في روايته «الطبل الصفيح» التي صدرت عام 1959، كسر غونتر غراس (1927 - 2015) جدار الصمت عن أسرار وخفايا ما قام به جيل الحرب في ألمانيا، داعياً إلى وقفة مع الذات، وإلى قليل من الصبر والعزاء لممارسة النقد والنقد الذاتي والاعتراف بالخطايا والذنوب للتعلم من الأخطاء التي ارتكبت بحق الشعب والوطن والبدء بلملمة الشمل ومداواة الجراح وتضميدها للتخلص من الكراهية والأحقاد المتراكمة التي سببتها الديكتاتورية والحروب.

«الطبل الصفيح» ... فن الندم

إبراهيم الحيدري

في روايته «الطبل الصفيح» التي صدرت عام 1959، كسر غونتر غراس (1927 - 2015) جدار الصمت عن أسرار وخفايا ما قام به جيل الحرب في ألمانيا، داعياً إلى وقفة مع الذات، وإلى قليل من الصبر والعزاء لممارسة النقد والنقد الذاتي والاعتراف بالخطايا والذنوب للتعلم من الأخطاء التي ارتكبت بحق الشعب والوطن والبدء بلملمة الشمل ومداواة الجراح وتضميدها للتخلص من الكراهية والأحقاد المتراكمة التي سببتها الديكتاتورية والحروب. وتبدأ الخطوة الأولى بنبذ العنف والكراهية والبدء بالمصالحة مع الذات ومراجعتها واعتراف كل من شارك في الجرائم أو اقترف إثماً من الآثام وإعلان الندم، لأن الندم هو الخطوة الأولى والأساسية في طريق المصالحة مع الذات والوعي بها وتحمل المسؤولية. هذا هو مغزى رواية «الطبل الصفيح» التي طبع منها أكثر من ثمانين مليون نسخة وترجمت إلى أكثر لغات العالم الحية ومنها العربية واعتبرها الناقد الألماني الكبير بوخيم كايزر «رواية العصر»، حيث وضع غراس قطيعة بينه وبين الطبقة الوسطى وقيمها ومفاهيمها، فهي «أدب إنذار تقطع الأنفاس» ومغامرة فكرية في تاريخ شعب ووطن، وفي الوقت ذاته مفارقة لكل ما هو حداثي ومعاصر. وهي لاذعة في سخريتها وفنتازيتها يتداخل فيها الواقعي بالخيالي وتتلاعب بالأنا والنحن في تقاطعات متداخلة ومتغيرة باستمرار لتشكل في الأخير سيرة حياة افتراضية في لغة انسيابية غير متكلفة تتراوح بين الشعر والسرد القصصي. وهي في الحقيقة سيرة غراس الذاتية التي ينفيها، التي ترفض الواقع وتتمرد عليه ليهدمه ويفككه ويجعل منه مرآة مشوهة تعكس التحولات الفكرية والاجتماعية والنفسية التي ينظر إليها بمنظار تحليلي نقدي ساخر عبر وعي البطل أو مرآة أوسكار عن صورة غراس المهزوزة.

يتحدث غراس في روايته بصراحة متناهية، ليس عن تاريخ الحرب التي خاضتها ألمانيا ضد العالم والاتهامات التي وجهت إليها فحسب، بل أيضاً عن تاريخه الشخصي وسجله العسكري ومشاركته في الحرب، ويدافع بصلابة وبيقين ثابت عن الاتهامات التي وجهت إليه لانخراطه في منظمة «إس إس»، في شبابه، وهي وحدة النخبة التي اصطفاها هتلر، مؤكداً بإيمان لا تطاوله الشكوك بأنه لم يطلق رصاصة واحدة وأنه دخل مصحة عسكرية تابعة للجيش الأميركي ليتجنب الوقوع في جرائم حرب. لذلك، لم يحاول أن يتهرب من ماضيه وكذلك ماضي ألمانيا الملتبس، داعياً إلى عدم الصمت عن الماضي وإعلان الندم عما اقترف.

في رواية الطبل الصفيح تتشابك الخبرة الطويلة والفنتازيا مع الأحداث السياسية والواقعية السحرية لتقدم لنا صوراً فنية مفارقة للحياة الألمانية - البولندية وتأثيراتها في انشطار الذات والهوية وتجسد في الوقت ذاته مآسي المرحلة النازية وبؤسها، مثلما تعكس وجدان الجيل الألماني الجديد الذي لم يعش الحرب ولم يشعر بعذاباتها، والذي ولد على أخلاق فاصلة بين التورط في الجريمة والبراءة منها. ومع أن غراس كان صغيراً لم يشارك في ما حدث كآخرين، لكنه كان واعياً إلى الحد الذي لا يمكن فيه نكران مسؤوليته أو التنصل منها. فهو صوّر مظاهر العنف والعنف المضاد الذي أثار الكراهية والأحقاد والأنانية وعدم التسامح التي عانى منها الألمان معاناة شديدة وما سببه النظام النازي الشمولي من حروب وموت ودمار لملايين من الناس الأبرياء، وكذلك ما أشعله في صدورهم من حقد وعدوانية.

المهم الذي شدد عليه غراس هو أنه، على رغم كل مخلفات الحروب والكوارث والمآسي المروعة التي حلت بالألمان، إلا أنهم لم يستطيعوا التعبير عن ندمهم وتذمرهم أو الاعتراف بما اقترفت أيديهم من آثام، لأنهم فقدوا الشعور بالندم، الذي حاول «أوسكار» إيقاظه في نفوسهم.

ولد أوسكار قزماً، وإذا كان الأطفال يولدون لينموا ويكبروا وليتمتعوا بطفولتهم وشبابهم ويحلموا مثل الآخرين بكونهم كباراً، فإن أوسكار ولد في عالم غريب وفي زمن عجيب، ومع ذلك فإنه يملك عقلاً كبيراً ومقدرات عجيبة مع إصرار على رفض الواقع. فهو يرفض أن ينمو ويكبر مثل الآخرين كما يرفض اقتفاء طريق الحياة المألوفة حوله، ولأنه لا يريد أن يرى العالم إلا من خلال منظار قزم صغير.

بقي أوسكار قزماً صغيراً، وحصل في اليوم السادس من عمره على الهدية الأولى في حياته هي طبل من الصفيح، سيكون له شأن كبير في المستقبل. وعندما يصل إلى الثلاثين من العمر وتنتهي مرحلة الطفولة يدخل إحدى مصحات الأمراض العقلية لأنه لا يستطيع أن يتحمل عالم الكبار - وأخذ يقرع طبلته بعنف معلناً غضبه على الحاضر واستذكار الماضي القريب ليتداخل عنده الحاضر بالماضي وتتداعى أحلام القزم المسجون في قمم طفل لتتشابك مع الحدث المعيش والمباشر في مزيج وجودي سوريالي وفي مشاهد حسية تخلط فيها رؤى وأخيلة فنتازية مباحة ومحرمة وممزوجة بأحلام وذكريات منسية وكوابيس مفزعة مثيراً عاصفة من الغضب والاستنكار لاعتقاده بانعدام الوعي وضعف المسؤولية والتقصير التاريخي، وهدفه من ذلك هو إعلان «الفضيحة» التي من الممكن أن تولد صراعاً وتثير في الوقت ذاته وعياً جديداً.

يتذكر أوسكار طفولته: «لقد اعتقدت حتى النهاية بأننا على حق»، ولكنه أخذ يراجع نفسه ويستعيد ما حدث وما عاش وشاهد عن كثب. ويتذكر سنوات الرعب والموت، يبوسة الشفاه ومرارة اللسان، فجرائم الرايخ الثالث لا يمكن أن تنسى، هكذا بدأت رحلة العذاب والبحث الدؤوب عن الذات والآخر. وتتدافع أمامه ذكريات طفولته البائسة، فهو لم يكن سوى طفل صغير، مجرد طفل مشرد يحمل طبلاً صغيراً يدور بين طاولات المقاهي. ولكن، كان للطفل الصغير عالمه الخاص أيضاً يتجاهل فيه عالم الكبار، أنه عالم تنبثق منه الأفكار وتنبجس الخواطر وتتوارد الذكريات المبعثرة في الذاكرة لتتراكم في وعي اللاوعي لينساها في زحمة مجتمع متغير سريع الحركة ما زالت آفاقه غير واضحة.

والقزم الصغير ذكي ومرهف الحس ويريد أن يعيش ولو على هامش الحياة. يريد أن يقرأ ويعقل ويتعرف إلى كل شيء وألا يفوته أي شيء، ولأنه يملك طبلاً فإنه يستطيع أن يقرع به الواقع فيحطم زجاج النوافذ ويخترق الجدران وليبرهن أنه العاقل الوحيد والمعافى في عالم من المظاهر المزيفة المملوءة بالكذب والنفاق والجريمة والخداع. في هذا المجتمع الجديد الذي يحلم بالرفاه ويندفع للبناء ويسعى إلى الثراء وإشباع المتع المادية ينسى المرء في زحمة اللهاث المحموم ذاته وينفيها من دائرة وعيه. غير أن الماضي يبقى كابوساً ثقيلاً يؤرقه عندما يتذكر أحداثه المروعة ويصبح كل شيء بلا معنى ولا طعم.

يقول أوسكار القزم: «وحين يواجه هؤلاء الدم والموت والدمار، يدركون فجأة أنهم لم يكونوا مجرد شهود وضحايا لتاريخ غريب وأحداث مروعة فحسب، وإنما كانوا أيضاً شركاء في الجريمة».

وخلال تجواله في الشوارع والأسواق يعثر على عمل في مطعم ليلي اسمه «سرداب البصل» يقدم لزبائنه كل ليلة صحناً من البصل يقشره الطّهاة حتى تدمع أعينهم. ففي هذا الزمن الرديء أصبح من الصعب أن تدمع العيون ندماً على ما حدث من موت ودمار وكوارث وويلات، لذا سمي قرننا هذا «القرن الناشف الدموع»، لأن البعض منهم لا يستطيع أن يذرف الدمع أبداً، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة، هكذا «يحقق البصل ما تعجز عنه مأساة العالم، إذ يساعد الناس على البكاء وذرف الدموع».