مدّاحو الطغاة وحروبهم

حول ثقافة العنف في العراق

حسين الموزاني

هناك من المؤرخين من يصدّر كتابه بعبارة الخطيب الروماني العتيد شيشرو القائلة: "إن من يجهل التاريخ سيبقى طفلاً أبد الدهر"، فهذه العبارة البليغة هي المفتاح الصحيح لكلّ وعي وإدراك جديدين، فبدون التراكم المعرفي وخزين الذاكرة يتعذر استنباط الحقائق وفتح الآفاق نحو المستقبل، والإنسان سيبقى في نهاية المطاف كائناً تاريخياً بقدر ما هو كائن اجتماعي. والتاريخ نفسه هو العبرة والمعلّم الطبيعي الجدير بتلقين البشر الدروس. ولعلّ دروس التاريخ هذه، هي الذخيرة الحيّة في مخيلة الإنسان، تعينه في الأزمان الصعبة على تلمّس طريق الصواب، أو تجنبه على الأقل الوقوع في المثالب والأخطاء.
لكن أيّ صفة سيحمل الجاهل بالوقائع المعاشة الآن والتي أصبحت الأوطان والشعوب والثقافات أولى ضحاياها؟
لقد كان علينا، نحن الغرباء المنفيين، والمهمّشين ثقافياً واجتماعياً، أن ننتظر عقدين من الزمن لنشهد صورة الخراب الشامل ماثلة أمام أعيننا بقوّة وإلحاح، مجسدةً هذه المرّة في كتاب "ثقافة العنف في العراق" للروائي والباحث العراقي سلام عبّود*.
وربما ليست هذه المرّة الأولى التي تسجّل فيها حيثيات الخراب والدمار اليوميين في العراق وعلى المستويات كلّها، لكنها بلا شكّ الدراسة المستفيضة الوحيدة الصريحة في استعراضها لثقافة العنف المجاني الضاربة أطنابها في أرجاء العراق منذ بضعة عقود. ولم يأت هذا التدوين رغبة في نكأ الجروح غير المندملة أصلاً، إنما بمثابة احتجاج جريء على المقولة التجريبية بأن الذاكرة الإنسانية معرّضة دائماً للعطب أو الانطفاء.
بيد أن ما يجعل هذا الكتاب متفرداً غنيّاً في محتواه ومتميزاً في أسلوبه عن غيره من محاولات الإضاءة والتوغل في مجاهل الوضع الفكري والثقافي المتأزم في العراق المحاصر شتّى الحصارات، هو ليس معالجته الموضوعية بحد ذاتها، بل كيفية عرض الوثائق والنصوص المطروحة للنقاش واستنطاقها وتحليلها. وهذه الكيفية هي حسب قناعتي تشكّل جوهر الكتاب وسرّ متانته. فهو كتاب واقعي صارم في حدته وجديته وصادق في حججه لدرجة أن أي أحد يمكن أن يخامره الإحساس بأنه أوشك ذات يوم على قول هذه الكلام نفسه، أو أنه قاله لكن في صيغة أخرى، أو فكّر فيه لكنه لم يجد غضاضة في التصريح به؛ والآن فإن الأوان قد فات. وهل فات الأوان والدماء والحبر مازالا يسيلان، والضحايا تتساقط بالمئات وبالآلاف! فهل ثُقبت الذاكرة ومات الضمير فعلاً؟
ويضع سلام عبّود أجوبة متنوعة عن هذه الأسئلة دون أن يطرحها، جاعلاً النصوص، ونصوص الحرب في مقدمتها، تتحدث عن دخان المعارك والقتل والإبادة الجماعية ووأد الثقافة والفكر والعقل والعبث بمقدرات البلاد والناس. وقبل أن أتناول محتوى الكتاب أودّ الإشارة إلى أن الأسس التي قامت عليها هذه الكيفية المتمثلة بمنهج البحث والنـزعة التحليلية وزاوية المعالجة أو المنظور تحاول كلّها مجتمعة الإجابة ليس على ماذا نكتب، بل كيف نكتب. وبهذا المعنى فإن سلام عبّود تجاهل عن عمد تلك النظرة التبسيطية القائلة بأن ما يسمى بأدب الداخل في العراق لا يستحق التفحّص والدارسة؛ لأنه أدب، إن كان حقّاً أدباً، دوّن تحت نطع السيوف ونيران المعارك والنظريات الشديدة التخلّف، أي في ظلّ الخطاب القومي الكاذب والمزيّف الذي أوقع الكثير من المثقفين في حبائله، عراقيين أو عرباً، عن وعيّ وبلا وعي. فكان يكفي أن تصف الخصم أو "العدو" بالمجوسي والعجمي والشعوبي لكي تعبأ أمّة برمتها، ما عدى الاستثناءات القليلة، لخوض غمار حرب لا مبرر لها دينياً وأيدلوجياً وتاريخياً، ذهب ضحيتها مئات الآلاف من البشر. وبدلاً من الركون إلى قناعات البعض من أدباء الخارج بفجاجة "أدب الداخل" وانحلاله وظلاميته ودمغ أصحابه بعبارة "جناة المكاتب" أو "جناة الجبهات"، نرى الباحث هنا يستقرأ النصوص "المحرّمة"، متوغلاً في منعطفاتها، فيجلو عنها غبار المعارك والإطناب في مدح مظاهر الطاغية، حتى تبدو صريحة تكشف عن عري قائلها وخوائه النفسي والعقلي؛ بحيث أنه لم يعد يشعر بذاته إلا باعتباره انعكاساً باهتاً للطاغية، ولا يجد متعته الحسيّة إلا عندما يرى الممدوح راضياً عنه فيجزيه.
أمّا النـزعة التحليلية فهي لم تكن هدفاً مقصوداً بحد ذاته، إنما موقف أخلاقي وضعه الباحث نصب عينه والتزم به منذ البداية خشية التجني وإسقاط التهم. فما أسهل أن يصبح "أديب الداخل" مظلوماً ومجَرَّما في آن واحد عبر منظار أديب الخارج، كما لو أنه يطبق عليه قوانين الحصار والمقاطعة التي يجعلها بعض المنفيين أسلوباً في التعامل مع من اختلف معه أيديولوجياً أو اجتماعياً. فهو إذن لا يرمي القفّاز في وجه الآخرين مكتفياً بالتهم والأحكام، مهما بلغ صوابها، إنما يحلل ويذهب بعيداً في تحليله، حتى يقبض على دخيلة أديب الداخل وعلته ودوافعه، بحصافة وقوّة يصعب التملّص منها.
إنني في الواقع لم أقرأ في الأعوام الأربعة والعشرين الأخيرة التي أمضيتها في الشتات نصّاً كتبه عراقي عن أدب الداخل تكون فيه كلّ عبارة وكلّ فكرة جديرة بالتأمل والدرس مثلما وجدت في كتاب "ثقافة العنف في العراق".
لكن - وهذا هو الأساس الأهم الذي شيّد عليه سلام عبّود نظريته - هل يصلح الخارج، بصفته موقعاً جغرافيّاً، ذريعةً لمحاكمة الداخل لمجرد أن المنفي يشعر بشيء من الأمان لنجاته من يد الجلاّد؟ كلا؛ بل انطلق من أن الأدب هو الإبداع الإنساني الأشدّ خصوصية وجمالية والذي لا يخاطب سوى المثل العليا المتمثلة بحريّة الإنسان وكرامته وتفرّده وطموحاته وقدراته الإبداعية. وإذا ما انعدمت هذه القيم من خلال الأدب المشوّه فإن الإنسان نفسه سينعدم لا محالة. والمنظور هو منظور إنساني بالدرجة الأساسيّة، ينتصر للعقل السلمي المناهض للقتل والجريمة الفردية أو الجماعية والذي يقف بشجاعة أيضاً ضد مظاهر الفساد والمحاباة والولاء العرقيّ أو الطائفي. فإلى أي مدى نجح الباحث في تحكمه بهذه الأدوات الفنيّة-المعرفية؟
ويؤكد سلام عبّود في مطلع كتابه على أن بحثه ليس دراسة في الأساليب أو في "الجوانب الفنيّة والجمالية، وربما لا يكون أيضاً دراسة متكاملة عن ظواهر فكريّة، بل هو دراسة اجتماعية، ذات منحى أخلاقي، وأؤكد هنا على كلمة أخلاقي، باعتبارها الهدف المباشر لمجمل الملاحظات والمقارنات والتحليلات التي تناولها الكتاب."
ويشير إلى أنه من خلال تجربته الشخصية ومعرفته المحدودة بهيئات العمل الثقافي في الخارج وجد "أن درجة الانحطاط الروحي ودرجة السطحية وانحلال القيم عند بعض المنفيين تفوق إلى حدّ كبير ما هو موجود عند الجماعات الثقافية في الداخل، الموالية للسلطة."
ويستهل سلام عبّود دراسته بعقد مقارنة، أو مقاربة على وجه التحديد، بين تجربة الأدباء الألمان إبّان الحكم النازي ونشوب الحرب العالمية الثانية والتجربة "العراقية الوطنية"، على الرغم من إدراكه للاختلاف بين التجربتين، مشيراً إلى أن أحد قادة الثقافة القومية ونعني به حميد سعيد قد هدد خصومه بأنه سيخلع "قندرته ويضرب بها على رؤوسهم الخاوية حالما تنتهي الحرب"، تيمناً بمقولة غوبلز الشهيرة القائلة بأنه يتحسس مسدسه حينما يسمع كلمة ثقافة. وحسب معرفتي بالواقع السياسي الراهن في العراق فإنني لا أستبعد قطّ أن يقدم حميد سعيد ليس على استخدام الحذاء، بل السلاح أيضاً لتصفية أعداءه وأعداء "القائد والحزب والشعب"، مثلما شهد أحد كتبة قصص الحرب، فيصل عبد الحسن، في جريدة "أخبار الأدب" القاهرية. لكن من المؤكد أن غوبلز لم يقل هذه العبارة، مع أنه لم يكن سيتورع عن قولها، إنما وردت على لسان إحدى شخصيات هانس يوهست
Johst في مسرحية له مهداة إلى هتلر، عرضت لأوّل مرّة في 20-4-1933، وقد جاءت على النحو التالي: "حالما اسمع [كلمة] ثقافة فإنني أرفع صمّام الأمان عن مسدسي." ولسخرية القدر، وللعبرة أيضاً، نقول إن يوهست هذا سرعان ما تعرّض للوشاية عبر رسائل تهديد وتقارير سرّية رفعت إلى هاينرش هملر رئيس الشرطة الألمانية ووزير الداخلية فيما بعد، كادت تسبب الأذى له ولمريده الشاعر غوتفريد بن.
ولعلّ المقارنة هنا بين الحالتين الألمانية والعراقية ستبدو إشكالية إلى حدّ ما، نظراً للفروق النوعية بين الدولة النازية وطبيعة الثقافة الألمانية المتشعبة من ناحية والسلطة الحاكمة في العراق والحداثة النسبية للأدب العراقي من ناحية أخرى، بمعنى أن الأدب العراقي لم يشهد المراحل والمدارس الأدبية المتعددة التي شهدها الأدب الألماني خلال القرون الخمسة الماضية، ولم تتأصل فيه تقاليد وتيّارات راسخة وفاعلة على مستوى قوميّ أو حتى عالمي مثلما الحال مع الثقافة والفكر الألمانيين. غير أن المقاربة بين المشهد العام لأدب الداخل في العراق وأدب الداخل الأسباني إبان دكتاتورية الجنرال فرانكو ستكون أكثر وجاهة؛ لأن الثقافة التأسيسية لم تبدأ في أسبانيا إلا عقب اندحار هذه الدولة في حربها من أمريكا وضياع مستعمراتها وانحسار دورها الاستعماري في نهاية القرن التاسع عشر. وقد أطلق على الجماعة الثقافية التي نهضت بأعباء تحديث الفكر الأسباني "جيل 98" نسبة إلى العام 1898 الذي وقعت فيه هزيمة أسبانيا. ضمّ هذا الجيل خيرة مثقفي أسبانيا آنذاك ومن ضمنهم الفيلسوف المعروف أونامونو
Unamuno وأتسورين Azorin وباروخا Baroja وماتشادو Machado وكانت مهمتهم "تحرير البلد والثقافة في أسبانيا من غبار متحف الماضي" بعد أربعة قرون من الانزواء والعزلة عن المحيط الفكري الأوربي وبسبب الدور المحافظ للكنيسة الكاثوليكية التي لعبت دوراً بارزاً في إبقاء البلد متخلفاً صناعياً وثقافياً، حتى أن الشاعر لوركا تعجب من أن بعض سكّان الريف الأسباني كان يرتدي ثياباً تعود إلى القرن السابع عشر، ليس حفاظاً على التقاليد، إنما بفعل الابتعاد عن الحداثة الأوربية. والوجه الآخر للمقاربة هو أن الدكتاتورية الأسبانية استمرت إلى العام 1975 أي حتى وفاة الجنرال فرانكو. وربما من المفيد هنا أن نذكر باللقاء الحار الذي جمع صدّام حسين بفرانكو قبل وفاة الجنرال بفترة وجيزة وتبادلهما الإعجاب. وقد دفع الوضع المتأزم في أسبانيا بمعظم المثقفين على مغادرة البلد، وتعرّض البعض منهم في المنفى إلى الاعتقال والاضطهاد. لكن من بقي منهم أظهر قدراً كبيراً من الشجاعة والتحدي لم نشهد مثيلاً لهما في العراق. فقد لاقى ماتشادو مصيراً مأساويّاً أثناء محاولته الهرب، وتوفي الشاعر ميغيل هيرنادس في المعتقل الفاشي الفرانكوي. ويذكر أن الحكومة الأسبانية طمعت في كسب الفيلسوف أونامونو إلى جانبها بعد أن أدان حرق الكنائس وطالب بالدفاع عن الحضارة المسيحية. لكنه انتقد الفاشية بشدّة أثارت أعصاب أحد جنرالات فرانكو فأخذ يصرخ "الموت للمثقفين".
وهنا نطرح السؤال التالي: ما هو السرّ في سهولة ارتداد الأدب العراقي وسقوطه الطوعي في أحضان الطاغية؟ بلا شكّ أن أحد أهم الأسباب التي قادت إلى هذه الروح الانهزامية هي الجذور الفكريّة الهشة لرواد الأدب العراقي الحديث وتقلباتهم المزاجية منذ مطلع القرن المنصرم إلى يومنا هذا. ويتحدث الناقد العراقي عليّ عبّاس علون في أطروحته "تطور الشعر العربي الحديث في العراق" بتفصيل عن ظاهرة الانحطاط هذه ويخلص إلى القول إن "ضيق الأفق وسطحية التفكير وسذاجة النظرة إلى الحياة تكاد تسم غالبية الشعراء، بل تكاد تشوّه نموذج الفنان الأصيل الذي نبحث عنه، فإذا بعقائدهم مهزوزة وموقفهم من هذه العقائد والقيم لا يكشف إلا عن أنانية مقنطة وضيق أفق محزن." ويذكر في مكان آخر بأن "توزيع الصفات وتكديسها على الممدوح، مهما صغر شانه، هي من بدهيات الشعراء، فليس السلطان العثماني هو الذي أصبح (خليفة الرحمن)…وإنما انتهى الأمر إلى أن صار موظف بسيط مثل (راقم أفندي) وكيل الأملاك المدوّرة، كالإمام المهدي المنتظر في عدله." وكل ذلك حدث ويحدث بتملّق ورياء، وبركاكة أسلوبية منقطعة النظير.
ومشكلة هؤلاء اليوم هو أنهم يصرّون على الاستمرار في القدح والمدح على الرغم من الانعدام التام للقيم الفنيّة لكتاباتهم سياسياً واجتماعياً وثقافياً، طمعاً في الحصول على "مكرمة القائد" حتى لو كانت تقطر دماً.
وسلام عبّود لا يتهيب الوقوف عند خصائص هذه الظاهرة، متفحصاً "المعين القصصي" الهائل الذي تفتقت عنه المخيلة الجمعية لدوائر الأمن البعثية وفرق الإعدام في الجبهات. ويلاحظ بأن ملمح التطوّر الكمّي هو "ظهور عدد كبير من الروايات، ربما فاق بحجمه ما كتب في تاريخ العراق خلال عقود. أكثر من خمس وسبعين رواية، وأغلب هذه النتاجات تعود إلى أسماء جديدة. لقد كان تطوير نصّ الحرب هو ثمرة الحرب، الحرب نفسها التي جعلت جواد الحطّاب وعدنان الصائغ ووارد بدر وغيرهم يظنون وهماً أو صدقاً، أنهم بانخراطهم فيها سواءً بالقتال أو الكتابة، ستمنحهم موقعاً في الحياة لا ينافسهم عليه أحد. وهي التي أمدّت بعضهم بحريّة خفيّة لقول شيء ما، ربما لا يرضي بعض من يجلسون في المكاتب. لقد منحتهم الحرب ثقةً بالنفس، سرعان ما اكتشف بعضهم أنها ثقة زائفة في غير موضعها. فمن أجل الحصول على ثمارها، لا بد من التفريط بآخر عنقود من عناقيد الضمير، فالحرب (تلك السعلاة الفاجرة) لا تؤتمن."
لقد تعرّض الباحث أثناء تقصيه لآثار العنف في الثقافة العراقية المعاصرة إلى عدد من الأسماء المعروفة، متناولاً أكثر من مئتي نصّ أدبي وغير أدبي، فهو يتحدث على سبيل المثال عما فعله القاص عبد الستار ناصر بأقواله الشعارية الداعية إلى الحرب وإلى ما يسمى "بالخراب الجميل"؛ ثم يأتي بعشرات النماذج والأقوال التي صرح بها أدباء الحرب من أمثال عدنان الصائغ وجاسم الرصيف الذي بات اليوم ينتقد المعارضة العراقية من منفاه الجديد بعد أن فازت أربعة من رواياته الخمسة عن الحرب بجوائز منها "جائزة قادسية صدّام" ويشير إلى أن أحد أكثر دعاة الحرب والطائفية في العراق وهو سليم عبد القادر السامرائي قد جمع عنوانين "خمس وسبعين رواية وتسعين مجموعة قصصية عن الحرب، عدا القصص المنشورة في الصحف والمجلات. ويذكر أن أكثر من أربعمئة قصّة نشرت في الأشهر الأولى من الحرب."
ولم يكتف أدباء الداخل برشق الطاغية بعبارات الذل الخرقاء، إنما أخذوا يقذفون المنفيين الهاربين من جحيم الطائفية البغيضة والحرب والحصار الحكومي المفروض على المواطنين الأبرياء، يقذفونهم بشتى التهم، منها ما أدلى به محمد حياوي وهو "قاص" ثمانيني غادر العراق في السنوات الأخيرة قائلاً إن كثيرين "خرجوا من العراق وصاروا شعراء كباراً وفنانين كباراً، وعباقرة كباراً، بعد أن كانوا فيه نكرات. وطالما في المنفى لا أحد يسألك عن تاريخك وتأسيسك ومنجزاتك في وطنك…فهؤلاء يتكاثرون كالفطر في المنافي، مئات، بل آلاف الشعراء، يخوضون حروبهم الوهمية، دون أن يبالوا بالعراق المحتضر ولا بشعبنا الممتحن بالدكتاتورية. ذلك لأن حقيقتهم الزائفة لا تؤهلهم للإحساس بالعراق."
ومن المفارقات الطريفة، والمحزنة في الوقت ذاته، هو ما قاله عبد الرحمن مجيد الربيعي عن أولئك الذين "اشتروا ذمماً لتكون لهم مواقع في خارج الوطن عندما يغادرونه"، مبرراً سرّ انتمائه إلى "اتحاد أدباء" الداخل الواقع تحت الأشراف الحزبي والأمني للسلطة بالرغبة "في الحصول على مواد تموينية من الجمعية الاستهلاكية التابعة لهذا الاتحاد."
ومن الأسرار الخطيرة التي يفضحها الكتاب هو الدور غير الحميد الذي لعبه قادة الحزب الشيوعي العراقي إبان تحالفهم الجبهوي مع الحزب الحاكم، فيتعرّض هنا، من جملة ما يتعرّض، إلى خطة تجفيف الأهوار في جنوب العراق التي وضعها وزير الرّي الشيوعي في زمن الجبهة، الدكتور مكرّم الطالباني، الذي مازال إلى يومنا هذا موضع ثقة الحكومة العراقية، تستخدمه للاتصال مع القيادات الكردية في شمال العراق، هذه الخطط الجهنمية التي "ظلّت سرّا، ولم يكشف عنها ولم تصبح جريمة إلا بعد خروج الشيوعيين من العراق، فأصبحنا لا نجد عدداً من صحافتهم خالياً من البكاء على الأهوار المنكوبة."
إن كتاب "ثقافة العنف في العراق" هو سفر متأن ومحكم في عالم واقعي مرعب، وكشف صارخ لأشكال الجرائم الخفية والمعلنة التي ارتكبت ومازالت ترتكب في العراق، وهو في الأخير وثيقة إدانة حيّة ومسؤولة لكل ما لحق بهذا البلد من ظلم وخراب. كتاب تأسيسيّ لابد أن يُقرأ ويُدرس. وثمّة أمنية أخرى موجهة إلى الباحث: يا ليتنا نحظى مستقبلاً بدراسة نوعية أيضاً حول الأدب العراقي في المنفى!

 

روائي عراقي مقيم في ألمانيا
--
* سلام عبّود: ثقافة العنف في العراق؛ منشورات الجمل، كولونيا-ألمانيا 2002، 315 صفحة.