في المناسبات الهامة، وطنية كانت أو عالمية، يتبادل بعض الكتاب الرسائل تعليقا على الحدث. وهذا ما جرى بين الكاتبين، الألماني غونتر غراس والياباني كينزابرو – أوي الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1994، بمناسبة مرور نصف قرن على نهاية الحرب الكونية الثانية التي شهدت هزيمة بلدي الكاتبين المذكورين واستسلامهما دون قيد أو شرط.

غونتر غراس وكينزابرو-أوي ونسيان الهزيمة

محمد عضيمة

في المناسبات الهامة، وطنية كانت أو عالمية، يتبادل بعض الكتاب الرسائل تعليقا على الحدث. وهذا ما جرى بين الكاتبين، الألماني غونتر غراس والياباني كينزابرو – أوي الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 1994، بمناسبة مرور نصف قرن على نهاية الحرب الكونية الثانية التي شهدت هزيمة بلدي الكاتبين المذكورين واستسلامهما دون قيد أو شرط. تجمع الكاتبين صداقة تمتد على أكثر من ربع قرن. ويشتركان في نقاط أساسية كثيرة: أهمها أنهما شهدا هزيمة بلديهما وهما في سن الصبا، ولم يستطيعا بعد أن أصبحا كاتبين مشهورين وبارعين نسيان تلك الهزيمة وعواقبها التالية أو نسيان الرؤوس العسكرية التي أشعلت تلك الحرب وتسببت بموت الملايين. لذلك لم يتوقفا عن العودة الى الماضي ومساءلته أو محاكمته، كما لم يتوقفا عن هجاء القيم السياسية السائدة في بلديهما وعن "البصاق في الشوربة الوطنية" على حد تعبير غونتر غراس. فهما "يتمتعان" بعدائهما للسلطة السياسية والثقافية السائدة ويدفعان ثمن هذا الموقف جيدا سواء عن طريق إهمال الإعلام الوطني لهما أو عن طريق هجوم هذا الاعلام عليهما هجوما تحريضيا قد سبب لليابان ولأقربائه مشكلات شخصية مع بعض الجهات المتطرفة وطنيا. ونرجح أن الشيء نفسه حدث للألماني ولا يزال يحدث.

لا يخفى كينزابرو – أوي رفضه لسلطة الامبراطور على الرغم من انحسارها شبه التام بعد الحرب الكونية الثانية. فالكاتب ينتمي الى جيل ما بعد الحرب الملتزم عموما والقريب من اليسار جيدا. فهو خليط من اليسار والليبرالية. والموقفان لا يروقان بشكل عام لليمين بكل ألوانه. لأن اليسار في اليابان يعني، فيما يعنيه التحرش بعائلة الامبراطور والإعتراض عليها والكشف عن مدى مسؤولية الامبراطور في زج اليابان داخل حروب عدوانية لا مبرر لها غير الغزو. وهذا بالتحديد تابو لا يجب الاقتراب منه إطلاقا. على المؤرخ الياباني أن يتجاوز هذا النقطة وكل ما يحيط أو يتعلق بها، عليه أن يعلم النسيان فيما يخص الهزيمة وأسبابها لكن هذا، بالمقابل، لا يروق لكينزابرو – أوي ولا لأمثاله: فهو عاشق للماضي وعاشق لاستدعائه وربطه بالحاضر.

ولد كينزابرو-أوي سنة 1935 في قرية بعيدة غرب اليابان. له أعمال روائية عديدة أهمها يذكر عادة "مسألة شخصية "، "الصرخة الصامتة "، "رهان العصر". وعلى الرغم من أنه لا يكتب إلا للقاريء الياباني، أي لا يضع في حسبانه أثناء الكتابة إلا هذا القاريء، على حد تصريحاته، فإنه يشكو دوما من قلة العزاء حتى بعد نيله جائزة نوبل، كما يشكو من عدم قدرته على ايجاد ناشر لأعماله دوما، يعود ذلك، لما يرى النقاد داخل اليابان، الى صعوبته. فهو غير مقروء إلا من قبل النخبة ونخبة النخبة، لأنه يعمل على لغته باستمرار. لذلك فالقاريء الياباني المتوسط، وهو الغالبية الساحقة ذات المستوى الواحد تقريبا، لا يستطيع أن يتواصل أو يتفاعل معه. وسرعان ما يقول لك هازا رأسه ذات اليمين وذات الشمال: "مزكاشي.. مزكاشي "، يعني: صعب، صعب. وينطبق هذا بشكل خاص على الأجيال الجديدة حيث لم يعد كاتب "جدي" و "رصين" مثل كينزابرو -أوي يهم إلا من يبحث عن الجدية والرصانة، وحيث يتناقص عدد "المثقفين" وترتفع درجة الاستهلاك اليومي للكتابات "غير الجدية ". والواقع أن القاريء الياباني اليوم يختلف تماما تقريبا – ومنذ النجاح الاقتصادي لبلده – عن القاريء الياباني قبل وأثناء وبعد الحرب. هناك قطيعات صارخة وسريعة بين يابانيي اليوم وبين تقاليدهم. لم تعد رموز وأساطير كينزابرو-أوي تعني شيئا كبيرا أو ذات مغزى بالنسبة للأجيال الجديدة. وقد عبر هن هذا الموقف خير تعبير شاعر من الجيل الجديد بعد نيل الروائي جائزة نوبل: "عندما أقرأ أوي أشعر بالبرودة تسري في جسدي منطلقة من عيني".

وهذا ما يجعل أوي يشعر بمرارة لا حدود لها عبر عنها في مناسبات متعددة. وتعرض لحملات نقد، على صعيد فني محض، لم يعرف لها مثيلا في تاريخه الأدبي، وذلك بعد أن رفض استلام جائزة الدولة الثقافية التي يمنحها الامبراطور عادة. إذ من المتعارف عليه في اليابان أن ينال هذه الجائزة وبشكل آلي من ينال اعترافا عالميا به. وعندما سئل عن سبب رفضه قال: "أنا من ديمقراطيي ما بعد الحرب ولا يمكن أن أقبل جائزة الدولة. ثم كنت أريد إيصال رسالة الى الطرف الآخر" بعض ما قيل في هذه العجالة -التقديم عن الروائي الياباني ينطبق على صديقه الألماني غونتر غراس.. هو الآخر "مصاب بداء المواقف " وملعون في بلده من السلطة السياسية والسلطة الثقافية ولا يستطيع إلا أن يقف الى جانب الخاسرين. ولد في 16 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1927. من أعماله المعروفة: "الطبل"، "القط والفأر"، "سنوات كاسب " واخرها "حكاية طويلة" التي أهالت عليه شتائم السياسيين ومن الى جانبهم من نقاد الأدب في ألمانيا.. في جل أعماله الأدبية يتعرض غونتر غراس لإشكالية العلاقة بين الماضي والحاضر في تاريخ ألمانيا. يكتب تاريخ المنسي والمهمش، يواجه المذكور بالمنسي، يوقظ هذا الأخير ويتذكره. يعري تاريخ بلاده على طريقته فيكفره الألمان المؤمنون جد: بألمانيا ويتهمونه بالمروق وبأنه لا يحب "ألمانته" ويرد بأنه "مواطن دستوري" أي هو ألماني وفق الدستور الألماني لا غير، فتطق عقول "الوطنيين " وتنهال عليه بصفات "الزندقة الوطنية ": "هذا ليس ألمانيا"، "ألماني سيىء جدا"، "مزقوا هذه الرواية" كل هذا بصدد حكاية طويلة " التي صدرت العام الماضي 1995، والتي ينتقد فيها طريقة توحيد الألمانيتين نقدا لاذعا.وفي رواياتي لا أعتبر وجهة نظر المنتصرين، ولم ولا اتخذ مكانا الى جانبهم، فالتاريخ الذي وصلنا هو التاريخ الذي كتبوه. وأعتقد، شخصيا، أن الأدب قادر على تصحيح هذا الخطأ". ثم يشير الى أن حوالي نصف قرن من الانفصال بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية قد خلق فروقا كثيرة على جميع الأصعدة بين شعبيهما، وعندما حدث "الضم" كما يقول، من قبل ألمانيا الغربية لم تؤخذ بعين الإعتبار هذه السنوات الخمسين ولا ما ولدته من اختلافات بين الشعبين، لأن الوحدة فرضت فرضا وأمليت من فوق دون مفاوضات أو مناقشات… وبهذا الصدد ماذا يمكن أن يقال عنا، نحن العرب، وعن أحوالنا وأحوال وحداتنا وعن الفروق بيننا بعد أو منذ أزل من الانفصال.. ثم تجارب الوحدة العربية خلال هذا القرن أو أسرار تجارب هذه الوحدة، أو أسرار فشل هذه التجارب.. أين هذا كله داخل الرواية العربية، وكم رواية يحتاج تاريخ المنسي في تاريخنا المذكور.. إن هي إلا أسئلة لا غير نطرحها على الروائي العربي الذي ربما يفيد من هذه المراسلة المتبادلة بين غونتر غراس وكينزبرو – أوي بمناسبة حدث لعب فيه بلداهما دور الفاعل الذي انهزم.

عزيزي كينزابرو-أوي

قد يحدث لك الشيء نفسه: تتدفق الطلبات من جميع الجهات راجية أن أحتفي، بكلمات أو بنص طويل، تلك التواريخ التي شهدت منذ خمسين سنة كيف انتهت الحرب العالمية الثانية باستسلام لا مشروط لألمانيا أولا ولليابان ثانيا. وبما أنني لا أحب أن تكون ردود فعلي تلبية لطلبات متعلقة بأحداث الساعة، فقد ارتأيت أن أكتب اليك، لأنك مثلي: فأنت من الجيل الذي عاش الحرب في سن الطفولة والمراهقة ودمغتنا منذ أبكر سني الصبا. كان علينا نحن الاثنين، إدراك أن ما بعد الحرب قد لا ينتهي أبدا. ومن عقد الى عقد، أصبحنا نحن الاثنين، ندرك أكثر بأن الجرائم التي ارتكبها الألمان واليابانيون تلقي ظلالا بعيدة المدى.

في مشفى عسكري، عشت الثامن من أيار سنة 1945، وقبل كل شيء، مثل انهيار هرم، من الايمان بوعود النصر الأخير، ذلك الإيمان الذي روجت له الدعاية حتى النهاية. هكذا وجدت نفسي مسلوبا وفريسة ريبة مجنونة غير مبالية. لكن وحدها إرادة النجاة الضرورية للحياة وغير الواعية تبقت لي.

من طبيعة الكتاب أن يكدسوا مثل هذه التجارب، وليس من حقهم أن يتيموا للنسيان غزو ذاكرتهم على أساس أنه فعل خير. إن من يكتب النثر المسرود يعلم بأن حاجة المؤرخين المعروفة الى اعتبار بعض مراحل التاريخ أشياء سلم بها نهائيا وقررت في الكتب المدرسية، تقود الى آمال خادعة. أصبح هذا النقاش موضوعة دائمة في المانيا منذ (شجار) المؤرخين. و لهذا بودي أن أعرف كيف يتعامل الجمهور عندكم في اليابان، مع الماضي. ما الفوائد التي نجدها، عندكم، وراء مطلب – وهو غالبا مطلب عدواني عندنا في ألمانيا – أن توضع نقطة الختام النهائية ؟ من يعارض، عندكم في اليابان، فكرة تنسيق الماضي بأقصى سرعة ووضعه في أرشيفات التاريخ؟

اسمح لنفسي بالحديث اليك لأنني أليف كتبك وأعلم أن الأمر كذلك بالنسبة اليك فيم يخص أعمال الأدبية. التقينا في طوكيو، وبعد عدة سنوات في فرانكفورت. وأثناء أحاديثنا الخاصة أو العامة أمام الجمهور. سرعان ما كنا نصل الى "موضوعنا": جرح ليس يريد الالتئام لأننا موشومون. بوشم فتوة مهتوكة وبعصر كانت فيه ألمانيا واليابان – محور برلين طوكيو – تعتبران نفسيهما، ومن خلال طموحاتهما الامبريالية، حليفتي شعبين تقودهما ديكتاتورية بقيت أجهزتها العسكرية تتحدى العالم – وأجابها العالم – لحد أن الحرب التي أعلنها هذان الشعبان انتهت بهزيمتهما المطلقة.

كانت صياغة الأمم المنتصرة هي "الاستسلام دون قيد أو شرط وكانت تخص المجال العسكري أولا. لكن وبما أنها لم تكن فقط حربا تقاد منذ البداية بشكل إجرامي وتشرف على نهايتها، فقد كانت أيضا حربا تختتم بإبادة اليهود والغجر إبادة منظمة. إن عددا كبيرا من مخيمات الاعتقال قد كشف منذ ذلك الوقت مدى حجم نظام الرعب ولا أزال حتى اليوم مذعورا ولا يمكن لشيء أن يخفف من إحساسي بالخجل والعار، إذ كان عمري وقتها سبعة عشر عاما.

كذلك الأمر بالنسبة الى اليابان. فالهزيمة لم تكن تختصر في الاستسلام العسكري، بل كانت تعني أولا في نظر كثير من الشعوب – سواء في الصين أو في كوريا أو في اندونيسيا أو الفلبين – حل قوة استعمارية لم تكن تعرف الرحمة.

في ألمانيا الآن نقاش مسكين وساذج: هل ينبغي الإحتفال بالثامن من أيار بصفته تاريخ انتهاء الحرب ام بصفته يوم التحرير: أذكر أننا كنا في السنوات الأول لما بعد الحرب نتكلم بمراوغة على "الاندحار"، وكنا نريد تحويل نهاية الرعب – التي لم يحصل عليها إلا بقوة السلاح – الى "ساعة الصفر" كما لو أنه كان بمقدورنا الاستئناف مجددا كوردة غضة، كما لو أنه لم يكن علينا سوى إزالة الأنقاض، كما لو أنه كان بإمكاننا الخروج من كل هذا بلا عقاب أو عاقبة. إرادة فتي مثلي في النجاة كانت بلا حدود وكانت شبيهة بإرادة ملايين الناس الآخرين.

إن سيرورة الكبح الحادة هذه، والتي لابد أنها حدثت بالطريقة نفسها في اليابان، أدت وبشكل ما الى نتيجة إيجابية: لقد تمكنت القوة التوسعية الناتجة عن سنوات الحرب أن تركز تركيزا تاما على الاقتصاد وهكذا تحقق فيما بعد ما صار يدعي بـ "المعجزة الاقتصادية الألمانية " والشيء نفسه حدث في اليابان حيث تطور الاقتصاد بشكل سريع أيضا كما لو أن محور برلين – طوكيو لا يزال قائما. كان منتصرو الامس يشاهدون، بانذهال ورعب، وربما بحسد، كيف أن المهزومين تماما يمارسان سياسيا سياسة الخضوع والذل فيما يكتسبان بعدا عالميا بصفتهما عملاقين اقتصاديين. عندها بدأ التساؤل: هل يمكن أن تكون ألمانيا واليابان قد ربحتا الحرب في نهاية المطاف رغم كل شيء؟

من المؤكد أن السؤال غير معقول إذا لم نأخذ بعين الاعتبار أن جوهر البلدين لا يزال مطعونا في العمق. صحيح أن ألمانيا واليابان بلدان غنيان، لكن "خزينتهما" الثقافية أصيبت بفقر شديد. وحتى الآن لم يتجاوزا الانقطاع الذي حل بحضارتيهما. وهما لا يزالان مهددين -من قبل متطرفيهما على الأقل – بالعودة مجددا الى البربرية. فعلى الرغم من غناهما وقوتهما الاقتصادية، لم يستطيعا أن يجدا هويتهما الخاصة. لقد انكشفت حديثا جميع هذه الأضرار في ألمانيا بوجهها العاري تماما.

بودي أن أقدم لك صورة عن كل هذا بوصف الحالة الواهنة: منذ أكثر من خمس سنوات، وعندما مزق الستار الحديدي في أوروبا وسقط جدار برلين وأصبح بإمكاننا، نحن الألمان، تجاوز انقسام البلد، كان يمكن أن نأمل بقدرتنا على الاعتناء بهذه الهدية. لكن شيئا من ذلك لم يحدث.

إن إعادة التوحيد الذي قامت به الدولة – أريد له أن يكون انضماما ومورس بصفته ضما وتوحيدا – لا يمكن أن يخفي مدى انقسام البلد ومواطنيه اجتماعيا. لا بل تنعدم حتى اللغة المشتركة إزاء الاختلاف الذي نما وتطور منذ أربعين سنة وازداد الآن أكثر.. أضف الى أن ألمانيا الموسعة تتصرف الآن بمسكنة. فالقوى الاقتصادية التي كانت عازمة تماما على الاستثمار تقلق اليوم على سلامة ممتلكاتها وبالتالي تفتقر تماما الى الشجاعة والجرأة.هلع، ينعزل المجتمع، يخضع من جديد لمصيبة كره الأجانب القديمة، يرفض مساعدة من يطلبون حق اللجوء (كان ذلك، والى عهد قريب، عنصرا من العناصر الأساسية في دستورنا) ويسمح كل يوم بأن يقاد طالبو اللجوء الى الحدود دون رحمة.

كلا.. إن إعادة التوحيد هذه والتي أنجزت بطريقة استبدادية لم تكن خيرا بالنسبة الى البلد. أحزاب منافقة في مواجهة معارضة مشلولة. والصحافة التي كانت متعددة أصبحت الآن واحدة على الرغم من ظهورها الملون. الفساد يتسع ويبقى دون حساب أو عقاب. والركود الثقافي يقمع ولادة أي فكر جديد. دروس الديموقراطية التي تعلموها بصعوبة تغرق شيئا فشيئا في بحور النسيان.

إنني إذ أفضي الى هذه الخلاصة البائسة، وللأسف الشديد، وأشاهد بعد خمسين سنة على استسلام الرايخ اللامشروط، الانحطاط المتزايد للجمهورية الفيدرالية الألمانية، أطرح السؤال التالي: كيف تنظر، يا عزيزي كينزابرو – أوي، الى التطورات في بلدك؟ لعل المقارنة خارج أي مفهوم اقتصادي تقود الى أحكام مفاجئة.

ألم نأمل في شبابنا بأن تكون محاكمة الجرائم الألمانية واليابانية بمثابة إنذار ليس للألمان واليابانيين فقط بل للعالم كله ؟ ألم تقتل هذا الأمل ومنذ البداية جريمة أخرى، جريمة إلقاء القنابل الذرية فوق مدينتين يابانيتين ؟ إن هذه السنوات الخمسين بعد الحرب تتميز بكثرة النزاعات المسلحة المميتة. والحرب لا تزال سائدة اليوم. ففي البلقان أطلنا ولا نزال نطيل الإبادة الجماعية لشعب تحت شعار: "التطهير العرقي". والعالم، عاجزا أو قلقا أو مدافعا عن مصالحه، يراقب بصفته متفرجا. يبدو أن نهاية "الحرب الباردة" جعلت من جديد "الحرب الحارقة" لائقة بالتقديم الى المجتمع وفي مثل هذه الظروف ليس من المعقول أن نرعى آمالا كاذبة.

بقينا يا صديقي العزيز على الرغم من تقدم السن، "طفلين ملسوعين " لقد وجب علينا، أنت وأنا، أن يحتمل كل منا وطنه بطريقة متشابهة وبذاكرتينا ككاتبين، أنت يابانك وأنا ألمانيتي، لقد ألفنا أنت وأنا، هذا التمرين التالي: كن مهمشا ووقع دائم: "بصاق في الشوربة الوطنية". لأجل هذا، ولأن أشياء كثيرة تربطنا، أتحدث اليك. ولأنني أعتقد وآمل أن تكون لمراسلتنا فائدة عامة.
غونتر غراس

رسالة الجواب
عزيزي غونتر غراس
أثناء الهزيمة لم يكن عمري سوى عشرة أعوام. لذا، وبعكسك لم أكن مجبرا على الذهاب الى الجبهة كجندي شاب. كنت أعيش في واد داخل أعماق غابة فوق جزيرة من جزر الأرخبيل الياباني عندما سمعت إعلان الهزيمة من المذياع. وكان الذي يتكلم هو الامبراطور، الاله والسلطة المطلقة، لكنه كان وقتها يعبر بصوت إنسان. منذ ذلك الحين والنظام الديموقراطي في طريقا الى التحقق من خلال دستور جديد. تبدو لي تلك الفترة التي تتقاطع مع نهاية صباي ومراهقتي أهم مرحلة في حياتي.

فخلال مرحلة الديموقراطية تلك – هناك مجموعات تسميها بشكل سلبي "ديموقراطية ما بعد الحرب " لكنني أستخدم التسمية نفسها بشكل إيجابي – تعلمت واكتشفت بنفسي أشياء أجعلها دوما أساسا في طريقة حياتي. هكذا أواجه الأفراد والمجتمع والعالم، وكذلك الماضي والحاضر والمستقبل.

عندما قرأت رسالتك تنبهت الى وجود ذكريات كبتناها طيلة مرحلة ما بعد الحرب. فأثناء الحرب، كان الصبي – الذي كنته – يعيش في خليط مبهم من الرعب ومن الرغبة الحادة في الذهاب الى الجبهة بصفة جندي للامبراطور والموت هناك. كنت ممزقا بطريقة يائسة بين التلهف الحار للذهاب كيلا يفوتني قطار الحرب وبين الأمل الخفي بالوصول متأخرا جدا.

أضف إلى أنني، ولحد اللحظة التي سأفهم من خلالها وبرؤيتي سيارات الجيب التابعة للحلفاء تصعد الى قريتنا الجبلية الصغيرة – أن الحرب قد انتهت تماما، كنت مزروعا بوهم أن في منطقتي يختبيء جيش لن يقبل الهزيمة، وبأننا إذ نلبي نداءه، حتى وان وصلنا متأخرين، سوف نستطيع المشاركة في المعارك.

لكن لم تكن هناك أية مقاومة مسلحة لجنود الاحتلال في اليابان. ويتفق المحافظون اليابانيون على القول بأننا خضعنا على مضض لاستبداد وسيطرة جيش الاحتلال وبأن الدستور الديموقراطي قد فرضه علينا الجنرال "ماك أرثور". لكن ينبغي الا يغيب عن الذاكرة بأنه لم تكن هناك أدنى مقاومة مسلحة أو غير مسلحة. ويجب في الوقت نفسه الا ننسى بأن نصوص الدستور الجديد الأولى التي تصورها حكام البلاد الذين أفلتوا من مصير مجرمي الحرب عادة، كانت غير كافية مقارنة بمباديء الديموقراطية التي صيغت خلال تاريخ الغرب الحديث وكانت أكثر ضعفا وعجزا من النصوص التي افترضها جيش الاحتلال.

ومع أن الراشدين في بلدنا قد شاهدوا بأعينهم خسائر الحرب الفادحة، كمعركة "أوكيناوا" الأرضية والقنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكي، وقصف طوكيو المشهور، لم يقدموا أي تفكير عميق حول الاعوجاج الهائل في تحديث اليابان، ذلك الاعوجاج الذي كان أصل جميع هذه المآسي. ولهذا قبلوا لانعدام الأفضل وبشكل سلبي النص الأول لدستور جديد اقترحه مجلس القيادة العامة. لابد أن أعترف – وليس من دون ارتباك – بأن صيغة "لانعدام الأفضل وبشكل سلبي" قد شكلت خلال خمسين سنة – وان لم يكن ذلك إلا إشارة – قاعدة الدبلوماسية اليابانية بعد استعادة السلطة الوطنية.

غير أن الطفل الذي كنته كان يجهل تماما بأن الراشدين كانوا مجابهين بهذه الخيارات. لقد سحرتني رؤية مخطط الديموقراطية المرتكز على أساس الدستور الجديد، الذي كان دستورنا، وهو يتحقق حتى في قرية محلية صغيرة، وشغفت جدا بالتعاليم التي كانت ترافقه. لأن الطفل الذي كنته، كان أسير استيهام قناة اسمها الديموقراطية تربط قريتنا البعيدة بالمركز الذي كانت طوكيو.

استثناء في عائلتي، التي تمارس، وهي متجذرة منذ قرون في قلب وادي غابة عميقة، فلكلورا خاصا بقناع ثقافي، ذهبت الى العاصمة حيث درست الأدب الفرنسي واخترت الطريق الأدبي الذي هو طريقي الآن. بين الزمن الذي قد سمع فيه طفل صوت الامبراطور الانسان – وكان لعهد قريب إلها – والزمن الذي نشرت أثناءه قصتي الأولى في "جريدة جامعة طوكيو" كان قد انقضى اثنا عشر عاما.

خلال حياتي كروائي، اكتشفت بألم شديد الفظاعات التي ارتكبها الجيش الياباني في آسيا ولاسيما في الصين. أما فيما يتعلق بكوريا فقد انفجرت مشكلة "النساء البغايا" (كان الجنود اليابانيون يتخذون الكوريات بغايا لهم) التي لا تنفصل عن مشكلة العنصرية ضد. الكوريين. ولكي نفهم هذا جيدا، لابد من العودة الى ضم كوريا الى اليابان. إن هذه العلاقة مع آسيا ترتبط وبشكل تركيبي مع سيرورة التحديث الخاصة باليابان.

من جهة أخرى، تعمقت معارفي بالمآسي التي تلت إلقاء القنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكي. لم يكن هذا موضوعا من الماضي – كما أن الأضرار التي لحقت بلدان آسيا ليست من الماضي -بل اتضح تماما أنه يتعلق بالحاضر وبالمستقبل لأن ضحايا الاشعاع الذري كانوا يعانون من اضطرابات تعزى الى الاشعاعية وكانت لها أثار وراثية على الجيل الثاني. أضف الى أنه طلب منا، نحن ضحايا الاشعاع الذري، أن نضفي الشرعية على نظام عالمي تسوده العدالة من خلال توازن قوى الرعب أمام السلاح النووي.

كنت، ولكي استخدم لغتك، فتى جاهلا الى حد ما وتقودني "إرادة النجاة "، ولاسيما إرادة أن أنجو وأعيش في عالم ديمقراطي كان ينبثق لتوه وللمرة الأولى أمامي. فانطلقت في حياتي ككاتب، وسرعان ما وجب علي النهوض بثقل عصرنا كما لو أنه كان قدري الخاص.

عندما استعيد الماضي ناظرا الى الكاتب الشاب الذي كنته، يبدو لي أنه قريب "أوسكار" بطل روايتك "الطبل "، هذا العمل الأدبي الذي أعتبره واحدا من أهم الأعمال الأدبية في النصف الثاني من هذا القرن. فتى عاجز أبدا عن الخروج من براءة الطفولة، مكلوم الجسد والروح الى النهاية تقريبا – ولن تندمل جراحه أبدا – يقتسم المسؤولية مع الذين سببوا جراحه، فتى لن يعرف أبدا ما جدوى كل هذا ولن يفعل شيئا إلا الصراخ..

في بداية حياتي ككاتب – وهي مرحلة تتقاطع مع زمن فتحت أثناءه عيني على المأساة الانسانية لضحايا هيروشيما – أراد القدر أن يكون لي ولد مشلول ذهنيا. بالعيش مع ابني الذي لم يكن في طفولته يتعرف إلا على أصوات العصافير والذي لا يستطيع الآن – وبعد ثلاثين سنة – التواصل مع الأخوين إلا عبر الموسيقى، أعتقد أنني استطعت أن أديم لوقت طويل "أوسكار" الذي في داخلي. صراخه كان أدبي.

عزيزي غونتر غراس، إذا كان لابد من اصطفاء موضوع يوجز وضع بلادي السياسي حاليا، فإن السؤال هو أن نعرف إذا كان البرلمان الياباني – ولتمييز الذكرى الخمسين لنهاية الحرب – سوف يصوت على "قرار سلمي يعني الاقرار بالذنب والاعتذار جهارا فيما يخص الحرب العالمية الثانية والالتزام أمام العالم أجمع بالعدول النهائي عن الحرب.

حكومتنا الآن يقودها، على الورق الحزب الاشتراكي ويدعمه الحزب الليبرالي – الديمقراطي وذلك ضمن توازن قوى خطير وغير مضمون نهائيا. ومع أن فكرة هذا القرار داخل البرلمان جاءت من الحكومة، هناك داخل الأغلبية معارضة حادة.

إن حجج الخصوم، كما تقول الصحف، تقتصر على الخوف من أن يعيق هذا القرار المفاوضات التي ستبدأ قريبا بصدد التعويضات المتعلقة بالجرائم المرتكبة خلال الحرب الأخيرة، ولاسيما قضية "النساء البغايا". لكن، سواء تعلق الأمر بفرد أو بدولة، أليس للإقرار العلني بذاته هدف إقامة ركيزة العدل وربط الذات بها للكشف عن الضعف الذاتي؟

لقد أنكر رسميون، في اليابان وأكثر من مرة جرائم حرب الغزو والعدوان ومنها مجزرة "ناتكين" ثم بعد أن يثيروا عواصف النقد في الأوساط الدولية والمحلية – كانت الأولى هي المسيطرة دوما -يقالون من مناصبهم هؤلاء الذين يسيرون تلى خطي سابقيهم منكرين وقائع الغزو يتصرفون بوضوح واع وبمعرفة. أن أحدا منهم لم يخجل من اقالته ولم يعبر عن توبته بتغيير وجهة نظره عن الحرب. لا يزال أغلبهم يحتفظ بمقعده البرلماني ويتمثل النواة القاسية للانتقاص من القرار والتشنيع به، ولذا اعتقد أنه يصعب الاغتسال من أي شك فيما يتعلق ببقية أسيا.

يشفق بعض كتاب الافتتاحيات على عائلات الجنود الذين ماتوا في المعارك مشيرين الى أنه سوف يشق على هذه العائلات القبول بأن غاية الحرب كانت الغزو والعدوان. وهنا كما أعتقد يكمن جوهر المشكلة. لأن عائلات الجنود الميتين هي أيضا ضحايا حرب الغزو والعدوان. ولابد أن ناسف أيضا لأجل الأصوات الذين كانوا معتدين في هذه الحرب. يتضح هذا أكثر إذا تذكرنا حسب أي نظام دولة أشعلت الحرب العالمية الأخيرة. لكن الا ينبغي علينا – نحن اليابانيين الآخرين – أن نستعيد موتانا من الدولة ؟ أمام ميت موسوم بخاتم الفردية – ولا سيما إذا كان جنديا أجبر على الموت بدور معتد، الا نستطيع أن نشاطره بلواه الحادة المؤلمة ؟ عندها، الا يمكن أن نأمل بمصالحة بين عائلات ضحايا حرب الغزو والعدوان وبين عائلات الجنود الذين ماتوا في المعارك؟

أقامت أرملة دعوى على الدولة لأنها كانت تعتبر ظلما أن يحتفى بزوجها الكاثوليكي المتوفي أثناء الحرب داخل معبد «ياسوكوني» المعبد الكبير التابع لدين "الشنتو" وهو دين الدولة سابقا. وخسرت هذه الأرملة دعواها أمام المحكمة العليا.

لكن احتجاجها لا يزال يدوي في داخلنا إنه صوت امرأة حاولت استعادة موت زوجها الفردي بسلة من بين جموع الجنود الذين سقطوا في المعارك، ذلك الموت الذي لم تكن الدولة تميزه عن غيره. لا أشك بأن كل صوت من هذه الأصوات يرفع اختلاف الأديان، وبأنها تتحد جميعا مع أصوات عائلات الآخرين الذين سقطوا أيضا. آنئذ لا تستطيع حجة المحافظين الذين يرفضون الاعتراف بالحرب العدوانية احتراما لشعور العائلات الى أن تسقط. لأنهم لا يتكلمون الا باسم دولة لا تروق إلا لهم وحدهم.
كينزابرو – أوي

 

 

(كاتب وأستاذ بجامعة طوكيو - اليابان)