤثرين الكتابة بقناع التاريخ وشعرية نصوصهم الغامضة كمحمد خضير ومحمود جنداري من جيل الستينات، ولؤي حمزة عباس ونعيم شريف من جيل التسعينات إضافة إلى العديد من النصوص التي لم تقع بين يدي أو غير المنشورة إلى الآن، ستتضافر هذه النصوص مع نصوص كتاب المنفي المبكرين لتظهر نصاعة النص العراقي الحقيقي الذي تطور بشكل كبير مقارنة بنصوص الكتاب العرب وذلك تأتى من طبيعة التجربة العراقية واحتكاك الكتاب المنفيين بثقافة البلدان التي يعيشون فيها، وكتاب الداخل ببحثهم عن وسائل فنية يتقي بها الكاتب عسف سلطة دموية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ النص كتب الشهر السابع 2003. نشر على حلقتين في جريدة الصباح العراقية في 14ـ15ـ شباط ـ 2004.