نقدم هنا أحد أهم الحوارات الشاملة، والعارفة بعالمه الروائي، مع الكاتب الألماني الكبير، يكشف فيها من مستوى المواجهة الأدبية الكاشفة بين ناقدة تعرف أعماله، وكاتب يتعامل مع حياته وإنجازه بقدر كبير من الوعي والجدية والصرامة.

جونتر جراس: أريد ببساطة ألا أخدع قرائي

حوار: إليزابث جافني

ترجمة أحمد شافعي

 

حقق جونتر جراس شيئا بالغ الندرة في الآداب والفنون المعاصرة، وهو أنه حاز كلا من الاحترام النقدي والنجاح الجماهيري في كل جنس أدبي أو وسيط فني عمل فيه. فهو روائي، وشاعر، وكاتب مقال، ومسرحي، ونحات، وفنان جرافيك، ظهر في المشهد الأدبي الدولي بروايته الأولى، "طبل الصفيح" الصادرة سنة 1958، والتي كانت من أكثر الكتب مبيعا. كانت هذه الرواية وما تلاها، أي نوفيلا "قط وفأر" (1969) ورواية "سنوات الكلب" (1963) تعرف عموما بثلاثية [مدينة] دانتسيج. من كتبه الكثيرة الأخرى "من يوميات حلزون" (1972)، و"المتعثر" (1977)، و"لقاء في تيلجيت" (1979)، و"الألمان يموتون" (1980)، و"الجرذة" (1986)، و"أظهر لسانك" (1989). غالبا ما يصمم جراس بنفسه أغلفة كتبه، وغالبا ما تحتوي كتبه رسومات يرسمها بنفسه. حصل على الكثير من الجوائز والأوسمة الأدبية، من بينها جائزة جورج بوتشنر سنة 1965 ووسام كارل فون أوسيتسكي (1977) وهو عضو فخري أجنبي في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.

ولد جراس سنة 1927 على ساحل البلطيق، في ضاحية بمدينة دانتسيج الحرة المعروفة حاليا بـ جِدِانِسْك ببولندا. كان أبواه بقالين. خدم خلال الحرب العالمية الثانية في الجيش الألماني على دبابة، وأصيب وأسره الأمريكيون سنة 1945، وبعد إطلاق سراحه عمل في منجم جير ثم درس الفن في دوسلدورف وبرلين. تزوج زوجته الأولى، راقصة الباليه السويسرية آنا شوارتس سنة 1954. وفيما بين 1955 و1967، شارك في اجتماعات المجموعة 47، وهي اتحاد غير رسمي ولكنه مؤثر للكتّاب الألمان، وسميت باسمها هذا لأن لقاءها الأول كان في سبتمبر سنة 1947، وكان من بين أعضائها هاينرش بول، أو أوي جونسن Uwe Johnson، وإلزي أيخنجر Ilse Aichinger، وجراس، وكان هدفها ومهمتها تطوير واستخدام لغة أدبية تعارض بحدة لغة النثر الزخرفي المعقد التي اتسمت بها كتابة الدعاية في الحقبة النازية. واستمرت اللقاءات حتى 1967.

اعتمادا على راتب بسيط من دار نشر لوخترهاند Luchterhand، عاش جراس وأسرته السنوات من 1956 إلى 1959 في باريس حيث كتب "طبل الصفيح" . في عام 1958 فاز بجائزة جيل 47 السنوية عن قراءاته من أعمال في طور الكتابة. كانت الرواية صدمة للنقاد والقراء الألمان بل صاعقة، إذ واجهتهم للمرة الأولى بوصف قاس للبرجوازية الألمانية في زمن الحرب العالمية الثانية. كتاب جراس الصادر سنة 1979 بعنوان "لقاء في تيلجيت Telgte" سرد تخييلي للقاء شعراء ألمان سنة 1647 على مشارف نهاية حرب الثلاثين عاما. وكان الغرض من اللقاء التخييلي، ومن جملة شخصيات الكتاب كله، إحداث موازاة مع مجموعة 47 في ما بعد الحرب العالمية الثانية.

يشتهر جراس في ألمانيا بمواقفه السياسية المثيرة للجدل مثلما يشتهر برواياته. كان من أنصار الحزب الديمقراطي الاشتراكي وظل على مدار عشر سنين الكاتب الرئيسي لخطب فيلي براندت [زعيم الحزب]، ومؤخرا كان بين قلة من المثقفين الألمان الذين اعترضوا على سرعة مسار الوحدة بين الألمانيتين. في عام 1990 وحده، نشر جراث كتابين يضمان محاضراته وخطبه ومناظراته حول هذا الموضوع.

عندما لا يكون جراس على سفر، يقسِّم وقته بين ضيعته في شليسفيج هولشتين حيث يعيش مع زوجته الثانية أوتي جرونيرتوبيت في حي شونبيرج من برلين حيث نشأ أبناؤه الأربعة وحيث تدير مساعدته إيفا هونيش شئونه في الوقت الراهن. ولقد أجري هذا الحوار في جلستين، إحداهما أمام الجمهور في ياماها بشارع 92 بمنهاتن والثانية في الخريف الماضي في البيت الأصفر بـ نايدشترابي عندما وجد لنا سويعات أثناء زيارة قصيرة. جلس يتكلم في غرفة ذات سقف جمالوني وجدران بيضاء وأرضية خشبية، وفي ركنها الأبعد صناديق من الكتب والمخطوطات. كان يرتدي ثيابا مريحة، سترة من التويد وقميصا مفتوح الأزرار. وكان قد وافق من قبل على إجراء الحوار بالإنجليزية تفاديا لتعقيدات الترجمة اللاحقة، ولكنه عند تذكيره بذلك ضيّق عينيه وابتسم قائلا "أنا منهك للغاية، فلنتكلم بالألمانية، وبرغم ما قاله عن إجهاده بالسفر، تكلم بطاقة وحماس عن عمله، وكان كثيرا ما يضحك ضحكا خافتا. انتهى الحوار حينما وصل ولداه التوأم راؤول وفرانتس لاصطحابه إلى العشاء احتفالا بعيد ميلادهما.

***

ـ كيف أصبحت كاتبا؟
ـ أعتقد أن للأمر علاقة بالوضع الاجتماعي الذي نشأت فيه. كنا أسرة من الطبقة الوسطى الدنيا، نعيش في شقة صغيرة من غرفتين. لم تكن لي أنا وأختي غرف مستقلة، أو حتى مكان خاص. وكان في غرفة المعيشة، بعد الشباكين ركن صغير أحتفظ فيه بكتبي، وأشياء أخرى، كألواني المائية وما إلى ذلك. وكان عليّ في الغالب أن أتخيل الأشياء التي أحتاج إليها. تعلمت مبكرا جدا أن أقرأ في الضوضاء. وهكذا بدأت الكتابة والرسم في سن مبكرة. ومن نتائج ذلك أيضا أنني الآن أقتني الغرف. فلي مكاتب في أربعة أماكن مختلفة. وأخشى أن أرجع مرة أخرى إلى حالة طفولتي، حيث لا يكون لي غير ركن في غرفة صغيرة.

ـ ما الذي جعلك تلجأ إلى القراءة والكتابة في ذلك الوضع، بدلا من الرياضة مثلا، أو غيرها من وسائل الإلهاء؟
ـ كنت في طفولتي كذابا كبيرا، ومن حسن الحظ أن أمي كانت تحب أكاذيبي. كنت أعدها بأعاجيب. وكانت تسميني، وأنا في العاشرة من عمري، بير جينت، فتقول ها أنت بير جينت يا تحكي لي عن أسفار عجيبة سنقوم بها إلى نابلس وما إلى ذلك. بدأت مبكرا أكتب أكاذيبي، ولا أزال أفعل ذلك! بدأت رواية وأنا في الثانية عشرة. كانت عن الكاشوبيين Kashubian الذين سيظهرون بعد سنين في "طبل الصفيح" إذ تنتمي إليهم آنا ـ جدة أوسكار ـ (شأن جدتي أنا)، ولكنني ارتكبت خطأ في روايتي الأولى تلك، فجميع شخصياتها ماتت بنهاية الفصل الأول، ولم أستطع الاستمرار. كان ذلك أول درس لي في الكتابة: احرص على شخصياتك.

ـ ما الأكاذيب التي كنت تجد فيها أكبر المتعة؟
ـ الأكاذيب التي لا أذى فيها، وهي مختلفة عن الأكاذيب التي تحمى صاحبها أو تؤذي غيره. تلك لا علاقة لي بها. لكن الحقيقة في أغلب الحالات مضجرة للغاية، وبوسع المرء أن يخففها قليلا بالكذب. ولا ضير من ذلك. لقد تعلمت أن أكاذيبي الرهيبة ليس لها في حقيقة الأمر أثر على الواقع. ولو أنني كنت كتبت قبل سنوات عديدة أتنبأ بالتطورات السياسية الواقعة أخيرا في ألمانيا لكان غاية ما يمكن أن يقوله الناس هو: يا لك من كذاب!

ـ وماذا كان من جهودك بعد الرواية الفاشلة؟
ـ كان كتابي الأول كتاب شعر ورسومات. جميع مسودات قصائدي الأولى فيها رسومات مع الشعر، وأحيانا تكون انطلاقا من صورة، وأحيانا من كلمات. ثم حينما بلغت الخامسة والعشرين وأمكنني أن أشتري آلة كاتبة، فضلت أن أكتب مستخدما إصبعين فقط. النسخة الأولى من طبل الصفيح كتبت على الآلة الكاتبة. والآن أتقدم في العمر وبرغم أنني أسمع أن زملاء كثيرين يستخدمون الكمبيوتر، رجعت أنا إلى كتابة مسودتي الأولى باليد! النسحة الأولة من "الجرذة" عبارة عن كتاب ضخم من ورق غير مسطور أخذته من طابعتي. عندما يوشك أي من كتبي على الصدور أطلب نسخة مطبوعة على وجوه واحدة من الورق لأستعملها في مخطوطتي التالية. وهكذا تكون النسخة الأولى في هذه الأيام مصحوبة برسومات ثم تأتى المسودتان الثانية والثالثة مكتوبتين على الآلة الكاتبة. لم أنه كتابا قط بدون كتابة نسخ ثلاث. وفي العادة أربع نسخ فيها تصحيحاتي.

ـ هل كل نسخة تتقدم من البداية إلى النهاية؟
ـ لا. أكتب المسودة الأولى بسرعة. ولو أن فيها فجوة، ففيها فجوة. النسخة الثانية تكون بصفة عامة شديدة الطول والتفصيل والكمال. ولا يكون ثمة فجوات، بل تكون جافة بعض الشيء. في النسخة الثالثة أحاول أن أسترد عفوية المسودة الأولى، واستبقي جوهر الثانية. وهذا في غاية الصعوبة.

ـ ما جدولك اليومي حينما تعمل؟
ـ حينما أعمل على المسودة الأولى، أكتب ما بين خمس صفحات وسبع في اليوم. في الثالثة، ثلاث صفحات في اليوم. يكون الأمر بالغ البطء.

ـ تفعل هذا في الصباح، أم في العصر، أم في المساء؟
ـ لا كتابة في الليل، مطلقا. لا أومن بالكتابة في الليل، لأنها تكون أسهل مما ينبغي. وحينما أقرأ في الصباح لا أجد ذلك جيدا. أحتاج نور النهار للبداية. بين التاسعة والعاشرة صباحا أتناول إفطارا طويلا تتخلله الموسيقى والجرائد، وبعد الإفطار أعمل، ثم آخذ استراحة للقهوة عند العصر، وأبدأ من جديد لأنتهي في السابعة مساء.

ـ كيف تعرف أن كتابا قد انتهى؟
ـ حينما أعمل على كتاب ملحمي، تكون عملية الكتابة طويلة بعض الشيء. تستغرق ما بين أربع سنوات وخمس للانتهاء من جميع المسودات. وينتهي الكتاب حينما أشعر بالإنهاك.

ـ بريخت كان مدمنا على إعادة كتابة أعماله طول الوقت، حتى بعد نشرها، لم يكن يرى قط أنها انتهت.
ـ لا أعتقد أنني قادر على مثل ذلك. لا أستطيع إلا أن أكتب كتابا مثل "طبل الصفيح" أو "من يوميات حلزون" في فترة معينة من حياتي. الكتب تأتي نتاجا لطريقتي في التفكير والإحساس في وقتها. أنا واثق أنني لو جلست لأعيد كتابة "طبل الصفيح" أو "سنوات الكلب" أو "من يوميات حلزون" لدمرتها جميعا.

ـ كيف تميز بين أعمالك الأدبية وغير الأدبية؟
ـ هذه المقابلة بين الأدب وغير الأدب كلام فارغ. قد تكون مفيدة لأصحاب المتاجر في تصنيف أنواع الكتب، ولكنني لا أحب تصنيف كتبي بتلك الطريقة. وأتخيل دائما لجنة من أصحاب متاجر الكتب تعقد اجتماعات لتقرر الكتب التي يجب تصنيفها ككتب أدبية أو ككتب غير أدبية. وأرى أن ما يفعله أصحاب المتاجر يدخل في جملة الأدب.

ـ حسن، حينما تكتب مقالة أو خطبة، هل يختلف المنهج أو التكنيك عنه حينما تكتب قصصا وتؤلف أشياء؟
ـ نعم، يختلف لأنني أواجه وقائع لا أستطيع تغييرها. أنا لست معتادا على الاحتفاظ بيوميات، ولكنني فعلت ذلك استعدادا لـ "من يوميات حلزون". كان لدي إحساس بأن 1969 ستكون سنة مهمة، وأنها ستأتي بتغيير سياسي يتجاوز مجرد الإرهاص بحكومة جديدة. وهكذا أثناء مشاركتي على الأرض في الحملة الانتخابية في الفترة من مارس إلى سبتمبر سنة 1969 ـ وهي فترة طويلة ـ احتفظت بيوميات. ومثل ذلك حدث لي في كلكتا. فاليوميات التي دونتها هناك تطورت إلى "أظهر لسانك".

ـ كيف توازن بين نشاطك السياسي وفنك البصري وكتابتك؟
ـ الكتاب ليسوا معنيين فقط بحياتهم الداخلية الفكرية، بل بالحياة اليومية أيضا. والكتابة والرسم والنشاط السياسي بالنسبة لي مساع منفصلة، لكل منها قوته. أنا شخص يتصادف أنه متناغم والمجتمع الذي يعيش فيه، ومشتبك معه. والرسم والكتابة لديّ مخلوطان بلا فكاك بالسياسة، شئت هذا أم أبيت. أنا لا أعمد إلى التخطيط لإدخال الكتابة في ما أكتب. الأمر أنني في المرة الثالثة أو الرابعة من تأملي في موضوع ما أكتشف أشياء تجاهلها التاريخ. وفي حين أنني لا يمكن أن أكتب قصة عن واقع سياسي بصورة محددة ومختزلة، فإنني لا أجد سببا يدعوني إلى استبعاد السياسة بما لها من قوة حاكمة عظيمة في حياتنا. إنها تنسرب إلى كل منحى من مناحي الحياة بطريقة أو بأخرى.

ـ تدمج في أعمالك أنواعا كثيرة مختلفة: التاريخ، الوصفات، كلمات الأغاني ...
ـ ... والرسم، والقصائد، والحوار، والاستشهادات، والخطب، والرسائل! كما ترى، عند التعامل مع المفاهيم الملحمية أجد من الضروري أن أستخدد كل جوانب اللغة المتاحة وأكثر أشكال التواصل اللغوي تنوعا. ومع ذلك، تذكّر أن بعض كتبي شديد النقاء من حيث الشكل ـ كنوفيلا "قط وفأر" و"لقاء في تلجيت".

ـ تعشيقك للكلمة والرسم فريد
ـ الرسم والكتابة هم المكونان الأساسيان لعملي، لكنهما ليسا الوحيدين، فأنا أنحت أيضا حينما يتاح لي الوقت. هناك بالنسبة لي علاقة أخذ وعطاء شديدة الوضوح بين الفن والكتابة. أحيانا تكون هذه العلاقة أقوى، وأحيانا أضعف. في السنوات القليلة الأخيرة صارت شديدة القوة. و"أظهر لسانك" التي تجري أحداثها في كلكتا مثال على هذا. ما كنت لأوجد هذا الكتاب لولا الرسم. فالفقر المدقع في كلكتا يضع الزائر دائما في حالة تعجز فيها اللغة، لا تعثر على الكلمات. ساعدني الرسم في العثور على الكلمات من جديد وأنا هناك.

ـ في ذلك الكتاب، لا يظهر نص القصائد مطبوعا فقط، بل ومكتوبا بخط اليد على الرسومات. فهل تعد الكلمات عنصرا جرافيكيا وجزءً من الرسوم؟
ـ من عناصر القصائد ما صاغته الرسومات أو أوعزت به. عندما جاءتني الكلمات أخيرا، بدأت أكتب على ما رسمت، فكان النص والرسم يتبادلان السيطرة. لو أمكنك أن تتبين الكلمات في الرسوم، فهذا حسن، لأنها موجودة لتقرأ. ولكن الرسومات في الغالب تتضمن مسوّدات أولى، تتضمن ما كتبته باليد قبل أن أجلس إلى آلتي الكاتبة. كتابة هذا الكتاب كانت شديدة الصعوبة، ولا أعرف السبب. ربما بسبب الموضوع، كلكتا. لقد زرتها مرتين. المرة الأولى كانت قبل إحدى عشرة سنة من "أظهر لسانك". وكانت زيارتي الأولى للهند كلها. قضيت أياما قليلة في كلكتا. وتعرضت لصدمة. ومنذ البداية كنت أتمنى الرجوع، والإقامة لوقت أطول، والكتابة والتدوين. ذهبت في رحلات أخرى، في آسيا وأفريقيا، ولكنني كنت كلما رأيت الأحياء الفقيرة في هونج كونج أو مانيلا أو جاكرتا، كنت أتذكر الوضع في كلكتا. لا أعرف مكانا آخر تختلط فيه مشكلات العالم الأول بهذه الطريقة السافرة مع مشكلات العالم الثالث، هكذا عيانا بيانا.

لذلك ذهبت إلى كلكتا مرة أخرى، وفقدت قدرتي على استخدام اللغة. لم أستطع كتابة كلمة. في هذه المرحلة أصبح الرسم مهما. كان طريقة أخرى لمحاولة اقتناص واقع كلكتا. وبمساعدة الرسم أمكنني أخيرا أن أكتب النثر من جديد، وذلك هو القسم الأول في الكتاب، مقالة من نوع ما. بعد ذلك بدأت أعمل على القسم الثالث، قصيدة طويلة من اثني عشر قسما. قصيدة مدينة، عن كلكتا. لو نظرت إلى هذا النثر، والرسوم والقصيدة، لرأيت أنها تتعامل مع كلكتا بطرق مترابطة ومنفصلة. هناك حوار بينها، برغم أن نسيج الثلاثة شديد الاختلاف.

ـ هل أحد هذه الأنسجة أهم من البقية؟
ـ يمكنني أن أجيب بأن الشعر ـ بالنسبة لي فقط ـ هو الأهم. ميلاد الرواية يبدأ بقصيدة. لن أقول إنها الأهم على الإطلاق، ولكنني لا أستطيع أن أستغني عنها. أحتاج إليها كنقطة انطلاق.

ـ قالب فنى أجلّ من غيره، مثلا؟
ـ لا، لا، لا! النثر والشعر والرسم تقف جنبا إلى جنب على نحو شديد الديمقراطية في عملي.

ـ هل ثمة شيء فيزيائي، حسي، في فعل الرسم، غائب عن عملية الكتابة؟
ـ نعم، الكتابة عملية شاقة تجريدية، وحينما تكون ممتعة، تكون المتعة من طبيعة مختلفة عن متعة الرسم. في الرسم أكون واعيا تمام الوعي لخلقي شيئا على الورقة. هو فعل حسيّ، وذلك شيء لا يمكن أن يقال في فعل الكتابة. أنا في الواقع غالبا ما ألوذ بالرسم لأتعافى من الكتابة.

ـ الكتابة شديدة الإيلام جالبة للشقاء؟
ـ هي أشبه قليلا بالنحت. في النحت، عليك أن تعمل من كل جانب. إذا غيِّرت شيئا هنا، عليك أن تغيّر شيئا هناك. فجأة تغيِّر سطحا، وإذا المنحوتة كلها شيء جديد! في ذلك شيء من الموسيقى. ومثل ذلك قد يحدث في نص مكتوب. يمكن أن أعمل لأيام على المسودة الأولى أو الثانية أو الثالثة، أو على جملة طويلة، أو حتى على نقطة واحدة. وأنا أحب النقاط كما لا يخفى عليك. أعمل وأعمل ولا بأس. كل شيء موجود، ولكن في الأمر شيئا ما ثقيلا. ثم أدخل تغييرات قليلة، لا أعتقد أنها شديدة الأهمية، وينجح الأمر! وهذه هي السعادة في ما أفهم، أو ما يشبه السعادة. تدوم لثانيتين أو ثلاث. ثم أنتقل لأنظر إلى النقطة التالية، وتنتهي.

ـ رجوعا إلى الشعر للحظة، هل القصائد التي تكتبها في الروايات مختلفة عن القصائد المستقلة؟
ـ في زمن ما كنت في كتابة الشعر شخصا عفا عليه الزمن. كنت أفكر أنه حينما يتوفر قدر كاف من القصائد الجيدة، فينبغي البحث عن ناشر، وتجهيز بعض الرسومات وإصدار كتاب. ويكون لديك ديوان رائع، معزول بعض الشيء، لا يناسب إلا قراء الشعر. ثم حدث ابتداء من كتاب "من يوميات حلزون" أن بدأت أضع الشعر والنثر معا في صفحات كتبي. وهذا الشعر له نبرة مختلفة. لا أرى سببا لعزل الشعر عن النثر، خاصة حينما يكون لدينا في التراث الألماني هذا المزج الرائع بين الأنواع. لقد تزايد اهتمامي بوضع الشعر بين الفصول واستخدامه لتحديد نسيج النثر. فضلا عن أن هناك فرصة لقراء النثر ممن يستشعر أحدهم أن "الشعر ثقيل على قلبي" لأن يروا كيف يكون الشعر في بعض الأحيان أبسط وأيسر كثيرا من النثر.

ـ ما قدر الخسارة التي يمنى بها قارئ كتبك بالإنجليزية؟
ـ هذا سؤال شديد الصعوبة، فلست قارئا باللغة الإنجليزية. لكنني أحاول جاهدا أن أساعد في ترجماتي. حينما كنت أعمل مع مخطوطة "المتعثر" مع ناشري الألماني، طلبت تعاقدا جديدا ينص على أن ينظم الناشر بمجرد انتهائي من المخطوطة ودراسة المترجمين لها لقاء بيننا جميعا يتحمل الناشر تكلفته. فعلنا ذلك جميعا مع "المتعثر" ثم مع "لقاء في تيلجت" ومع "الجرذة" أيضا. أعتقد أن في هذا عونا كبيرا. حيث يعرف المترجمون كل شيء عن كتبي ويطرحون أسئلة رائعة. معرفتهم بالكتب أفضل من معرفتي بها. وهذا يكون سببا في استيائي أحيانا، لأنهم يعرفون أيضا مثالب الكتب ويقولونها لي. المترجمون الفرنسيون والإيطاليون والأسبان يقارنون ملاحظاتي في هذه اللقاءات ويجدون أن تعاونهم يساعدهم جميعا على إيصال الكتب إلى لغاتهم. وأنا بالطبع أفضل الترجمات التي يمكنني أن أقرأها فلا أعرف أنها ترجمات. نحن محظوظون في الألمانية أن لدينا ترجمات بديعة للأدب الروسي. ترجمات تولستوي ودوستويفسكي مثالية ـ هي جزء حقيقي من الأدب الألماني. ترجمات شكسبير والكتّاب الرومنتيكيين مليئة بالأخطاء، ولكنها أيضا بديعة. في الترجمات الأحدث لهذه الأعمال قدر أقل من الأخطاء، بل لعلها تخلو منها، ولكنها لا تقارن بترجمات فريدرتش فون شليجل ولودفيج تيك. العمل الأدبي، سواء كان شعرا أم رواية، يحتاج إلى مترجم يقدر على إعادة إبداع الكتاب في لغته. وأن أحاول أن أشجع مترجمي أعمالي على ذلك.

ـ هل تعقتد أن روايتك Die Rättin عانت في الإنجليزية حين تحتم أن يكون العنوان "الجرذ" فلا ينقل حقيقة أن الجرذ أنثى؟ ما كانت "أنثى الجرذ" لتبدو صحيحة للأذن الأمريكية، و"Rattessa" مستبعدة أصلا. الإحالة إلى أنثى جرذ معينة تبدو فاتنة، في حين أن كلمة rat الإنجليزية المحايدة جنسيا لا تثير في الذهن غير صور المخلوقات الكريهة المتفشية في أنفاق القطارات.
ـ ليست لدينا هذه الكلمة في الألمانية أيضا. أنا اخترعتها. وأنا أشجع مترجمي أعمالي دائما على الاختراع. أقول لهم، إذا لم تكن هذه الكلمة موجودة في لغاتكم، فاخترعوها. والحقيقة أن للكلمة في أذني وقعا لطيفا: she-rat.

ـ لماذا كان جرذ الرواية أنثى؟ هل ذلك لأسباب إيروتيكية أم نسوية أم سياسية؟
ـ هو في "المتعثر" ذكر. ولكنني مع تقدمي في العمر أرى أنني فعليا وهبت نفسي للنساء. ولن أغيّر ذلك. سواء كانت أنثى بشرية، أم أنثى جرذ، لا فارق. أجد أفكارا، فاهمة؟ يجعلنني أقفز وأرقص، ثم أجد كلمات وقصصا، وأبدأ في الكذب. مهم جدا أن أكذب. لا معنى في رأيي للكذب على رجل، للجلوس مع رجل، وحدكما، والكذب، أما مع امرأة!

ـ في كثير جدا من كتبك، كالجرذة والمتعثر، ومن يوميات حلزون، وسنوات الكلب، ثمة حيوان في المركز. هل لذلك سبب خاص؟
ـ ربما. طالما شعرت أننا نتكلم أكثر مما ينبغي عن البشر. هذا العالم مزدحم بالحيوانات، والطيور، والسمك، والحشرات. وكلها كانت هنا قبلنا وستبقى هنا إن جاء يوم لم يبق فيه بشر. هناك فارق واحد بيننا: لدينا في متاحفنا عظام ديناصورات، وحيوانات هائلة عاشت لملايين السنين. ولما ماتت، ماتت على نحو شديد النظافة. بلا سموم على الإطلاق. عظامها شديدة النظافة. يمكننا أن نراها. هذا لن يحدث للبشر. حين نموت ستكون ثمة نفثة سم رهيبة. علينا أن نعرف أننا لسنا وحدنا على الأرض. الإنجيل يلقننا درسا سيئا حين يقول إن للإنسان يدا على الدجاجة والعنزة وكل دابة. لقد جربنا غزو الأرض، وما أهزل النتائج.

ـ هل تعلمت يوما من النقد؟
ـ برغم أنني أحب أن أعتبر نفسي تلميذا جيدا، إلا أن النقاد ليسوا معلمين جيدين للغاية. وإن تكن هناك فترة معينة، أفتقدها في بعض الأحيان، وكنت فيها أتعلم من النقاد. كانت فترة مجموعة 47، كنا نقرأ مخطوطاتنا على بعضنا البعض ونتناقش فيها. هنالك بدأت مناقشة النصوص ودعم آرائي بالأسباب، بدلا من أن أكتفي بقولي إن "هذا يعجبني". كان النقد يأتي عفويا. فيتناقش الكتّاب في الصنعة، وكيفية تأليف كتاب، ومثل ذلك من الأمور. أما النقاد فكانت لهم توقعاتهم للكيفية التي ينبغي لكاتب أن يتبعها في الكتابة. ذلك المزيج من النقاد والكتاب كان تجربة جيدة لي، ودرسا. وفي الواقع، تلك الفترة كانت مهمة للأدب الألماني بعد الحرب العالمية الثانية بصفة عامة. كان ثمة تشوش كبير بعد الحرب، لا سيما في الأوساط الأدبية، لأن أبناء الجيل الذي نشأ في فترة الحرب ـ أي جيلي أنا ـ كان بين غير متعلم وسيء التعلم. تلوثت اللغة، وهاجر من الكتاب أهمهم، ولم يكن ثمة من يتوقع شيئا من الأدب الألماني. وكانت لقاءات مجموعة 47 السنوية سياقا لنا، ومن ذلك السايق انبعث الأدب الألماني مرة ثانية. كثير من الكتّاب الألمان من أبناء جيلي تأثروا بمجموعة 47، وإن لم يعترفوا بذلك.

ـ ماذا عن النقد المنشور، في المجلات على سبيل المثال أو الجرائد أو الكتب؟ هل أثّر ذلك عليك؟
ـ لا. ولكنني تعلمت من كتّاب آخرين. ألفريد دوبلين كان له أثر عليّ دعاني إلى أن أكتب مقالة عنه وأعنونها بـ "عن معلمي دوبلين". يمكنك أن تتعلم من دوبلين دونما مخاطرة بتقليده. بالنسبة لي، كان أهم بكثير من توماس مان. روايات دوبلين ليست بمثل السيمترية، أو كلاسيكية الصياغة، التي نراها عند توماس مان. ومخاطراته كانت أكبر. كتبه ثرية، منفتحة، مليئة بالأفكار. وأنا آسف أنه في أمريكا وألمانيا لا يكاد يكون معروفا إلا ببرلين ألكسندربلاتس. لكنني لا أزال أتعلم، وهناك كثيرون آخرون تعلمت منهم.

ـ ماذا عن الكتّاب الأمريكيين؟
ـ كان ميلفيل ولا يزال كاتبي المفضل. وأستمتع كثيرا بقراءة وليم فوكنر، وتوماس وولف، وجون دوس باسوس. دوس باسوس لا مثيل له في أمريكا الآن، بتصويره الرائع للحشود. أفتقد في الأدب الأمريكي ما كان فيه من بعد محلمي، الأدب الأمريكي بات اليوم مفرطا في ذهنيته.
ـ ما رأيك في الفيلم المأخوذ عن «طبل الصفيح»؟

ـ شلوندروف صنع فيلما جيدا، برغم أنه لم يتبع قالب الكتاب الأدبي. ربما كان ذلك ضروريا، لأن وجهة نظر أوسكار ـ الذي يروي القصة قافزا طول الوقت من فترة إلى أخرى- كانت لتنتج فيلما شديد التعقيد. شلوندروف صنع شيئا بالغ البساطة. هو يحكي القصة في خط واحد. هناك بالطبع أجزاء كاملة اقتطعها شلوندروف من الفيلم. وأنا أفتقد بعضا منها. وهناك جوانب في الفيلم لا أحبها على الإطلاق. المشاهد القصيرة في الكنيسة الكاثوليكية غير ناجحة، لأن شلوندروف لا يفقه من الكاثوليكية شيئا. هو بروتستنتي ألماني حقيقي، والكنيسة الكاثوليكية في الفيلم تبدو بروتستنتية يتصادف أنها تحتوي شعيرة الاعتراف. هذه تفصيلة صغيرة. إنما الفيلم إجمالا، وبفضل الصبي الصغير الذي لعب دور أوسكار، جيد فيما أعتقد.

ـ لك اهتمام خاص بالجروتسك، وفي ذهني على وجه التحديد مشهد الأنقليس إذ يتلوى خارجا من رأس الحصان في طبل الصفيح. من أين يأتي هذا؟
ـ يأتي مني. لم أفهم قط سر إزعاج هذا المقطع الذي لا يزيد عن ست صفحات. هو مقطع من الواقع الفناتازي كتبته مثلما أكتب أي تفصيلة أخرى. ولكن الموت والحالة الجنسية اللتين أثارتهما تلك الصورة يثيران في الناس اشمئزازا هائلا.

ـ ما أثر الوحدة الألمانية على الحياة الثقافية الألمانية؟
ـ لم ينصت أحد للكتاب والفنانين الألمان الذين كانوا يعارضون الوحدة. لسوء الحظ، لم يشارك أغلب المثقفين في النقاش لا أدري بسبب الكسل أم اللامبالاة. في ذلك الحين، قال المستشار الأسبق، فيلي برانت Willy Brandt، إن قطار الوحدة الألمانية غادر المحطة وليس بوسع أحد إيقافه. فاستولت حماسة منقطعة النظير على الناس. تلك الاستعارة الحمقاء عوملت معاملة الحقيقة، وضمنت ألا يفكر أحد في الضرر الكبير الذي ستلحقه الوحدة بثقافة ألمانيا الشرقية، ناهيكم عن اقتصادها. لا، أنا لا أحب أن أركب قطارا لا يمكن توجيهه ولا يستجيب لإشارات الإنذار. لذلك بقيت على الرصيف.

ـ وما رد فعلك على النقد العنيف الذي انصبّ عليك من الصحافة الألمانية بسبب آرائك في الوحدة؟
ـ أوه، لقد اعتدت ذلك! فهو لا يؤثر على موقفي. لقد حدثت الوحدة على نحو فيه خرق لقانوننا الأساسي. كان لا بد من وضع دستور جديد عندما عادت الدولتان إلى الوحدة من جديد- دستور مخصص لمشكلات ألمانيا الموحدة. ولكننا لم نحصل على دستور جديد. وحدث بدلا من ذلك أن تم إلحاق جميع ولايات ألمانيا الشرقية بألمانيا الغربية. وكل ذلك تم من خلال ثغرة من نوع ما، مادة كانت الغاية من وجودها في الدستور أن تمكّن الولايات الألمانية المنفردة أن تصبح جزءا من ألمانيا الغربية. وتخوّل الحصول على المواطنة الألمانية الغربية لمن ينشقون عن ألمانيا الشرقية من ذوي العرق الألماني. وهذه مشكلة حقيقية، لأنه لم يكن كل شيء في ألمانيا الشرقية فاسدا، هي الحكومة فقط. والآن كل ما في ألمانيا الشرقية- بما في ذلك المدارس والفن والثقافة- سوف يلفظ أو يقمع. لقد وصم كل ذلك بالعار، وذلك الجزء من الثقافة الألمانية سوف يتلاشى بالكامل.

– الوحدة الألمانية من الأحداث التاريخية المتواترة في كتبك. حينما تكتب عن مثل تلك المواقف، هل تحاول أن تقدم رواية تاريخية «صادقة»؟ كيف تكمل التواريخ الخيالية كالتي تكتبها التاريخ الذي نقرأه في الكتب المدرسية والصحف؟
– التاريخ أكبر من مجرد الأخبار. لقد اهتممت بصفة خاصة بتطور الأحداث التاريخية في كتابين هما «لقاء تيلجيت» و»المتعثر». في المتعثر، هناك قصة التطور التاريخي للتغذية البشرية. ولم يكتب الكثير في هذا الموضوع، فنحن في العادة لا نرى من قبيل التاريخ إلا ما يتعلق بالحرب والسلام والقمع السياسي والسياسات الحزبية. مسألة التغذية، والتغذية البشرية في صلبها، شديدة الأهمية لا سيما الآن، حيث يسير الجوع والانفجار السكاني يدا بيد في العالم الثالث. كان عليّ، على أية حال، أن أخترع توثيقا لهذا التاريخ، وقررت استخدام حكاية لتكون استعارة هادية. والحكايات بصفة عامة تقول الحق، إذ توجز جوهر تجاربنا وأمنياتنا وإحساسنا بالتيه في العالم. وهي بهذا المعنى أصدق من كثير من الوقائع.

ـ ماذا عن شخصياتك؟
ـ الشخصيات الأدبية، لا سيما البطل الذي لا بد أن يحمل الكتاب، مزيج من كثير من مختلف الناس والأفكار والتجارب وقد حزمت معا. وعلى كاتب النثر أن يبدع الشخصيات ويخترعها، فيحب منها بعضا ويكره بعضا. وليس بوسعه أن ينجح في ذلك ما لم يدخل هذه الشخصيات. وإذا لم أكن أفهم شخصياتي من داخلها، فسوف تكون شخصيات ورقية، وليس أكثر.

– تعاود شخصياتك الظهور في العديد من الكتب المختلفة، وفي ذهني من ذلك تولا، وإلسيبيل، وأوسكار، وجدته آنا، على سبيل المثال. يصلني انطباع بأن هذه الشخصيات جميعا ينتمون إلى عالم روائي أكبر لا أحسب إلا أنك شرعت فقط في توثيقه في رواياتك. هل فكرت يوما في أن لهذه الشخصيات وجودا مستقلا؟
ـ حينما أبدأ في كتاب أعدّ اسكتشات لمختلف الشخصيات. وفيما يتطور عملي على الكتاب تبدأ هذه الشخصيات الخيالية تعيش حيواتها الخاصة. ففي «الجرذة» على سبيل المثال لم أخطط قط لإعادة تقديم مستر ماتسيراث كرجل في السادسة والستين من العمر. ولكنه قدّم لي نفسه، وظل يطلب الدخول إلى الرواية، قائلا، أنا لا أزال موجودا، وهذه القصة قصتي أيضا. كان يريد دخول الكتاب. وكثيرا ما أجد مع مرور السنين أن هذه الشخصيات المخترعة تبدأ في الجهر بطلباتها، ومناقضة آرائي، بل وترفض السماح باستعمالها. ويحسن أن يلتفت المرء بين الحين والآخر لها. طبعا لا بد أن يصغي المرء أيضا لنفسه. وبذلك ينشأ نوع من الحوار، وفي بعض الأحيان يحتدم، وترتفع درجة حرارته. إنه التعاون.

ـ لماذا توجد شخصية تولا بركريفكي في مركز كثير من كتبتك؟
ـ شخصيتها شديدة الصعوبة حافلة بالتناقضات. ولقد تأثرتُ كثيرا حينما كتبت تلك الكتب. لا أستطيع تفسير تولا. فلو فعلت لصار ثمة تفسير، وأنا أكره التفسيرات. إنما أدعوك لرسم صورك الخاصة. في ألمانيا يدخل الأولاد المدرسة الثانوية وهم راغبون في قراءة قصة جيدة أو كتاب فيه شخص أحمر الشعر! ولكن ذلك أمر غير مسموح به. ويكلفونهم بدلا من ذلك بتأويل كل قصيدة، وكل صفحة، واكتشاف ما يقوله الشاعر. ولا علاقة لهذا بالفن. يمكنك تفسير شيء تقني ووظيفته، أما الصورة أو القصيدة أو القصة أو الرواية فلها احتمالات كثيرة للغاية. فكل قارئ يوجد القصيدة إيجادا جديدا. ذلك سبب كراهيتي للتأويلات والتفسيرات، ومع ذلك، أنا سعيد جدا أنك لا تزالين في تواصل مع تولا بوكريفكي.

ـ كثيرا ما تحكى كتبك من خلال وجهات نظر مختلفة. ففي «طبل الصفيح» يروي أوسكار بضمير المتكلم وضمير الغائب. في «سنوات الكلاب» تتنقّل الرواية بين ضميري المخاطَب والغائب. ويمكن أن أمضي في ضرب الأمثلة. كيف يساعدك هذا التكنيك على تقديم رؤيتك للعالم؟
ـ على المرء أن يبحث دوما عن مناظير طازجة. أوسكار ماتسيراث على سبيل المثال. قزم ـ طفل كبير- حجمه وطواعيته تجعلانه مطية مثلى لكثير من المناظير الصعبة. لديه أوهام العظمة، وهذا ما يجعله في بعض الأحيان يتكلم عن نفسه بضمير الغائب، مثلما يفعل الصغار في بعض الأحيان. ذلك من قبيل تعظيمه لنفسه. ذلك أشبه بـ«نحن» الملكية، أو بقول ديجول «moi, de Gaulle. . .». هذه جميعا أوضاع سردية توجد مسافة. في «سنوات الكلاب» هناك ثلاثة مناظير، يختلف دور الكلب في كل منها. الكلب نقطة انكسار للأشعة.

ـ كيف تغيرت اهتماماتك وتطوّر أسلوبك على مدار مسيرتك المهنية؟
ـ كتبي الثلاثة الكبيرة الأولى، «طبل الصفيح»، و«سنوات الكلاب»، ونوفيلا «قط وفأر» تمثل مرحلة واحدة هي الستينيات. التجربة الألمانية في الحرب العالمية الثانية مركزية في الكتب الثلاثة جميعا، التي تشكل معا ثلاثية دانتسيج. في ذلك الوقت كنت أشعر أني مرغم بصفة خاصة على التعامل مع الحقبة النازية في كتابتي، فأعمل على أسبابها وتفرعاتها. وبعد سنوات قليلة، كتبت «من يوميات حلزون»، متعاملا فيه أيضا مع الحرب، وإن تخليت فيه تماما عن أسلوبي وقالبي. يقع الحدث في ثلاث حقب مختلفة: الماضي (الحرب العالمية الثانية)، والحاضر (1969 في ألمانيا حينما بدأت العمل على الكتاب)، والمستقبل ممثلا في أبنائي. في رأسي وفي الكتاب جميع هذه الفترات الزمنية مختلطة معا. لقد اكتشفت أن أزمنة الأفعال كما نتعلمها في المدرسة- أي الماضي والمضارع والمستقبل- ليست بمثل هذه البساطة في الحياة الحقيقية. ففي كل مرة أفكر فيها في المستقبل، أجد معرفتي بالماضي قائمةً تؤثر على ما أسميه المستقبل. والجمل التي قيلت بالأمس قد لا تكون بالفعل ماضيا انتهى أمره، بل لعل لها مستقبلا. نحن لسنا مقيدين، على المستوى العقلي، بالتسلسل الزمني، إذ أننا نكون واعين في الوقت الواحد بكثير من الأزمنة المختلفة، كما لو كانت جميعا زمنا واحدا. وإن عليّ ككاتب أن أدرك تداخل الأزمان وأزمنة الجمل وأن أكون قادرا على تمثيلها. ولقد أصبحت لهذه الثيمات الزمنية أهمية متزايدة في عملي. Headbirths أو «الألمان يحتضرون» مروية في الحقيقة من زمن جديد مخترع أسميه Vergegenkunft. وهي كلمة مكونة من كلمات «الماضي» و«الحاضر» و«المستقبل». في الألمانية بوسعنا أن نجاور بين الكلمات لتكوين كلمات مركبة جديدة. فكلمة Ver مأخوذة من Vergangenheit أي الماضي، وgegen من Gegenwart أي الحاضر و kunft من Zukunft أي المستقبل. هذا الزمن الجديد المختلط مركزي في «المتعثر». في ذلك الكتاب كان الراوي يتجسد المرة تلو الأخرى عبر الزمن، وسيره الذاتية المختلفة الكثيرة توفر مناظير جديدة، كل منها لها مضارعها الخاص بها. ظننت أنني سأحتاج قالبا جديدا عند تأليفي كتابا من مناظير مختلفة كثيرة للغاية، فأنظر إلى الوراء من الحاضر وأتماس مع أشياء لم تأت بعد. ولكن الرواية هي ذلك القالب المفتوح الذي يتيح لي أن أتنقل بين القوالب، من الشعر إلى النثر، وأنا لا أزل بداخله.

ـ في «من يوميات حلزون»، تجمع بين عالم السياسة المعاصر مع سرد خيالي لما ألمَّ باليهود في دانتسيج أثناء الحرب العالمية الثانية. هل كنت تعرف أن كتابة الخطب السياسية والعمل في الحملات الانتخابية الذي قمت به لصالح براندت سنة 1969 سوف تصبح مادة لكتاب؟
ـ لم يكن لي خيار إلا أن أواصل تلك الحملة الانتخابية، في كتاب أو في غيره. ولدت في عام 1927، في ألمانيا، وكنت في الثانية عشرة حينما بدأت الحرب، وفي السابعة عشرة حينما انتهت. أنا محمل بذلك الماضي، ولست الوحيد في ذلك، فهناك كتّاب آخرون يشعرون بمثل ما أشعر به. ولو كنت كاتبا سويديا أو سويسريا فلعلي كنت لألعب أكثر، وألقي بضع نكات وما إلى ذلك، لكن ذلك لم يكن ممكنا نظرا لخلفيتي، لم يكن لي خيار. في الخمسينيات والستينيات، أي في فترة أديناور [كونراد أديناور أول مستشار لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية]، لم يكن يروق للسياسيين أن يتكلموا عن الماضي، فإن تكلموا عنه شيطنوه وقالوا إن الأشرار خانوا الشعب الألماني المسكين عديم الحيلة. كانوا يكذبون كذبا دمويا. وكان من المهم للغاية أن نخبر الجيل الأصغر بالكيفية التي وقعت بها الأمور، بكونها وقعت في وضح النهار، وببطء شديد وعلى نحو منهجي. في ذلك الوقت، كان بوسع أي شخص أن ينظر فيرى ما الذي كان يجري. من أفضل الأشياء التي لدينا بعد أربعين عاما من الجمهورية الفدرالية أننا قادرون على الكلام عن الفترة النازية. وأدب ما بعد الحرب لعب دورا مهما في تحقيق ذلك.

ـ «يوميات حلزون» يبدأ بـ «أبنائي الأعزاء». وهذا نداؤك لجيل كامل نشأ بعد الحرب، لكنك تخاطب أبناءك أنت أيضا.
ـ أردت أن أشرح كيف وقع عدوان الإبادة الجماعية. لقد ولد أبنائي بعد الحرب، وكان لهم أب يذهب صباح الاثنين إلى الحملة الانتخابية لإلقاء الخطب فلا يرجع إلى البيت قبل السبت التالي. فكانوا يسألون «لماذا تفعل ذلك؟ ولماذا أنت بعيد عنا طول الوقت؟». حاولت أن أبيّن لهم الأمر، لا بما قلته، بل وبما كتبته أيضا. المستشار في ذلك الوقت كيرت جورج كيسنجر كان نازيا أثناء الحرب. فلم أكن أدعم مجرد مستشار ألماني جديد، بل وأناهض ماضيا نازيا. لم أرد أن أبقى في كتابي ملتصقا بالأرقام المجردة «عدد كذا من اليهود تعرضوا للاغتيال». فالملايين الستة رقم غير قابل للتصور. أردت أن أعطي تأثيرا أكثر مادية. فاخترت أن يكون الخط العام لقصتي هو تاريخ معبد دانتسيج اليهودي، الذي ظل قائما في مكانه قرونا كثيرة إلى أن دمره النازيون في فترة الحرب، أعني الألمان. أردت أن أوثّق حقيقة ما جرى هناك. في المشهد الأخير من الكتاب أربط هذا بالحاضر، إذ أكتب عن استعداداتي لإلقاء محاضرة تكريما لألبرت دورر في ذكرى ميلاده الثلاثمائة. وهذا الفصل تأمل ميلانكولي في [لوحته] «ميلانكوليا 1» وأثر الميلانكوليا على التاريخ البشري. أتخيل أن حالة ميلانكولية ثقافية عامة هي الموقف الصحيح الذي على الألمان أن يتبنوه إزاء الهولوكوست. حالة من الندم والحزن يحققها نظر عميق في أسباب الهولوكوست، وتنتقل إلى زماننا درسا وعبرة.

ـ وهذا دأب كثير من كتبك، تركيزها على جانب من بشاعات الوضع في عالمنا المعاصر والأهوال التي تبدو أنها بانتظارنا. هل تقصد التعليم، والتحذير، أم تحريض قرائك على الفعل؟
ـ أريد ببساطة ألا أخدعهم. أريد أن أقدم لهم الوضع الذي هم فيه، أو الذي قد يتطلعون إليه. الناس مكلومون، لا لأن كل شيء بالغ البشاعة، بل لأن في أيدينا كبشر أن نغيّر، لكننا لا نغيّر. مشكلاتنا نحن نتسبب فيها، ونحن نحدّدها، ونحن الملزمون بحلها.

ـ عملك على الأرض يمتد ليشمل الشئون البيئية والقضايا السياسية، وقد دمجت ذلك في أعمالك.
ـ في السنوات القليلة الماضية سافرت كثيرا، في ألمانيا وفي أماكن أخرى. رأيت ورسمت عوالم أسيرة تحتضر. أصدرت كتاب رسومات بعنوان «موت الغابة» عن أحد هذه العوالم، على الحدود في ما بين جمهورية ألمانيا الفدرالية وما كان في وقتها جمهورية ألمانيا الديمقراطية. هنالك، وقبل الوحدة السياسية بكثير، كان ثمة توحد لألمانيا في شكل غابات تحتضر. وهذا ينطبق أيضا على النطاق الجبلي على الحدود بين ألمانيا الغربية وتشيكوسلوفاكيا. يبدو وكأن مجزرة وقعت. رسمت ما رأيته هناك. وجعلت للرسومات عناوين وجيزة موحية تسعى إلى أن تكون وصفا وتعليقا، وجعلت في النهاية خاتمة. وفي مثل هذه المواضيع، يكون للرسم ثقل مساو أو زائد عن ثقل الكتابة.
ـ هل تعتقد أن الأدب قادر في عصرنا على إضاءة الواقع السياسي؟ هل خضت معترك السياسة لأنك شعرت كمواطن أنك أقدر على عمل المزيد مما يمكنك أن تفعله ككاتب؟
ـ لا أعتقد أنه ينبغي أن تُترك السياسة للأحزاب، سيكون هذا خطرا. هناك كثيرا من الندوات والمؤتمرات في موضوع «هل يستطيع الأدب أن يغيِّر العالم»! وأعتقد أن لدى الأدب قدرة التأثير والتغيير. وكذلك الفن. لقد تغيرت عاداتنا في الرؤية نتيجةً للفن الحديث، ولكنا لسنا واعين بذلك إلا لماما. ابتكارات من قبيل التكعيبية أمدّتنا بقوى جديدة للرؤية. اختراع جيمس جويس للمونولوج الداخلي في عوليس أثّر على تعقيد فهمنا للوجود. الأمر أن التغيرات التي يمكن أن يحدثها الأدب غير قابلة للقياس. فالاتصال الذي يقوم بين الكتاب والقارئ يكون سلميا، ومجهولا.
إلى أي مدى غيَّرت الكتب الناس؟ لا نعرف الكثير عن هذا. بوسعي فقط أن أقول إن الكتب كانت حاسمة في حياتي. في شبابي، في مرحلة ما بعد الحرب، كان من الكتب المهمة لي كتاب صغير لكامو عنوانه «أسطورة سيزيف». البطل الأسطوري الشهير الذي قُضي عليه أن يصعد الجبل دافعا صخرة تنحدر منه في نهاية المطاف إلى السفح، والذي يُنظر إليه في العادة بوصفه بطلا مأساويا، فسَّره لي كامو تفسيرا جديدا، إذ رآه سعيدا بقدره. فالتكرار المستمر بادي التفاهة لدفع الحجر إلى أعلى الجبل هو في حقيقته فعل مرضٍ لوجوده. كان سيزيف ليحزن لو أخذ أحد الحجر منه. ذلك كان له تأثير كبير عليّ. فأنا لا أومن بغاية نهائية، لا أعتقد أن الحجر سوف يبقى على قمة الجبل. يمكننا أن نعتبر هذه الأسطورة وصفا إيجابيا للظرف البشري، برغم أنه يتعارض مع جميع أشكال المثالية بما فيها المثالية الألمانية، ومع جميع الأيديولوجيات. فكل أيديولوجيا غربية تعد بهدف نهائي، بمجتمع سعيد أو عادل أو وادع. أنا لا أومن بهذا. نحن أشياء في حالة سيولة. قد يكون الأمر أن الحجر ينزلق منا طول الوقت ولا بد من معاودة دفعه إلى أعلى، ولكن ذلك شيء لا بد أن نفعله، فالحجر حجرنا.
ـ فكيف ترى مستقبل الإنسان؟
ـ طالما أن هناك احتياجا إلينا، سيظل هناك نوع ما من المستقبل. لا أستطيع أن أقول لك الكثير عن ذلك في كلمة واحدة. ولا أريد أن أقدّم إجابة من كلمة واحدة. ولكني كتبت كتابا، هو «الجرذة»، أو «أنثى الجرذ»، أو أيا ما يكون. فماذا تريدين أكثر من ذلك؟ إنه إجابة طويلة على سؤالك.

 

نشر هذا الحوار في عدد صيف 1991 من باريس رفيو