الأشكال الجمالية والمعرفية لقصيدة النثر العربية

أيمن تعيلب

في هذه الدراسة النقدية التجريبية لما يسمي بقصيدة النثر، لن أكون متعصبا للأبنية الجمالية والإيقاعية والدلالية الموروثة والسائدة التي كونت الذائقة الأدبية للقصيدة العربية علي مر عصورها، وبالمثل لن أكون متعصبا لتوجهات الحداثة المتمثلة فى الانقطاع الجمالي والمعرفي والإيقاعى الحاد  لدى النقاد الباحثين بخصوص بحثهم عن تأسيس نظام إيقاعى خاص  بقصيدة النثر بعيدا عن النظام الإيقاعى المتوارث للأشكال الشعرية المتعددة والمتغايرة للقصيدة العربية المعاصرة،سواء لدى دعاة إحلال النظام الإيقاعى الغربى للنبر،محل النظام الإيقاعى الكمى التفعيلى العربى،أو دعاة إعادة تأسيس علم العروض العربى وفقا لطبيعة الرؤى الشعرية التجريبية التى أسقطت الحدود بين علوم الموسيقى والعروض واللغة والصوت والمعنى، وبصورة عامة لن نتمكن من رؤية الشعريات العربية التجريبية الوليدة فى غياب فلسفة جمالية للزمان العربى، فلسفة تترك عقلها المعرفى، وذوقها الجمالى، وجهازها النقدي برمته لفلسفة الجمال المحايثة في ذاتها ولذاتها للزمان والوجود وهما أكثر أصالة وصدقا ونزاهة من أي تصورات معرفية منهجية قبلية سابقة على محايثة الوجود الجمالي في ذاته، وبالتالي خلجات الجمال والمعرفة والتخييل التي تعتمل في حناياه وطواياه الخفية والمعلنة والمسشرفة،لن نستطيع ضبط الحدود المتعددة والمتداخلة بين الفنون فى غيبة العقل النظرى العربى الأصيل فى تصور الراهنية الزمنية المحايثة للوجود فى ذاته ولذاته،فثمة علاقات وثقى بين تصور مفاهيم الشعرية وأشكال الفن وتصور مفاهيم الزمان،فقد تكون الشعرية تراتبا شكليا سببيا كلاسيكيا فى تجسم هئية الواقع والزمان والوجود لايمكن تصور مفهوم الهوية والذات والواقع والشكل المعبر عنها فى غيبة تصور زمنى لحركية الوعى فى استيعاب أشكال الوجود،وقد تنهدم قليلا التراتبية السببية الرتيبة لحركة الزمان الكلاسيكى الأبدى والجامد،فندخل فى زمنية ذاتية تضع الزمن الفلكى الدوار فى مقابل الزمن النفسى الخاص فتتولد الشعريات الرومانسية التى تحيل الزمن الفيزيقى لزمنية التخييل الميتافيزيقى،فيتسع الحد الجمالى والمعرفى لشكل الشعر قليلا ليعبر عن الذات الشعرية صاحبة الزمن الروحى والنسبى لتتزاوج الروحية التخييلية مع الديمومة الزمنية والسيلان الزمنى الداخلى مما يقلل من رتابة السببية الكلاسيكية العقلانية ويعمق من لهاب التخييل الذاتى الذى يجعل من الزمنية الرومانيسة انغلالا تخيليا رأسيا فى زمنية الحاضر الخاص فى مواجهة الماضى المنقضى،وعتامة الزمن المستقبلى المجهول،لذا حبب للرومانسيين شكل الليل حيث انطلاق الذات الشعرية  من حدود المكان والزمان فى ظلمة بهيمة قادرة على محو الحدود الفاصلة بين التعقل والتخييل ليصير التخييل نفسه صورة من صور تعقل الواقع والوجود،ويصبح زمن التشكيل الزمانى للنص الرومانسى زمنا ذاتيا تعبيريا تخييليا تنتفى فيه السببية التعاقبية للموضوعية الكلاسيكية، ثم تأتى الزمنية الواقعية لدى شعراء التفعيلة بكافة أشكالها الجمالية والمعرفية،لتضم التصور السببى العلى الخارجى لزمنية التشكيل الكلاسيكى إلى جوارالتصور الزمنى الذاتى التخييلى الداخلى للرومانسية لتضع هذا الفاصل التشكيلى الحاسم بين زمنية الواقع وزمنية التشكيل الجمالى الخاص للواقع فى صورة جدليات تشكيلية بنيوية جدلية تعددية داخلية وخارجية معا وفى آن واحد، وهنا تنتفى العلاقات التراتبية التعاقبية الكلاسيكية والعلاقات النفسية الداخلية الرومانسية بين الدال والمدلول فى التشكيل الشعرى التفعيلى لتحل محلها علاقات زمنية تداخلية جدلية يستقطب فيها الدال المدلول فى أعماقه التشكيلية الزمانية الجدلية ليعيد تشكيل زمنيته الجمالية المستقلة والمناوئة للواقع والذات والتاريخ،ليقع التشكيل الجمالى على الدال فى ذاته ولذاته،حيث ينفصل الفنان الذى يخلق عن الفن الذى يستقل،فى موازاة تشكيلية جدلية مع الأنساق السياسية والاجتماعية والثقافية التى تحدد مفاهيم الواقع والذات والتاريخ والزمن والثقافة والحضارة عبر بنية ترميزية عامة تكون شروط الحقيقة ،وحدود حركة الذات تجاهها،وعند هذا الحد دخلت الشعريات العربية المعاصرة محاق الأزمة المعرفية والجمالية فى تصور  مفهوم الزمن فى الواقع العربى المعاصر،فهى تسلم بالذاكرة الزمنية العربية العامة فى تصور أفكار تجريدية كبرى  تسوق وتبنى أشكال والواقع، والذات، الثقافة، والاجتماع، والتاريخ،والسياسة،والحضارة برمتها،فى صورة من صور الاحتواء الثقافى الترميزى العام الذى هو فيما تتصور قصيدة النثر دمار ثقافى عام،وهنا فى هذا المحك ـ لاغيره ـ تقع الأهمية التشكيلية والمعرفية والثقافية البالغة لقصيدة النثر  لتضع تصورا مغايرا حقا للزمنية العربية المعاصرة،حيث تؤسس وعيا ولاوعيا ثقافيا عربيا جديدا للخيال والإيقاع والتركيب والبناء تناوىء بها ذاكرة التجريد الواقعى السياسى المتسلط،وتكتب النسيان بوصفه حضورا عربيا ممنوعا،أوقل تكتب الحضور اللحظى الظلى بوصفه نسيانا متكررا ومتحولا أبدا عبر كثافة زمنية معقدة من التفكيك والتشظى والتوازى والتضاد والتنافر وتأسيس تشكيلات القبح والرعب والتهويمات المجازية الظلية،والاسترسال الحر للتخييل القائم على المفارقة والغرائبية المادية النابعة من رحم الوجود لارحم الثقافة،وتكسير بل تفتيت الزمن وتجميده ونفيه بما ينفى جلجلة الإيقاع،ويستدعى الخفوت الإيقاعى المنسى للروح الوحيدة والواقع الغائب،والثقافة المكبوحة،والوعى الدفين تحت طبقات اللاوعى الثقافى لا النفسى بالمعنى الفرويدى الغليظ،الموازى لوعى ولاوعى السلطة الرمزية العامة،وكأن قصيدة النثر تكتب هنا اللاوعى الجمالى والإيقاعى والسياسى والثقافى اللامرئى للذات والواقع والحضارة العربية الغائبة والمجهولة والصامتة،فلا يتتابع الزمان ولايتراكم بل يتكسر وينبهم ويتكسر معه الإيقاع المنتظم المجلجل والزائف الذى يحرق هذه المسافات التخييلية والروحية والمعرفية اللازمنية واللاموضوعية التى تترسب فى القيعان السحيقة الغائبة فى الذات والواقع، وتحاول السلطة الشعرية واللغوية والنقدية والسياسية إدخالها عبر النسق الإيقاعى والثقافى الموضوعى العام، حيث تعى قصيدة النثر العربية فى مصر أن لاشىء يكتب انكسار الروح غير انكسارها نفسه،ولا لغة قادرة على احتواء الكثافة اللازمنية الباهظة التى تثقل الخيال والذات والشعر غير مجاز البياض الوجودى،ومجازات الصمت والعراء،أو قل :مجازات الظلال العابرة التى لا تستكين لشمس السلطة الكلية المشعة فى كل اتجاه والماحية لثقوب الروح والوطن،ومغيبات الثقافة، وصوامت التخييل،ولاوعى الروح، تحيث تختزل السلطات العامة السياسية والجمالية معا، الأزمنة والتواريخ والأمكنة العربية لترمى بها جميعا فى غياهب المنطق، وهيمنات التيه، وتقحمات السحق،وتنظيمات القمع،وهنا تعلن قصيدة النثر العربية فى مصر عبر هذه الجماليات التجريبية الخصيبة غياب منطق العلية السببية والتداخلية والجدلية للنص كما عهدناها فى النص التفعيلى، وانتفاء مبدأ النمو لعضوى لقصيدة النثر بالمعنى الفرنسى كما تصوره أدونيس والخال والحاج وشاؤؤل ومعظم نقاد قصيدة النثر،فتعلن قصيدة النثر العربية سقوط قانون الإيهام بالواقع بكل صور الفهم والربط والتفسير والوعى، وتعالى منطق التفكيك والارتباك والفوضى  فثمة انعدام وصمت وخفوت فى كل شىء،وثمة اهتزاز مزلزل للمنظومات القيمية والجمالية والمعرفية،وانهيار عربى عام للثوابت الأيديولوجية،ومحو تام للأبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العربية،والت تدشنت طويلا تحت مسميات ديمقراطية وهمية رأينا بعيوننا لابخيالنا زلازلها السياسية العربية المدمرة فى الحرب الأخيرة على العراق وغزة،وكأن قدر الإنسان العربى أن يكون مجرد شاهد ظل عابر على مراسم دفنه ونبذه، بعد أن انزوى  هذا الإنسان العربى وتلاشت قدرته على الوعى والفعل معا،وتحول إلى هامش وجود زائد عن الحاجة فى نظر السلطات العربية المعاصرة:سلطة اللغة والنقد والنظرية والدولة والمؤسسات السلطوية العامة،ومن هنا ـ هنا بالمعنى الزمنى الباهظ بالضبط ـ تنبع جماليات تجريبية جديدة فى قصيدة النثر العربية فى مصر والوطن العربى كله،جماليات للرعب والفوضى والتشذر والغموض والشك واللايقين واللاتحدد والفوضى والمنطق الجمالى البينى الغائم واللامرئى لتقرأ المساحات الظلية، والفجوات المعرفية، والثغرات التشكيلية الغائبة فى لاوعى الواقع والثقافة والذات العربية المعاصرة،فتعلى من منطق انبناء الغموض ضد منطق رسوخ البداهة وتسيد الوضوح،ومن ذاكرة الظل الجمالى العابر والدفين ضد منطق أنساق السطوع الحارق للسلطة الثقافية والترميزية العامة المجلجة،ومن منطق البطولة الشخصية المجروحة المغلوبة على أمرها فى نظر السلطة ضد منطق البطولات التاريخية الخداعة التى تشبه بسلطة الرمز على الواقع المباشر وتلبس عليه، نافية واقعيته الحسية اليومية الحية لصالح قهرها الجمالى والمعرفى العام،وكأن السلطة تعيد تدوير إيقاعات النفس العربية الخفية المحايثة لوجودها المباشر لصالح إيقاع رسمى عام هو إيقاع سلطة الثقافة والنقد والنظرية والشعر الشفاهى الصاخب المجلجل،حيث تقترح قصيدة النثر اللعب الحر للخيال لتكتب مجاز ((العراء الوجودى)) فى مقابل مجاز ((الاحتواء الثقافى والسياسى والجمالى الرسمى))،وتؤسس ((مجاز المحو الدلالى والبنائى)) فى ضد ((مجاز الصحو الثقافى السلطوى))،حيث تمارس  قصيدة النثر هذا اللعب الحر لأشكال الكتابة ضد أنساق الثقافة لا لتمحو المستقرات والثوابت السياسية والاجتماعية والحضارية والجمالية ـ كما يتهما أعداؤها من أجهزة الثقافة الرسمية نظرا لضآلة رأسمالهم الجمالى والمعرفى تجاه مايحدث فى الوطن ـ ولكن لتزحزحها عن إفكها الجمالى التجريدى،وتلفيقها التشكيلى المؤدلج للخيال والروح والواقع والتاريخ،فهى تبادر بطرح الأسئلة الحسية الحية للذات الهامشية بوصفها مولدة للتباين والاختلاف لا بوصفها هامشية منزوية هشة،فالهامش هنا لايقف هزيلا ضد المركز المتسلط كما شاع وهما حتى لدى أنصار قصيدة النثر، بل يقف التخييل الهامشى قوة جمالية ومعرفية تقويضية رصينة داخل جسدية المركز نفسه ضد مبدأ ثبات الهوية والوعى والذاكرة واللغة حتى لاتدخرها السلطة السياسية العامة داخل ادخار اقتصادى رمزى ضيق،فتصير قصيدة النثر المتهمة بتقويض الهوية دوما هى القادرة حقا على استعادة هذه الهوية وكأنها غفران روح يوسف فى مقابل ذئبية ثقافة إخوته،تستعيد قصيدة النثرـ عبر مجازات العراء والمحو والبياض وإيقاعات الخفوت البانى الأصيل ـ  هوية الواقع العربى التى كلستها مجردات السلطات الجمالية والثقافية العامة،إن خيال الهامش هو خيال الاختلاف، خيال الأرازل الذين يتبعون النبوات التخييلية الصادقة غير المرئية لعيون السلطات العامة،وعندما توسع قصيدة النثر من مفهوم الراهنية الزمنية بما ينفى السببية التراتبية  ـ الواقعية والجدلية والبنيوية ـ بين الدال والمدلول، وبما ينفى مجاز التجسيد التجريدى لمطلق للواقع والثقافة،وبما ينفى التدشين التربوى السياسى للذائقة العامة الاستهلاكية،عندئذ تكتب قصيدة النثر شعرية الذات العربية حقا مستبدلة شروط واقعية الواقع بشروط واقعية الكتابة،وشروط تجسيدية المجرد العربى المطلق لصالح شروط لامتناهى التخييل العربى الممكن فى كتابة الصمت والنسيان والعبور،وهدم قانون التكريس الجمالى العام والارتهان التسلطى لفكرة النموذج التفعيلى الواحد الذى ينمو ويتكاثر وهميا وخداعا عبر تنويعات تشكيلية كثيرة لكن داخل أطره الجمالية المجردة لاخارجها على الإطلاق،أشبه بالركض فى مكان مغلق،أو امتطاء فرس من خشب،حيث تتغلب الحتمية الأدبية بالمعنى البيولوجى داخل النعو التفعيلى التشكيلى الواحد فلا ينمو الجنس الجمالى بالتراحب والتعدد فى الهواء الوجودى الطلق،بل ينمو نموا سرطانيا غير معافى داخل حدوده  الجمالية المعهودة والتى تحرسها السلطات الملكية العامة للنقاد والشعراء الرسميين الكبار،يبدو أن الشعر العربى لايتخلى بسهولة عن دور التكسب بالشعر والثقافة، والاستغراق الذاتى المتضخم فى جماليات المديح وإشاعة فكرة الذكورة السلطوية البطراركية العربية،حيث إنشائية اللغة لا تخلق الوجود، والتجديد بتهزيج الكلم والإيقاع لا التحديث بكتابة الوعى، فلا تستمد قيمة الوجود من فحواه فى ذاته بل تستمد من فكر الحواشى والمتون أى من طرق تحصيل الوجود لا من الوجود فى ذاته،من طرق تحصيل النظريات والأفكار والأنساق لا من قدرة الإصاخة لقوة الواقع اللامرئى الدفين، لقد انشغل معظم نقادنا ومبدعينا بقوة الثقافة لاقوة الوجود،وأحسنوا الظن بالأفكار لا بالواقع،وأقاموا سدودا كثافا بين الواقع ونفسه،والزمن وحركيته الباذخة الكثيفة،حتى لتعجب كل العجب لهؤلاء النقاد والشعراء الشيوخ فى مصر الذين يحيون زمنية ديكارتية ونيوتنية بالمعنى الفلسفى الصلب للزمنية المادية المتصلبة لنيوتن ولقوة فلسفة الوضوح والبداهة الديكارتية،ويظنون أنه لازالوا قادرين على ضخ الشباب الجمالى والتشكيلى،كيف وقوة أنساق الثقافة، ورتابة النظريات المجردات، هى التى تصنع خيالهم وشعرهم، بعيدا عن  راهنية اللحظة الجمالية المعاصرة؟!،بعد أن تغيرت فلسفات العلم وتصورات المناهج،وبعد أن تم إعادة النظر المعرفى والمنهجى والفلسفى والمنطقى فى كل شىء الآن،بما يجعل ثقافة العلم المعاصرة ثقافة الأسئلة تلو الأسئلة،وليس ثقافة الاستفسار والتوريث،بما يخرج العلم نفسه من الاستنساخ والتكرار،إلى التقحم المستقبلى الافتراضى،فلم تعد القضية فى العلم المعاصر قضية المنهج بل قضية سياسة المنهج،ولم يعد العلم المعاصر مشغولا بتدشين الحقيقة المجردة المطلقة بل مشغولا بالخطابات الثقافية والسياسية التى تصنع الحقيقة،فلم تعد الحقيقة حججا تراثية أو حتى معاصرة بل صارت ((ما يتولد عن الخطابات من مفعولات الحقيقة،ولم يعد تعيين النموذج هو الذى يصنع الحقائق بل نحن ننشد اقتصاد سياسى لها للوقوف على الكيفية التى يدبر بها أمر الحقيقة فى المجتمع،ولم يعد هناك تقابل بين العقل والخيال  بعد أن صار الخيالى خضعا لمنطق لايقل إحكاما عن منطق العقل التقليدى،وربما كان هذا أهم ما أثبتته دراسات السيميولوجيا فى شتى المجالات تلك الدراسات التى حاولت رصد((منطق الخيالى)) معيدة الاعتبار للميتوس إلى جانب اللوغوس))(1)

وبهذه الصورة تكتب قصيدة النثر سياسات التشكيل الجمالى اللاواعى للحقيقة السياسية المدبرة،وتحل منطق الحركة محل منطق الشيوع الثابت،ومنطق الوجود محل منطق الثقافة،ومنطق تشكيل الخفاء،محل منطق التلوث الدلالى العام،للإمساك بالمدهش والصادم والعابر والغريب والصامت المركوم فى هلامه اليومى الحسى العارى:يقول سمير درويش:

تتحرك بخفة

بقعة ضوء فى إطار من الماس

ترسم بأناملها الدقيقة خريطة الحلم

وتتضىء شموسا

دمها الذى يحتبس فى وجنتيها

يحمل لقارىء ملامحها معنى ما بسيطا وآسرا

هى الموج الذى تدغدغه الرياح

الندى الذى يبلله الصباح

وزورق/

وهنا يكتب الشعر كما قلنا آنفا ((خيال العراء)) فى قصيدة النثر فى مواجهة ((خيال الاحتواء)) فى الشعر التفعيلى،أو قل يكتب النص هنا ((خيال العبور الظلى)) النشط واللامرئى فى مواجهة الأخيلة الجمالية المركزية الكبرى التى تكتب عن الماس معلقا فى آذان السلطة مثلا،أو الماس بوصفه رمزا لشى عام،أو حتى الماس بوصفه بناءا جماليا داخليا مستقلا،أى الماس بوصفه بناءا وليس بوصفه عبورا ،لكنها فى كل الأحوال لا تكتب عن قطرة الماس المنبوذة فى ذاتها ولذاتها والتى فككت فكرة الحضور الكلى للماس لتراه خاصية تقطع إشعاعى متموج  وهو الموازى الجمالى اللاواعى لخاصية التكسر الزمنى، والحلول فى الحركية الوجودية الكثيفة المتقطعة للزمن الحاضر، ليكون الزمن خطا ملتبسا مكثفا، وليس نقط مركزية واضحة،نسيانا حاضرا وليس حضورا منسيا متسلطا،اختلافا  تعدديا مرهفا وليس تطابقا أحاديا غليظا مناوئا ـ وهنا ترجع قصيدة النثر باللغوى والتركيبى والإيقاعى والمجازى إلى درجة الصفر الجمالى لتنبع من درجة الكثافة اليومية الحسية المجهولة،ثمة حمولات مجازية وسياسية ترميزية تجريدية تنخر فى جسدية الحاضر الثقافى العربى تمنعه من وجوده الحى المباشر،وتؤجل حياة الكائنين فيه،خانقة إيقاعهم الحسى اليومى المعيش لصالح طنطنات إيقاعية كلية مجردة تنتظم الذات فتبتلعها فى صخبها الإيديولوجى المعتم،لكن الشعر إذ يتأمل الخفة المطلقة فى بقعة الضوء يستنفر الإيقاعات الجسية الباذخة النائمة فى تفاصيلها الصامتة المجهولة،فيرتفع النص بها إلى قمم إيقاعية خفيتة غير معلنة أيا كانت درجة توترها وتواترها وانتظامها وانقطاعها على مستوى الدلالات والمعانى والتراكيب والأصوات والتكرار والتعاقب والانقطاع والتاربط والترادف والتوازى والتشاكل،فلا يهم التأطير المسبق للتجربة قدر مايهم المحايثة الفعلية الحسية الأصيلة لها والقادرة دوما على استقطاب موسيقاها الإيقاعية الخاصة بها بعيدا عن توجيه آلا ت انتظام الموسيقى الحاد المسبق،والتى تشرح الفراشات بسكاكين البصل،تأتى قصيدة النثر السابقة لسمير درويش لتكتب لحظة ذاكرة الصيرورة الخفية الكامنة فى رحم التفاصيل اللامتناهية لحياتنا اليومية،فتثقب الجلد الرمزى واللغوى السميك لجسد الواقع وجسد الهوية وجسد الوعى، فينفجر النسيج اللغوى والجمالى والمعرفى والروحى للإحالات الحسية اللامتناهية، و الأصداء الظلية المتوالدة بعيدا عن ذكورية اللغة، وبطراركية المجاز، وتسلطية الأنساق الثقافية الكبرى،ومن هنا لاتكون قصيدة النثر وسيلة تعبير كما فى القصيدة الرومانسية والكلاسيكية العمودية،أو حتى وسيلة بناء وتكوين كما فى القصيدة التفعيلية الموزونة، بل تصير صيرورة إنتاج للقاع الصخرى السحيق للحياة والواقع،ومجاز  حسى حفرى للتنقيب عن المنسى والمنبوذ، وهنا تكتب قصيدة النثر السيرة الذاتية الجمالية الخاصة بهذا الكائن اللامرئى المنبوذ فى حسيته الصامتة أقصد ((قطرة الماس)) فى النص السابق فبقعة الضوء الصغيرة العابرة تتحرك بخفة وجودية مذهلة وهى قادرة فعلا على تفكيك كل تماسك ثقافى منسجم، ومن ثمة فنص سمير درويش يحرك الثبات النسقى الأيديولوجى العام فيحوله إلى حركة هوائية متصلة ،وترجرج ضوئى متصل، ليكون أى إنجاز رمزى  سياسى جمالى عام هو إمكان رمزى  ضمن إمكانات تصورية أخرى كمينة وليس خلودا رمزيا وسياسيا مهيمنا طوال الوقت،وربما تكون الإمكانات المجازية الظلية العابرة التى تؤسسها قصيدة النثر أكثر أصالة من الإمكانات الكبرى المسيطرة لأن حقائق الواقع فى ذاته ولذاته توجد بقوة الوجود لا بقوة الثقافة، ولاتمحى أبدا بقوة الإخفاء الأيديولوجى والجمالى لها،حيث تظل تعمل قصيدة النثر بوصفها السوسة الجمالية والمعرفية والثقافية غير المرئية التى تخر الاحتمالات اللانهائية الكامنة فى جسد الثقافة العربية الدفينة وهذه السوسة المجازية غير المرئية قادرة دوما على نخر منسأة سلطة الملك،بما ينقذ الذات العربية والتاريخ العربى الراهن من حصره الموحش داخل زمنية السلطة لتستبقيهما داخل زمنية الوجود نفسه بما يجعل الذات الجمالية الظلية مولد جمالى حركى نشط لايعين الحضور الفعلى اللحظى اليومى بوصفه تعينا سلطويا بل بوصفه أثرا تشكيليا ومعرفيا يباعد دوما بين الواقع وبين نفسه، وبين التاريخ وبين مغيباته، وبين والهوية الحضارية والجمالية وبين سرقة السياسيين لها، وتأفيك النقاد والمبدعين الكبار الرسميين عليها،وهنا تكمن القوة الجمالية التجريبية حقا لقصيدة النثر التى استطاعت أن تنخر داخل الامتلاء الثقافى الميتافيزيقى الأيديولوجى العربى لتبين بصورة جمالية جارحة وصادمة أنه امتلاء وهمى فارغ أدى إلى مانحن فيه الان على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعالمية،وانظر كيف تجسد قصيدة النثر ذلك لدى الشاعر محمود قرنى فى نصه البديع:

((باليه))

ريم التى تنخرط فى الرقص

كلما تناهت إلى سمعها

أصوات الموسيقى

تكبر يوما بعد يوم

تكبر دون حارس ودون تميمة زرقاء

هذه القصيرة قرب الأرض

تحتاط من كل شىء

ولاتترك لقبلة أبويها فرصة الحنين

أمها وضعت إصبعا أسفل ذقنها وقالت:

ستذهبين إلى مدرسة الباليه

ريم قصيرة قرب الأرض

ستصبح يوما فراشة بسروال قصير أبيض

وأغطية رمزية جدا

ويقبض فتى بيده اليسرى على باطن فخذها

يشبك يده اليمنى بوردة حمراء فى ميلها اقاسى

بينما تصنع بجسدها نصف دائرة

ثم تقفز فى بياضها كالملاك

على مايبدو كانت ريم نفسها بطة أبسن البرية

أو على الأقل الوردة الحمراء العالقة بمعطف جوجول

فقط ثمة انشغالات تعوق ذهن جدتها الجالسة على الموكيت الأزرق

فى ردهة شبه واسعة تريد ان تعرف ما الذى تفعله حفيدتها

أما أبوها فلم يكن هناك

كانت لديه انشغالات لتخليص إرثه من أفواه الشياطين

تتجاوز تصور القصيدة التفعيلية الموزونة التى ترى الزمنية العربية المعاصرة رؤية كلية تجريدية كابحة،فإذا كانت الزمنية التفعيلية زمنية جدلية بين الماضى والحاضر والمستقبل كما تصور مبدعيها ونقادها معا ـ وهذا ماحدث بالفعل ـ سواء فى صورتها النقدية والجدلية والبنيوية الداخلية والتركيبية معا. فقصيدة النثر تؤسس منهجية جمالية تجريبية تنتفى معها السببية المنطقية البنائية فى بنية النصوص ودورانها حول مفهوم الحدود الفنية،ومفاهيم الوحدة العضوية والبنائية،أو حتى العضوية الدرامية السيمفونية أو البولوفينية، لتحل محلها السببية البنائية الدورية التى ترى السبب والنتيجة متداخلين متجادلين وحادثتين فى وقت واحد وفى مكان واحد، بما ينفى ثنائيتهما ويؤكد ازدواجيتهما بل تداخلهما معا وفى وقت واحد، وينفى فكرة التسلسل المنطقى بينهما،بما يفكك مبدأ الهويات الجمالية المركزية إلى سمات جمالية ومعرفية تحتويها سلمات جمالية تدرجية تعددية احتوائية، لينبع مفهوم الحد الجمالى من تغليب نسبة السمة الجمالية على السمة الجمالية الأخرى، ولعل هذا يجرنا جرا إلى تصور الشعرية شعريات، بوصفها إمكانا جماليا تعدديا مفتوحا أكثر منها إنجازا شعريا متحققا، وأتصور أنه من الأفضل لنا ، ومن الأجدى علينا أن نعرف بداهة أن المناهج ليست الظواهر ، والمعارف ليست الوقائع ، والإجراءات ليست النصوص،فلم تعد القضايا بدهية بسيطة  كما تصور ديكارت مثلا بل صار  المنطق الاستدلالى التجريبى المؤقت، بديلا عن المنطق الحدسى الديكارتى،وصار العلم والمنهج سياسات للعلم والمنهج حيث تستولد الحقيقة من أدلجة الخطابات لاسلسلة الحجج والبراهين،فالبرهان لايكون برهانا فى ذاته بقدر يبنى حدود برهنته من الظروف الرمزية والاجتناعية والأيديولوجية التى تجعل من البرهان برهنا أو التى تخلق وتحدد شروط الحقيقة وحدودها بالقياس إلى ماتراه هرطقة وخروجا ومروقا،وبهذه المثابة المنهجية التجريبية الجديدة لايمثل الجهاز الثقافي الجمالي برمته الوجود الجمالي في ذاته،أوقل لايساوى المنهج والجمال الشعر،ذلك المخلوق الأخطبوطى العصى على التأطير والذى يثوى هناك في الصمت والغياب والمجهول واللامرئى عبر ديمومات زمنية كلية تعددية تداخلية بين حاضر الماضى وحاضر الحاضر وحاضر المستقبل،حيث تغدو خاصية الانفصال الجمالى نابعة من داخل خاصية الاتصال الجمالى نفسه،فلا يكون الانفصال فجوة بين متصلى الحاضر والماضى بل تغدو فجوات ضمن متصل الحاضر الذى لاحضر أبدا بما يفكك فكرة الحضور الزمنى الجمالى والمعرفى،بماهو كثافة وجودية خصيبة تتداعى للمعرفى والمنهجى والتجريبى والاستشرافى والمستحيل فى وقت واحد،وربما يدفعنا هذا إلى تأسيس (( مجازات الظل)) فى قصيدة النثر، ومجازات الظلال هنا تعيدنا إلى تكوثر دلالات الوجود الفعلى والحلمي والتجريبى، فإذا كانت الشمس الجمالية والمعرفية تنسخ الأشياء والأحياء والموجودات بظلها، لأن الظل كما يقول لسان العرب ((" الظل في الحقيقة إنما هو ضوء شعاع الشمس دون الشعاع " وبهذا المعنى فإن وجود الأشياء لا يمحى بالظل بل يتكاثر ويتغير ويتحول ويتكوثر، إن الوجود يظل مشعا وغامضا في مجازات الظل، فلا يمكن أن يوجد بصورة محددة، ولا يمكن أن يتلاشى بصورة مطلقة، إنه الوجود الاستعاري على سبيل الحقيقة لا المجاز، يقول ابن عربي ( بالظلالات عمرت الأماكن )، فمجاز الظلال يحول الأحلام إلى واقع فعلي طافر باتجاه المستحيل كما يحول الواقع الفعلي إلى إمكان واقعي ضمن ممكنات واقعية أخرى كثيرة "(( فالظل شخص الكلمة، إذ هو قوامها الذي به تكون ومستورها الذي يحمل وحي معانيها، ولونها الذي تعرف به، وهذا ما يوجزه تعريف الظل في المعجم العربي "(( الظل من كل شئ شخصه وكنهه، ومن النهار لونه إذا غلبته الشمس، هكذا يمكننا أن نعرف ظل المعنى، بأنه عمران الكلمة، وموضع سكنها المتجدد، والمسافة المتناسخة بين طلوع معنى وزوال معنى، وهو ما تعلم به الكلمات في خفاء، وتلقي به إلينا وتكتبه فينا، وتموت الكلمة متى ضحا ظلها ))" و " تموت الكلمة وتفقد قدرتها على الحياة والإنسان إذا ضحا ظلها، أي إذا صارت شمسا، لا تخفى لتعلم، ولا تستر لتكشف، ولا تومئ فتلقى، ولا تضمر فتستفهم ولا تتعدد ظلالها فتعمر ))(2).ووفقا لهذا التصور لمجازات الظل لا بد أن يحدث تفكيك كلي للمفاهيم والأنساق والتصورات والمناهج النقدية،وكافة صور العلاقات الثقافية المحيطة بنا،والتى تدشن وعينا ولاوعينا فى النظر للوجود والثقافة والنصوص، فإذا كانت شمس البنية الرمزية العامة المحيطة بنا قد أسست ورسخت طبيعة الأشياء من حولنا،وجعلت من حضور الذات والمعنى والقصد والهوية والماهية والتاريخ والانفصال بين مفهوم الخارج والداخل وترسيخ مفهوم الحد العلمى الصارم ـ جعلت من كل هذا الحضور المعرفى والجمالى حضورا كليا ملزما للتفكير وللمناهج وطرائق الوعى،فإن مجازات لظل تعيد تأسيس الهامش ليس بوصفه مضادا للمركز بل بوصفه بنية اختلاف تبنى نفسها داخل المركز الجمالى ذاته بما يجعل المركز ضد ذاته باستمرار،وأتصور أن البلاغات والشعريات التجريبية الوليدة فى خطاباتنا الجمالية المعاصرة والمستقبلية سوف تنحاز لبلاغة الهامش ومجازات لظل،،ولنا أن نتساءل هنا فنقول :هل من الممكن أن نبحث لما يسمى بقصيدة النثر عن مسمى جمالى ومعرفى خاص بها بعيدا عن فكرة الهيمنة الشعرية،أو الذكرة الشعرية المدمرة للمصطلح،أوبعيدا عن الحصار التصنيفى الشعرى الذى يؤطر وعينا ولاوعينا الجمالى فى رؤية الوجود والواقع والجمال والثقافة برمتها؟! وفى هذه الدراسة سنحاول الإمساك المعرفى والمنهجى بهذا اللون الجمالى الجديد والفريد الذى ظلمناه كثيرا أقصد (قصيدة النثر) أو ما احب أن أطلق عليه((النص الحر)) رغبة فى تأسيس جنسه الجمالى النوعى الجديد بعيدا عن فكرة المقايسة التى غلبت على العقل الجمالى والمعرفى والدينى والفلسفى العربى المشغول دوما بمنطق قياس الشاهد على الغائب، ومن ثمة فقد اخترنا منذ بداية هذه الدراسة ان نكون مخلصين لروح الفن والوجود فى ذاته بعيدا عن أى تصورات جمالية ومنهجية مسبقة،فان لازلت اتصور بان هذا الجنس الجمالى الجديد يحتاج أكثر من أى وقت مضى إلى صوغ مصطلحه الخاص به بعيدا عن ضيق الأفق المنهجى فى  قياسه إلى الشعر فقط أو النثر فقط،أو حتى الجمع الحدى التلفيقى بينهما.ومن ثمة ستكون منهجيتنا منهجية جمالية وجودية قبل معرفية تنخرط فى الوصف الجمالى التجريبى الحى للأشكال الجمالية اللامتناهية للواقع والعالم،حتى نخرج من نفق الثنائيات الجمالية والمعرفية العربية  والتى ظلت تراوح فى نفق المعيارية الجمالية والمعرفية في ذات الموقع النقدي العربي الذي لا زال محتدما منذ أكثر من خمسين عاما حول ما سمي بقصيدة النثر أو ما نحب أن نطلق نحن عليه هنا على طوال هذه الدراسة ((النص الحر))،  فقد أطلق على قصيدة النثر كثير من المصطلحات  التى تؤكد هذا النفق الجمالى المعتم  فقد حصرها جل الباحثين فى هذه المصطلحات((الشعر المنثور – النثر الفني – النثر الغنائي – الخاطرة الشعرة – الكتابة الخاطرانية -  النثر المركز –الكتابة الحرة – قصيدة النثر – القصيدة الحرة – شذرات شعرية – الكتابة خارج الوزن – القصيدة خارج التفعيلة – النص المفتوح – الشعر بالنثر – النثر بالشعر – قطع فنية ــ الكتابة الخنثى – النثيرة – العصيدة – القول الشعري – النثر الشعري – قصيدة الكتلة ومن المصطلحات التي أدرجت أيضا في خانة الشعر المنثور:((قصة منثورة- الياقوت المنثور- الموضة الجديدة- قصيدة قصصية- الشعر المرسل- النثر الفني- مجمع البحور- النظم المرسل المنطلق- البيت المنثور- قصيدة نثر- النثر المشعور-الشعر العصري- الشعر الحر- الشعر الطليق- الشعر المطلق- النثر الموقع- نظم مرسل حر- القصيدة المنثورة- الشعر الجديد- الشعر المنطلق- الشعر الحر الطليق))،وبعيدا عن هذا الارتباك الجمالى والخلط المعرفى والنقدى يجب أن نقر هنا بأن الواقع العربى المعاصر يعانى أفقا مسدودا فى كل شىء،وقصيدة النثر هى المجلى الجمالى والمعرفى المعاصر لسريالية الواقع،والعقل والثقافة العربية برمتها،حيث ينفجر لاوعى الثقافة والواقع والذات والتاريخ، دون حدود أو شروط،حيث تغيب الحرية والديمقراطية والعدل والمساواة،وانحباس الأفق العربى فى ذكورية تسلطية جماعية مدمرة،وانغلاق باب الأمل فى كل شىء،فلا يبين فى الأفق العربى إلا الهلام والعبث والفوضى البنيوية الشاملة،ثمة انعدام وزن فى كل شىء:الواقع والسياسة والاجتماع والحضارة والفكر والمستقبل،غموض فى الرؤية، وذهول فى التصور،وتفكك قيمى وثقافى،وتبعثر حضارى غير مسبوق فى الثقافة العربية،وفى هذا الأفق الثقافى المسدود تخلقت جماليات قصيدة النثر حيث فقدت أى تقدير لأى صورة من صور الماهيات السابقة عليها جماليا ومعرفيا ومنطقيا وثقافيا وقيميا،فبدأت تؤسس وجودها فى ذاته ولذاته حيث يسبق الوجود الماهية،أوقل يبنى الوجود التجريبى الماهية التشكيلية بوصفها حركة لامتناهية وإمكانا منفتحا لايقر له قرار،لاشىء يخرج من شىء ولاشىء يتصل بشىء،ولاشىء ينتظر شيئا ممكنا،تنغل قصيدة النثر فى انتثار الوجود العربى ونثريته بعد أن فقد وزنه وقوامه وانسجامه، فتفكر فى الفجوات والصوامت،والغائبات المقصيات،والفاضح الصادم،وتجسيد كل زلات الوعى واللاوعى،فى تزلق دلالى جمالى لاينتهى،فليس ثمة من دلالة او معنى أوقصد بل ثمة حفر جمالى ومعرفى جنونى فى الجذور النسقية والفكرية والدلالية اللاوعية للعقل الثقافى العربى والتى أوصلت الواقع العربى إلى ماصار إليه،وقد تبدو قصيدة النثر إحدى العلامات الإبداعية الجسورة  التى وضعت الشكل الجمالى نفسه فوق فوهة الجرح الجمالى والمعرفى والثقافى العربى الحداثى ليتفجر الواقع فى بنية شكلها أمشاجا ومسوخا وفوضى، وما يهمنا من جميع الاجتهادات النقدية العربية السابقة  ـ علينا ـ التى بحثت قصيدة النثر هو الاحتراز من إغفالهم جميعا بصورة من الصور القيمة البلاغية والمجازية  والإيقاعية والبنائية لبنية قصيدة النثر،((وبصرف النظر عن عدم موافقتنا لهذا المصطلح منذ البداية ونفضل تسمية هذا النص منذ البداية بالنص الحر)) فجميعهم كان ينظر للظاهرة الإبداعية أو مفهوم النصوصية او الأدبية أو الشعرية أو السردية حال تمزقها واختزالها بعيدا عن سياق المنجز الإبداعى نفسه،وآثر معالجة قصيدة النثر بالقياس إلى جماليات الشعر،أو بالقياس إلى جماليات النثر،أو بالقياس إلى تداخل الشعرى بالنثرى بعد أن انخفضت السقوف الجمالية والمعرفية بين الفنون، ومعظم النقاد السابقين لم ينظروا لبنية قصيدة النثر بوصفها مجالا مجازيا تأسيسيا جديدا مثله مثل بنية الشعر والنثر والقصة والمسرح والابيجرام وغيرها من الفنون ،فلم يتم النظر لمفهوم المجازات الجديدة بصفة عامة بعيدا عن تصورات النظرية النقدية وممارساتها التنظيرية الاعتسافية على النص الجمالى،ولانريد هنا ان نتعرض لتاريخ النظريات النقدية العربية التى أسست لهذه الرؤية النقدية الثنائية الحادة المجحفة التى طمست البلاغات الأخرى اللامتناهية الخاصة بأنساق  نوعية متعددة ومن بينها قصيدة النثر!!،ولعل ذلك يفسر لنا من بعض الوجوه: لماذ غاب الحوار النقدى المنهجى بين مختلف التصورات الجمالية والأجيال الشعرية المعاصرة لتستولد الشعريات والسرديات الخلاقة مناهجها وتصوراتها المعرفية من داخل بناءاتها الجمالية الخاصة بها بعيدا عن سطوة القصور المنهجى والتقصير النقدى وغياب العقل النظرى العربى الأصيل؟!، كما يفسر لنا أيضا: لماذا لم تستولد الأبنية النصية من داخل حدودها الإبداعية والتاريخية الخاصة بها!!لكن تم النظر النقدى لدى معظم نقادنا إلى بعض المجازات الشعرية المختارة بعنف نقدى إقصائى ممنهج ومؤدلج بصورة قبلية، أسس ونظّر لمجازات أخرى ربما  كانت أقل شأنا وتحليقا واستشرافا،على أنها تمثل شيئا مقدسا متعاليا على التاريخ والواقع وحدود الذات والشعر والجمال والنظريات معا،وتم نبذ مجازات كبيرة متعددة كانت أفضل كثيرا مما أجمع القوم ـ وهم ظالمون ـ على  اختياره مثلا أعلى للشعر العربى سواء القديم والمعاصر،كل هذا قد خلق عقبات جمالية ومعرفية ومنهجيى كثيرة أمام تخلق الشعريات العربية الوليدة ومنعها من إضفاء الشرعية الجمالية والثقافية وتم قمعها بصورة منهجية أيضا،أو اتهامها القبيح باسم الدين مرة وباسم التجريب الشكلى العقيم مرة أخرى،وباسم التجديف الجمالى المارق فى وجه جمالياتنا التراثية العريقة مرة أخيرة،أو اتهام الشعراء بالتبعية الجمالية والمعرفية للغرب،وكأن نقادنا أصحاب هذه الاتهامات كانوا أصحاب ثقافة نقدية عربية أصيلة ـ أقصد الخصوصية الجمالية والمعرفية العربية ولا أقصد بالطبع النسق الشوفينى المتعصب للعرب فثمة فروق دقيقة بين الدقة العلمية والتشنج العرقى،وبي الامتداد الذاتى الحر، والذوبان الفوضوى فى ذوات الآخرين ـ لكنك إذا نظرت بعين الإنصاف المنهجى والمعرفى لما حدث وجدت ان الخطاب النقدى العربى المعاصر لم يدخل بعد أفق الحداثة الشعرية والنقدية والمعرفية والمدنية بحق مثلما دخلته الشعريات العربية الحداثية قبله فى سبق تخييلى ومعرفى جسور،ولعل ترسيخ مصطلح الأزمة النقدية والشعرية من مستجدات هذا الواقع النقى التغريبى الجديد والذى يؤكد لنا باستمرار سبق الشعرية العربية وتخلف النقد العربى المعاصر،فأزمتنا أزمة مفكرين لا أزمة واقع،لا على سبيل الفصل بين الفكر والواقع بل على سبيل أسبقية قوة الواقع وقوة الأشياء على قوة النظريات والأفكار،ولما حدث هذا فرغ السوق الثقافى والجمالى لمحترفى الاحتراب النقدى فى مصر والوطن العربى كله بالتبعية،وهم موزعون بدقة الهندسة الشللية العجيبة فى مواقع السلطة الجمالية الرسمية سواء فى الجامعات الرسمية للدولة،أو فى المواقع الثقافية المدنية المهمة التى تتبع المؤسسة الرسمية للدولة أيضا  بصورة معلنة أو خفية،ولو خلَّت الجهات الرسمية الواهمة منهجيا ومعرفيا بين الشعريات الأصيلة والمجازات الكتابية الأصيلة أو حتى أى لون جديد من الكتابة، وبين متذوقيها لراج سوقها الجمالى والمعرفى ولاستطاع الواقع الثقافى نفسه فرز الغث من السمين دون حاجة وهمية من الأستاذيات النقدية الشرعية الرسمية الزائفة التى توزع الحظوظ الجمالية والمعرفية على أصحاب البركات الشعرية، والحوزات المعرفية ،الذين يهيمنون على السوق الفنى هيمنة قبيحة،تحول دون النمو الصحى المعافى للوجدان العربى والخيال العربى والذوق العربى عامة، ولعل هذا يفسر لنا أيضاً المعارك النقدية الهائلة التى خاضها الشعراء والناثرون الأصلاء الكبار مع النقاد على اختلاف توجهاتهم المنهجية والمعرفية والدينية، بخصوص طرحهم لمجازاتهم الجديدة،فنقدنا العربي  المعاصر كان في معظمه نقدا مؤسسيا رسميا عاما كما قلنا، وكان نقدا تجزيئيا وانتقائيا وأيديولوجيا يعمل لصالح تثبيت المثل الأعلى الجمالى والروحى والقيمى وهو مثل وهمى فى غالب الأحيان لأنه مؤسس بنمطية التوجيه التنظيرى التسلطى العام ،فنقدنا وتصوراتنا البلاغية والجمالية والأسلوبية  فى معظمه،يعلي من الاستهلاكية النقدية على الإنتاجية، ويطمئن لفكرة القبول والدقة والوضوح أكثر مما يطمئن لفكرة  القلق والمساءلة والقدرة على المغامرة واجتراح الوجود، لقد استبدل الخطاب النقدي المؤسسسى في معظمه الفعالية بالفعلية، والتفاعل بالانفعال، والغربلة والانتقاء والاستبعاد والنفي، بالقبول والتسليم والانبهار، وبكلمة واحدة ارتاح معظم نقادنا إلى يقين الأجوبة، لا قلق الأسئلة،ولعلنا نتذكر هنا فى هذا السياق حكاية هذا الناقد ـ الكبيرـ المعروف فى مصر والذى خرج مؤخرا من قمقمه المعرفى والمنهجى ليشايع قصيدة النثر ويحييها فى بعض لقاءاته النقدية السريعة فى معرض القاهرة الدولى للكتاب هذا العام2009،وهو يذكرنا ببكاء أدونيس من قبل فى معرض القاهرة الدولى للكتاب عام 2004،بخصوص إحساسه بالذنب الثقافى والجمالى فى حق الثقافة العربية والشعر العربى،ولأننى غير معنى بأشخاص معينة أو بهموم خاصة  ـ وأنا غنى عن ذلك إذ نشأت وترعرعت بعيدا عن بروتوكولات المؤسسات ـ بل معنى بالظواهر الثقافية والهموم المعرفية والمنهجية بوطننا جميعا مصر،فوا أريد أن أستطرد أكثر هنا فأوثق تاريخيا وجماليا ومنهجيا الأسماء النقدية العربية  التى وصفت منذ نصف قرن تقريبا بأنها دائما كبيرة،والتى أقامت دائما العراقيل الجمالية والمعرفية والمنهجية العامة ـ وتحت دعاوى العلمية التسلطية، والموضوعية الخانقة المغرضة، والحفاظ على وهم الهوية الثابتة الخالدة ـ فى وجه التدفق الحيوى للواقع الجمالى والحضارى العربى المعاصر، فثمة فروق جمالية ومعرفية جوهرية بين ذوق المؤسسة الرسمية العامة، التي تدشن حس الإتباع والاستقامة والوضوح والتقرير، وتبرير العلم العام السائد، وبين ذوق الهرطقة الإبداعية المختلفة القائمة على التأمل والخروج والتعرج والرهق والحرية والمغامرة والتجريب،لقد غلب سياق التبرير البلاغى والنقدى والمجازى على مناهجنا الجمالية على حساب سياق الكشف والجدة والخلق والقلق،ذلك لأننا نمتلك رغبة إنسانية ومعرفية وجمالية لهيفة وحادة من أجل فرض صورة وشكل ونسق على ما ليس له شكل أو نسق أو ماهو بسبيله إلى تخليق شكله الجمالى والمعرفى الخاص به،نفعل ذلك تحت دعاوى علمية ضيقة تتسم بالموضوعية والاتساق المنهجى،إن رغبتنا فى الثرثرة والتسليم أشد وطاة من رغبتنا وقدرتنا على الإنصات الجمالى الموضوعى واللاموضوعى الخلاق بغية كشف القوانين التعددية لما نسميه فوضى، وما هو بسبيله لتخليق شكله الجمالى الخاص، إن قدرتنا على ملاحظة جدل الإيجاد بكافة صوره  أضعف من قدرتنا على تبرير جدل الإمكان الوحيد وليس فى الإمكان أحسن مما كان!! يجب أن نطور مناهجنا البلاغية وتصوراتنا المعرفية بصورة تجعلنا قادرين على رؤية وملاحظة جدليات السلب الخلاق الذى يتراءى فى هيئة ثقوب سوداء غير مرئية فى حنايا الواقع والظواهر والأشكال والنصوص، ولعل بحثنا هنا عن بلاغة ما يسمى ((بقصيدة النثر))أو ما أطلقنا عليه مصطلح ((النص الحر)) يقع فى العمق من هذا التسلط المعرفى والتنظيرى،فنحن نريد إعادة اكتشاف القيمة المجازية لبلاغة قصيدة النثر بعيدا عن تسلط مقاييس الشعر على النثر،وبعيدا عن حبس الصفات الشعرية فى حيز الشعر دون النثر،وحبس الصفات النثرية فى النثر والسردية دون الشعر،أو تزاوج صفات الشعر والنثر، بما يحول السمات الجمالية المتفاوتة إلى هويات جمالية ومعرفية ثابتة،نريد ان نعيد لنص (قصيدة النثر) اعتباره التشكيلى والجمالى والمنهجى النابع من رحم الوجود لارحم النظريات، بعد أن همشت واستبعدت كثيرا من ربقة المجال المجازى على مختلف الحقب والمدارس والاتجاهات والتيارات النقدية العربية المعاصرة،لقد ظلت بلاغة قصيدة النثر تتقلب فى أطوار من سوء الفهم، أوقصره،أو عدمه،عبر هذه المسيرة النقدية الحافلة،ولن يخرجنا من ازماتنا النقدية والجمالية والمعرفية والمنهجية سوى هذا الانخراط التجريبي الحر في العراء الوجودي والانفعالي والجمالي بعيدا عن سطوة المعايير ، وقولبة التصنيف ، وإكراهات الترميز الثقافي العام يوازيه في الشعر النثري أو النص الحر – أو فلنبتعد الآن عن تحديد أي مصطلح إبداعي لهذا الجنس الجمالي النوعي الجديد حتى يراكم جماليات وتصوراته ذاتيا خالقا مصطلحه الخاص – أقول يوازي هذا الانخراط التلقائي في الصحراء التجريبي للوجود ، هذا الانخراط اللانهائي لأشكال التعبير والإيقاع والبناء والتصوير لهذا النص الجديد وهو تصور جمالي تجريبي مستقبلي يحرر اللغة من إكراهاتها الثقافية والسياسية العامة ، ويحرر الفكر والتصور من نماذجه المعرفية والجمالية والنقدية الواعية واللاواعية ، ويحرر الشعر من سطوره المناهج والنظريات بما أنها تقيم اختزالي هادر للحيوية التجريبية والجمالية والحسية الباذخة في الكائنات والموجودات والأشياء والأشكال والإيقاعات والممكنات البنائية اللامحدودة للروح والخيال ، إن كل معاجم وقواميس العالم مجتمعة تعجز كل العجز عن تصوير وتصور الارتعاشات والتموجات والخلجان الحسية والتشكيلية لتنزلق قطرة مطر من السماء إلى الأرض ،وبالتالي فإن إيقاع الوجود ، وموسيقى الروح ، وأشكال الواقع تند بالضرورة عن أي تصور معرفي منهجي قبلى، وعندئذ يحدث هذا العدد الوجودي والجمالي الفادح لروح الواقع وأشكاله وإيقاعاته وبناءاته ومن أجل هذا نستبين التناقضات النقدية والمعرفية والمنهجية الكامنة في الخطابات النقدية العربية المعاصرة بخصوص تصنيف هذا الجنس الجمالي النوعي الجديد بالقياس إلي ما رسخ من تقاليد الأبنية الشعرية الرسمية " الكلاسيكية – الواقعية – شعريات الحداثة وما بعدها " ذلك أن دهشة النظرة الجديدة للعالم تتم عبر منطق الثغرة والطفرة خارج أنساق المفاهيم السابقة ، وربما مثلت هذه المفاهيم اللاوعي الجمالى والثقافى الكامن للوعي الشعري التجريبي الجديد فى قصيدة النثر ، ومهما تعلل النقاد بأن الفوارق الجمالية والتشكيلية المائزة والحاسمة بين القصيدة العربية الرسمية بكاملة أشكالها وتطوراتها ، بين ما يعرف بقصيدة النثر أو ما أطلقنا عليه " النص الحر " – تكمن في وجود الإيقاع والوزن والعروض في القصيدة العربية الرسمية ، وغيابه عن قصيدة النثر،فنحن نقول بدورنا هذا تسلط نقدي وليس توصيفا جماليا حرا نزيها ، فالإيقاع بمفهومة اللغوي الجمالي التركيبي الفلسفي قاسم مشترك بين كل الفنون بل العلوم التجريبية نفسها فيما عرف بجماليات العلم المعاصرة فى البرهان الأنيق والنظرية الموقعة الرشيقة كما يقول اينشتين ، فالإيقاع مكون وجودى  وليس مكونا بنائيا حتى إذا سقط ، سقط النوع الجمالي كله ،وحتى لو وفرت قصيدة النثر حدا أقصى للكثافة الإيقاعية اللغوية والصوتية والتصويرية الداخلية لما اختلفت بصورة جذرية مائزة عن الأبنية النصية الجمالية الأخرى في التراث الجمالي العربي ، فاللغة العربية ذاتها وفي ذاتها لغة شاعرة ، وتكمن  فى الأصوات اللغوية  ذاتها عوالم من الأساطير وذخائر من الخرافات والتذكارات والأنماط الحسية الأولي للوعي الإنساني، ومن ثم ليس صحيحا كما تصور معظم النقاد المعاصرين تصنيف قصيدة النثر أو ما أطلقنا عليه: " النص الحر " بالقياس إلى الأشكال الجمالية والمعرفية السابقة ، بل الصحيح رؤية هذا الجنس الجمالي النوعي الجديد بالقياس إلى ألما قبل المعرفي والمنهجي ، أي بالقياس إلى الوجود والواقع نفسه وما يمور فيها مورا من طفرات وخلجات وتحولات وتشكلات ومغيبات وصوامت المجهول المترامي وغير المترائي ، إن هذا النص احتقاب جمالى يومى كلي لكشوفه الروح والخيال والتصور حال عرامة الرغبة الإنسانية اللاهفة في التحامها بزمنيها الراهنة متدفقة صوب مستقبلها المستشرف ، إنها استتباع للواقع وتفصيلاته الحسية الثرية الباذخة إلى أفق الشكل الجمالي الحر والمفتوح ، ومن ثمة نقول بأن هذا (النص الحر) أو ما عرف بقصيدة النثر هو القادر بالفعل علي استقطاب ميتافيزيقا الذات والتاريخ والواقع والثقافة وما وراء اللغة والأنظمة والرسميات والإكراهات الرمزية العامة فى حياتنا العربية اليومية – استقطاب ميتافيزيقا الغياب إلى عمق فيزيقا الواقع اليومي المكرور ، أو قل نص يرينا المطلق في النسبي ، بما يعيد تشكيل وترميم الأبنية المعرفية والجمالية والتشكيلية الرسمية السائدة والتي حصرت نفسها دوما في الآفاق الفكرية الثنائية التجريدية الكلية الفقيرة ، حتى قمعت الذوات والتواريخ والثقافات والتأملات والتفصيلات الغائبة والصامتة أو أقل التي غيبت وصمتت ونبذت عنوة وقصدا وتدبيرا ، ومن هنا أتصور أن قصيدة النثر أو ما أسميته " بالنص الحر " سوف تفتح أفقا تجريبيا مستقبليا هائلا لفلسفة جمالية عربية جديدة لمفهوم الزمنية الجمالية وعلاقتها بمفهوم الخيال والجمال شريطة أن يتمتع كتابها بصناعات ثقافية ومعرفية وتخييليية ثقيلة النوع والكيف معا ، تمكنهم من تملك القدرة الفنية الخلاقة على هدم المعايير والأنساق والمناهج لتبنى أخرى وفق نسق حريتها الطليقة ، ومرامي تأسيسها التشكيلي التجريبي ، ولعل هذا المأزق الإبداعي الحرج لقصيدة النثر أو لما نطلق عليه " النص الحر " هو ما يجعلها شبه مستعصية على غير أصحاب الرؤى والمعاناة الوجودية ، والاقتدار التخييلي الباذخ ، إذ عندما تخلع عن جسدك ووجودك كل عوامل الأمان المعرفي والإلف المنهجي والطمأنينة التشكيلية السائدة وترمي بذاتك الإبداعي بالكلية في عراء أشكال الوجود ، وغابات توحشات التخييل وأوابد لطائف الدلالات والمعاني ، فأنت فى محنة جمالية حقا،بل أنت بلا شك في اختبار وجودي ومعرفي وجمالي وتشكيلي غاية في الصعوبة المركبة والارتباك المتعدد والتمحيص الجمالي المسنون ، وكأننا نعيش بالكلية عرامة القلق الوجودي الموحش بالمعنى الفلسفي الواسع كما تصور كير كجارد في لحظات الجزع الوجودي للوحشة ، ففي نهاية الحد الأقصى للتشبع الأبستمولوجي للوعي والشعر والخيال ، تبدأ أولى مراحل الدوار الأنطولوجي للوعي والشعر والخيال ، وفي هذا المفترق الجمالي والمعرفي الحرج يختلط الحابل بالنابل في إبداع قصيدة ومن هنا تأتي الصعوبة الجاهدة لكتابة هذا النوع من الفن والتي قد تبدو أمرا سهلا مفروغا منه لدى صغار الكتاب وأدعيائهم ،وبالمثل أيضا لا تخضع قصيدة النثر العربية فى مصر للتصورات الجمالية الرسمية الغربية لقصيدة النثر والتي تتعين كما يقول أدونيس ومن بعده أنس الحاج ثم بول شاؤؤل ومعظم النقدة العرب في القدرة على الإيجاز والتوهج والمجانية أو في هذه المقولات التنظيرية الثلاث التي ارتآها مثلا صلاح فضل أخيرا فى بحثة فى أساليب الشعرية العربية المعاصرة :

1- تعطيل الأوزان العروضية المتداولة .

2- تفعيل أقصى الطاقات الشعرية الممكنة .

3- إبراز الاختلاف الدلالي الحاد (3)

وهذه التصورات النقدية وغيرها لدى معظم نقادنا وشعرائنا نراها محورة بصورة أو بأخرى عن كلام المنظرة الجادة لقصيدة النثر " سوزان برنار " في كتابها المعروف " قصيدة النثر من بودلير إلى عصرنا " ، حيث تصف قصيدة النثر عبر خطوات نقدية تنظيرية لا يخرج خطابنا النقدي عنها البتة ، مع أن الأصل في الوعي بالجماليات المحلية والعالمية بصورة حقيقية جادة ، يكمن في خلق نسق ثقافي جمالي خاص لتلقي هذه الجماليات عبر القدرة على التحويل والتحرير والإضافة وإعادة التأسيس طبقا للنسق الجمالي والثقافي العام للواقع الذي هاجرت إليه النظرية ، ونسى نقادنا أن كثيرا من روائع النثر العربي والفارسي قد ترجم إلى كل لغات العالم وكان له أثره البالغ هناك على صورة الأدب وخليفته معا إن غياب القدرة النقدية والشعرية الخلاقة والمبدعة في حوار السياقات والثقافات لدى معظم النقاد والشعراء المعاصرين حول هذا النص النوعي الجديد إلى العيش دوما في منطقة الظل والهامش والإقصاء والنظر إليه من خلال الأنساق المعرفية والجمالية السابقة ، ومحاولة إعادة بنائه وتأسيسه لصالح المنتج الجمالي والمعرفي والثقافي السابق عليه ، شأن كل نشاطات العقل العربي المعاصر الذي يحاول أن يجعل من راهنية الحاضر واستشرافية المستقبل دورانا معرفيا لاهثا صوب الماضي وتغليب محور – الحاضر – الماضي على محور الحاضر – المستقبل في جميع أبنينا الثقافية العامة،ومن هنا ظل هذا النص النوعي الجديد في حيز الأشكال التنظيري والجمالي والمعرفي منذ نصف قرن أو تزيد ، وكأننا في حالة إرجاء وجودي – وليس محاثية وجودية – مستمر لحياتنا وهمومنا الروحية والجمالية والخيالية ،تغلب فكر التبريد علي حيوية التفكير وفكر الإرجاء علي فكر الإحياء ،ونهجر الحاضر صوب الماضي ،ولا نعيش الحاضر صوب المستقبل في ارتباطات سياسية وحضارية وثقافية ومنهجية فادحة مقصودة وغير مقصودة ،وربما لم يتكيف الخطاب النقدي العربي المعاصر بصورة جادة أصلية مع مقولة سوزان برنار :((يتعين علي قصيدة النثر أن تكون وظيفتها الأساسية شعرية ،وهذا يتطلب أن تكون بنيتها المتباكية أو مجانية  بمعنى أنها علي فكرة الأزمنة ،بحيث لا تتطور نحو هدف ،ولا تعرض سلسلة أفعال أو أفكار منظمة ،مهما استخدمت من وسائل سردية أو وصفية ))"ولم يتعاطى النقاد والشعراء مع هذا الشرط الجمالي والمعرفي تعاطيا نقديا تجريبيا خلاقا بمثل ما تعاطوا مع انفلات الوزن والإيقاع والتصوير،وإذا كان جوته يقول بأن السياقات الثقافية لحضارة لا تتحاور بحق مع السياقات الثقافية الأخرى الوافدة عليها إلا لما هو علي وشك الولادة فيها بالفعل ،فهذا يعنى أن ضمور التعاطي الجمالي والمعرفي التشكيلي مع هذا المنظور النقدي ووفقا لمنظورات العقل الجمالي العربى نفسه لقصيدة النثر العربية فى مصر قد أخر تخلق الجماليات والأشكال الخاصة لهذا النص النوعي الجديد علاوة علي أن شرط سوزان برنار السابق على عكس ما فهمه معظم نقاد وشعراء قصيدة النثر هو شرط تجريبي مستقبلي يتجه صوب القدرة علي هدم المعايير والأنسقة وأشكال العلاقات العقلية والروحية والخيالية الكلية السابقة من خلال الاندغام التخييلى التجريبي الحر ضمن حركة الزمن الطليقة وما تتمخض عنه من مباينات جمالية وبنائية جديدة وفي هذا المفترق والمعترك الوجودي والجمالي والمعرفي ترتبك المقولات ، وتتراجع التصورات ،وتعمي أجهزة النقد ونظرياته عن التقاط ملامح الواقع وقسمات الوجود الشاردة والهاربة دوما من حدود الألفة والعادة والمؤسسات الثقافية العامة ،فالمعارف والمناهج تقصي وتنفي بقدر ما تثبت وتعدم مادة الواقع الخصيبة بعنف ظلام الكلمات والتراكيب والإيقاعات العامة، وتأتي قصيدة النثر أو ما نطلق عليه ((النص الحر)) لتمثل الحلول الجمالي التجريبي في حسيات الواقع اليومى، وهموم الذات المنبوذة، ومغيبات الثقافة والتواريخ ، لتستحضر بلاغة اللامعنى الشاردة في ملكوت الصمت، ولتستنبع التفاصيل الذاخرة بالغياب لتكون بنية تأسيس معرفية وجمالية ثورية منهجية تؤسس لأنطولوجيا الخيال التجريبي في قصيدة النثر لتلتحم ضمن حدود بلاغة المعنى والسائد والمتعرف علية .وبالطبع فإن هذا الوعي الجمالي والنقدي الذي نقدمه هنا يمثل بعض ما تصورته سوزان برنار عن "الكتلية اللازمنية "والتي لم يتعاطى معها نقاد ومبدعوا قصيدة النثر بصورة تجريبية أصلية ويكفي أن نري فهم أنس الحاج لمصطلح "الكتلية اللازمنية "علي أن "((تغدو قصيدة النثر مجردة من وظائفها السابقة ،إن السرد والوصف يفقدان في قصيدة النثر غايتها الزمنية ،يبطلان أدوات الروائي والخطيب والناقد تواصلها "يقصد تواصلهم مع هذه الأدوات "عبر تسلسل من الآراء والحجج إلي هدى واضح ومعين ،إلي الجسم في شئ ")) .فانظر هنا كيف تحولت الإستراتيجية الجمالية والفلسفية التجريبية لمفهوم الزمان والوجود الجمالي بالمعنى الفلسفي الظاهراتي لدى سوزان برنار إلي محض تكنيك فني فقير لدى أنسي الحاج لكن نقادنا وشعراءنا شغلوا كثيرا بتعطيل حركة التاريخ والزمن ،وتأجيل طفرات الخيال والروح ،وتعميم فعاليات الذوات الجمالية لتصير جمالية واحدة ،وحصروا أشكال التواريخ لتتعين تاريخا واحدا .

 

الأشكال الجمالية والمعرفية لقصيدة النثر العربية فى مصر

 ولننطلق قليلا لمعاينة الواقع التشكيلى لقصيدة النثر بعيدا عن كلام النقاد،وأستمع معي إلي نص ممتع لإيهاب خليفة يفكك فيه التصورات الكلية العامة للذات والواقع والتاريخ يقول فيه "البلدة العظيمة ":

نعم

انتقل الأحياء إلي المقابر

وأنتقل الموتى إلي البيوت

وضع في قصر الحاكم جثة لحاكم قديم

علي نفسي الكرسي المرصع بالجماجم والدماء .

ووضع حارسان مقنعان من نفس الزمن

كان يفضلهما ويؤثر هما بالجلد والسباب

المتهمون بالخيانة

بحث عنهم في كل قبر

ورغم التشوهات التي دمغت عظامهم

والتي جعلتهم شبة مجهولين

ء إلا أننا على يقين

أنهم هم أنفسهم الموتى المطلوبون

الذين عارضوا هاهم مرة ثانية

يسمرون في ساحة الإعدام

في بقايا أكفان قذرة وبأجسام يملؤها الدود والغبار

وهاهم الحراس النبلاء ذوو الهراوات

الذين ساهموا في القبض عليهم بعد مطا رادات الوحل

والغابات والخيال

يبتسمون في أكفانهم أيضا

ومفهم سياطهم ونياشينهم وخلفهم طلابهم

الميتة أيضا

التي تكاد تنبح

هاهي البلدة العظيمة عادت كلها من جديد (4)

 ونلحظ فى هذا النص هذا الانغلال التخييلى الحسى  في " كتلية لا زمنية " وجودية وتفاصيل صغيرة غير مرئية  بل قبل معرفية علي عكس ما فهم أنسى الحاج وأدو نيس مثلا، أو أقل قدرة على ابتكار "خيال الحقيقة "لا "خيال الثقافة " لو صككنا مصطلحا نقديا يتلاءم مع جماليات هذا "النص الحر،إذ ينخلع الخيال عن أطره الإدراكية والجمالية والمعرفية الرسمية العامة ليؤسس "خيال التفاصيل " لا " ((خيال الكليات)) "، خيال ((الهوامش الخصيبة)) لا ((خيال الثوابت المعممة الكبيرة)) وهنا ينتقل التخييل نفسه من الجمال المجازى البحت إلى المجال الحسى اليومى قبل المعرفي والثقافي، وفي هذا السياق الجمالي التجريبي لابد أن تتخلي اللغة عن صوتها الصاخب وتدلالها الرمزي العام،وتهجع في رحم تفاصيل الوجود لتستل عرية الساكت ،ودموعه المنسية، وصمته المبين ، فلا حاجة للتراكيب المجازية الرنانة قدر حاجتنا للخيال الهامس بذخورة التفاصيل الحسية الشاردة منا ومن نظامنا الثقافى في خبايا الواقع ، وزوايا الذات البسيطة والتي تتخلق علي هيئه تثوب سوداء فاعلة تكشف تناقضات التصورات السائدة ، وشروخات الأبنية المصرفية الراسخة، فهل ترى معي هذه المخلية التجريبية اللوذعية كيف تقيم اعوجاج زمنية العقل العربي الكادح دوما صوب موته لا حياته ، فهو منشغل طوال الوقت ولكنه ليس مهموما ، يعلق البهرجات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الملونة الزائفة علي جسد واقعة الميت ليوحي لنا أننا علي قيد الحياة ونحن فى الحقيقة علي قيد الموت – بل نحن نعيش ظلالا وهمية أشبة بكائنات أفلاطون المجازية على سبيل الحقيقة لا التصور، لكن مثقفينا وسياسيينا يقولون لنا وهما أننا أحياء غير أموات . ونحن في الحقيقة – لا الوهم – مستنسخات كربونية هشة للورق المقوى للسلطة أيا كان لونها : معرفية / جمالية / سياسية / منهجية صرنا صرعى الكلام العربى الكبير المنمق ،نعيش في بيوت من ورق ،بعد أن غادرنا لحمنا ودمنا وروحنا وخيالنا ولكن أين هو الشعر والشاعر القادر حقا علي كتابة أشكال رثائنا وموتنا الوجودي الكامن فينا جميعا ؟ !!يقول أشرف يوسف فى نص:

((ولكل بيت...ولكل يوم)):

مات حنينى إلى الثورة

ولا أحد يحتضن فضيحتى

عشت كثيرا

من غرفة إلى غرفة

أحمل مصباحا ينسينى لمعانه فى الظلام

صدمة أن أكون مشروع خائن يداه فى بنطاله

يتحسس بهما رزمة الأوراق المالية

ولا يأسف لكل عابر

حاول أن يفك أزرار وحدته

...........................

هل حان الوقت لكى أتمنطق بكراهيتى وأعلنها لك؟

حيث لا يوجد ظلم يملؤنى بالحنين إلى الحرية

ولا يوجد عدل يملؤنى بالطيران

كلما رأيت صورتك كبيرة الحجم

متجاورة مع لافتة((حافظوا على نظافة مدينتكم))

عار عليك أن تتحدث باسمى

علانية دون مواربة

فلكل طاغية هاوية ولكل ثائر حزب مرتشى

ولكل جاسوس مركز لحقوق الإنسان المحلى

ولكل ثورة ميدان رماية برصاص حى

ولكل مولود فى رحم امه

ولكل بيت ولكل يوم

حلم بالصراخ،(5)

وربما يتداعى إلي ذاكرتنا النقدية والجمالية بعد قراءة هذا النص نص لمحمد الماغوط  يتناص والنص السابق فالجمال يستدعى الجمال عبر ذاكرة الموروث الجمالي لقصيدة النثر ، يقول الماغوط مصورا تفاصيل روح الواقع التائهة المكلومة والتي الآن لا يصغى لها مخططات ، وتنظيرات النقاد

والمطر الحزين يغمر وجهي الحزين

أحلم بسلم من الغبار

من الظهور الحدبة

والراحات المضغوط على الركب

لأصعد إلى السماء وأعرف

أين تذهب آهاتنا وصلواتنا

آه يا حبيبتي

لابد أن تكون كل الآهات والصلوات

كل التنهدات والاستغاثات

المنطلقة من ملايين الأفواه والصدور

وعبر آلاف السنين والقرون

مجتمعة في كل مكان ما من السماء كالغيوم

ولربما كانت كلماتي الآن قرب كلمات المسيح

فلننظر بكاء السماء

يا حبيبتي

إن هذه الكلمات والصور لا تجسد هموم الواقع وأوجاعه ،بل تستشف فيما نرى " أشكال العراء " فيه تمتح من مجهولات المغيبات وصوامته المكتومة على الانفجار أللهيبة غير المبنية ، لا منطق ولا أنساق ولا علاقات ولا ثوابت ، بل اختراق ومحو للزائف الرصيد بغية استيلاد الأصيل الغائب ، الذي يبدوها مشا خفيا في جسد ما يسمى وهما بالواقع السياسي و الثقافي والجمالي العام فالوعي العام دمار عام ، الوجودي الحنون ،إن إضافة الصفة الحنون هنا لا تحمل أي إيحاء رومانسي أو حتى واقعي في أية صورة من الصور الجمالية للواقعية كالواقعية الاشتراكية أو النقدية أو الجدلية أو الواقعية البنيوية والتوليدية ، أو حتى الواقعية الزمنية الكبرى بمفهوم باختين فى الخطاب النقدى الثقافى، لكننا نرى هذه الصورة الشعرية التابعة من إضافة الصفة للموصوف " المطر الحنون " تنحو صوب واقعية جمالية عريانة كل العرى من تلبسات الدلالة والقصد والمعنى المسبق،فهي تعرى من أي نسق ثقافي رمزي جمالي لتندغم في حسية الواقع فى ذاته، وكتيلة العالم اللامتناهية والمتماوجة عبر تفاصيله اللامتناهية بالعرق والنسيم والدموع وبصورة حسية مباشرة، وكأن الحقيقة قد صعدت علي الفور من رحم الواقع إلى أفق الشكل الشعري دون وسائط تشكيلية خداعة، إنه ((مجاز العراء)) كما قلنا،وأنظر معي كيف يؤكد شعر الماغوط  هذه الحقيقة الجمالية العارية في كل شعره مفرقا بين ثقافة النسق أو قل خيال الثقافة ،وخيال الحقيقة

 

نزرع في الهجر ويأكلون في الظل

أسنانهم بيضاء كالأرز

وأسنانا موحشة كالغابات

صدورهم ناعمة كالحرير

وصدورنا غبراء كساحات الإعدام

ومع ذلك فنحن ملوك العالم

وفي نص أخر :

في جيوبهم عناوين الخونة واللصوص

وفى جيوبنا عناوين الرعد والأنهار

هم يملكون النوافذ  ..... ونحن نملك الرياح

هم يملكون السفن ...... ونحن نملك الأمواج

وتواصل قصيدة النثر تأسيس ((مجاز العراء)) من الماغوط،إلى تأسيس ((مجاز الصمت))، لدى عماد أبو صالح فى نصه البديع:

((مايجب أن يقوله شاعر لناقد))

مايجب أن يقوله شاعر لناقد

يقول له أنت متأثر

أنا متأثر؟

لا

أنا ناقل

أنا على الأصح سارق

لاكلمة لى،لاصوت يخصنى،لو فرزت صوتى نغمة نغمة،أتفرج وأسكت،لى عبرة فى الذين تكلموا،فصارت كلماتهم تفاهة أو مثار سخرية أو أكاذيب،الذين تكلموا فصاروا بكلماتهم الخالدة مصلوبين على صليب الزمن،الذين حرموا أرواحهم من سكينة النسيان،أحب نسمة الهواء التى تمنح الحياة وتضيع دون أن يلحظها أحد،العصافير التى تغنى دون أن نفرق فى صوتها بين عصفور وعصفور.الماء الذى إذا انفصلت منه نقطة لا تكفى لتروى وردة أو غسل يد.

كل كلمة ورطة،فضيحة،شهادة زور توالس العالم

أسكت لأربى كلمتى

لا أنطقها فأقتلها

أرمى بنتى للعراء؟

الكلمة التى بداخلى حروفها سكاكين،كيف لى أن أنطقها ولا أذبح حنجرتى.

ينبع الشعر هنا من سكينة النسيان بوصفه إمكانا للوجود اللامرئى الكمين،،ومن خفة الهواء اللامتناهية فى الواقع والذات والوجود،هذه الخفة الرفافة الرصينة أقوى من كل امتلاء أيديولوجى زائف، الشعر فى قصيدة النثر يخفف الحقيقة من أثقالها لتخلص لذاتها أكثر مما تخلص لمكر الرمز، وخديعة اللغة،ووهمية الامتلاء الميتافيزيقى المجوف الذى يجعلنا نعيش حالة انتفاخ الذات والوجود والثقافة وليس حالة إنتاجهم بالفعل لا بالقول،حيث كل كلمة فضيحة وورطة،وشهادة زور توالس العالم،((فمجاز خبرة الهواء)) هو القادر وحده أن يمسك بالتفاصيل الحسية اليومية الحية الساقطة من غلظة كف اللغة المجردة، عندما تدعى أنها تمسك بالواقع والذات،فالشعر فى قصيدة النثر يفرق بين حالة الأشياء فى ذاتها،وبين حالة اللغة التى ترمز للأشياء وحالة الثقافة التى تدشن طرائع وعى العقل اللغوى فى استقطابه للأشياء،فاللغة حجاب وإظهار،قوة منع وقوة منح،استحواذ وتسلط،فالسادة الفقهاء والسياسيون والاقتصاديون والنقاد المنظرون عندما يسمون الذات والواقع والأشياء والعلاقات فهم فى الحقية يستحوذون ويهيمنون،فاللغة والدلالة هى مفاتيح السلطة والهيمنة والاستحواذ،فهل تختلف أمور التسمية السياسية كثيرا بين  الهيمنة العربية فى نحت مفاهيم تنائية ضدية مثل: القديم والحديث والأصالة والمعاصرة والموروثات والهرطقات،أو حتى التعبير العربى الاجتماعى السياسى  الذى يمثل مسخرة عربية شهيرة((فى هذا المنعطف التاريخى تعيش الأمة العربية أزمة حاسمة...)) وبين الهيمنة الأمريكية فى استحداث مفهوم(( الشرق الأوسط الجديد؟))،وكل هذا يؤكد أن اللغة سيادة وهمينة واستحواذ سلطوى مدبر على شروط إنتاج المعنى والمجاز فى الواقع، لكن قصيدة النثر تقلب القضية كلها رأسا على عقب عندما تجعل من المجاز أصلا ومن نظام اللغة فرعا،حتى تقاس اللغة إلى أصل من أصول المجاز بوصفه انفتاحا لانهائيا على تشكيل الذات والوجود،ولا يكون المجاز منقاسا على صورة من صور الحقيقة اللغوية العامة حيث الحقيقة العامة دمار عام،لذا يرى عماد ابوصالح فى نصه السابق اللغة سكاكين للذبح وليس مجرد أدوات للبناء الأيديولوجى الفارغ،فالقصيدة تعدم اللغة كى توجد اللغة،والنص يرمى بنفسه فى ((مجاز العراء)) ليستدعى أصداء القيعان الحسية اللاواعية والهامسة الساكتة فى حنايا الذات حيث هى أصل كل شىء،وحيث تقود قوة الأشياء قوة الكلمات،ومن هنا يجب أن نعى المفهوم الفلسفى والجمالى العميق لمصطلح((خيال الظل))،فليس الظل هو الهامشى الضعيف ولا اليومى المبتذل ولا الحسى المهمل كما فهم معظم المبدعين والنقاد بل هو قوة المباينة والاختلاف الساكتة هناك فى الصمت الخلاق بوصفه إمكان وجود رصين ساكت أجبر على الصمت للكوابح الدلالية والرمزية والسياسية الكبرى،فالتطفيف اللغوى السائد بين السلطة والناس نوع من التطفيف الوجودى، بما يضع جماليات الصمت فى قصيدة النثر بمواجهة جماليات التشدق السياسى،والهدر اللغوى الإنشائى العام، إن جماليات الصمت تكشف عن عبقرية العوالم المنسية الصغيرة،فى مقابل وهمية تجريدية الأنساق الثقافية الكبيرة،فالعلم فى أحدث تصوراته التجريبية المعاصرة لدى إمرى لاكاتوش وفيرا أبند وتوماس كوين  صار يتكون من المعنى واللامعنى والحضور والنسيان والغياب، صار العلم التجريبى المعاصر يقر بمفاهيم اللاتحدد واللادقة واللايقين والتشوش والفوضى ضمن حدوده المعرفية والمنهجية الأصيلة،وبهذه المثابة فجماليات الصمت فى قصيدة النثر لا تعنى العدم،كما لا يعنى بالمقابل الصوت الوجود، فالواقع اليومى البسيط ((مدكوك بالوجود الحى)) ويتراءى فى صورة اقتصاد رمزى متعدد ومرجأ،حيث يجب أن نوجد فى المكان الذى لا نوجد فيه،مما يستوجب معه تطوير مناهجنا البلاغية والجمالية وتصوراتنا المعرفية بصورة تجعلنا قادرين على رؤية وملاحظة جدليات السلب الخلاق والصمت المؤسس والذى يتراءى فى هيئة ثقوب سوداء غير مرئية فى حنايا الواقع والظواهر والأشكال والنصوص، علينا أن ننقل مفاهيمنا النقدية إلى ما اقترحناه  فى دراسات سابقة لنا من فكرة التعدد الجمالى والمعرفى المترامى فى التفاصيل الحسية الهائلة فى اليومى والنظرى والنصوصى فيما أطلقنا عليه المنطق ((المنظومى البينى التداخلى) للأطر والتصورات والمفاهيم ورصد تعالقاتها الزمانية والمكانية والتجريبية والتخييلية والاستشرافية المعقدة واللامتناهية، فكان علينا أن نسلم فى تصور مفاهيم الوعى والذاكرة واللغة والتراث بفكر الاختلاف  وبالجدلية النسبية للمتناهى فى الفوضى، مع المتناهى فى التنظيم،حتى نتيح لإمكانات (الجدل المنظومى البينى التداخلى) البلاغى والنقدى والنصى والواقعى ممارسة حدودها الجمالية القصوى الخلاقة وذلك من خلال تأطير جمالى معرفى تفكيكى ـ أقصد الإفادة من المنهج لا المذهب التفكيكى فى ذاته بوصفه فلسفة غربية عدمية ـ  محسوب بصرامة منهجية لمجموعة من الأنظمة المعرفية والجمالية المتداخلة ـ لا العناصر المتجاورة ـ والمتغيرة للمناهج النقدية المتباينة، والتى تصل التعدد التداخلى المنظومى الهائل لمكونات الظاهرة الأدبية والثقافية والنقدية ببعضها البعض، مما يعدد من أوجه الجدل التداخلي المنظومي بين المطلق والنسبى والحسى والتجريدى والجزئى والكلى والتجريبى الاستشرافى والتى تعمل جميعا وفى وقت واحد فى بنية التفاصيل الحسية الباذخة للواقع  والنصوص والذات والتاريخ، بما يعدل من فكرة الثنائيات المنفصلة المنعزلة التى سلم بها نقادنا ومفكرونا على الدوام دون قلق، ويدخلها فى رحاب فكر بينى تعددى ،فليس هناك مطلق واحد او نسبى واحد،ففى داخل كل مطلق نسبى ما وفى داخل كل نسبى مطلق ما ،لقد انتفت فكرة الأحادية والثنائية سواء فى بنية النصوص أو بنية الأفكار النقدية التى تعالج النصوص،وحلت محلها فكرة التحليل المنظومى SYSTEMS ANALYSIS،ومن هنا كان علينا أن نراجع معظم أفكارنا النقدية، وتصوراتنا المعرفية والمنهجية، ومفهوماتنا الإجرائية فى ثقافتنا النقدية العربية المعاصرة مراجعة جذرية أصيلة (( لقد أصبح لزاما على الفكر الإنسانى لكى يستوعب واقعه الراهن أن يواجه تعقده وجها لوجه، يأخذه كما هو لا يختزله، كى يتوائم مع ادوات تفكيرنا وحدود عقلنا وذاكرتنا، نحن فى أمس الحاجة لفهم التعقد بل الفوضى التى نالت حقها أخيرا من التنظير ( نظرية الفوضى) هنا يبرز دور تكنولوجيا المعلومات فى قدرتها على التعامل مع الواقع، والتخلص من التفكير القطعى اليقينى كى نواجه واقع الاحتمالات وبدائل السيناريوهات،من جانب آخر فقد عصفت أعاصير عصر المعلومات بكثير من الأسس التى قامت عليها صروحنا الفلسفية، وهياكلنا المعرفية، ووسائل إنتاجنا ونظمنا الاجتماعية، سياسية كانت ام اقتصادية إعلامية كانت أم تعليمية، إنه عصر المعلومات ذو شغف عظيم بالتحطيم والإحلال وإعادة البناء.... إلى الحد الذى أصبحت معه رؤى الخيال العلمى هى أجندة البحث العلمى))(6)،وهذا يؤكد مدى السعة المعرفية والعقلية والاجتماعية والتخييلية والجدلية التى يمر بها الوعى الإنسانى المعاصر،وبلوغ فكرة الجدل والتعدد والتداخل مدى عظيما،ومن هنا يجب علينا سواء فى نظرياتنا النقدية أو فى تصوراتنا الإنسانية والحضارية والمعرفية أن نحرر الثراء التعددى المذهل للشخصية العربية،والنصوص الإبداعية التجريبية الجديدة من ضيق معلوماتنا ومناهجنا وتصوراتنا، أي من أفكار العموم والتجريد، والجزئية والانفصالية، ومن فكرة الأطر الثنائية،والتصورات الضدية،، علينا أن ننقل مفاهيمنا النقدية إلى ما اقترحناه من فكرة ((التعدد المنظومى التداخلى البينى))(7) حتى ننغل فى المسافات الغائبة والصامتة الكامنة فى بنية الأطر والتصورات والمفاهيم وتعالقاتها الزمانية والمكانية، كما علينا أن نسلم بالجدلية النسبية للمتناهى فى الفوضى، مع المتناهى فى التنظيم،حتى نتيح لإمكانات ما اقترحناه بـ: ((الجدل المنظومى الموضوعى التداخلى)) ممارسة حدوده الجمالية والمعرفية القصوى الخلاقة،فننتقل من جدل إلى جدل،ومن إجراء إلى إجراء،ومن تصور منهجى إلى تصور منهجى آخر،مؤكدين على أنظمة العلاقات المعرفية والمنهجية والإجرائية البينية لا فكرة الأنساق المعرفية التراكمية النوعية، ولكل هذا نختلف بصورة كبيرة مع فكرة التوافق المعرفى، والتكامل المنهجى التى ارتاح لها معظم نقادنا فى  الخطاب النقدى العربى المعاصر،إن فكرة التكامل نفسها تتناقض مع فكرة الجدل والاختلاف مهما حاول مفكرونا ونقادنا تقديم التبرير المعرفى الكافى لجعلها مخرجا مناسبا للأزمة المنهجية الطاحنة للفكر البلاغى العربى القديم والمعاصر،وهى أزمة معرفية منهجية قبل ان تكون ازمة نقدية جمالية لأنها ببساطة شديدة تقع فى العمق من هموم العقل العربى نفسه بكافة سياقاته السياسية والحضارية والثقافية والمنهجية بشكل عام.لقد تعددت البلاغات فى بنية الإبداع بعيدا ،عن السياجات التنظرية والمعرفية الهائلة للنظريات كلها،ولقد تعدت هذه البلاغات الجديدة كل المصطلحات السائدة فى الخطاب النقدى العربى المعاصر مثل مصطلح التهجين البلاغى، أوالتداخل النوعى، وانهيار فكرة التجنيس الجمالى الصارم، واقتراب الأدب بكافة صوره وألوانه من عبقرية وسماحة الحس الشعبى التعددى المفتوح،تعدت البلاغات التجريبية الجديدة وعلى رأسها بلاغات قصيدة النثر العربية فى مصر، كل ذلك بما تمتلكه من حس جمالى شعبى سمح وخصيب،بعيدا عن فكرة الوقار الأكاديمى التنظيرى الجلف،حتى لتفضح أصحاب مقولات نقدية تسلطية زائفة سادت فى واقعنا الثقافى والنقدى فى مصر ،ومنها صدرت إلى جميع أرجاء الوطن العربى وبعض من هؤلاء النقاد المعروفين يقولون بأن هذا ((زمن الرواية)) أو أن ((الرواية ديوان العرب)) أو أن هذا زمن  أدونيس أو زمن حجازى أو حتى زمن.... وادعى آخرون أن هذا زمن الحداثة والتجريب فقط بعيدا عن استمرارية الأشكال التراثية فى وجودنا الجمالى المعاصر،وآخرون لا يقلون عنهم زيفا وتسلطا واحتكارا لرأسمالية السوق الرمزى العربى، يقولون بنفس المغالطات المنطقية والوجودية والجمالية هذا (زمن الشعر) لمناوئة مقولة (هذا زمن الرواية)،أوهذا زمن التقاليد السلفية العتيدة لمناوئة التقاليد التجريبية التغريبية!!،أو زمن النص والنصوصية والعولمات الجمالية والمعرفية ؟!وأخيرا نقول نحن ردا على كل هذه التسلطات المنهجية والجهالات المعرفية هذا ((زمن فوضى النقد وزمن جسارة الإبداع))،فانظر كيف حول أصحاب الرأسمال الرمزى العربى الكبارـ وهم كبار باسم مواقعهم الرسمية ـ لا باسم الإبداع فى ذاته،كيف حولوا الواقع الإبداعى العربى إلى جسد ثقافى عام ملغوم بالمناوءات والمصادرات والتعالقات الشللية الشبكية التى تتآمر جميعا على جسد الواقع وحيوية الإبداع،فلصالح من تتم هذه الفواصل المنهجية الوهمية بين قنوات الإبداع المتعددة والمتداخلة؟! ولصالح من يتم تصنيع الرأسمال الرمزى العربى الوهمى لتثبيت قامات أدبية قميئة على حساب قامات إبداعية شامخة؟!لقد انسد أفق الواقع الإبداعى الحى بكل ما يتملكه فى ذاته من شفافية وتعددية وتدفق وجودى حسى مذهل جراء هذه الممارسات النقدية القمعية،ولقد كان كثير من النقاد فى مصر والوطن العربى كله بمثابة صخور ثقافية شيطانية وضعت بتخطيط محكم لسد مجرى الأنهار الجمالية العربية الطليقة!!وساعدت كل هذه المخططات على دخول الوضع الإبداعى العام فى مصر محاق الإملاق التخييلى والمعرفى معا،وهى فى الحقيقة أزمة نقد ونقاد لا أزمة إبداع ومبدعين كما يشاع وهما، وكان من جراء ذلك أن جميع هؤلاء  من النقاد القعدة أصحاب العكاكيز المعرفية والجمالية لا يخرجون  ـ إن قليلا أو كثيرا ـ عن منطق الثنائيات الفكرية والجمالية الخشنة المقيتة التى تعكس رغبة معرفية تصنيفية إرهابية  بغية الاستحواذ الجمالى والمعرفى والنقدى على السوق الإبداعى العربى بعيدا عن الاصاخة الجمالية لسماحة تعدد الوجود المنهجية والإبداعية معا كما هى فى الواقع،ومعظم هؤلاء النقدة الراطنين بعجمة الفكر وغوغائية النقد،ممن يمارسون أستاذية نقدية مدججة بالنسق النقدى التسلطى، والمدشن بقوة المواقع الثقافية التى أستأمنتهم عليها الدولة،لا يملكون من الصبر المنهجى، وقوة المعرفة الجمالية  والمنهجية الحداثية الأصيلة، والعرق المنهجى التركيبى الخلاق ما يكفى لمعاينة الإبداع فى ذاته ولذاته ـ لوجه الله ـ بعيدا عن  سطوة وإرهاب وأستاذية المخاوف والمكاسب والمطامح والمستقبليات الشللية الأيديولوجية المقيتة، وفى هذا الجو البلاغى المعرفى التسلطى لايقل الإرهاب الجمالى عن  الإرهاب السياسى والاقتصادى والعولمى، فى واقع بلاغى تزييفى تسلطى هلامى لا يعترف بماجد على الوعى الجمالى والمعرفى المعاصر من مستجدات فعالة وناجعة،ولا يعترف  بالقيمة المعرفية والفلسفية للتعدد والتداخل والتجريب وإحسان الإصغاء الجمالى للواقع نفسه الذى هو أكبر منهم ومن نظرياتهم ومواقعهم الآمنة المطمئنة،فآثروا سياق أهل الثقة النقدية القديمة، على سياق أهل الخبرة الجمالية المتجددة، وأداروا ظهورهم للقدرة على خلق فكرة ((التحقيل المنهجى المنظومى))(8) لإعادة إكتشاف الثراء البلاغى التعددى من حولنا،إن فكرة الإرهاب الجمالى والمعرفى نفسها تنال بنية الوعى، وتركيباته وتصوراته،قبل أن تنال منتوجاته وتأثيراته،ولا أريد أن أستطرد قليلا ولا كثيرا لأرصد صورا بلاغية تعسفية كثيرة مارسها معظم نقادنا على الخطاب الإبداعى والنقدى المعاصر، بصورة عرقلت بل عوقت ـ بل قضت على ـ المسيرة الجمالية التجريبية للعقل الجمالى العربى المعاصر فى جميع الدول العربية،وإن بدرجات متفاوتة بين بلد وآخر،وبالطبع فقد كانت هذه التصورات البلاغية التعسفية راجعة فى معظمها لأسباب فلسفية وجمالية وسياسية وثقافية كثيرة كما بين آنفا،لكن أخطرها وأشدها وقعا كانت تتمثل فى قلة الصبر المعرفى والنظرى الأصيل لدى النقاد،وغياب القدرة على التخييل التركيبى للظواهر الإبداعية والنقدية،أو القبول بتعدد السوق الرمزى الجمالى، حتى يمتلكوا القدرة على رؤية الواقع الإبداعى العربى فى ذاته ولذاته بالفعل لا بالوهم، وليزحزحوا جهامة الفواصل المعرفية والبلاغية الصارمة فى المنهجيات البحثية المتسلطة التى يمارسونها على المنجز الإبداعى،وإذا قارنا بين ثقافة الأكاديميات وثقافة الشارع والرصيف وجدنا وعى البسطاء العاميين فى مصر بحقيقة اليومى والوجودى بصورة أكثر نضجا من كبار المثقفين فقالوا مثلا لمن يمتلىء أو حتى يتملأ بالقول الجمالى المعرفى المجرد دون اجتراح أى صورة من صور الفعل ((نفخة كدابة)) أو ((نفخة ربة)) ونفخة الربة تعنى فى أمثالنا العامية أن البهيمة عندما تأكل البرسيم الجاف يحدث لها شبعا كاذبا فتنتفخ فى الظاهر لتوحى بالامتلاء،ولكنها مثل البوصة عندما تلبست لباس العروسة،تصير محض علامة أيديولوجة زائفة،كذلك تنتفخ النظريات والسياسات والتصورات نفخات لغوية إنشائية  لتنبنى العقول والوجدانات العربية نفسها انبناءا إنشائيا زائفا فترى الأشياء والواقع والذوات والتاريخ والسياسات رؤى مرتبكة مختلطة أشبه بالصخب الصوتى العام الذى لا تتبين فيه صورة من صورة وكأن الناس تتعقل الواقع المادى اليومى نفسه  عبر صورة سريالية يومية مشوشة، ،بعد أن صارت الحقيقة المعرفية والجمالية صناعة رمزية افتراضية، والقصد إكراها دلاليا، والمعنى تدشينا أيديولوجيا،وكل ما يتأطر داخل بنية اللغة يكون هو صورة الوجود في مقابل العدم والتلاشي الذي يكون خارج بنية اللغة ، إن الاتساق التداولي للمعنى العام يجرحه هذا الاتساق الدلالي الكامن في حواف الأشياء ، وهوامش الأحياء، ومنسيات التدلال ، ومسكوتات البنية المادية للواقائع والأكوان والتصورات ، إن الأيديولوجيا متلبسة باللغة الموازى الوجودى للحقيقة  تخلق زمنا جديدا للحقيقة الكلية والنهائية، وإذا كانت المعرفة كما تقول قواميس اللغة هي أن ندرك الشئ على حقيقته، وإدراك الشئ على حقيقته يعني ضمن ما يعني ضرورة التجريد للوصول إلى بنية المعنى الكلي، أو النموذج المعرفي الكامن والسائد الذي يوزع على الأشياء والأحياء والطبيعة والكون والواقع والثقافة برمتها المعنى والقصد والدلالة ، وهذا يؤكد أن معرفتنا بالعالم المحيط بنا معرفة لغوية أيديولوجية في المقام الأول والأخير ، ولعل تاريخ التطور المعرفي للحقيقة هو تاريخ التوظيف الإنساني للغة، فهناك من رأوا الحقيقة هي الشئ الذي يناظر ما في الواقع ، او هي الشئ المتماسك عضويا مع ذاته ، او هي ما يساعدنا على النجاح والنفع والفائدة أو غير ذلك من تصورات عديدة متباينة تباين الفلسفات والمذاهب ، وكل أولئك ينظرون للحقيقة من زاوية صنعهم اللغوي والدلالي للقصد والغاية في هذا العالم، فكل ما ندعيه على المستوى الأبستمولوجي هو صورة تدشينية من الأيديولوجي ، إن الذي يملك حق إعطاء الصورة – بكافة أشكالها ومستوياتها الإعلامية والأيديولوجية – يحتكر أيضا حق توزيع أدوار الحقيقة بين الرئيس والمرؤوس، وصور الوجود الاجتماعي المتعددة،وهنا تعود قصيدة النثر فتشكل حقائق معرفية وجمالية أخرى حيث تؤسس ((مجاز الهواء)) كما لدى عماد أبوصالح فى نصه السابق،ومجاز الهواء النقى قادر على تحريك الغلظة الرمزية المتلبسة بجسد الحياة فينفضها عن غباراتها اللغوية والسياسية اليومية المعتمة لتعود لنا الحياة التى سرقها المجاز واللغة وأنظمة رموز الساسة،لينقلها من حالة البناء الجمالى والمعرفى كما فى القصيدة التفعيلية الموزونة إلى حالة ((مجاز الهواء))،أو قل حالة ((مجاز الصمت))  فى قصيدة النثر،وكلاهما فيما نرى ـ مجاز الهواء ومجاز الصمت ـ حفر تشكيلى ومعرفى وليس بناءا،والفرق بين الحفر والبناء أن الأول يعيد تأسيس الحضور الغائب فى حين البناء يكرر حضور الحضور الزائف،يكرر اللغة والهوية والوعى والنسق والثقافة بما هى ثوابت عربية تاريخية، ثوابت جمالية ومعرفية لاتريم، لكن مجاز الحفر الجمالى والمعرفى هو قوة الحسى اليومى الحى عندما يطلع من بهاء الحياة البسيطة،الحياة قبل اللغوية،يخرج الحسى اليومى البسيط عبر مجاز الهواء مبللا بالدموع والفرح والنسيم الحر الطليق،حيث ينكتب الوعى من جديد من داخل روحه الغائبة الخاصة به،وليس من خلال اللغة الرسمية العامة التى تباعد دوما بينه وبين نفسه،وبين الواقع وبين قوته،اللغة الجمالية والمعرفية العامة لا ترى التفاصيل التى تكون جسم الحياة والتاريخ والذات والواقع بل ترى التشابه والتماثل والتطابق العنيف الغليظ بين النظريات والأشياء،بين الواقع وأفكار الساسة،بين الدين وأفكار الفقهاء،بين الهوية وكلام المثقفين،وكل هذه حوائل رمزية كثاف تحول بيننا  وبين إنسانيتنا من جهة وبيننا وبين واقعنا من جهة أخرى،لأنها تسوى بين الطبيعة والثقافة،وبين الغريزة والأنساق،وبين الشريعة السمحة فى ذاتها وبين كلام الفقهاء عنها،وكل هذه التصورات تمحو ظلالنا الإنسانية العابرة والأصيلة فى مقابل عمومية رمزية تجريدية قاتلة لروح الحياة الخلاقة،فالكلمات والنظريات تمنع بقدر ماتمنح،وتحجب بنفس قوة إدعائها الإظهار،إن مايند عن الأنساق الثقافية الكبرى هو((قصد الحياة)) بتعبير برجسون،ومن هنا عنيت  أسست قصيدة النثر كما قلت آنفا ((مجاز الحفر الجمالى والمعرفى)) فى مواجهة((مجاز البناء الجمالى)) لدى القصيدة التفعيلية الموزونة،وإذا كان مجاز البناء يعد الفن تنظيما وتركيبا وسيطرة تشكيلية جدلية على الواقع الحسى الخام من أجل خلق موازة تشكيلية جدلية بين الواقع والفن،فمجاز الحفر فى قصيدة النثر تفكيك وتقويض وهدم لفكرة البناء  بالمواريث الراسخة والأفكار الكبرى، ولا يفهم رافضوا قصيدة النثر أنها  حفر هادم وهرطقة مجدفة غير بانية، فمجاز الحفر هو بناء بالخلخلة لفكرة الحضور الزمنى ذاتها،وتأسيس فكرة استعادة الواقع اليومى العابر المؤسس لقوة الأفكار وليس العكس،واقرأ معى هذا النص البديع للشاعر أشرف يوسف: ((البيت)):

ما الذى يحملنى ياصديقى على التنقل بلا كلل بين الدقائق

أخذت ملاحظات كثيرة عن أشياء كثيرة

مذكرات مقتضبة دونتها بدقة ما أمكن

ليبدو كل ذلك مفهوما وقابلا للتذكر

اعتدت أن أستطيع الفهرس،أختار فصلا

وأحتفى بفقرة أعلقها على الحائط

الآن كلما وقفت بالفهارس أتعثر

ولا تبوح الكتب

الآن ومثل آثار أصابع الطيور المهاجرة

وجه الأرض لا يكاد يلوح شىء ذو معنى موثوق

الآن يا صديقى الذى أهدانى كتابين

أرى العالم يتقدم أتونا فاغرا مستعرا

يأتى على المعارف والرجال والنساء والحجارة

شىء ما بلا ثقل ولا لون ولا حضور

يأتى ثم يذهب فلا يبقى على الدوام(9)/ ص64/65

 قصيدة النثر تحفر هنا فى الحضور الذى لا يحضر أبدا،وتمحيص تخييلى صامت لما ينتاب نسيج وجودنا الكثيف من خلل، وكشف بناء لما ينخر فكرة حضورنا فى الواقع،وإعادة تشكيل للسوس السياسى والاجتماعى والثقافى الذى ينخر فى جسد الهوية ولا يدركه أصحاب الطنطنات الثقافية والنظرية الخارجية،  فالعالم فى النص يتكون من اليومى الموار والمستعر بالاختلاف والتموج والتبدل والصيرورة،فكيف تمسكه الكتب والأفكار العربية المجردة الكبيرة؟ العالم يسبح فى خفة مطلقة حيث لا ثقل ولا لون ولا حضور وهى صورة تذكرنا بمجاز خبرة الهواء العارية فى النصوص السابقة،فاليومى أوسع من حدود الناس والكتب والحجارة حيث لاشىء يلوح ولاشىء موثوق به بالكلية،فالواقع اليومى البسيط فوق قدرة الفهرسة التصورية المجردة،التى فهمت مفهوم الزمن العربى فهما غليظا مسدودا ينفصل فيه حاضر متحرك الماضى الجمالى والمعرفى الراسخ  فى الذاكرة والخيال عن حاضر الحاضر اليومى المتفلت دوما صوب المستقبل والماضى فى وقت واحد وبصورة حسية باذخة،بما يفصلنا دوما عن لحظة التطابق التام والكامل مع ذواتنا الحالمة، وهواجسنا الصغيرة المكلومة،وذكرياتنا المتفلتة عن صخب الكتب والثقافات الميتافيزيقية الضخمة،وإيقاعات الطرطشات  الموزونة التى تتفلت منها بالضرورة إيقاعات باذخة فى كثافة اللحظة اليومية الحاضرة المتناهية فى الصغر والكثافة والتعدد والتداخل والترامى فى وقت واحد وكأننا فى إيقاعات عوالم تكنولجيا النانو التى ليس بمستغرب أن تجمع فى صغرها المطلق جميع العوالم فى اللحظة الحاضرة،لحظة الفيمتو ثانية بالمعنى الفلسفى الزويلى المعاصر،فهى إيقاعات لحظة تتكون فى المكان الذى تفر منه دوما أوهى عندما تتكون فى فى إيقاع فيمتو ثانية جمالى ومعرفى غير مرئى لكنه موجود تكون قد أفلتت منا بصورة مطلقة إلى إيقاعات فيمتو ثانية أخرى وهكذا دواليك إلى مالانهاية،وهذا يعنى أن إيقاعات قصيدة النثر من الخفاء والكثافة واللطف والخفة إلى الدرجة التى تحير فيها التنظير الجمالى العربى والغربى المعاصر،ويجب علينا ألا نفر مما نعجز عنه،فالصبر على مكابدة الواقع مهما قان قاسيا خير لنا ألف مرة من الإطاحة به واتهامه وإقصائه،قصيدة النثر فى إيغلها الإيقاعى الهامس غير المرئى تكتب جماليات اللاوعى الثقافى والجمالى والمعرفى العربى القادم،وتؤسس لوعى عربى آخر،إنها تنغل فى رحم تفاصيل المستقبل العربى المكنون فى كليات الحاضر المجردة،فتصور الخفة التى لا تحتملها قسوة اللغة الرسمية العامة،ويتفلت مجازها الهوائى الحر من ثقلة الكنايات والاستعارات الكبيرة،لأنها استعارات الصمت والغياب والاحتمال،يقول أشرف يوسف فى قصيدته((باعان للخفة)):

دع الجميلة الفتاة

فلسبب لا نعلمه تدرك أن حضورها

يملأ جناحى الطائر بما يكفى لملء السفح والأفق

طلبت الاستغناء أو النسيان ثم الاستعلاء مع التذكر

فلما استقر الاستغناء واستوى النسيان والتذكر

لم يبق إلا أنه بين السموت سمتك هو القابل الضام

المحتوى وبين الأصوات صوتك هو المعلم الحكيم

وغايتى ليست أكثر من أن تحتوى يدى يدك

التى تمتنع على الاحتواء فهى اليد الخفية بلا

ثقل ولطف بلا تحدد

فلتكن يدك ويدى فلقتى نابتة أقرب إلى قلبى لا نهديك

نعومتك وقوة ذهنك باعان للخفة//الديوان(10) ص68 ،69

إن اليد التى تمتنع عن الاحتواء،والمعنى المتأبى عن الإمساك به نظرا لخفته الحسية الباذخة،يؤسسات لفكر جمالى آخر،يؤسسان لحركة التباعد والتفتت والتجدد والتعالى الحسى الباذخ  الذى ينتاب لحظة وجودنا اليومى البسيط،بما يمنع اللغة والوعى والذاكرة والخيال من الإمساك بما ينتابنا فى الخفاء والصمت،ويمنع الشعر نفسه من التطابق مع لحظتنا اليومية الباذخة بالثراء المتفلت دوما من اللغة الكبيرة المجردة،وكان شعرية قصيدة النثر معنية هنا بكتابة((مجاز الفراغ)) إذ تكتب الملاء،ومهمومة ((بكتابة المحو)) إذ يتنازعها الإثبات، تكتب قصيدة النثر((مجاز المحو)) فى مواجهة ((مجاز الصحو)) المجازات التراثية والمعاصرة الكبيرة ،مجاز قصيدة النثر ينحل فى الذاكرة ويفر إلى التجريب ويتهادى إلى المستقبل فى وقت واحد، إن مجاز قصيدة النثر تبنيه فكرة جدل الاختلاف،وليس جدل التركيب بالمعنى الهيجلى أوالماركسى أو البنيوى، أو الجولدمانى التوليدى، أو حتى فكرة  جدليات الخطابات الثقافية،فمجاز قصيدة النثر مجاز  ((ليل الاختلاف غير المرئى)) والذى تتنفس فيه الكائنات هواء نمائها اليومى، وليس مجاز النهار اللغوى السلطوى العام اللامع بالبهرجة والشكليات والصخب والهدر اللغوى الاستهلاكى،عندئذ تصير جماليات قصيدة النثر جماليات شهادة يومية لحظية كثيفة،لا جماليات شهود حضارى واسع،ويصير التشكيل فيها مدود جمالية ومعرفية للإمكان وبسط للاحتمال لا جزر وقبض لتشكيل المعانى،يصبح الشعر فى قصيدة النثر حركة صدوع لا حركة انسجام،كما فى القصيدة الموزونة،حيث تكتب قصيدة النثر جماليات الثغرات المعرفية،واحتمالات الفجوات الجمالية،ولا تشكل تناسبات بنائية للخطاب الشعرى المجلجل، وبكلمة واحدة: قصيدة النثر عيان واستبصار وحفر، وقصيدة التفعيلة بناء وصياغة وجدل،يقول فتحى عبد الله فى نص:

(( الملاك الحارس))

أثناء زيارة الجنيد للملاكمين على الحلبة الصغيرة

أخذنى من القدم اليسرى

وأطلعنى على المخطوطات التى عثر عليها

الإيقاع المسموع فى الحجرات لهاث مقطوع

لا يأخذه البيانو اثناء النوم

أو لعب الحيوانات المطرودة من غاباتها الأولى

ولا أسمعه فى المراكب

 الأنفاس التى تلاحقنى تلهب أصابعى

 وأعرف أصحابها من المقاهى والحانات

وربما الحقول التى ورثوها

إيقاعاتهم بالعيون وربما بالإشارة

بعد أن تأخذ الأحداث طريقها إلى الإعلان

هنا إيقاع اللهاث وليس أيقاع الصياغة،إيقاع العيون وليس إيقاع الإشارة،حيث يكون الجسد جسدنا وجسد الوجود اليومى من حولنا أقرب إلينا من اللغة التى دجنت حتى جيناتنا،ففكرة اللاشعور نفسها قد تخلت عن الفكرة البيولوجية والنفسية لدى فرويد ليحل  بديلا عنها لا وعى لغوى رمزى لدى جاك لاكان،حيث صارت تحدد اللغة المجالى الإدراكى الجديد والمراوغ  لحدود سعادتنا وشقائنا وليس مجرد مجال نطقنا ووعينا الخارجى كما فهم خطأ،فنحن نتنفس لغة ونبكى لغة ونسعد ونشقى لغة،بل تصير حدود الذات والوطن هى حدود لغوية فى المقام الأول والأخير،وتصبح حدود الكلمات حدود السلطات،ولقد وعت قصيدة النثر هذا الزيف الإيقاعى الأيديولوجى الكبير الموازى الثقافى لفكرة البناء الجمالى والثقافى الرصين، فعملت على تفكيك أوصاله الترميزية العامة، لتستبدلها بأوصال الواقع اليومى الحسى،أوقل بلغة النص الواقع قبل أن يأخذ طريقه إلى الإعلان فى اللغة،والنص هنا يفتح وجودنا ولغتنا ورؤيتنا للجمال والواقع على جدل الاختلاف الهائل بين قوة الأشياء المتمثلة فى اللهاث المتقطع الذى يفر من قدرة آلة البيانو عن الإمساك به، وتوحش القدرة البدئية لقوة الحيوانات الغابية التى تتأبى على تدجين المراكب المغلقة،وسخونة الأنفاس الطليقة فى الحلوق والنفوس والحانات والمقاهى والحقول بعيدا عن سيطرة اللغة والأسس الجمالية والمعرفية العامة عليها،يفتح النص هنا قوة الاختلاف الهائلة بين تنميطية إدراك الأفكار والطلاقة الحسية الباذخة الكامنة فى قوة أشياء الواقع اليومى الحر،فالنص يحفر فى لاوعى الأنساق الثقافية العامة التى كونت عقولنا وذائقتنا ليلفتها عن سطوتها الرمزية الواهمة،فليس تحت القبة شيخ كما يدعون،بل علينا منذ الآن أن نفكر فى فكرة الحضور الزمنى العربى وهل نحن نوجد بالفعل لا بالوهم فى هذا الحضور او قل هل يوجد حضور عربى بالفعل،أم نحن غائبون بالثقافة عن الثقافة،وبالمنهج عن المنهج، وبالنظريات الجمالية عن الجمال،وبسطوة اللغة عن سماحة لغة الأشياء،((مجازات القاع الحسى للواقع والذات)) تغنينا عن كل فكر نقدى ثنائى،وتغنينا أيضا عن كل تأطير ثقافى نسقى،وكل تنظير يجرد الواقع ولا يتجسد فيه إمكانا صغيرا ضمن إمكانات أخرى لامتناهية، الحيونات البرية واللهاث المتقطع والإيقاعات الهاربة من البيانو،والمخطوطات السرية لدى فتحى عبد الله تعيدنا بقوة إلى هذه الجدل الظاهراتى الهيدجرى بين الشىء المصنوع والشىء النفعى والشىء العفوى،بين سطوة الصيغ فى نظريات السياسة والثقافة وقوة رغبة التفكير فى الشىء فى ذاته ولذاته، بعيدا عن احتواء الصخب الإيقاعى العام والمجرد له عبر سياجات ترميزية تسلطية رصينة نسميها أحيانا تسميات سياسية تدجينية مثل: قوة الموروث أو تقاليد الأشكال،أو شرف الهوية،أو الحس الوطنى والقومى،ولكن أين قوة الواقع الحسى اليومى؟؟،أليس البناء الحق الشريف صوب المستقبل أوالماضى معا أن نولى اللحظة الحاضرة كل أسباب حضورها الفعلى الكتلى المادى؟!، وأين قوة دماء ولحم الأشياء التى ترتبط بذاتها بقوة عفوية حسية مباشرة تناوىء قوة التجريد الكابح فى الأفكار الكبرى،ومن هنا يسبق اليومى والوجودى، الثقافى والدلالى والرمزى فى أشكال قصيدة النثر،فلا تبتذل الكلمات لتكون تشكيلات بناء نصى بل تنغسل فى ماء التفاصيل الحسية لتكون إطلاق لكثافة الزمن اللامتناهية فى جسد اللغة،وإطلاق للاحتمالات الجمالية الغائبة والمنسية والمجهولة لتتلبس بجسدية النص،فالكلمات فى قصيدة النثر مفاتيح للوجود غير المرئى،ونوافذ للضياء المتناهى فى البساطة والعتامة معا،وحناجر لخبرات الهواء،فقط يقف الشكل الجمالى لقصيدة النثر ليكون مجرد مرور حسى للواقع والذات وهمومها اليومية من خلاله،لتستبدل القصيدة قيمة الحقيقة الحسية بقيمة الجمال اللغوية والتشكيلية،وتستبدل قيمة الجدل الثنائى والتركيبى  بالمعنى الوجودى والماركسى والثقافى ،بقيمة الاختلاف الحفرى التكوينى، بالمعنى الفوكوى والدولوزى والديريدى،فالقصيدة تمارس إعداما لغويا وجماليا وإيقاعيا متتاليا لترجع اليومى إلى حالة البياض الوجودى الحر ليصير قادرا على استضافة الحقيقة المراوغة والهاربة والمتسترة بتراب بالأرض دوما والتى سقطت سهوا معرفيا وجماليا مدبرا من فجوات الأنساق الثقافية والجمالية والسياسية الكبرى،نص قصيدة النثر ينحو صوب أشكال جمالية تؤسس عراء الوجود والواقع والذات،ولا ينظر لمفهوم الحقيقة والجمال بوصفها نسقا وتكوينا بل بوصفها حفرا وتفكيكا وانبثاقا حسيا دمويا عبر ظلية الشكل،ومن هنا تتوازى صورة  الطفلة الموسيقية ريم راقصة الباليه عند محمود قرنى وقفزها فى البياض الوجودى كالملاك وصورة الكلمة المقتولة المنبوذة فى العراء لدى عماد ابوصالح وصورة اللهاث المتقطع المتأبى على قدرة آلة البيانو على الإمساك بإيقاعاته،وصورة المخطوطات الصوفية السرية وما تترامى إليه من أشكال أحزان المقاهى والحارات والحقول لدى فتحى عبد الله،وكل هذه الصور تدفع بصورة المطر الحنون لدى الماغوط الأب.ولا يظنن ظان أننا ندعو إلى محو المجاز والإيقاع من الشعريات العربية المعاصرة،فقط نود ان نلفت النظر النقدى العربى السائد إلى وجود إعادة النظر العلمية والمنهجية والجمالية فى قضية الإيقاع بعيدا عن الإحساس النقدى المكظوظ بحس الأزمة والمحصور فى قطبى(0إما ... أو)) معرضا عن المنطق العلمى والفلسفى الجديد فى نظريات المعرفة المعاصرة التى تقر بالمنطق البينى الغائم الذى يطلقه فلاسفة كبار لهم باعهم العلمى والفلسفى الرصين فى  الغرب الآن أمثال(0إمرى لاكاتوش وفيرا أبند وتوماس كوين وتوماس دبليو كواين،ورولان اومنينوس ودفيد بوهيم وغيرهم كثيرون أقروا بالحد الثلاثى والرباعى والخماسى والافتراضى فى رؤية إيقاعات وحسيات الواقع اليومى المتناهى فى البساطة والتعقيد معا،لقد انتفت السببية التعاقبية العلمية  المادية الجاسية من العلم المعاصر فى رؤيته للزمان والمكان والواقع والذات والوعى، لتحل محلها السببية البنائية الدورية التى ترى السبب والنتيجة ـ بل أكثر من سبب ونتيجة فى وقت واحد ـ متداخلين متجادلين وحادثتين فى وقت واحد وفى مكان واحد، بما ينفى ثنائيتهما ويؤكد ازدواجيتهما بل تداخلهما معا وفى وقت واحد، وينفى فكرة التسلسل المنطقى بينهما،بما يفكك مبدأ الهويات الجمالية المركزية إلى سلمات جمالية تدرجية تعددية احتوائية،تتغلب فيها نسبة السمة الجمالية على السمة الجمالية الأخرى، ولا تقصى فيها الهوية الجمالية الحدية المركزية، الهوية الجمالية الهامشية الاختلافية المضادة، وهذا التصور للواقع والعالم وبالتبعية النصوص يسمح بخلق مراكز جمالية تعددية تتبادل التأثير والتكوين والتصعيد المعرفى فى وقت واحد، وينفى فكرة المركز الجمالى الواحد،بما يذكرنا بمنطق الاشتباه والتداخل فى فيزياء الكوانتم، فقد انتهى منطق السببية البسيطة التى تؤدى إلى الحتمية الميكانيكية،وحل بدلا منه المنطق البينى الرمادى الذى يسمح بتداخل الزمان بالمكان بالشخصية بالحدث بالخيال بالاستشراف فى وقت واحد،لقد كشف المنطق العلمى التجريبى بأن جزيئات الضوء(( الفوتونات)) تتصرف فى بعض التجارب على أنها جسيمات وفى بعضها الآخر على أنها تموجات، مع أن المادة واحدة،وهى صحيحة فى كلتا الحالتين،لقد تداخلت الذرات بالموجات بالتخييلات بالاستشرافات فى الفيزياء المعاصرة بما ينفى منطق الصرامة والوضوح والانفصال، ويحل بدلا منه منطق الرحابة والتموج والتداخل ويؤصل منطق المجهول والغياب بنى علمية أساسية فى بنية منهجية المعلوم،ولقد غيرت فلسفة العلم المعاصرة جراء ذلك من حدود قضاياها التحليلية والتركيبية وحدود تصورها للمنطق نفسه،فلم تعد القضايا تتبع منطق((إما ـ أو )) فتكون إما صادقة وإما كاذبة، وما يؤسسانه من منطق القابلية للتصديق والقابلية للتفنيد، بل من الممكن الآن أن يتأسس منطق جديد ثلاثى او رباعى الأبعاد ـ ويقع فى الصميم من العلمية التجريبية النافذة ـ،أو قل منطق منظومى بينى ـ لو صح تعبيرنا ـ بعد أن تداخل فى بنية العلوم التجريبية والإنسانيات معا قيم الشواش واللاتحدد واللادقة واللامعنى فصارت القضايا إما كاذبة أو صادقة أو غير محددة أو مستشرفة،وناوأ العقل التخييلى العقل التحليلى وتداخل معه فى الفيزياء المعاصرة،وأدرك أكثر العلماء الآن أن أكثر ما نسميه (قوانين علمية راسخة) هو مجرد نماذج معرفية فلسفية مهيمنة على بنية الوعى واللاوعى معا،تتحكم فى بنية الظواهر الفعلية، أكثر مما تتحكم هذه الظواهر فيها، فلا تنفصل الظاهرة المراقبة عن شعور المراقب عن قوة الأداة المراقبة، ومجمل الظروف التى تتم فيها المراقبة، أوالمخاوف والاستشرافات التى تحيط بجو المراقبة،وغير ذلك مما نراه أو لانراه،لقد عاد السياق الاجتماعى والنفسى لبنية العلم من جديد بعد أن نفى  العلماء قديما وحديثا التاريخ عن العلم،واكتفوا بمنطق العلاج دون منطق الوصف،فقد أقروا كثيرا بالمثال العلمى التجريدى بصرف النظر عما يحدث فى حنايا الوقائع والذات والتاريخ والوجود بصورة عامة،ولقد عاد العلم بوصفه بنية موضوعية تجريبية داخلية ليدخل ضمن السياقين النفسى والاجتماعى والتخييلى الافتراضى،ليصير التاريخ السيكولوجى والسسيولوجى بكل هواجسه المرئية واللامرئية جزءا تأسيسيا من بنية العلم نفسه،إلى الدرجة التى اقر فيها العلماء بتعددية النظريات العلمية فى الواقع وصلاحية هذا التعدد فلم يعد المكان مكانا واحدا ولا الزمان،بل ثمة وفرة من الافتراضات والاحتمالات والنظريات التى توازى الوفرة الواقعية للواقع نفسه وتعدديته اللانهائية،فلا فيزياء أينشتين تغنى عن فيزياء نيوتن،ولاميكانيكا الكوانتم تتضاد مع منظومة الفوضى، كما وهم مفكرونا المعاصرون فقالوا بأن النظريات العلمية ينفى بعضها بعضا بعكس الآداب،والحقيقة أنه لا نفى ولانتفاء بينهما بل تداخل منظومى بينى تعددى عبر متصل مجازى واحد بين بنية العلوم وبنية الإنسانيات يتحد فى المنظور ويختلف فى درجة المنظور، بل توصل العلم أخيرا إلى أن المادة نفسها فى ذاتها تحتوى على شعور وتعقل وخيال خاص بها بما يجعلها  كما يقول أحد العلماء ((ذاتية الخلق والتحريك)، بعيدا عن تسلطات مناهجنا ومعارفنا فى رصدها وتاطيرها، هل لى أن أتخيل بناء على ماسبق  من مستجدات معرفية  وفلسفية ومنهجية أن بنية المادة نفسها بنية استعارية حرة مثلها مثل بنية الوعى البشرى الذى  لا يفكر إلا من خلال التشبيه والاستعارة كما أقر بذلك فى جسارة فلسفية أصيلة كل من جورج لا يكوف ومارك جونسون فى كتابهما (الاستعارات التى نحيا بها)؟! والذى قلب الفلسفة الغربية كلها رأسا على عقب بعد أن أدخلا مفهوم الجسد والعقل المتجسد فى قلب الوعى الفلسفى والمعرفى والمنطقى المعاصر!!هل لنا أن نقر هنا بأن الواقع والعالم ملىء بالشعريات الخافتة الكمينة والإيقاعات الصامتة المبينة فى القاع الحسى الصخرى السحيق لوجودنا اليومى البسيط بعيدا عن نظرياتنا ومعارفنا ومناهجنا؟!!إن النشاط الكامن فى بنية المادة والذى يتجاوز ماديتها وحدودها وينطلق نحو عولم تعددية بينية غير مادية يجعلنا نظن ونتخيل بأن خواص الوعى البشرى مركبة على خواص البنية المادية للكون فهذا الكون كما يقول علماء الفيزياء مكون بدقة بالغة وبنسب غاية فى الصرامة والانسجام والتعدد والتداخل بحيث يكون أهلا لنا ان نعيش فيه،ونكون اهلا له بأن يعيش فينا، فيها مافينا من تحول وتبدل وصيرورة وتطفر ونشاط وخلق وتخييل!!ألم يقل فيثاغورس من قبل أن الكون كله من الذرة وحتى المجرة غارق فى العدد والنغم،مما يؤكد ان الوجود باسره يسرى الإيقاع فى أوصاله المعلنة والمضمرة سريان الدم فى الأنسجة الحية،لقد فاض العلماء الكبار فى منظوراتهم العلمية التجريبية الجديدة فى الفيزياء الذرية والرياضيات الحديثة وغيرها من العلوم التجريبية المعاصرة ـ أفاضوا  فى أن الإيقاع نفسه أحد المكونات الأساسية والوجودية فى القانون العلمى التجريبى نفسه،فالإيقاع لازم لزوم وجود فى الكائنات الأشياء والنظريات لزوم وجود لا لزوم نظر،وهناك مايعرف الآن بجماليات العلم فهناك البرهان الأنيق، والنظرية العلمية الرشيقة والأنيقة الخالية من غلظة الطنطنات العلمية والنتوءات المنطقية،والفجوات المعرفية،وصار العلم المعاصر لونا من ألوان المجاز بعد ان كشفت الفلسفات المعاصرة عن مجازية الإدراك الإنسانى قبل مجازية الخلق البيانى فالمجاز الان فى الفسفات المعاصرة صار ينال بنية التصور والإدراك قبل بنية التصوير والفن،لكن نقادنا فى مصر والوطن العرى كله لازالوا تابعين لجمعية المحاربين القدماء عن تركاتهم التراثية وكأن هذا التراث الجمالى والإيقاعى يعنيهم فقط ونحن خارج المواطنة الإيقاعية والجمالية والمعرفية،ناسين أن ثمة فروقا معرفية ومنهجية حاسمة بين تجميد الإيقاع فى اطر كلية مجردة وبين إطلاق الإيقاع من حبسته المعرفية السائدة،هناك احتباس إيقاعى وجمالى ولغوى وفكرى فى جسد الواقع العربى والذات العربية، بل لا اغل وفى القول إذا قلت بأن هناك احتباس معتم وشامل لحركة إيقاع الثقافة والحضارة العربية المعاصرة،وفرق كبير بين أن  نلغى حد الإيقاع فى قصيدة النثر وهذه مغالطة وجودية قبل معرفية،وبين أن نوسع من الإمكان الإنسانى والجمالى والمعرفى للإيقاع ليصير الشعر أكثر أصالة وتمكنا واستشرافا لذواتنا وواقعنا وهمومنا،ونحن نؤكد هنا بان حدود الإيقاع هى حدود الوجود لا حدود الثقافة والنظريات والمناصب،وأن حدود الإيقاع حدود الحركة لا السكون والانتظام المكرور،الإيقاع تكرارا ثريا لاهوية راسخة،الإيقاع حد جمالى ومعرفى مستقبلى تجريبى أكثر منه ماضى وراثى أو حاضر سائد،فآصل النغمات لم تولد بعد،وأرهف الإيقاعات تبحث عن قواعد موسيقية تجريبية جديدة تعيد تأسيس حسنا الإنسانى اليومى بالواقع المحيط بنا،علينا أن نصيخ السمع العلمى والمنطقى الجديد لماهو موجود بالفعل،فالواقع والطبيعة لايمتلكان أشكالا أدبية وإيقاعية مكتملة وجاهزة ومسبقة،فالعقل والمنهج والخيال والإيقاع تنبنى وتتطور جميعا بقوة الاستباق العلمى التخييلى الافتاضى التجريبى وليس بقوة المطابقة مع النسق الثقافى السموروث والسائد فقط،فقوة الواقع أبعد من حدود الماضى والحاضر،وأبعد من تاريخنا الجمالى الظاهر لنا،علينا أن نكون داخل اللغة والوجود وخارجهما فى وقت واحد لنخرج من أزماتنا الجمالية والإيقاعية المتعددة،والمكظوظة بالاحتباس المنطقى التليد،وكل ذلك دليل ذبذبة وذهول لادليل قدرة ونشاط واستشراف وتجريب، لقد ضاع الحد المعرفى والفلسفى فى الفسفات المعاصرة بين مانعلم ومانجهل!!وصار العلم هو الفعل العلمى لا النظر العقلى،وصار الوعى بالجهل علما عظيما أعمق وآصل من منطق الوعى بالواقع،وفى هذا الوعى العلمى الجديد بالعالم هل يظل المجاز والإيقاع كما هو فى التصور التقليدى للعالم؟ لقد آثر معظم النقاد الانتصار لحدود النظرية النقدية على حساب جسارة التخييل الإبداعى،ونسوا أو تناسوا أن فلسفة العلم المعاصر تقرر لدى كبار فلاسفتها بان العقل التجريبى نفسه هو عقل مجازى استعارى فى المقام الأول فنحن ت البشر ـ لانستطيع ان نفكر أى لون من ألوان التفكير إلا بصورة استعارية،ومن هنا فإن عقولنا ونظرياتنا ووعينا ولاوعينا معا تعوم على بحيرة مجازية لجية يتدافعل بعضها فى بعض كما تصور فيلسوف العلم الكبير إمرى لاكاتوش ـ التلميذ النجيب لرائد الوضعية المنطقية كارل بوبر ـ لمنهجية تطور بنية العلوم والمناهج فى دراسته الأصيلة المبدعة عن(( برامج البحوث العلمية))،إن الخضوع المعرفى والجمالى لنسق بلاغى نقدى جمالى معيارى تجريدى تعميمى ،أبعدنا كثيرا عن القدرة على اكتشاف البلاغات البازغة الوليدة فى أشكال الواقع التى لاتنتهى،أو قل قلل القدرة البلاغية والمنهجية لدى النقاد العرب المعاصرين على هذا الاكتشاف،ولقد دار الصراع المجازى بين القدماء والمحدثين عبر الحقب الجمالية المتباينة جراء هذا المنعرج البلاغى الحرج الذى يبلغ فيه السقف المعيارى للبلاغة حده الأقصى أمام بزوغ سقف بلاغى تجريبى جديد،ولعلنا نتذكر فى هذا السياق أن سيطرة اللفظ والأصل والتجويز على العقل اللغوي العربي القديم،قد أدى إلى انتصار المعيار على التجريب واجتراح دم وعظم الواقع في الممارسات اللغوية والشعرية على السواء ، وقد رأى محمد عابد الجابري (( أن طلب المعاني من الألفاظ بدل البحث عن حقائق الأشياء،تصرف العقل عن صياغة المفاهيم وتجعل نظامه تابعا لنظام الخطاب ، حتى ليستمد الخطاب قوته من التجوز في الكلام القائم على الملازمات بين المعاني ، فيغيب نظام السببية بغياب التفكير في نظام الأشياء))(11)،إن الاستغناء بعالم الألفاظ عن عالم الأشياء،وعدم التفرقة المعرفية المنهجية الواضحة بين دوائر بحثية متداخلة ومنفصلة فى آن هى: عالم اللغة،وعالم الأشياء،وعالم التفكير فى حالة الأشياء،قد أربك العقل اللغوي والبلاغى والنقدي إلى حد كبير، وجعله يفكر في بنية اللغة وكأنها منجم المعنى الجوهرى الثابت بعيدا عن التصادى البنيوى الحركى للواقع نفسه، واقع الإبداع أو واقع التطور اللغوي والبلاغى واشتباكها الحى الخلاق بالمنجز الإبداعى، بما حول العلاقة بين ـــ ما كان يسمى قديما جدل اللفظ والمعنى أوجدل الشكل والمحتوى حديثا،أو جدل النظرية والنقد وخطاب نقد النقد فى اتجاهات الحداثة ومابعد الحداثة،ــ إلى علاقة جواز واحتمال وتأطير للمعايير بعيدا عن  حركية دفقات الوجود وهو أساس كل جواز وحركة واحتمال، ومن هنا نشأ هذا التناقض المنهجي الفادح في منهجية البحث اللغوي والبلاغى عند العرب قديما وحديثا وإن بدرجات أقل،كما أدى إلى خضوع النظريات النقدية لذلك من جهة استسلامها لوهم  دقة منهجية الاستنباط،وقصور إجراءات الاستقراء، وعشوائية سطوة المعيار،في بناء عالم لغوي بلاغى نصى يخشى الحياة فى ذاتها، والآخر فى تعدديته، وينأى عن اجتراح التجريب تحت دعاوى منهجية زائفة  مثل الحفاظ على دقة الأصول، ونقاء البدايات،والتمسك بجوهر الهوية،إن الأنساق الجمالية واللغوية والمعرفية و المنهجية السابقة على وجودنا وتأملنا وممارسة فعل التعرف الخاص بنا، أو التي تمت على مرأى من وجودنا هي التي تدشن بنية عقولنا ووجداناتنا وتؤسس بنية الوعي واللاوعي المعرفي لنا ، ونظل على الرغم من ذلك – نتشدق باستقلالنا في الوعي ، وحريتنا في الحس والإدراك والتجريب ،وقدرتنا على الإحاطة الداخلية والخارجية، لكننا لن نفلت من هذه الأطر الثقافية والروحية التي تدشن وجودنا المرئي واللامرئي على السواء ، ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقرر بأن معرفتنا العربية والنقدية بذواتنا والعالم من حولنا كانت ـ للأسف ـ معرفة لغوية لا وجودية ، نسقية لا تجريبية، سببية آلية لا نقدية حداثية ـ فهى لاتعاني محنة الارتباط والتصنيف والتأطير المنهجى المنظم والدجماطيقية لا المرونة والطلاقة والحيوية والتعضون الداخلى والخارجى اللانهائى ، فهناك آلاف العقبات المعرفية والنفسية والثقافية التي تعيق المعرفة الموضعية والموضوعية الحقة ـ إن كان ثمة ماهو موضوعى حقيقى ــ ، ناهيك عن المعرفة الدقيقة والشاملة والمعقدة ، إن كل معرفة هى تشبيه بصورة من الصور، وطالما هي تشبيه فهي تتضمن قدرا من الوهم والتخثر والخداع والفرض والانعزال ، والمجاز بقدر ما تتضمن قدرا من الدقة والإحكام والاتساق والتعضون،ولنا أن نتساءل هنا: هل ثمة حجز حقيقية بين الحقائق العلمية والحقائق المجازية؟! أليست النظريات العلمية نفسها لغة عقلية مجازية تقريبية للحقيقة، واحتمال فكري تصوري عما يحدث في الواقع الفيزيقي – احتمال ضمن احتمالات أخرى ـ كلها صحيحة بصورة من الصور ـ بما يزج بنا بالضرورة بنا فى منطقة الحدس والافتراض العلمى، في موازاة مع وجدان تخييلي شعرى فى الأدب!! اذن تداخل  العقلي مع الحدسى مع التخييلي تارة أخرى للتوصل إلى إدراك الذات والعالم والنصوص، يقول العالم هذا من باب العلم ، ويقول اللغوي هذا من باب اللغة ، ويقول الفيلسوف هذا من باب الفلسفة ، ويقول الشاعر هذا من باب الشعر ،ويقول الفيزيائى هذا من باب الفيزياء،وكلهم ينظر لحقيقة عضوية حية نامية متداخلة من خلال منظورات منهجية أحادية انفصالية، فجميعهم يجزئون الكلي، ويفتتون الحيوية الكلية المتصلة في بنية الديمومة الكلية الداخلية لبنية الأشياء والأحياء والنصوص، إن أشياء وموجودات العالم تبلغ من الخفة التداخلية التركيبية درجة مذهلة تمكنها من سفر بعضها في بعض ، وانسراب بعضها في بعض وتناوب بعضها أسس بعض، إن كل شئ يتحرك ويتحول ويتبدل، وإذا كان الالكترون والبروتون يدوران حول النواة والأرض تدور حول نفسها وأنا أدور مع الدائرين ومن فوقنا تدور آلاف الشموس وملايين المجرات ، فكيف لنا أن نحدد النسب والجهات والأبعاد والأنساق وسط هذا الدوران الكلي المحتدم الذي لا يقر له قرار، إن أكواننا وتصوراتنا وعقولنا طافحة بالأسرار والتغيرات والثقوب المعتمة، ومناطق الغياب ، والترامى المعرفى والمنهجى اللانهائى للصوامت الهائلة ، فهل للكون كله منطق ومنهج واحد ؟! أم لكل شئ في هذا الكون منطقه ومنهجه الخاص به ؟!! وكيف نحدد نسبة الخاص إلى العام إلى المجهول والصامت والمستشرف وسط هذا الموران المترامي باستمرار .بل كيف نتكشف مجازات وإيقاعات هذا العالم الجديد والأصيل حقا؟!! وضمن هذا السياق يقرر أحد أئمة الميكانيك الكوانتي، ((إن لم تستحوذه الدهشة ، ولم تعقد الغرابة لسانه لدى قراءته لميكانيك الكوانتي فهو لم يستطع فهمها ، ولا غرور في هذا القول فالميكانيك الكوانتي الذي تحيط بنا تطبيقاته من كل جانب وتشكل واقعا موضوعيا قائما بذاته هو نفسه النهج المعرفي الذي يقع أبعد ما يكون عن الموضوعية وتلك الموضوعية التي انفرد بها العلم منذ بروزه كنهج مستقل والتي استمرت حتى عهد قريب .... تأتي النسبية مكون من مراجع تتطابق في رؤيتها لهذا العالم ، ولا تستطيع تحقيق الصلة الفيزيائية ، إلا عبر ساحة محددة ، وسرعة حدية يستحيل تجاوزها ، ثم سرعان ما يلج ميكانيك الكوانتي المسرح العلمي ويصل في أطروحاته حد نفي وجود العالم ، فالعالم لا يوجد إلا حالما نتعامل معه وعدا ذلك فهو عالم غير معين وغير معروف ، بل هو غير معروف أصلا ))(12) وهذا التصور للعلم يلتقي مع تصور أينشتين الذي يقرر بأن "(( غاية الرياضيات والفيزياء ليست هي اكتشاف العلاقات القائمة بين الأشياء المادية ، وإنما العلاقات القائمة بين الأحاسيس ، العالم الواقعي هو مركبات من الأحاسيس ، فالرياضيات والفيزياء تغدوان عند العلماء الكبار فصلين من فصول علم النفس))(13)،إذن الواقع والذات والحقيقة والعالم محض تركيب حسى افتراضى تخييلى فى وقت واحد ،فعلى الرغم من أن العالم يموج بالوقائع والحسيات والموجودات غير ان تصور جميع ذلك واحداث نوع من التعالق السببى المشترك بينها، أو نوع من سيطرة القانون العلمي هو أمر راجع في النهاية إلى أحاسيس الوعي البشري نفسه ،والطبيعة المنهجية والمعرفية والإجرائية فى إدراكه للعالم المحيط به،والنصوص التى ينتجها أيضا، إن كل ما في العالم لا يفسر أو يصنف ولا يحمل المعنى والقصد إلا عندما يدرجه الوعي الإنساني نفسه في نسق علاقة ما تتناسق فيها مجازات العقل مع سياسات العلمو،تكون مكونة من طبيعة ومنهجية إدراكنا للعالم، ولعل هذا يرجع بنا إلى وجوب مناقشة المعايير والتصورات المعرفية والمنهجية والإجرائية الكامنة في النظريات الفلسفية العلمية المعاصرة مناقشات منهجية دورية مستفيضة،وبالتبعية ــ المناهج والمدارس النقدية الفنية ــ، بخصوص معيار التمييز بين العلم واللاعلم، أو الأدب واللاأدب،والمنهج واللامنهج؟! أومناقشة الحدود المعرفية الفاصلة بين مانتصوره وهما ومانتصوره حقا، ،وبين الموضوعية والاعتباطة الانفعالية .

   يبدو أن شعرية قصيدة النثر قد فهمت خطأ عندما لاكوا القول النقدي المغلوط فيما شاع من مصطلح ((الخيالات اليومية والعادية))، ويبدو أن  التأسيس المعرفى والخيالي لليومي والصامت والهامشي لم يحظى بالعناية المنهجية والجمالية الكافية لدى نقادنا ومثقفينا، لقد قال والت ويتمان يوما فيما يستشهد أمين الريحاني بأن ((النثر الشعري هو فن المستقبل))، كما استطاع محمد مندور أن يزحزح قليلا من جماليات القصيدة العمودية الخطابية،ومن جهر قصيدة الشعر التفعيلي عندما نظر لجماليات الهمس الشعري،وأنا أظن أن جماليات الهمس يجب أن تأخذ مأخذ الجد كما أرادها مندور فلا نصرفها فقط للهمس الرومانسى الشفيف،فالهمس اقتدار على السيطرة التشكيلية للنص سيطرة تخرج بالنص من حد غلظة اللغة والقيود والقواعد إلى حد الانسياب التخييلى واللغوى الحر الطليق،وكلما تخلص الشكل الجمالى من آثار عرق الإبداع وكد الشكل اقترب من جمال الحرية الرفاف والخفة الوجودية المعقدة، ويبدو أن أية شعرية أصيلة مرهونة في تطور أشكالها بالقرب من سماحة الفيض الشكلي اليومي والبسيط العادي الممعن في تلقائيته وتعقيده معا ، وكل هذه التصورات تقربنا من تفهم  معنى انفتاح الشكل على اللاشكل الكامن في رحم الأشياء والتفاصيل الموغلة في عتمتها ومجهولها اللامتناهى ، الوجود في ذاته هو فيض الأشكال الجمالية اللامتناهيه . وفي واقع يعج بكافه صور الشروخ والثغرات والتناقضات والتعدد والتحول والتداخل لابد أن تنهار التواريخ الدلالية السابقة والسائد والمدشنه لنظام المعنى ، كما لابد أن ينهار الخيال الكلى التجريدي ، والإيقاع المتوازن الواضح ،ثمة خصائص معرفيه وجماليه جديدة تتوالد من رحم الأشياء الجديدة في العالم الجديد ، أشياء اللادقه وأشكال اللاتحدد، ومنظومات التعدد المعرفي التداخلي الفوضوي ، وعلاقات التحول والتشذر والإرجاء ،كل هذه التصورات المعرفية الجديدة الحادثة في بنيه الذات والواقع والثقافة والجمال والخيال والدلالات وأشكال الجمال – قد أدت إلى ما يشبه الضرورات الجمالية الخلقة لقصيده النثر و التي تبيح المحظورات اللغوية والتشكيلية والخيالية والبنائية في هذا النص الحر الجديد أو ما يسمى بقصيدة النثر ، يقول ياسين النصر هذا المنعطف الجمالي التجريبي النثر ،يقول ياسين النصر بخصوص هذا المنعطف الجمالي الجديد لقصيده النثر : " لا تستطيع القصيدة الحديثة اكتشاف مثل هذه البقع الخلاقة ، لأنها عاجزة إيقاعا عن الدخول في مجاهل عدد من الأشياء دفعه واحدة ،قصيده النثر تمتلك طاقة الاختراق ، والذهاب بعيدا بالكلم إلى الواقع التي تتساوى فيها الأشياء جميعها ، إلى تلك الروح البدائي الذي ضع لنا كل الأشياء فألغى الحدود بينها ، وألغى أماءها ، وألغى التعريفات بها ..... هذه البقعة من الممارسة الخيالية الشعرية تجعل من أيه ممارسة حرة شعرا ،حتى ولو كان هذا الشعر بدون شروطه المألوفة)).  وبعيدا عن أحكام القيمة المتعجلة في كلام النصير ،نحن نشايعه فقط على قدرة هذا ((النص الحر)) أو ما يسمى ((بقصيدة النثر)) على اكتشاف جماليات البقع البدائية الخلاقة الغائبة عن الأطر الثقافية والجمالية العامة المجردة، أو القضايا السياسية والحضارية الكبرى التي غيبت الأسباب الصغيرة لصالح الأسباب الكبيرة وهما وزيفا وأدلجة ، مع أن السخاء الحقيقي لصنع المستقبل يكمن في إعطاء الواقع اليومي الأتي كل أسباب الحضور لا التغييب الرمزي القمعي المنظم له ، ومن هنا حوربت قصيده النثر ومزقت كل ممزق لأنها استطاعت أن تفند جماليا ومعرفيا الوهم البرجوازي للتنمية،والسقوط السياسى العربى  فى فهم حقيقة الهموم الداخلية الأساسية للواقع العربى، والتشقق الفكري للمقولات السياسية والعقلية والحضارية الشائعة والسائدة ، وأنماط التفكير العلمي الموضوعي المنغلق والمتسق مع ذاته ، فجاء هذا النص الحر أو ما يسمى بقصيدة النثر ، ففكك المنظومات الفكرية الكلية ، وأبان عن أوكار الزيف وأعشاش الوهم المتكدسة في حناياها ، كما فتت هذا النص من المفاهيم الجمالية والمعرفية المزيفة لقوة الاتصال الأدبي في أشكال الشعر المعاصرة فى مصر ، وأبان عن قوى الانفصال العديدة والكامنة في كل اتصال عام مجرد، فقد نقلت قصيدة النثر متصور الاتصال الأدبي إلى متصور الانفصال التشذري المعتم الكامن في كل اتصال سائد ، ففي كل قول جمالي مألوف قوى من الجمال الغريب والشاذ وغير المألوف يجب أن نستحضره ليستعلن في ترتيبات شكلية تخصه وحده دون غيره ، فليس هناك زمن عربي أو واقع عربي بصيغة الجمع ، وليس هناك فكر عربي أو جمال وخيال عربي بصيغة الجمع ، بل هناك تشذرات وتشققات وتفصيلات عديدة جاسية نستبعدها طوال الوقت لنغطي على عجزنا المعرفي بوهم امتلاك النظر، ونغير تناقضاتنا الفكرية والسياسية المخزية بوهم الاتساق والأهداف العربية الكبرى ، ونتواطؤ على الواقع اليومي العربي الدامي بوصفه استثناءا يوميا لا وجعا كليا عاما متجذرا في أنفاسنا ووجوهنا وأجسادنا وأرواحنا وشوارعنا وحوارينا ومساجدنا وكنائسنا التي تصب فائض وجودنا اليومي المفجع في ممراتها الروحية واللغوية والخيالية الخلفية الموحشة لترتمي إلى ساحات الفراغ والعدم ، ومن ثمة كانت حاجتنا الجمالية والخيالة والمعرفية في أشد حالاتها لهفة إلى شكل جمالي جديد يكون قادرا على الإمساك بمنطق الفراغ من حولنا ، منطق اللاشكل ، منطق العراء،منطق الصمت،منطق الحفر، منطق المنحنيات العميقة المنسية منطق الفجوات الموحشة الكامنة في ممارساتنا اليومية سياسيا واجتماعيا وحضاريا ومنهجيا حاجتنا إلي منطق شعري أخر يجتاز ما عجزت عن تشكيلة قصيده التفعيلة أو الشعر الحر حتى في أرقى أشكاله الحداثية تطورا ، نعم يقول النقاد ليس هناك ما يعرف بقصيدة النثر لأنها كانت نقلا غربيا مباشرا عن توجهات ما بعد الحداثة وسقوط الأفكار الكبيرة في الغرب سواء في منطق الفلسفة أو العلوم أو السياسات العالمية الكبرى بعد انتهاء زمن الحروب وسقوط الأفكار التحررية القومية وتعالى صوت العولمة ، والهويات الافتراضية الرقمية ،  وانتهاء عصور التواريخ والجغرافيا والدخول إلى جغرافيا وتواريخ الوسائط التكنولوجية الجديدة ، كل هذا كان إيذانا بتحول معرفي وجمالي وخيالي جذري في الغرب فمالنا نحن العرب وهذا الميراث الحضاري المختلف جذريا معرفيا وجماليا عن ميراثنا الثقافي الخاص بنا ، سنقول نعم ثمة اختلافات معرفية وجمالية ومنهجية جذرية بين الحضارات، ولكن سأقول أيضا أن لكل حضارة ميتافيزيقاها الكلية الخاصة بها، ومنظوماتها الرمزية والمجازية القمعية الملتحمة بها ، ونحن أيضا في أشد الحاجة الجمالية الآن أكثر من أي وقت مضى لأن نفكك الميتافيزيقا الرمزية العربية لنعيد تأسيس المفاهيم المصيرية من جديد وفق أسس اختلافية تقويضية بنائية وليس وفق أسس تركيبية جدلية وجودية، أقصد تقويض وبناء مفاهيم الذات – الواقع – التاريخ – الثقافة – الهوية – الخيال ، الجمال ، لتنبع من رحم التفاصيل الحسية اليومية للواقع والوجود،تنبع من همومنا الصغيرة،وأحلامنا البريئة،وطزاجتنا المكبوحة، وليس الثقافة والمعارف والشعارات السياسية الضخمة المجوفة ، لابد من زحم تخييلى جديد يكون نابعا من حد الوجود لا  من حد الذاكرة ، عقل جمالي يستغرق في الحسي واليومي والعفوي ليعيد خلق وعيه ولاوعيه الجمالى والمعرفى الخاص به بعيدا عن عن فكر التراكم، وتصورات التحصيل، وكوابح الثوابت الفجة ، ثمة أنين روحي وعقلي متوحش وموحش ملتصق بعرق التراب العربى المعاصر فى مصر،ثمة تشققات الطين ، ودموع الواقع ، وشجن التفصيلات السخية الهاربة ، فمن يجرح الاتصال الجمالي العربي المعتاد والرصين فى تدشيناته السياسية العامة لتفور مناطق الانفصال المجهولة الكامنة في حناياه وزواياه الصامتة المعتمة ؟!! هذا الطرح الجمالي الجديد هو التحدي الأكبر للشعرية المعاصر ولا أقول القصيدة الموزونة أو قصيده النثر فقط لابد من وعى جمالي جديد بحركة التقطع والتشذر الكامنة في العقل العربي والروح العربي والزمن العربي المعاصر ، وعى يمسك بالنفي والموت والعدم المتجذر فى حركة التاريخ والفكر العربي المعاصر ، بعد أن صار كل شئ في وجودنا الراهن نابعا من وهم الثقافة ، ومنهجيات النخب الثقافية والسياسية ، وزيوف التصورات القبلية حتى صار هذا الانقسام الفاجع بين واقعنا ومناهجنا ، بين يومنا وممارساتنا وغدنا بين أوجاعنا وأشجاننا وهواجسنا وطموحاتنا وبين نظرياتنا المترهلة الثابتة نحن بحاجة إلى التحديث لا مجرد التجديد "(( والتحديث ليس مجرد التجديد ، التجديد يقوم على مفهوم تخارجي عن الانفصال إن جاز التعبير ، التجديد هو كل انسلاخ لجديد عن قديم ، أما التحديث فهو
" ظاهرة " منفردة بمقتضاها غدا الانفصال خاصة الكائن . في الحداثة لا يزل الانفصال علاقة بين طرفين ، بين عاملين ، بين مرحلتين ، لا يبقى علاقة ، وإنما يغدو خاصية : خاصية المعرفة – خاصية المجتمع ، خاصية النص ، خاصية الكائن ، في الحداثة لا يتوسط الانفصال اتصالين ، وإنما ينفر الاتصال ذاته ، إنه ما يجعل الكائن لا ينفك يهرب عن ذاته وينسلخ عنها .... وبهذا المعنى فإن جوهر الانفصال لا يكمن في الفصل والقطيعة ، وإنما في لا تناهي الفصل ولا محدودية القطيعة ، فليست القطيعة هي حلول حاضر يجب ما قبله ، القطيعة هي انفصال لا متناه ... ليست القطيعة انفصالا بين حاضرين ، بين حضورين ، وإنما هي خلخلة للحضور ذاته ، إنها إقحام للامتناهي
" داخل " الكائن ، وبهذا المعنى لا يمكن للتحديث إلا أن يكون عملية لا متناهية بمقتضاها لا تفتأ الفروع تعيد النظر في أصولها ، ولا تنفك الهوية تسبح ذاتها في حاضر ليس هو الآن الذي يمر ، وإنما هو ذاك الذي يمتد بعيدا حتى يبلغ المستقبل الذي يستجيب للماضي)(14)، فالتحدي إذن قائم أمام كل الأشكال الشعرية ، ولن يدخل رحاب الواقع والمستقبل إلا من يمتلك القدرة الجمالية والمعرفية على مواجهة هذا التحدي ، فالإشكال النقدي والجمالي المعاصر أكبر من مجرد النزاع حول القصيدة الموزونة أو القصيدة المنثورة ، فهو يشمل حركة العقل الثقافي والجمالي والعربي برمته ولا يعني هذا القول أننا نجعل من قصيدة النثر بديلا عن الشعرية العربية أو القصيدة الموزونة ، وهو ما لم نقصد إليه على طوال حياتنا النقدية ، فهناك ملامح جمالية تكوينية فارقة وحاسمة بين القصيدة الموزونة – والمنثورة لا على سبيل النفى لكن على سبيل التعدد،  لكننا من وجهة نظرنا نرشح هذه القصيدة المنثورة لتكون شكلا جماليا متاحا ـ بل أكثر اقتدارا ـ ضمن أشكال الشعر العربي المعاصر في مواجهة هذا التحدي الجمالي الذي يبتلع كل هذه الأشكال في عباءته الجامحة والحاسمة وما يتطلبه من خلق وعي جمالي معرفي جديد بقضايا الذات – الواقع – الثقافة – التاريخ – الخيال ، وعي جمالي ثوري قادر على القبض التشكيلي الواعي لراهنية اللحظة التاريخية التي يمر بها العقل الجمالي المعاصر وعي جمالي ثوري تعددي اتصالي لا قطعي انفصالي مجرد ، وعي جمالي يوائم بين حاضر الماضي وحاضر الحاضر وحاضر المستقبل في وقت واحد ، وعي لا يقيم العوائق الثقافية ، والموانع الجمالية ، والمغالطات المعرفية بين ثوابت الماضي ، ومتغيرات الحاضر ومستشرفات المستقبل ، وعي يوائم بصورة تعددية بينية مفتوحة بين قوة الشكل ورحابة وسماحة اللاشكل ، ويصغي لهسيس وجع اللحظة كما يصغي لأشكال الأوجاع الجمالية السابقة التي أدت إليها ، فقصيدة النثر تكتب الآن ((مجازات بياض الوجود))، أو مجاز خبرة الهواء الطلق الشفيف؟!وماذا يعني هذا الإعدام اللغوي والتصويري والمجازي للدلالة الرسمية العامة بغية الإمساك بالحضور الذي لا يحضر أبدا ، أو الحاضر المنفلت دوما من قبضة الشعر واللغة والإيقاع والمجاز ؟! يبدو أن الصورة الشعرية التي أدخلت الشعر هنا في طقس اللغة المنسية لغة الماء – العشب – الأحراش البرية – لتسبح في نهر الغبطة أو قل تسبح في واقع اللالغة واللاشكل واللانسق لكنها قد توقفت هناك – قد مكنت هذا الشعر من الاقتراب من كتابة اليومي الهامشي العابر المعتق بالخصوبة والامتلاء والتعدد، هنا يصير ((مجاز المحو والصحو )) أقدر من ((مجاز الاحتواء الامتلاء بالاستعارات الكبرى))، والهموم الجمالية العامة ، والنماذج المعرفية السائدة ، فالشعر في هذا النص مشغول بكتابة العدم والمحو بوصفهما إمكانا وجوديا لا نهائيا فالمحو لا يعني الموت ، بل يعني إمكانا لحياة بديلة ، والنسيان لا يعني التخثر العقلي والترهل اللغوي ، بل يعني القدرة على البدء من جديد ، ولذلك سيستمد الشعر قوة وجوده من أفياء الصمت لا من ثرثرة الكلام أو حتى جمالياته المعتادة ،إن الشعرية بصورة عامة إمكان محتمل دوما قبل أن تكون إنجازا لمكونات الشعرية السائدة ، والتراكيب الأسلوبية والتخييلية المهيمنة ، ألم يقل جاكبسون من قبل أن ما يجعل من الشعر شعرا ليس الشعر في ذاته بل طرائق تكوين الشعر ، ونضيف إلى جاكبسون فنقول بأن هذا الشعر المستشف لأخيلة عراء الوجود ، والمستقطب لمجازات الظل والهامش هو ما يجعل من الشعرية ذاتها إمكانا وجوديا لا نهائيا لتشكيل الجمال والخيال وبصرف النظر عن الحمأ الشكلي المسنون الذي تتجلى فيه طينة الشعر وطينة الوجود ، إنها شعرية الإرجاء التخييلي المستمر والذي بمقتضاه تحدث عمليات نفي للمجاز وإحلال مجاز آخر بدلا منه ، ولعلنا نمسك في النص السابق بمجاز الإخلاء بدلا من مجاز الاحتواء ومجاز الإخلاء الدلالي والجمالي والمعرفي وظيفته إعدام التصور السابق للشعريات الكبرى المهيمنة فيما نسميه مجازات الاحتواء وهي النماذج التخييلية والمعرفية والاجتماعية والثقافية التي كونت شعرية الشعر عبر جميع أشكاله وأنماطه في لحظة تاريخية محددة ، لكن  بعض القصائد الحداثية الموزونة – و على رأسها  قصيدة النثر أو ما نطلق عليه " النص الحر " – يحلان دوما كتابة النسيان والفراغ بوصفهما مجازا للإخلاء محل كتابة الحضور والامتلاء بوصفهما مجازا للاحتواء ، يكتبان اليومي الهارب ، والمنسي الساكت ، والغائب المتوحد في صمته ومجهوله هناك يئن في رحم الأشياء والعلاقات والتصورات ويحتاج إلى من يستحضره إلى عالم المعنى والقصد والدلالة،وانظر معى كيف يكتب صبحى موسى حضور الماء،بديلا عن حضور الثقافة:

وحدها الأنهار

تعرف ما تريد

و تصبح ما تتمنى،

فهي الأصدقاء الذين لا نستطيع استعادتهم

بغير أن نقطع بضع خطوات

على جسر مندى بالرمل

بعيدًا عن الموتى

والذين يصدرون أنفسهم

آلهةً تواضعت

فجلست معنا

كان لي أخ يحلم ذات مساء

أن يصبح نهراً ،

فعطَّر نفسه وخلع ملابسه

وانتظر على الشط أياماً

حتى لوحت له الأنهار

كواحد منها .

 

قال العرافون في قريتنا

أنه غرق،

وقالوا أن جنية الماء ابتلعته

ووحدها ملابسه ،

تلك التي تركت خزانتها

وجلست تلوح أعواماً للماء ،

لم تصدق .

 

كان المعلمون في المدرسة

يقولون أن الماء

نتاج تزاوج بين الهيدروجين والأكسجين

ويرمزون له بــ (H2O)

لكنها لم تصدق،

فلا يمكن للحلم الكبير أن يغرق

ولا يمكن للأنهار أن تصبح

مجرد حرفين ورقم .

 

أمى التي

لم يكن المعلمون فى زمانها ليقولوا

أن البحر أكبر ؛ لكن النهر يأتي من السماء ..

كانت تعطر نفسها كل مساء

وترحل

حيثما الماء رحل.

أمي التي لا تعرف الفرق

بين البحر والنهر

ولا تفك الخط

كانت تقرأ الرسائل

وتقول أننا حمقى

لأننا ننتظر

ولا نفكر في الذهاب

رغم أن المسافة

لا تزيد عن بضع خطوات

على جسر مندى بالرمل

بضع خطوات من رفات الأهل

لا تختصر

لكن الوجود بها يتسع

والفضاء يصبح

قطرة تنساب في نهر .(15)

 

 

 

مجاز الماء هنا يفكك كل الثوابت لينقل الهوية من شكل الرسوخ إلى شكل العبور،ومن شكل النسق إلى شكل الحالة، ومن شكل الاستقرار إلى رحابة شكل التموج والتداخل والتعدد،حيث يستبدل الشعر الإكراهات الرمزية الراسخة والنماذج الجمالية الشائعة والأنساق التخييلية السائدة ، بالعراء الوجودي الذاخر بالأخيلة والأشكال الساكتة الصامتة في ثغرات اللاشكل واللامعنى ، فتحول البياض الوجودي الذاخر باللاشكل ، إلى بياض تخييلي ديناميكي يكون عبورا باللاشكل إلى الشكل وباللامعنى إلى المعنى ، وبالمحتمل إلى الممكن ، وبالانفصال الأصيل الساكت في أعماق الاتصال الزائف وتحويلهما معا إلى اتصال جمالي انفصالي يصارع كل أشكال الاتصال اللغوي والمعرفي والخيالي المهيمنة على الفن والثقافة،مجاز الماء هو مجاز الحركة البسيطة المنسابة ربما لايدرى بها أحد لكنها تبنى الوجود والواقع على مهل،وربما لانعرف عنها شىء ولكن من قال بأن النشوان المستغرق فى نشوته يعرف حد السكر أصلا؟ وربما نعرف  حدود ثقافة ولانعرف حدود الوجود،وخير لنا الف مرة أن نعيش حقا بدون ثقافة من أن نعيش ثقافة بلا  حس ودم ولحم وربيع ودموع،أى بلا ماء للحياة  أو جسد حى نستغرق فيه وننتشى به، مثلما قال لنا النص،  وهذا يعني أن الشعرية الأصيلة ليست مجرد إنجاز متحقق آنفا ، بل هي تظل دوما إمكان إنجاز واعد ، كما أنها ليست تعيينا جماليا وتأسيسا تخييليا ، بل هي نفي مستمر للحضور الجمالي الآني باسم حضور جمالي إمكاني كامن فهي ليست مجرد قطيعة معرفية وجمالية مع الشعريات السابقة عليها مرة واحدة ، بل هي انفصال جمالي قطعي لا متناهي إنها ليست علاقة قطع تخييلي بين متصلين جماليين إنما خلخلة تشكيلية ومعرفية وتخييلية لفكرة الحضور نفسها فى بنية الزمن والذات والتاريخ والثقافة ، بما يحل المطلق الجمالي والمعرفى لدى النقاد والسياسيين من أعاليه الميتافيزيقية ليندرج ضمن حدود البني الجمالية التاريخية البسيطة والمتعينة . لتنتهي ثنائية العلاقة الجمالية والمعرفية السائدة بين المطلق – النسبي – لتصير من النسبي – المطلق – النسبي إلى المطلق – النسبي – المطلق داخل حدود التاريخ اليومي المألوف . وكأن قصيدة النثر  تحفر لتبنى تشكيلا تخييليا للجشطالت الوجودي الذي ينبثق بصورة  طفرية حسية  من رحم الأشياء طفرة واحدة ، لكننا نظل ندبر النظر النقدي فيه يمنة ويسرة ، وأماما وخلفا ، وظهورا وتخفيا ، وإضمارا وإعلانا لنقع على فجوات الشعرية فيه والتي تتضاد بصورة توترية مستمرة مع المتصل الجمالي المعرفي السائد . ولكي نكون أكثر وعيا وعقلا وأصالة لابد أن نكون أكثر صدامية وانفصالا وتوحدا ، لا أكثر التصاقا وانسجاما وعزلة ، وثمة فارق معرفي جمالي حاسم بين مفهوم التوحد الجمالى البسيط مع الإيقاع الخفى المنتج، والمجازات الحسية الحقيقة، ومفهوم العزلة التواصلية الإنشائية المجلجلة التى ترمى بنا فى كل شىء دون أن نقع على شىء منها،وهنا يكون مجاز الصمت فى قصيدة النثر أكثر اصالة من مجازات  مواريث الكلام،او مجازات بناء الكلام، فالصمت كما يقول يقول زكريا إبراهيم(( لا يكتسب معناه إلا فوق خلفية من الفواصل ذلك أن الصمت أشبه بالفراغ الذي يتخلل السطور، أو كأنه الوقفة التي تتخلل الحركات. هنا فقط يكمن جوهر الشعر وهنا تشدو أغاريد الصمت)) . ويزيد مارتن هيدجر التصور الفلسفى للوعى بالصمت رسوخا  فيما نحن بصدده هنا من مجازات الصمت فى قصيدة النثر حين يفرق هيدجر بين لغة تتكلم كل يوم وتقول شيئا ذا بال ولغة تصمت كثيرا لتقول كثيرا،بين اللغة واللغة،بين تناقض الفكر والعمل وبين الفكر العامل،ومن هنا كانت استعارة محمد الماغوط لميكروسكوب السائح الغريب في رؤية واقعه ، تجسيدا جماليا لفضح العمى الثقافي العام ، والتلوث الرمزي السياسي ، والمواريث الجمالية الصلبة التي بلغت من سطوتها أن سدت عنا الرؤية الحسية للواقع في ذاته ولذاته فهو أكبر من كل نظرية أو معرفة  يقول الماغوط في نص بعنوان

" أيها السائح " :

طفولتي بعيدة .. وكهولتي بعيدة

وطني بعيد .. ومنفاي بعيد

أيها السائح أعطني منظارك المقرب

علني ألمح يدا أو محرمة في هذا الكون تومئ إلي

صورني وأنا أبكي

وأنا أقعي بأسمالي أمام عتبة الفندق

أكتب على قفا الصورة : هذا شاعر من الشرق !!

ضع منديلك الأبيض على الرصيف

واجلس إلى بجانبي تحت هذا المطر الحنون

لأبوح لك بسر خطير

اصرف أدلاءك ومرشديك

وألق إلى الوحل .. إلى النار بكل ما كتبه من حواش وانطباعات

إن أي فلاح عجوز يروي لك بيتين من العتابا

كل تاريخ الشرق

هل رأيت هذا الإعدام الرمزي والثقافي والسياسي لكافة العلاقات السائدة التي تدشن نظام المعنى في الواقع أو حتى نظام الواقع نفسه؟!بما يباعد بين الواقع وبين نفسه،إن القدرة على الإصغاء الموضوعي الخلاق لثقافة الرصيف والشارع اليومى – بل لحس الرصيف وسماحة الشارع – يمثل  حس الحياة في ذاته وهو أقوى وأسمى من كل أنساق الثقافات والنظريات والمناهج التي يتشدق بها المثقفون والسياسيون العرب الذين تحول وعيهم بواقعهم إلى وعي سياحي سطحي،فكأنهم فى وعيهم بالواقع اليومى العربى مستشرقين عرب،لكن الشعر يرى أن الجلوس إلى تراب الأرض خير من الجلوس إلى الكتب والتصورات وأنساق أنظمة الثقافة، فالدلالة الرمزية والجمالية والمعرفية الباذخة في  الجلوس على"(( فرد المنديل الأبيض))،أعلى قيمة وأدق دلالة،وأشد قوة من تسويد وجه الواقع بخطب الساسة،وشعارات المثقفين،وخلافات النظريات،هذا الشعر يعلمنا كيف نصغي بل نصيخ لثقافة الرصيف كي نعدل ثقافة النظريات وكيف نخلخل قليلا أو كثيرا من صرامة النخب الثقافية بتعريضها لطراوة المطر . فما أعظم أن نكون في رحابة الوجود ، بالعقل لا بالوعي،أو قل بعقل يتخفف من حمولة اللاوعى ليكتب لاوعيا آخر للثقافة والشعر والذات والتاريخ، مما يستتبع بالحتم والضرورة توسيع حد الإمكان البشري في التجاوز والخروج وإعادة التأسيس وخلق لحظة البدء من جديد بعيدا عن سطوة المعايير،ووهمية الأنساق ، وتسييد صنمية العلاقات العقلية والوجدانية والمنطقية والأخلاقية الفارغة ،وربما يلتحم هنا مفهوم التوحد بما هو اتصال غير مرئي في الحيوية الكلية لشيئية الوجود والجسد والذات والثقافة ، - ضد مفهوم الوحشة بما هو اتصال خارجي سطحي أملس زائف – بمفهوم الصمت بوصفه وجودا كامنا غيبته سطوة العادات وأسمنت التقاليد الرسمية المرعية ، فهو وجود خفي حي ساكت في مواجهة الوجود المستعلي الوهمي الصاخب ، يقول إيهاب خليفة في نصه البديع:

((" الصمت أعظم الموسيقيين)) :

في الغرفة الفارغة من البهجة

في العيون التي ودعت آخر حقيبة دموع

في القلوب التي مسحت ملفات الحب منها

في الهواتف التي لم تعد ترن

في النفس المنشقة على نفسها

في جنائز الأزمنة أو لأمنيات

يجد آلاته التي لا ترى

تعزف سيمفونية سوداوية

تقهر سمع الجميع (16)

هذه السيمفونية السوداوية تقهر سمع الجميع ، لأنها نابعة مما وراء الواقع الوهمي ، وما وراء التواريخ والثقافات الشكلية،نابعة من رحم اليومى الحسى المنسى، وهي ليست موسيقى موحشة جرداء تهيم في سديم العماء اللغوى العام حتى لا تربطنا بها وشيجة داخلية أو خارجية ، بل هي تنبع من جسد الواقع ودموعه وعرقه ومما وراء الواقع والدموع والعرق ، من حدود الذات البسيطة الواعية بهمومها الخاصة بوصفها  حقيقة الواقع،هذه الذات تتأمل أنساق العالم وأنساق ذاتها وماضيها وحاضرها ومستشرفها في وقت واحد ، لذا يقول شريف رزق في " مجرة النهايات " :

 

ابدأوا  بي من هنا

بي ، بانفجاري

بالانهيار الذي يتعثر في سرده على أنقاضه

بي ، من هنا

من جنازة تستند على عظامي الشاردة

عما قليل سيبتدئ الفراغ

وينتهي الوقت

" ولا أعني بذلك مجازات محتملة أو نبؤات ما "

والهواء الذي تعلق بالنافذة – أيضا – سينهار

على المدينة التي عبرت

سأسكب أحشائي على المشهد العاتي

مائلا وأستدرج العاصفات ...

سأمشي على نظراتي البعيدة حتى نهاياتي

وأستنطق الجمهرات الهادرة في طريقي

رائحتي تدل على انفجاراتي

وألواحي ثعابين الرماد (17)

هذا الاستدراج الجمالى والمعرفى للمخبأ والهامشى الخلاق الكامن في العاصفات المستشرفات هو ما يدفع شريف رزق أيضا إلى تجاوز حدود العقل الرسمي الجمالي العام الذي هو موت عام ، إلى تأسيس عقل الجنون واللامألوف والغرابة،ومحاولة أشكلة البديهيات،ووضع جماليات السؤال موضع جماليات الاستفسار، هذا العقل الجمالى المجنون هو ما يدفع بجماليات قصيدة النثر أو ما نطلق عليه ((النص الحر)) إلى شهوة التناسل الجمالى والمعرفى اللاعضوي من التدافع الجمالي الكثيف الكامن في حسيات الشئ من حولنا ، وربما يدفعنا هذا إلى الشعر إلى الارتقاء صوب ثريات الجنون الخلاق بوصفه تشذيرا وتمزيقا لكليات الثقافة والوعي بما هي تعقل سياسي عام ، يقول شريف في نص " ((ارفعينا إلى ثريات الجنون ))

الهواء خبرتنا الأخيرة

سيرتنا إلى نهايات البياض

نطوح أرجلنا ونمضي

بلا أروقة تمتطيها

ولا أقمصة ولا رتوش

بلا وهن على هدم ، وأحشاؤنا إلى الخارج

أجسادنا ترشح بالجنازات

ولا نبتغي شيئا

الأسئلة التي حرقتنا سحقناها بالنعال

وابتردنا على المداخل

على المداخل التي لم تتسع لسوانا

ولم ننتظر أحدا ... (18)

هنا يمحو لهيب التجاوز،واحتدام النفي، التلوث الدلالي والكتابي والرمزي العام ؟! لتصير  خبرة الشعر خبرة مجازات الهواء المحض،خبرة التنفس لا خبرة التنفيس، شكل الطزاجة الحسية المباشرة لا أشكال الأنساق والتصورات والعلاقات والمؤسسات ، حيث تتنفس رئة الشعر من رئة الوجود مباشرة ينحل الشعر والخيال في الواقع انحلال كينونة، لا انحلال لغة وتصور ،حيث مجاز الحفر لا مجاز التركيب والبناء، فيخرج الشعر من جميع أروقة الثقافة ، وأردية الساسة ، وأغلال التصورات المعرفية والأخلاقية السائدة – ليدخل إلى خبرة البياض الوجودي الطلق ، حيث تتطوح الأرجل في نشاط عنفواني ممراح ، فتصنع الأرجل طريقها بذاتها،وتحتفر توجهاتها بقوتها على اجتراح حسيات الحياة، قد تمشي الأرجل على غير هدى لكنها كل الهدى،يقول عاطف عبد العزيز فى نص:

(( المشى بعيدا))

المشى بعيدا

شهقتها باسمك على السلم

كانت كفيلة بأن تطير كل شىء

بان الماضى كسفينة غارقة

انحسر عنها الماء فجأة

...................

........................

صبية كانت الشهقة

حتى إنها استردت فى لمحة طريقكما إلى المدرسة

استردت الأشكال التى رسمتهماها معا على الأسوار

الفراشات التى اختنقت بين الأنامل الصغيرة

مكامن الطفولة تحت الأسرة وفى الدواليب

واليد التى مسدتك فى الظلام فارتعش برعمك واستطال

انتبه!!

لعلك مشيت بعيدا بما يكفى أن تكون غيرك.

 هنا تحترق أسئلة وأجوبة ، ويبدأ الواقع والذات والتاريخ طرح أسئلة جديدة لا تطوير أسئلة قديمة بعد أن سحقها الشعر بجماليات الاهتراء والركاكة التشكيلية والفكرية المكرورة، وهنا يعلمنا الشعر أن نمشي  عبر طرق منحوتة من عقولنا وأرواحنا وهمومنا وأشواقنا ولذائذنا الخاصة الأليفة ، طرق خلقنا لها وخلقت لنا لا طرق معدة سلفا لتخطو عليها سائر الأجيال خطوات فنائها المعلن والمضمر معا . هنا الشعر لا يرفض المعرفة والجمال والمناهج السابقة رفضا مطلقا ، بقدر ما يحاول أن يوسع من أفق تعاليها على ذاتها وذلك بقرانها إلى ما فوقها من خلال جسر الصلة بين خبرة القبض المعرفي المسبق والمدشن فى وعينا الثقافى العام، وبين البسط التخييلي اليومى الحسى الممكن ، أو قل بين خبرة الورق والثقافة والكثافة وخبرة الهواء والطلاقة والشفافية،خبرة أن نكتب الحضور بوصفه نسيانا،أو بوصفه حضور بسبيله إلى الحضور دوما ، وبكلمة واحدة خبرة الحرية الوجودية بما أنها شرط جمالي ومعرفي قبلي تنقاس عليه سائر الشروط والأنساق والعلاقات . هنا الشعر يذوب في همس الغبطة اللذيذة بأشياء الواقع وتفاصيله الصامتة ، حيث تتفكك صلابة العقل الواعي وتصحو هشاشات اللاوعي أو قل الوعي الكامن بالقوة لا الفعل – نستنتج في صمت خلاق أزهار الذات والواقع والحلم والإمكان ، أن نلمس الأشياء بصورة حسية مباشرة معناه أن تذيب أكبر قدر ممكن من الأنساق الفكرية والجمالية والثقافة التي نكونها عنها أو نراها من خلالها ، أن نستمع هسيس الحياة الكامنة في تشعبات الفراغ ، ومنحنيات الغياب ، وثغرات الاتصال معناه أن نحوز خبرة جمالية مدهشة بقوة الهواء الصافي الطلق دون أبنية أو مصدات أو عوائق في العقل والفكر والنظرية والأيديولوجيا والنماذج المعرفية والتاريخية الكبرى التي تؤطر وجودنا ووعينا ولغتنا معا، إن كتابة الحاضر الذي لا ينتهي أو كتابة لحظة الحاضر الهارب بوصفه حضورا أبديا يتأبى عن الإمساك بتفاصيله الحسية اللانهائية الباذخة – هو لون من كتابة الحركة نفسها ، أو قل كتابة النسيان بوصفه حضورا لا يحضر أبدا ، ومن ثمة فإن جماليات قصيدة النثر تمثل بالفعل بالنسبة لجيل الشعراء التفعيليين الكبار والجيل الذي تلاهم : أقصد جيل حجازي وعبد الصبور ثم  الأجيال الشعرية الموزونة من بعدهم قلقا معرفيا وجماليا ووجوديا مرهقا ومزعجا فجميع هؤلاء الشعراء على الرغم من مواهبهم الكبيرة في سياقهم الجمالي التاريخي الخاص بهم غير أنهم تفصلهم عن قصيدة النثر الزمنية الجمالية لا المواهب الشعرية ، وهو عمق وجودي ومعرفي وجمالي أكثر أصالة من قوة الموهبة،وقوة الثقافة نفسها، وأعمق نفاذا من قوة التراث الجمالي والنقدي نفسه ، إن قوة التراث والتقاليد وقوة الموهبة لا يصبوان إلى تحقيق النموذج الجمالي والمعرفي الأمثل بالقياس إلى قوة حداثة الزمان الجمالي المحيط بهما ،ما داما صارا هما النموذج نفسه ، صارت الشعرية ملتصقة بذاتها الجمالية والتاريخية والنقدية ممثلةً مركزية جمالية مؤسسية كبرى ، بينما قصيدة النثر تمثل هامشا جماليا كونيا حسيا لا يقف بمواجهة المركز كما تصور شعراء ونقاد القصيدة الحداثية الموزونة ، بل تقف بإزاء لحظات تحول الزمان الجمالي نفسه ، إنها لا تمثل معيارا جماليا ونقديا ومعرفيا هامشيا في مواجهة المركزية الجمالية المؤسسية التي تمثلها القصيدة الحداثية الموزونة ، بل تمثل خلخلة معرفية وجمالية مستمرة لفكرة المعيار البلاغي نفسه،خلخلة للمفهوم نفسه، مستبدلة معيارية التجريب البلاغي والجمالي والنقدي والحضاري بتجريبية المعيار الذي يحول التدفق الزمني الكثيف في لحظة الحاضر دون هيكلته وابتنائه بصورة نهائية فهي حضور يفكك الحضور إذ يحتوي الشكل والمعنى في قصيدة النثر على كثافة زمنية ذاتية باذخة التفاصيل تحول بيننا وبين الوقوف على خواصها الايقاعية والشكلية والتركيبية والتخييلية بصورة واضحة ، فهي تكتب الحضور بوصفه نسيانا ، والنسيان بوصفه حضوا ، إنها عبور ((مجازات الظل)) كما بينا من قبل ، ومجازات الظل كما نراها في قصيدة النثر لا ترى إلى اللحظة الجمالية الآتية الراعفة بالتحول والتداخل والتكثيف والوهج بوصفها لحظة معينة محددة كما لا تراها أيضا لحظة مطلقة الفوضى والانتشار والتشذر، إنها لحظة كامنة دوما في هذا الانفلات والعبور والنشاط الجمالي والمعرفي البيئي اللاهث على حدود التعيين والانفلات ، وكأن أشكال قصيدة النثر هنا تكتب اللا وعي الصامت للوجود ، واللا وعي الظلى العابر للثقافة ، واللا وعي الايقاعى الكامن فى الشارع والحارة والتفاصيل المكانية والزمانية الصغيرة،على ألا يفهم مفهوم اللاوعي الجمالى هنا بالمعنى النفسي الآلي الفرويدي ولا حتى بالمعنى اللغوي الرمزي البنيوي لدى جاك لاكان، بل بالمعنى الفلسفي الذي نود تأسيسه هنا حيث يعني ((اللاوعي الجمالي والمعرفى)) للوجود والثقافة والتاريخ والذات والواقع القدرة الجمالية والمعرفية لجعل هذا اللاوعي خاصية معرفية فى بنية الكائن والثقافة نفسها، وليس مجرد علاقة نفسية بيولوجية ثنائية فقيرة بين الوعي واللاوعي بوصفهما متقابلين، وصفة الخاصية المعرفية والجمالية لبنية اللاوعي الجمالي والايقاعي في قصيدة النثر قد تقترب أحيانا من مصطلح " ((اللازمنية أو "(( الكتلية اللازمنية ))" عند سوزان برنار ، ولكن مصطلحنا فيما نرى نراه أكثر دقة علمية من جهة تعينن مفهوم الكتلية اللازمنية، وأكثر تطابقا مع الهموم الجمالية والمعرفية لقصيدة النثر العربي  ـ حتى لا نكون أكثر ملكية من الملك نفسه ـ بوصفها تجريدا شكليا لتشذر وتفكك العقل الجمالي والسياسي والثقافي والحضاري العربي المعاصر ، لقد انفلت كل شئ في حياتنا ، وانفكك عن أصوله ، وصارت صفة التشذر والانفلات والتفكك وفقدان المعايير ، وتناوب الهوامش والمراكز حدود تداخلها التأسيسي البيني ، صارت الحياة العربية كلها قيامة للرميم ، وانفجارات مبعثرة للروح والعقل والتاريخ ، وكأن الواقع العربي المعاصر يعيش لحظة انفجار لا وعيه الثقافي والسياسي والحضاري في أشد حالاته تبعثرا وتفككا وتمخضا ،بعد تعالى منطق التفكيك والارتباك والفوضى ، فثمة انعدام وصمت وخفوت فى كل شىء،وثمة اهتزاز مزلزل للمنظومات القيمية والجمالية والمعرفية،وانهيار عربى عام للثوابت الأيديولوجية،ومحو تام للأبنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العربية،والتى تدشنت طويلا تحت مسميات ديمقراطية وهمية رأينا بعيوننا لا بخيالنا زلازلها السياسية العربية المدمرة فى الحرب الأخيرة على العراق وغزة،وكأن قدر الإنسان العربى أن يكون مجرد شاهد ظل عابر على مراسم دفنه ونبذه، بعد أن انزوى  هذا الإنسان العربى وتلاشت قدرته على الوعى والفعل معا،وتحول إلى هامش وجود زائد عن الحاجة فى نظر السلطات العربية المعاصرة:سلطة اللغة والنقد والنظرية والدولة والمؤسسات السلطوية العامة،ومن هنا ـ هنا بالمعنى الزمنى الباهظ بالضبط ـ تنبع جماليات تجريبية جديدة فى قصيدة النثر العربية فى مصر والوطن العربى كله،جماليات للرعب والفوضى والتشذر والغموض والشك واللايقين واللاتحدد والفوضى والمنطق الجمالى البينى الغائم واللامرئى لتقرأ المساحات الظلية، والفجوات المعرفية، والثغرات التشكيلية الغائبة فى لاوعى الواقع والثقافة والذات العربية المعاصرة،فتعلى من منطق انبناء الغموض ضد منطق رسوخ البداهة وتسيد الوضوح،ومن ذاكرة الظل الجمالى العابر والدفين ضد منطق أنساق السطوع الحارق للسلطة الثقافية والترميزية العامة المجلجة،ومن منطق البطولة الشخصية المجروحة المغلوبة على أمرها فى نظر السلطة ضد منطق البطولات التاريخية الخداعة التى تشبه بسلطة الرمز على الواقع المباشر وتلبس عليه، نافية واقعيته الحسية اليومية الحية لصالح قهرها الجمالى والمعرفى العام،وكأن السلطة تعيد تدوير إيقاعات النفس العربية الخفية المحايثة لوجودها المباشر لصالح إيقاع رسمى عام هو إيقاع سلطة الثقافة والنقد والنظرية والشعر الشفاهى الصاخب المجلجل، ووسط هذا التشذر الحسي والعقلي والمعرفي والسياسي يختلط الوعي بذاته فتتعدد مراياه ، وينفجر اللاوعي بوصفه نسقا ثقافيا ورمزيا وجمعيا لا بوصفه نسقا نفسيا وكفى ، ينفجر اللاوعي من حوائطه الترميزية القديمة فيتكوثر ذريرات لا نهائية من بني اللاوعي الجمالى التي يستدعي بعضها بعضا في جدليات جمالية ومعرفية تعددية تداخلية تترامى للغياب والعدم والفراغ بوصفها بني معرفية تأسيسية غائبة فى جسد الواقع اليومى المكبوح ، وحضورا جماليا منسيا في رحم الواقع والتاريخ والمعارف ، فيعاد تأسيس  ما عرف سابقا بالوعي الواحد في مقابلة اللاوعي الواحد إلى صور جمالية ومعرفية لا نهائية من صور الوعى واللاوعى، بما يفكك فكرة حضورهما بصورة ثنائية أو بصورة نهائية،ومن ثمة فقصيدة النثر تخلخل فكرة الحضور العقلي والروحي العربي في ذاتها ، تعيد مساءلة فكرة الحضور نفسها ، وكأنها تشكل فكرة اللاوعي الجمالي والمعرفي من داخل فكرة الوعي وليس من التقابل والتضاد معها ، ومن ثمة فإنها تجر فكرة التشكيل الجمالي والإيقاعي للقصيدة إلى إحلال اللاتناهي المطلق للشكل والايقاع والتركيب والصورة محل النسبي والثابت معا،وهى محاولة جبارة ومربكة لا يستطيعها إلا أولى العزم من المواهب والتشكيل والثقافة سواء فى قصيدة النثر أو غيرها من الأشكال الجمالية المحيطة بها، ومن هنا فإن جماليات قصيدة النثر ليست منفصلا تشكيليا ومعرفيا بين متصلين –(( الماضي الجمالى – الحاضر الجمالى)) " بل هي انفصال تشكيلي قطعي تشرى بارز داخل أشكال الاتصال الجمالي العربي السائدة بصورة تؤكد منفصل – الماضي – الحاضر – الحاضر – الحاضر – حاضر المستقبل " إنها خزاف تشكيلي يعكف على تأسيس خلاف العبور ، وتدشين جدل الحركة والنشاط والانفلات اللانهائي المستمر بما يعين الحضور الجمالي والمعرفي والإيقاعي والتركيب كأثر فلا تباعد قصيدة النثر بين الحاضر والماضي مباعدة طلاق البينونة كما توهم أحمد عبد المعطي حجازي وغيره من شعراء ونقاد المؤسسة الجمالية العامة ، بل تباعد جماليا ومعرفيا بين الحاضر وذاته ، وبين الهوية ونفسها . ولا تسعى إلى تركيب تشكيلي جدلي بالمعنى الهيجلي الكلاسيكي بين ماض وحاضر ، أو بين داخل وخارج ، ففي قصيدة النثر ينتفي الجدل الهيجلي التركيبي الغليظ ، بين الفكرة ونقيضها ثم مركبها الجدلي الثنائي الجديد – بل تؤسس جدا مغايرا بالكلية لتتفجر جدليات الاختلاف المتكوثرة بين الداخل ونفسه ، وبين الخارج وذاته ، وإقحام فكرة الراهنية الزمنية الديمومية بالمعنى البرجسوني حيث تنتفي الزمنية الجمالية الصغرى التي تحصر الخيال والإيقاع والتركيب في التقاليد الشكلية الموروثة والمعاصرة فقط لدى شعراء القصيدة الموزونة لتطلق زمنية جمالية كبرى أو مفرطة تكوثر بين لا نهائيات الداخل ولا نهائيات الخارج ولا نهائيات المستقبل،فقصيدة النثر تنظر لماهية الكائن والواقع والجمال بوصفها سمات " ((لا هويات))، تشكيلية متطفرة دوما صوب الرغبة الزمانية الفادحة في خلق المستقبل ، وتعليق الماضي والحاضر بصفة إرجائية لا متناهية لصالح إنشاء وتدشين – الحاضر – المستقبل ، ولذا فقصيدة النثر العربية خزاف تشكيلي مستقبلي يضع مثاله الجمالي والمعرفي في أفق آخر ، ولعلنا نستشهد هنا بقصيدة بديعة تجسد تصوراتنا الجمالية والنقدية السابقة وهي للشاعر عاطف عبد العزيز ، بعنوان
 " الخزاف " :

 

أنا الخزاف

أصحو على مشهد الماء

لي جميزة أوراقها تميل لاحمرار خفيف

أتعثر في ظلها كلما تابعت سربا على الأفق الرمادي

ولي بيت يشبه جروا تفلت من قطيع

فعرف وشوشات الريح في الليل

وألف الشراد

أنا الخزاف

ضرب الهجير طينتي في صحن المكان

فتكلست على غفولها

كي أعاين أنامل القدر في وضح النهار

أنا الخزاف

هجرتني امرأتي قبل عامين

بينما كنت أنزح المطر من باحة البيت

فاصطنعت واحدة من الصلصال

أولدتها سبع جرات

وقارورتين

أنا الخزاف

أنا الخزاف

ثرثرت طويلا بأصابعي

وكنت كلما أسهو

أخلق في جسم الكلام فجوة

تأخذ هيئة المعنى

أنا الخزاف

أصابعي كلام

هجرتني امرأة

وضرب الهجير طينتي

ولي شباك على الماء

 

وفي هذا النص البديع يبلغ عاطف عبد العزيز ذرى تجسيدية وتجريدية تشكيلية بديعة في كتابة قصيدة نثرية فارقة حيث يتخفف الواقع من نفسه ،والثقافة من أصولها،والتجريد عن وهمه،ليحل النص فى حسيات الواقع، في صورة الجميزة التراثية الراسخة وما ينتابها من لون خفيف يرفعها من التجذر والسكون إلى الحركة والخفة والنشاط ، فلا نصل هنا إلى حد إلغاء الوعي بالهوية الثقافية والجمالية كما تصور سدنة البيت الجمالي والمعرفي العربي في المؤسسات الشعرية العامة ، بل نصل مع نص عاطف عبد العزيز إلى التخفف من جميزة الأسلاف لا قطعها والتخفف هنا يعني إبطال الشعور النرجسي المتضخم بالذات الجمالية والثقافية لتحل إلى أنوات أخرى مجاورة لها ومتفتحة عليها ، حيث يبدو التفرد الجمالي العربي المتصلب في وجه المستقبل الجمالي ضعيفا أمام تكثر أناه ، وتنوع إمكاناته الجمالية المستقبلية الممكنة ، تجسد ذلك الصورة الشعرية البليغة التي تجعل الشعر يتعثر بذاته وبأشكاله وبرؤاه في حال تعلقه النرجسي بظل جميزته والذي يحول بينه وبين " متابعة سرب التحول والطلاقة والتعدد في الأفق الرمادي الغامض ، ولقد وفق النص أيما توفيق في المزاوجة التشكيلية والتركيبية بين التخفف من اللون في شجرة جميزة الأسلاف ، وبين اشتعال السرب الطائر في الأفق الرمادي الذي يبين ولا يبين ، حيث يتحول منطق الواقع والثقافة تبعا بتحول منطق الشعر، فندخل إلى رحاب تعدد ((المنطق البيني الغائم))  ـ بتعبير  عالم الفيزياء الإيرانى المعاصر لطفى زاده ـ لا جلافة وتسلط المنطق الحدي الصارم " إما – أو " ولقد كشفت العلوم التجريبية والفلسفية المعاصرة لدى فلاسفتها الكبار أمثال إمرى لاكاتوش وفيرا أبند وتوماس كوين وتوماس دبليو كواين ورولان أومينوس، عن أعماق جنينية جديدة فى تصور مفاهيم الذات والواقع والتاريخ والجدل والوعى ساهمت جميعا فى  خلق هذا المنطق المعرفي والجمالي الجديد والذي يقع في المنطق البيني الغائم منفلتا عن الحدود المعرفية الصورية الأرسطية التي تحدد القضايا والرؤى والتصورات في منطق الثنائيات الحدية التجريدية الصارمة والخانقة لحيوية الواقع وطفرات المستقبل الكامن فيه،فبعد أن كانت القضايا آنفا إما كاذبة وإما صادقة، أو ما يقبل التصديق والتجريب وما يقبل التفنيد صار ثمة حدا منطقيا ثالثا غائما ينخر في أعماق التصورين الحديين السابقين مكونا ما يعرف بالمنطق البيني الغائم أو الغامض بوصفه حدا منطقيا ومعرفيا وفلسفيا وجماليا ثالثا للوجود والواقع والذات والتاريخ  وهو الحد الغائب عن معظم نقادنا ومثقفين فى تصور الشعر والثقافة،وهو يقربنا من رحابة الممكن المستقبلي الكامن في حاضر الماضي – وحاضر الحاضر معا وهو الحد الذي ليس صادقا وليس كاذبا ولكن موجود أيضا لأنه غير قابل للتحديد وكأننا في حالة إرجاء جمالي ومعرفي دائم لفكرة الحضور التعييني للوجود والواقع والخيال ، بما يتجاوز فكرة فرويد في الثنائية النفسية والشعورية واللاشعورية الصارمة بين الوعي واللاوعي ، وفكرة دى سوسير الصارمة عن العلاقة بين الدلال والمدلول ، وفكرة شعراء التفعيلة ونقدة القصيدة الموزونة عن  ثنائية الشكل والمحتوى أو شكل المحتوى ومحتوى الشكل،أو سوسيولوجيا الشكل،والسوسيولوجية الشكلية،وما استجد من ثنائى هذا التصور التشكيلى عبر جميع التصورات الجمالية والفلسفية للمدارس النقدية المعاصرة ،تترك قصيدة النثر هذا الحد الثنائى الصارم فى التشكيل وتدخلنا إلى رحاب منطق جمالي ونقدي ومعرفي جديد ، وهو منطق اللاشكل وهو بسبيله إلى فكرة الشكل الذي في حالة تشكل دائم لا يفتأ يبدأ إذ يتم،فهناك الأشياء وهناك حالات الأشياء وهناك فكرتنا المسبقة عن الأشياء، وكأن جماليات التشكيل نفسها فى قصيدة النثر العربية قد تعدت فكرة الانقسام بين دال ومدلول وشكل ومحتوى لتتعامد على محور التزلق التشكيلي اللامتناهي للشكل نفسه ، ليكون الدال في ذاته محورا للواقع والرؤية والخيال لذا نرى النص الشعري السابق يزاوج بين فكرة التخفف من لون الجميزة وفكرة الخروج من التعثر بظلها والقدرة على متابعة الأسراب الصامتة الكمينة في الأفق الرمادي المحتمل ، كما ينقل الشعر صورة البيت بوصفه تجذرا ورسوخا وثباتا إلى صورة النزوح والتفلت والعبور حيث البيت فى النص السابق جرو أزغب متفلت دوما من القطيع ، فيتجذر في الوجود والثقافة والذات بقوة غريزة الوجود ، لا بقوة أنساق الثقافة وتجريدية النظريات ، فيكون الشعر مستنبعا من رحم الأشياء والموجودات ، فينتقل من المعرفة النظرية التي تثبت الهوية والذات والتاريخ ، إلى العرفان الحسي الباذخ في تسمع وشوشات الريح الطليقة في الليل المنداح البهيم على سبيل التصور الرومانسى الحالم بل على سبيل الحلول فى بنية المادة نفسها، فيحل العرفان في المعرفة والتصوير في التصور ، والمطلق  فى النسبي فيستجمع الشعر ذاته في صورة " (إلف الشراد )" لا صورة " (إلف الاتساق النسقي) " وتصير عبارة " (أنا الخزاف( " هي المحور الايقاعي المركزي واللامركزى معا المولد لبنية الاختلافات والمتباينات في القصيدة ، حيث يعيد الخزاف الشعري صوغ واقعه في كل مرة من جديد ، ولا غرو في ذلك فقد أبان الشعر والشاعر منذ بداية نصه أن نصه "(( يصحو على مشهد الماء)) " هذا الوجود الحسى الرمزى الكلي المنداح في الصيرورة والتموج والتحول والكثافة الزمنية والجمالية المطلقة فى لحظة التحول نفسها  خزاف الشعر معني هنا بتحويل الهوية لا إنكارها ، توسيعها لا نفيها ، جعلها ماءا سمحا متراحبا ومتموجا ، لا يابسة غليظة يناوئ بعضها بعضا ، ويقف ماضيها في وجه حاضرها ضد مستقبلها ،   قصيدة النثر هنا تقر بأنه لابد من جدل جمالي ومعرفى جديد، يعيد إلينا التكوثر الحسي الباذخ للواقع والذات الوجود، فخزاف الشعر يعاين الوجود في ذاته ولذاته في الصمت التأسيسي الكامن في حناياه اليومية المنسية، حيث يضرب الهجير الطين فيخلقه أطوارا بعد أطوار ولا يكون للشعر غير قدرة الإصاخة لوقع الوجود ، وقدرة نقل المجاز اليومى العابر لقاعه الحسي اليومي إلى أفق التشكيل فى القصيدة، نرى ذلك في صورة الشعر الذي يتكلس على غفول عقل المادة كي يعاين صور تخلقها في وضح النهار بعيدا عن صخب الكلام والثقافة والنظريات ، وصخب الإيقاع الزائف الذي تتفلت منه سيمفونيات الصمت القابعة في حنايا خلجات الموجودات والأشياء ، فكم من إيقاعات تهدر هدرا فادحا جراء هجوم سطوة تقاليد الشعر وتحكم أشكاله في ايقاعات الواقع الهامسة واللامتناهية،ومن يستطيع الإمساك بموسيقى الواقع الطليق سوى الواقع نفسه؟! وفي هذا النص يحاول عاطف عبد العزيز أن ينقل حد الشعر من هزال الأفكار الجمالية والمعرفية الكبرى إلى الكثافة الحسية والجمالية والمعرفية والإيقاعية المذهلة لراهنية اللحظة الشعرية ، حيث اقتدار الشعر على ثقب جسم الكلام وجسم الثقافة ، وجسم المعارف بما يحدث فجوة تشكيلية جديدة وقاطعة يمر من خلالها الشعر إلى تأسيس أنماط جديدة للشكل والمعنى والهوية والواقع والتاريخ والثقافة العربية برمتها ، حيث تتعدد أنماط أشكال الشعر بتعدد منظوراتنا الجمالية والوجودية لهذا الواقع ، فلا تنبع أي تجربة أو منظور أو رؤيا من شكل غيره بل ينمو نموا جماليا خاصا من خلال سياق تأمله الجمالي والوجودي الخاص به ، لا هوية ولا ثوابت بل سمات عابرة بسبيلها إلى اكتمال الحالة التي لا تكتمل أبدا ، فتظل كتابة أشكال الشعر تجريبية على الدوام إنشاءا وتشكيلا وتلقيا . إنها ((مجازية الماء)) القادر على إحداث الفجوة في جسد الكلام، وكتابة ((البياض الوجودي الديناميكي)) الراسب في قيعان الأشياء والأحياء والتفاصيل الحسية الذاهلة عن اللغة والبناء والتأطير، وتشكيل النسيان بوصفه حضورا مؤجلا كامنا في قلب الحضور اليومي المتخم بالفراغ الأيديولوجي  إن كتابة الذهول المتبعثر في ممرات الظل والمفتوح على مشدية الماء يذكرنا هنا بصورة المطر البلبل الحنون لدى محمد الماغوط،وبصورة خبرة الهواء لدى شريف رزق،وبصورة الجسد الموسيقى لريم عند محمود قرنى،وبصورة الكلمات العاريات عند عماد أبوصالح،وبصورة اللهاث المتقطع المتأبى على آلة البيانو عند فتحى عبد الله،وبصورة الخزاف المطل على رحابة صحو الماء لدى عاطف عبد العزيز،وصورة قطرة الماس المشعة لدى سمير درويش،ومجاز الماء لدى صبحى موسى، وكلها صور شعرية تلتقط مجازات القاع الترابي للحياة ، أو قل مجازات ما قبل الثقافة وما بعدها أيضا ، إذ يمارس الشعر هنا إعداما لغويا – دلاليا وإيقاعيا وتركيبيا موصولا ضد أنساقه الجمالية المتوارثة والسائدة المسيطرة ، منتجا مجازات الثقافة ومنتجا مجازات القاع الحسي اليومي للحياة ، فكل ما حولنا مترع بالشعر والمجاز والسر واللاتناهي ولكن ثمة عماءا ثقافيا وجماليا ومنهجيا عاما تدشنه النماذج المعرفية والسياسية والثقافية المسيطرة على الشعر والخيال واللغة من قبل مثقفينا ونقادنا ، يقول حسن خضر من قصيدة
" مشاوير " في ديوانه " عطر ميت " :

الشوارع تحبل بالمشاوير

- ترى .. هل تمل الشوارع تلك الرتابة ؟

- كيف ؟

وعمال النظافة حريصون على كنس المشاوير كل مساء(19)

وربما يحضرني هنا بيتان دالان من الشعر الكلاسيكى الإحيائى وهما للشاعر أحمد محرم إذ مجد الغبار في شعره قائلا :

 

قوتي ضعيف وضعفي قوة

                                      فاخشعي يا نفس أو طيري هباء

يسقط الصخر ويمضي صعدا

                             ساقط الترب فيحتل السماء

ولكن شتان بين مديح الهباء في نص كلاسيكي قائم على التأمل التاريخي الخارجي لطبيعة الزمن المجرد، بما يشبه العزاء والسلوى العابرة ، ومديح الهباء في قصيدة نثر تبني التاريخ والواقع واللغة والمجاز بالغبار الحي المتواثب من جسد طاحونة الحياة اليومية، مجاز الغبار هنا لا يقف خارج لحظات المكان والزمان كما هو الحال في التصور الجمالي الكلاسيكي ، ولا في مواجهة لحظات الزمان والمكان كما هو في التصور الجمالي الواقعي ، بل يقف الغبار في ديمومة بنية الزمان والمكان والذات واللغة والواقع اليومي بوصفه حركة بناء خلاقة غير مستعلنة وغير مرئية ، حيث يكتب الشعر الانفصال والغياب والتشذر الكامن في بنية الواقع نفيه ، الغبار هنا ليس مجرد مجاز شكلي بل هو شكل مضمون غير مرئي يحتوي الواقع من جميع جهاته ، حيث يرجع الشعر الواقع الرسمي الضال إلى بيت كينونته الطالعة من رحم الغبار اليومي الكادح ، فيؤصل مفهوما خاصا للزمان ، ورؤية خاصة بالإنسان ، ونسقا لا شكليا خفيتا لتوليد الدلالة ، ووعيا خاصا باللغة المنسية الصامتة بعد أن جردت قصيدة النثر المماهاة الجمالية والمعرفية والمنهجية الفجة والباطلة بين العقل والمنطق والتوازن والنظام والتدلال الرسمي العام لينبع الشعر من الغبار الكثيف الحي المتطاير من روح الحياة ، لا من الأعمدة الخرسانية الصماء للتاريخ الاجتماعي والسياسي فيتدفق شكل الشعر من شكل التراب، ويتخلق المجاز من عمق أتربة الشوارع ، ومن صمت حنايا الواقع ، ولكن كيف نلتقط الصمت الخلاق المبين المركوم في جسد الشوارع والأزقة والأرصفة طالما الثقافة الجمالية والسياسية المؤسسية العامة حريصة كل الحرص على تطهيرنا من أجمل ما فينا ، وتكديسنا بالممرات والأنساق الأيديولوجية المدنسة ، فالشوارع حبلى بالضمائر الحياة الطازجة ، لكن الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي العام لا يكتب غير الخطوط التجريدية المجحفة ، ولا يلتقط غير المنافع العامة لأصحاب السلطة ، معرضا عن القاع الصخري اليومي المكون لروح الحياة نفسها ، ومنتجا للمجازات الجمالية السائدة بوصفها الإمكان الشعري الراسخ والوحيد لما يجب أن تكون عليه الحياة ، يقول حسن خضر في قصيدة " التاريخ " :

(1)

لم يرو التاريخ تاريخه السري

إذ كان طفلا غير حكيم ، مشمولا بالعفة

وأمه الحضارة لم تدخله مصحة عقلية

خشية الفضيحة

فدارت علة عجزه بالطيللسان

(2)

لم يكن التاريخ يلمع حذاءه غير مرة واحدة

في العام .. " ليس لبخله "

يقول ماسحو أحذية التاريخ :

لأنه اختار للسكنى مكانا يرهبه الغبار

وضع بيتا من أعمدة

وحوائط خرسانية

كي لا يسمع الصراخ

(3)

ربما يمر فيقع في الحفرة المهيأة

وقد يشهد الأطفال المحظوظون ساعتها

ما يتحلل من جسد التاريخ

حكام ، شعراء وبنيون

هؤلاء جميعا وضحاياهم معهم(20)

وفي هذه القصيدة لا يكون المجاز مجازات للأنساق الثقافية والجمالة المعلنة ، بل للأنساق المضمرة غير المكتوبة ، المجاز هنا لا يعبر عن الواقع ولا يعكسه ولا يكون موازيا جماليا جدليا له ، بل ينتج المجاز واقعية الواقع بوصفها إمكانات شعرية تعددية لا نهائية كامنة ، ينحى الشعر المركزية والثقافة والسلطة وكل الأنساق الأيديولوجية المهيمنة على اللغة والروح والخيال والمعرفة ليكتب لحظة البوح الحميمية الكمينة التي تهدرها البلاغات المركزية العامة ، والاستعارات التاريخية الثقافية المهيمنة والخطابات السياسية الكبرى التي يتساقط الواقع في نعومة ماكرة من بين شقوق لغتها الكلية المجردة ، لا جرم أن الشعر يكتب هنا الفراغ والصمت والعدم والجنون بوصفها إمكانات دلالية وتخييلية وحضارية منبوذة ومقصاة من العقل الجمالي والسياسي العام ، الذي يستعيض عن عتهه الدلالي ، وتخثره العقلاني المجنون بطيلسان التدشين الأيديولوجي الزائف ، فهو يخلق فضاءا رمزيا تسلطيا عاما مشبعا بالأفكار والمعاني وأنماط العلاقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تصوغ هويته الكلية المعتمة ، حيث المعنى العام دمار عام ، وحيث السلوك الأخلاقي والجمالي السائد انهيار أخلاقي سائد ، فالتاريخ لا يلمع حذاءه الأرستقراطي القبيح إذ يدوس على سرية الواقع ، وحيويته الحسية الصامتة ، التاريخ يدوس ولا يصغي ، يغلق أعمدته الخرسانية الآيلة للسقوط على الحيوية اليومية الباذخة العنان ، الحاضر اليومي مارد ، والتاريخ قمقم سياسي هزيل ، وليس غير قصيدة النثر من يستطيع القبض على جمر اللحظة الإنسانية الهادرة بالشوق والرغبة والأمل والكينونة والتطلع والاستشراف والتجريب ؟! لا شئ غير الشعر يكتب مجازات الغبار الطليق الطالع من عرق الواقع ، ودموع الجسد ، وشهقات الأزقة والشوارع ، مجاز الغبار هنا لا يقف خارج لحظات المكان والزمان كما هو الحال في التصور الجمالي الكلاسيكي ، ولا في مواجهة لحظات الزمان والمكان كما هو في التصور الجمالي الواقعي ، بل يقف الغبار في ديمومة بنية الزمان والمكان والذات واللغة والواقع اليومي بوصفه حركة بناء خلاقة غير مستعلنة وغير مرئية ، حيث يكتب الشعر الانفصال والغياب والتشذر الكامن في بنية الواقع نفيه ، الغبار هنا ليس مجرد مجاز شكلي بل هو شكل مضمون غير مرئي يحتوي الواقع من جميع جهاته ، حيث يرجع الشعر الواقع الرسمي الضال إلى بيت كينونته الطالعة من رحم الغبار اليومي الكادح ، فيؤصل مفهوما خاصا للزمان ، ورؤية خاصة بالإنسان ، ونسقا لا شكليا خفيتا لتوليد الدلالة ، ووعيا خاصا باللغة المنسية الصامتة بعد أن جردت قصيدة النثر هنا المماهاة الجمالية والمعرفية الفجة والباطلة بين العقل والمنطق والتوازن والنظام والتدلال الرسمي العام لينبع الشعر من الغبار الكثيف الحي المتطاير من روح الحياة ، لا من الأعمدة الخرسانية الصماء للتاريخ الاجتماعي والسياسي فيتدفق الشكل والإيقاع واللغة من الحفر الصامتة غير المرئية في جسد الواقع والقادرة على إعادة تأسيسه
من جديد :

ربما يمر التاريخ فيقع في الحفرة المهيأة

وقد يشهد الأطفال المحظوظون ساعتها

ما يتحلل من جسد التاريخ

حكام ، شعراء ، ونبيون

هؤلاء جميعا وضحاياهم معهم

وعلى حين تسقط التواريخ الكلية المجردة والوهمية ، تنبع التواريخ البينية الهامشية الكمينة ، تنبع من جدل الصوامت والفجوات الجمالية والمعرفية حيث يكتبها البسطاء العفويون صناع القاع الصخري السحيق للتاريخ والواقع واللغة ، حيث تكون الصورة خفاء غير ذات مرجع ، والإيقاع لا وعيا نغميا كمينا في الخفاء، واللغة فورانا حسيا لولبيا غامضا نابعا من إِعياء التفاصيل الباذخة البساطة والتعقيد معا فى حياتنا اليومية ، يقول الشاعر حسن خضر في نصه " السويسي " :

البحر في السويس صهيل لازوردي لبقايا الفتوحات القديمة

والسويس بين البحر – أنثى من اليود

تقشر صدره العاري أمام السحاب

الممعن في التشاحن

ثم تلقى بشعر فتوته طعاما للسمك الغامض

ترى .. كيف تكون لغة الصيادين إذن ؟

تنبع اللغة في النص من تراب الأرض وملح البحر ، وصهيل الخفاء اللاهث صوب التجلي حيث تغسل اللغة نفسها من عوالقها العقلية والروحية والاستعارية الكبرى التي ضخمت بالتراث والتقاليد والتعميم ، لتنحل في جسدانية حسية مضمرة لكنها مكظوظة بالتفاصيل والحيوية والنماء ، تطلع لغة الصيادين من الوجود العاري عن أي نسق ثقافي مسبق ، فهي لغة حسية مباشرة لا تقيم حدا جماليا ومعرفيا بين شكلها وما تبعد عنه بل تكون هي الدلالة والوجود معا ، تنفصل عن الذاكرة والتمثل والبناء لتصب وتنصب في النشع الحسي الواغل في عصارات الأشياء والموجودات والأشكال المحيطة بنا من كل حدب وصوب، وكأننا في حالة من حالات العرفان الحسي للوجود،فيلتقط النص رشح العرق قبل رشح اللغة، بعيدا عن أي معرفة ثقافية مسبقة أو حتى سائدة . وهذا لا يعني أن اللغة في قصيدة النثر تقطع بصورة مطلقة مع الأشكال اللغوية والجمالية التراثية بقدر ما يعني قدرة هذه اللغة على استشفاف حالات العرفان الحسي اللاشكلي اللامتناهية في جسد التفاصيل الحسية المحيطة بنا ، بما يوسع من حالة التجسيد الشكلي بإحلال منطق اللاشكل والفوضى ضمن منطق الشكل نفسه ، فعندما ينفتح جسد البحر على جسد الواقع في النص السابق تمحى الحدود التجسيدية الفاصلة بين الشكل واللاشكل ، المتناهي في العقلاني والمنطقي والتنظيمي والممعن في اللانهائي والخفي والكثيف ، وكأن اللغة بعرامتها التشكيلية السابقة تقحم اللانهائي اللاشكلي في فضاء المحدود والشكلي ، فينعدم التراكم والتذكر والوحدة والهوية ويحل التعدد والحسي والمنفتح اللانهائي عندئذ كان السؤال الاستنكاري للشعر في كيفية خلق لغته وبنائها وإعادة تأسيس قوتها : " ترى كيف تكون لغة الصيادين : إذن؟!،نرى ذلك أيضا لدى الشاعرة ،ونجد ذلك أيضا لدى الشاعرة نجوى سالم في ديوانها " فراشات بلون الذاكرة "  فنقرأ معها  نصها " ارتياح "

في غرفة الليل الثقيل

أراها بقمعيها الشفاف

عيونها الحائرة

رجفتها

تلتهمها الجدران الباردة

كل شئ حولها قبيح

فارغا إلا من وحدتها وجنونها

تسبقها عبراتها المالحة إلى الولاعة

تشعل العالم في سيجارها

تنفث الأحلام والغد الذي لا يجئ

تقضم أصابعها ، تصرخ ضاحكة

ترفض فوق بحيرة من دموعها

تتمايل ... تتعثر ... تتلاشى تبحر في ألونها

جزرها الخرافية تمنحها بعض الأمان تدور ... تنفلت ... سكون

تحكم إغلاق عينيها

تفتح كل مسام الروح

تصرخ صامته ، تعوض في بئر سحيقة

يدوي صوتها في فراغ

  تستسلم لنوم إرادي عميق(21)

وفي هذا النص نرى كيف يكتب الشعر النسيان، ويتشكل من روح العراء ، ويمسك باللحظات الإنسانية المرهفة الموغلة في خفائها وجذريتها معا، والتي تتأبى على جلجلة الاستعارات،وطرطشات المجازات الكبيرة، وينتقل النص بالإيقاع من توقيع الأوزان المعتادة الراسخة إلي تلقط هسهسات أوزان الجسد الخاصة به ، وتوافقات نقلات الروح ، وتعثرات الخروج من سطوة الدلالة وقواعد اللغة ، ونماذج الأسلوب المعتادة، دائما نجد الخروج الأسلوبي والخيالي والجمالي والوجودي على مارسخ وتكلس من قوة سطوة المجاز فى تنحية أنين اليومي الاعتيادي المتفلت من عقولنا وأرواحنا ، تقول الدكتورة عواطف يونس في ديوانها " وسقطت من أفقي نجمة " ..

 

" خروج "

في كل مرة كنت تفتح باب شقتنا وتخرج

دونما كلام

دونما سلام

كنت أيضا تفتح قلبي ... وتخرج

 

وبصرف النظر عن حكمنا النقدي هل هذه الخاطرة الشعرية السريعة ترقي إلي بناء الشعر وجسدية القصيدة ؟ فهي مثل فن التوقيعات الأدبية العربية القديمة والتي تختصر العوالم في عالم جد مكثف قوته المفارقة الكامنة فيه ، لكننا نرى لدى ألشاعره نصوصا عميقة النضج والابتكار مثل قولها في نص " ارتقاء "

 

سيكون ملائما جدا .....

أن تؤجلي هذا القرار

فلملمي انكساراتك ورتقي ما تمزق من فؤاداك

أضيفي إلي جعبة أخزانك هذه الطعنة الجديدة

وكدسي الأحزان كدسيها

عتقيها جيدا

لتصبح أكثر نبلا

مثل حزن الأنبياء  (1)

 

هنا يصنع الشعر من حالة الوجود حالة جمال، وليس العكس ، فلا تقود قوة اللغة، أوسطوة  الثقافة خيال الشعر ، لكن النص هنا يجيد الإصغاء الجمالي لقوة اللانسق الساري في جسد الألم واللغة والذات ثم يرتفع به إلى حالة من حالات التشكيل الجمالي الحر وكأن شكل القصيدة النثرية ممرا حسيا لانبثاق حقيقة الوجودنأو حقيقة الجمال الموغلة فى سريتها وعزلتها بعيدا عن أنساق الشعر السابقة والسائدة ، وبعيدا عن توقعاتنا الجمالية الراسخة التي قد ترى في جماح الحزن تحريكا للغضب أوالثورة الخارجية المجلجلة ، لكن الحزن هنا حزن نابع من الممرات الجانبية الهامشية الموحشة ، حزن يفاجئ أحزاننا المعتادة التي قد تدمع أو تيأس أو تثور وتغضب فى جلجلة خارجية سرعان ماتجف،لكن الحزن هنا حزن معتق فى ذهوله الخاص،حزن منسكب فى  ضلوعنا السحيقة لاتمسكه اللغة لايحيط به المجاز لأنه ممارسة يومية  وليس ممارسة لغوية ، أنه نوع من تعتيق الفكر ضد الفكر فهو نوع من جلاء العقل والروح ، ومحو الزيف الدلالي العام ، والانغراس في أصالة الذات الداخلية لتزداد بصيرة وتأملا وفحصا ، يبد وأن هذا الشعر يعلمنا كيف تعيد تأسيس تصوراتنا وعقولنا وأفراحنا وأحزاننا وفق منطق التأمل والفحص والمراجعة للحظات الوجود نفسها ، وليس دفق التمثل الرمزي والجمالي السائد للعالم ، ذلك أن الوجود سابق على اللغة ، وحالة اللاشكل سابقة على لنسقيه الشكل ،فالذات هنا هي الأصل الذي يجب أن ينقاد إليها المجتمع ، والخيال هو الحقيقة الذي يجب أن تعدل هرطقة أنظمة أفكارنا من وهمها بناء على معطياتها على إدارة عقولنا وأرواحنا ووجودنا ، والأكثر قدرة أيضا على هدم وهمية مركزية الأفكار والتصورات وثرثرات الأنساق ، وإنشائية الممارسات  اليومية الهشة ،تقول  الدكتورة عواطف يونس في ديوانها " وسقطت من أفقي نجمة " .. نص " ارتقاء "

 

سيكون ملائما جدا .....

أن تؤجلي هذا القرار

فلملمي انكساراتك ورتقي ما تمزق من فؤاداك

أضيفي إلي جعبة أخزانك هذه الطعنة الجديدة

وكدسي الأحزان كدسيها

عتقيها جيدا

لتنضج أكثر قبلا

مثل حزن الأنبياء (22)

 

هنا يصنع الشعر من حالة الوجود حالة جمال، وليس العكس ،فيجبر اللغة برمتها على أن تصيخ لصوت الحقيقة حتى تنبثق فيها، فلا تقود قوة اللغة، أوسطوة  الثقافة خيال الشعر ، لكن النص هنا يجيد الإصغاء الجمالي لقوة اللانسق الساري في جسد الألم واللغة والذات ثم يرتفع به إلى حالة من حالات التشكيل الجمالي الحر وكأن شكل القصيدة النثرية ممرا حسيا لانبثاق حقيقة الوجود،أو حقيقة الجمال الموغلة فى سريتها وعزلتها بعيدا عن أنساق الشعر السابقة والسائدة ، وبعيدا عن توقعاتنا الجمالية الراسخة التي قد ترى في جماح الحزن تحريكا للغضب أوالثورة الخارجية المجلجلة ، فالحزن هنا حزن نابع من الممرات الجانبية الهامشية الموحشة ، حزن يفاجئ أحزاننا المعتادة التي قد تدمع أو تيأس أو تثور وتغضب فى جلجلة خارجية سرعان ماتجف،لكن الحزن هنا حزن معتق فى ذهوله الخاص،حزن منسكب فى  ضلوعنا السحيقة لاتمسكه اللغة لايحيط به المجاز لأنه ممارسة يومية حميمة خاصة بنا للغاية، وليس مجرد ممارسة لغوية جمالية أو حتى تشكيلية بنائية، أنه نوع من تعتيق الفكر ضد الفكر فهو نوع من جلاء العقل والروح ، ومحو الزيف الدلالي العام ، والانغراس في أصالة الذات الداخلية لتزداد بصيرة وتأملا وفحصا ، يبد وأن هذا الشعر يعلمنا كيف تعيد تأسيس تصوراتنا وعقولنا وأفراحنا وأحزاننا وفق منطق التأمل والفحص والمراجعة للحظات الوجود نفسها ، وليس دفق التمثل الرمزي والجمالي السائد للعالم ، ذلك أن الوجود سابق على اللغة ، وحالة اللاشكل سابقة على لنسقيه الشكل ،فالذات هنا هي الأصل الذي يجب أن ينقاد إليها المجتمع ، والخيال هو الحقيقة الذي يجب أن تعدل هرطقة أنظمة أفكارنا من وهمها بناء على معطياتها على إدارة عقولنا وأرواحنا ووجودنا ، والأكثر قدرة أيضا على هدم وهمية مركزية الأفكار والتصورات وثرثرات الأنساق ، وإنشائية الممارسات  اليومية الهشة ولعل سمير درويش يجسدها في ديوانه الأخير " يوميات قائد الأوركسترا " لتقرأ معي هذا النص

" 31 ديسمبر 2001 "

 

غدا ستكون الشوارع خالية من المارة تقريبا

وسيضطر منادو السيارات للصراخ

جلبا لزبائنهم

فمعظم الناس سيكونون نائمين في بيوتهم

لأنهم سيسهرون الليلة جماعتا، يحتفلون معا

بقدوم عام جديد لكنني سأكون هناك ...

لأنني سأقضي الليلة ممددا أمام التليفزيون

أستمع لنشرات الأخبار ولتوقعات المنجمين

عن أحداث عام جديد

يتشكل الآن (23)

 

فالشعرية هنا أطلق عليها ((شعرية المحو في مقابل شعرية الصحو)) التي نراها في القصيدة العربية الحداثية الموزونة ، وشعرية المحو لا تكتب الجنون المتخثر ولكنها تكتب العدم بوصفه إمكانا وجوديا كامنا بما ينقل مفهوم المجاز من حالة الإنجاز إلى حالة الإمكان المجازى المفتوح المستمر ، فهو مجاز الظل الكامن في رحم الثغرات المعرفية  يقوم بدور المعادل اللاموضوعي ـ لا الموضوعى ـ الجمالي لهذه الثغرات والصوامت حيث تدفع الدال الشعري إلى أقصى إمكان التدلال حتى بلوغ سقف المحو الدلالي " لكنني سأكون هناك " فينكتب الشعر من رحم التكوينات الزغيبة  البازغة من أحشاء اليومي والصامت وكل ما يتأبي بطبعه على الترميز والدلالة والشكل ، والشاعر إذ يعنون قصائده بتواريخ كتابتها ماحيا الحد الزمنى بين زمن الكتابة  الفنية وزمن التأريخ الزمنى للكتابة، يخلق نوعا من أسلوب الالتفات الوجودي الحسى بين الصوت والكتابة ، بين الكتابة بوصفها نسقا تاريخيا حاضرا غائبا، وبينها بوصفها حضورا وجوديا وجماليا مؤجلا لا يحضر أبدا ، أو هو حضور بسبيله إلى الحضور اللامتناهى فاللحظة التاريخية التي نموضعها للقبض عليها  فى الكتابة ، تفر إذ تنكتب، فالوجود نفسه سابق على الكتابة ، والحاضر الحسى اليومى يتزلق منا وعنا وجوديا ودلاليا بصورة مطلقة، فنحن مطالبون دوما إلى الالتفات من المكان الذى نوجد فيه إلى المكان الذي يجب أن نوجد  فيه  أو قل إن المكان والكتابة والتاريخ الذات والمجتمع يفارقونا جماليا ودلاليا ووجوديا في ذات اللحظة التي ندعى نحن القبض عليها في الكتابة الشعرية، حينئذ تعتبر الكتابة منطقا لعبور الارجائي المطلق من  حالة إلى حالة ولا تستقر في تدلال معين في لحظة معينة ، وهنا تكمن قوة كتابة المحو ضد كتابة الصحو ، وكتابة المحو لا تعنى العماء والعدم ، بل تعنى كتابة لحظة العبور الخفي النابع دوما من الصوامت اليومية العادية بين لحظتين مجردتين كبيرتين لحظة الماضي الثقافي والجمالي الراسخ ، ولحظة الحاضر الجمالي السائد والممتلئ بالترميز الأيديولوجي العام ، وإذ يكتب الشعر محوه وعدمه وبياضه الوجودى الديناميكى، يفكك هذا الامتلاء الترميزي والسياسي والاجتماعي العام فيحيله عبر الصور والمفارقات والتكثيف الدلالي إلى فراغ عام ، فهو يفكك لحظة الحضور ذاتها ، وهنا تأتى القيمة الجمالية والأسلوب والمعرفية الجديدة لما عرف بقصيدة النثر " النص الحر " فهي تمثل لحظة جمالية كثيفة من المقاومة ضد التجريد والتعميم وسد الأفق الثقافي والوجودي بالايدولوجيا والأفكار الكبرى الوهمية، وبهذه المثابة نحن لا نريد شعرا يرتهن في جمالياته الحاضرة لماضينا الجمالي أو لماضي الآخرين ، ولا نريد شعرا يرسم مستقبلنا الجمالي من خلال شتل مستقبل الآخرين في جباهنا الجمالية عنوة واقتسارا ففي كل واقع جمالي خاص ، تركيباته المعرفية والمجازية والثقافية الخاصة به والتى تتوالد ذاتيا بقدر ما تتوالد منهجيا ومعرفيا ، ولا ينتفع من الولادات الجمالية في حضارات الآخرين إلا بما هو على وشك الولادة الجمالية الطبيعية في الأشكال الجمالية لحضارة الأنا ، نريد شعرا لا يسمي العدم وجودا ، ولا الفوضى حرية ، ولا القواعد المكرورة الكابحة منهجية ، شعرا يصغي لأشكال التعدد اللاشكلي اللانهائي في الذات والواقع والثقافة ، بقدر إصغائه لأشكال التعدد الشكلي الراسخة في عقلنا الجمالي الخاص ،ولنكمل مع الشاعر سمير درويش فى ديوانه ((يوميات قائد الأركسترا)) ،يقول الشاعر في نص " 1 أغسطس 2001 "

من الممكن أن أكتب هنا :

" رغم كل شئ ممكن حدث اليوم

في حياة رجل غير تقليدي

مهاتفة الأصدقاء المقربين

وأصحاب الأطفال إلى المتنزهات

والقرار من سيارة طائشة

إلا أن الحياة أصبحت مملة فعلا

المشكلة أنني لو قلت ذلك سأعطى مبررا للنفاد

كي يشككوا في فكرة " اليوميات " أصلا.

ففي اللحظة التي تكتب فيها يومنا ، يكون فرار يومنا منا ، إذا نحن نكتب صورتنا وتصورنا ورمزنا عن اليوم ، ولا نكتب عن كل إفصاح ، وكان المجاز هنا يكتب لحظة المقاومة المستمرة بين القصدي والطبيعي ، فنحن نفسه ، ولا نستطيع أن نتكئ كما يقول جورج جاد آمر في " الحقيقة والمنهج علة نقطة أرشميدية خارج الثقافة نستطيع من خلالها تحقيق معرفة موضوعية ما بالذات والعالم والخيال والواقع ، واليومي العابر ، إن الجهد السياسي والاجتماعي والثقافي المبذول يوميا لاستبعاد البسيط واليومي والعابر والهلامي بوصفه عديم القيمة ، أو غير محدد القيمة أو فخلوت القيمة يصبح في قصيدة النثر " النص الحر " هو ما يضع جسد الحياة نفسها ، عندئذ تغير قيم اللامعنى  والفوضى واللاشكل ، هي قيما جمالية ومعرفية أصلة يجب أن تنضاف لقيم المعنى والاتساق والشكل ، وهنا تستحضر الشعرية فكرة الحضرة الشعرية بفكرة الحضور الشعري المتعارف عليه !! ، حيث تنتشل الحضرة الشعرية الانفصال اليومي القابع في الحضور اليومي ، وترقى به إلى الاتصال الصيروري المتحرك في فكرة الحضور ذاتها ، بما يدفع الشعر والذات والثقافة إلى عالم حاشد من التوتر والمفارقة والازدواج بين الحضور بوصفه تجليا تاريخيا عاما والحضرة الشعرية بوصفها تخفيا وتجليا معا في ذات لحظة الحضور التاريخي اليومي لقد رأى كانت من قبل في كتابه " نقد العقل الخالص " أن الاستنتاج المتعالي يبين أن شروط احتمالية الذاتية هي في الوقت نفسه شروط احتمالية الموضوعية )).وهذا التصور يداخل بين طبعة المنهج وطبيعة الحقيقة التي يصفها هذا المنهج ، أو قل يداخل بين التجربة كما هي في واقعها اليومي الخام وبين منهجية وصفها بعد أن أمحت هذه المسافة التي كانت تتوههما العلوم والمناهج والتصورات السياسية المعاصرة بين الذات العارفة والموضوع المعرف ، وإذا كانت المعرفة ـ أى معرفة تجريبية أو إنسانية أو منهجية أو منطقية ـ مبللة بأهواء وتصورات وأشواق العارف ، وكل نظرية تدعى الأنساق محكومة بأشكال عماها الدلالي والمنهجي أيضا ، فإن عبور هذه المسافة الأبدية اللانهائية بين الكلام والظاهرة يبدو مستحيلا ، ومن ثمة وهمية صرامة تقسيم منهجية المعرفة للامساك بلحظة الحاضر التي تفر منا أبدا، فالحاضر لا يعنى الحضور،بل يعنى إمكانية الحضور، ويقف الشعر في الهوة  الأنطولوجية الفادحة بين وضوح الحاضر وغموض الحضور الذى يباعد بين الزمن ونفسه فى ذات اللحظة، يقول سمير درويش فى (يوميات عازف الأوركسترا) :

الفاصل الزمني بين موقعين

يجعلني أجرب أوضاعا جديدة

تكون مستحيلة أحيانا

كان تقف على قدمين ورأس

أو تقف على قدم واحدة واضعة الأخرى على الحوض المعدني

أو تجلس في وضع الكاتب المصري

ببعض التعريفات

أو .........

أو....

الذي يساعدني حقا

أنني أجد وسيلة ما مناسبة

لأخمد انفجاراتى ، الديوان ،  ص 60

وربما يدخلنا النص إلى بكارة إيقاعية فوق وزنية أو قل قبل وزنية، لم تنتبه إليها القصيدة الحديثة الموزونة – ولا أقصد هنا بحالات ما قبل الوزن الحالات الروحية والتخييلية الهلامية والسديمية الكامنة فى فوضى اللاوعى الإنسانى ـ بل أقصد بالتحديد الحالات الروحية والنفسية والتخييلية والمعرفيى الكامنة فى لاوعى الثقافة والواقع بوصفهما أنساقا من الأفكار والتصورات والأيديولوجيات،بما ينأى بنا كثيرا عن فكرة اللاوعى البيولوجى لدى فرويد ويقربنا كثيرا إلى فكرة اللاوعى اللغوى الترميزى لدى جاك لاكان،وعندما تنغل قصيدة النثر فى هذه القارة الإيقاعية واللاإيقاعية الخفية اللامرئية قارة مجهولات الثقافة ومضمرات النساق فهى تؤسس إيقاع الفئات لا الهويات، إيقاع الدلالات المهمشة في صمتها البعيد، وفي هذا المجال الإيقاعى الابتكارى الجديد أستطيع أن ألفت انتباه القصيدة الحداثية العربية الموزونة عبر أشكالها الموسيقية المتعددة إلى قدرة الشعر المنثور أو قل القصيدة النثرية كما يدعي أصحابها – قدرتها إلى خلق لون إيقاعي مبتكر أطلق عليه هنا – إيقاع اللاوعي الجمالي والمعرفى – ولا أقول  اللاوعى النفسي واللاشعوري كما دشنه سيجموند  فرويد ، أو حتى الوعي واللاوعي اللغوي الرمزي كما قال جاك لاكان وأنصاره من بعد بوصفهما انساقا لغوية حرفية ، بل أقصد بمصطلحى الخاص بى هنا " ((بإيقاع اللاوعي الجمالي والمعرفي  للثقافة))" المكون المعرفى والجمالى للعوالم الإيقاعية اللامتناهية الكامنة في قصيدة النثر كمكون جمالي وبنائي أصيل فيها في مواجهة كل أشكال الإيقاع الوزنى والعروضى والصوتى والكمى والنبرى التوافقي والتخالفي والتوازني (التناسب ـ  التوازن ـ التغير –  النظام ـ التوازى ـ التكرار ـ التلازم ـ التنغيم) أو أي صورة من صور الإيقاع الأخرى في القصيدة الحداثية الموزونة مما قننه الباحث المغربى محمد العمرى فى كتابه المهم(( البنية الصوتية فى الشعر))، ونستطيع أن نجمع الجهود العربية الجمالية والنقدية الرصينة فى الإيقاع والوزن العربى  ((نازك الملائكة ـ محمد مندور ـ محمد النويهى ـ كمال أبو ديب ـ على يونس ـ شعبان صلاح ـ أحمد كشك ـ محمد بنيس ـ شكرى عياد ـ عز الدين اسماعيل ـ صفاء خلوصى ـ محمد العمرى)) وغيرهم من النقاد الجادين ـ نجمع كل ذلك ـ فيما نطلق عليه هنا اصطلاحا تقريبيا: "(( إيقاع الوعي الجمالي))، لكننا نرصد كل  التناسبات واللاتناسبات الصوتية فى قصيدة النثر فيما نطلق عليه هنا  اصطلاح :(( إيقاع اللاوعى الجمالى والمعرفى))،وبالطبع فإن قضية الإيقاع تقع على الحدود الروحية والنفسية والعقلية البينية للوعى واللاوعى معا، وحتى نجلي فكرتنا النقدية والجمالية هنا بصورة أدق وأوضح مما يبعدها عن التجريد والاختزال واللبس، ـ وحتى لا يتهمنا دعاة العراقة الإيقاعية الموهومة أو دعاة الحداثة المتطرفة المدعاة ـ نريد هنا قبل أن نقدم خطاطات واستراتيجيات نقدية أولى لما نؤصله هنا لمفهومنا الجديد لهذا التصور الإيقاعي التجريبي ، أن نلفت النظر النقدي إلى أن فكرة " ((إيقاع اللاوعي الجمالي ))" هي خاصة معرفية وتصورية فى بنية إيقاع الثقافة نفسها وليس إيقاع الشعر فقط، إلى جانب أنها خاصة جمالية تشكيلية في بنية قصيدة النثر، فهي رؤية تتجه صوب إدراك حركة العلاقة قبل إدراك مفهوم العلاقة في ذاته، وتجسد جماليات العبور والنشاط واللازمنية في مواجهة التطابق والهوية والانسجام ، يقول الشاعر الليبي " العماري " في ديوانه " كتاب المقامات قصيدة

" المسافات الباردة " :

باردة أيتها الأمكنة من دوني

باردة أيتها الأسرة المقفلة على الفراغ

باردة أيتها الدروب إن أتخلى عنك

باردة أيتها الساعات إن لم أقترحك نبضا لقلبي

باردة كذلك يا هي النائية عن وسادتي في هذا الليل البعيد

هنا الشعر يبحث عن تجسيد شكلي للإيقاع المفقود في حياتنا،أو قل تجسيد لحالة الإيقاع الموزون المؤدلج التي تستنضب نبضنا وإيقاعنا الحميم بنا،وراهيتنا الوجودية المباشرة ، وهنا ننقل صفة اللازمنية التى أشارت إليه بعبقرية نافذة سارة برنار بوصفها  صفة تركيبية لقصيدة النثر إلى كونها صفة إيقاعية لدينا، وهى ليست الزمنية الإيقاعية المتسقة لبناء محددة الأهداف، فالإيقاع هنا كتلة لازمنية ـ على معنى التعدد والتداخل لا الفوض والعدمية ـ مشتقة من المفارقات المدهشة،والصوامت الجمالية والمعرفية الهاجعة فى  ذهول بعيدا عن النظام الثقافى الرسمى العام، بما يحقق هذا التوهج الإشراقي العفوي البعيد عن كل احتواء دلالي أو بلاغي أو رمزي  عام،لكن الوهم الجمالي الذي يلاحق القصيدة الحداثية الموزونة يكمن في عدها الإيقاع الوزني هو القادر وحده على احتواء الغابات الصوتية الموحشة والمتلبدة في إيقاع ولا إيقاع الوجود والذات والثقافة هذا الوهم الوزني يساويه الوهم الإيقاعي المنفلت من كل تنظيم وسيطرة تشكيلية الذي تدعيه قصيدة النثر أيضا لدى كتابها الصغار عديمى المواهب، ومهما تعلل أدونيس وأنسي الحاج وأجيال الشعر المنثور أو قصيدة النثر من بعد ذلك وهى أجيال متعددة حقا،مهما تعلل الجميع بأن إيقاع الجملة والمعاني والصور والعلاقات وطاقات الإيحاء ، والتراميات الرمزية التي تنغل إليها إيقاعات الرموز غير المعلنة  هى إيقاعات قصيدة النثر فأقول لهم جميعا هذا وهم ثقافى أيديولوجى، نعم كل هذه الصور هي صور موسيقية عميقة  وتموجات إيقاعية لكن الفوضى لا تعني العدم ، واللازمنية لا تعني التخثر ، والتوهج ما لم ينتظم في حركة زمنية ما طالت أم قصرت ، تجلت أم تخفت ، واعية أو غير واعية ،هى صورة انتظام ما قد لانستطيع القبض المعرفى والجمالى عليه فهو يقع تحت بند ما لاتؤده الصفة بتعبير اسحاق الموصولى، لكن دائما هناك هذا التوتر الخلاق في كل فن بين طلاقة الإيقاع ولا نهائية وحدود وتوازنات الموروثات اللغوية والجمالية، وبين قوة الموهبة في إحداث هذه التوازنات الإيقاعية اللطيفة المعقدة بين توترات اللاشكل اللانهائية في عالم الوجود، وضغوط أشكال الفن في عوالم اللغة والثقافة والجمال ، هناك هذا التوازن التوتري المستمر بين بنية النظام ، وقوة اللانظام في جسد حركية الزمن نفسه ، وفي غياب هذا التوتر التوازني اللامحدود ينعدم حدوث الإيقاع وينعدم الشكل والشعر معا ، وبهذه المثابة ثمة وهمان منهجيان يقع فيهما القصيدة الحداثية الموزونة وقصيدة النثر معا :

  ــ الوهم الأول عندما عدت القصيدة الموزونة أشكال إيقاعها هي البناء الوحيد الممكن للإمساك بتجربتنا الوجودية.

 ــ والوهم الثاني عندما عدت قصيدة النثر أشكال انفلاتها الإيقاعي تساوي المعادل الشعري للإيقاع، وأن الانتظام الإيقاعي محض قيد وعبء على الشعر والشعرية معا وتناست القصيدتان أن الإيقاع نفسه مكون وجودي كونى يومي قبل أن يكون نسقا جماليا أو ثقافيا، وأن الطبيعة والوجود لا يقدمان إيقاعات جاهزة ونهائية وثابتة ،كما أن أشكال الثقافة كلها لاتستنضب إيقاعات هذه الثقافة نفسها بوصفها تعنى تكوينها ومابعد هذا التكوين معا،حيث يتحرك الإيقاع مع حدث الوجود واللاوجود معا حياة وموتا وإحداثا وتطويرا وتغييرا ، ومع حدوث الشعريات تأسيسا وتغيرا وتثويرا فالإيقاع مكون نغمي وتنظيمي وتعبيري وثقافي وما وراء الثقافي أيضا أنه مضمر إيقاعى  ثقافى لاواعى  فى قصيدة النثر يتوجه صوب المضمرات الثقافية ، وتناقضات الأنساق الجمالية الرسمية، وأشكال المخفيات الجمالية لتستنفرها من هوامشها الساكتة ، ومكامنها الجمالية الغائبة ، وكأن الإيقاع اللاواعي لقصيدة النثر أو ما نطلق عليه " النص الحر " يلفتنا من الإيقاع العروضي والوزني والتفعيلي إلى لاوعى الإيقاع الثقافي والحضاري في راهنيته الخاصة،حيث يقوم البناء الثقافى برمته بوظيفة الإظهار والإضمار معا،فالثقافة بقدر ماتعطى تمنع،وبقدر ماتكشف تقصى،ومن هنا تثق الثقافة رامزة للأشياء وليست بديلا عنها،وهنا  تسعى قصيدة النثر إلى التخفف من غلظة الوعى الثقافى العام ولكنها لاتلغيه بالكلية،إنها تقبع فى منطقة الظل الثقافى لا منطقة الصخب الإيقاعى لها،تقع فى منطقة برزخية بينية بين الثقافة والواقع،والنظريات والنصوص،والأيديولوجيا والحقيقة،تقع فى هذه المنطقة الحميمة الصامتة والمهولة تكشف عن الإكراهات اللغوية والرمزية والجمالية والمعرفية والثقافية والحضارية المعلنة والمضمرة معا فى جسد الواقع والثقافة ، ومن ثمة فإيقاع قصيدة النثر يتجاوز صرامة السياق إلى منطقة جمالية ظلية تمثل إيقاع اللاسياق بوصفه سياقا غائبا أو مجهولا أو صامتا مسكوتا عنه،وهنا بالتحديد يقبع النهر الزمنى الخفى للإيقاع قصيدة النثر بوصفها هامشا إيقاعيا مولدا للتباينات والمفارقات التى تمنع لحظة الحضور الزمنى عن حضورها الفعال فى حياتنا اليومية، ومن هنا فإن ما نطلق عليه مصطلح (( اللاوعى الجمالى والمعرفى لقصيدة النثر))،يستطيع أن ينقل الموروث النقدي والجمالي والمعرفي الماضي والمعاصر السائد معا نقلة جذرية  بعيدا عن  فكرة إيقاع الوعي بما يجب معه أن يكون الشعر في مقابل النثر أو النثر في مقابل الشعر أو حتى الشعر بالقياس إلى مستويات إيقاعية ومجازية منه،أو النثر بالقياس إلى مستويات إيقاعية ومجازية منه،فثمة شعر هو نثر خالص حتى وإن استوفى كل خصائص النظم والإيقاع ، كما أن هناك نثرا قد نراه خالصا لكنه مستوف كل أسباب الإيقاع ، وجميع مرتكزات النغم . إن قصيدة النثر تكتب وعي ولاوعى جمالى ومعرفى وإيقاعى آخر للثقافة الجمالية العربية،تكتب تذكرا وتوقعا وترابطا زمنيا آخر يختلف كثيرا عن ألوان التذكر والتوقع والترابط الزمنى فى القصيدة الموزونة بكافة أشكالها الجمالية الموزونة والتفعيلية والحداثية معا، يقول ريتشاردذ (( يعتمد الإيقاع كما يعتمد الوزن الذى هو صورته الخاصة،على التكرار والتوقع فآثار الإيقاع والوزن تنبع من توقعنا سواء كان ما نتوقع حدوثه،يحدث بالفعل أو لايحدث،وعادة يكون هذا التوقع لاشعوريا،فتتابع المقاطع على نحو خاص،سواء أكانت هذه المقاطع أصواتا،أم صورا كلامية،يهيىء الذهن لتقبل تتابع جديد من هذا النمط دون غيره،إذ يتكيف حهازنا فى هذه اللحظة بحيث لا يتقبل إلا مجموعة محدودة من المنبهات الممكنة))(24)

وإذا صحت تصورات ريتشاردذ فى تحليل الأساس الواعى واللاواعى لبنية الإيقاع فى النفس الإنسانية،فنحن لانسلم بالتوازى الآلى بين إيقاعات النفس وإيقاعات النص،فأحداث الفن غير أحداث الحياة،ولكننا لاتفصل بصورة من الصور المستوى الجمالى والمعرفى الخاص بالإيقاع عن المستوى الحضارى والثقافى الصادر عنه،فثمة نماذج معرفية وجمالية وثقافية وروحية مهيمنة على ارواح الأمم فى إنتاج إيقاعها الخاص بها،كما هناك كثرة باذخة لأشكال الإيقاع فى هذه الأمم بعدد نتاج نصوصها الجمالية الخاصة بها،وسيأتى اليوم الذى ستكتب فيه كل أمة وكل فرد من هذه الأمة شكل جمالياته الخاصة بها والمستقلة كل الاستقلال عن غيره،ولكننل نريد ان ندفع تصورات ريتشاردذ عن الإيقاع إلى مدى اوسع هنا ونحن بإزاء دراسة الإيقاع فى قصيدة النثر فنقول بأنه إذا كانت القصيدة الحداثية الموزونة تكتب إيقاع التذكر والتواقع وسمات الإدراك الكلى المنسجم مع الذات الثقافية الجمعية المجردة فغن قصيدة النثر تكتب إيقاع اللاوعى الثقافى والجمالى الصامت والغائب والحميم لهذه الثقافة،ومن هنا فهى تؤسس لتوقع وتذكر وإدراك آخر للوعى الجمالى العربى الراهن وعى جمالى إيقاعى ظلى أقل حسما وصلابة وتحددا من بنى الثقافة الرسمية العامة،ولكنه أكثر نفاذا وهامشية وانتشارا وحميمة وتوليدا للمكنات الحسية الغائبة والمحهولة.

    وقبل أن نوغل أكثر في تحديد مفهومنا المعرفى الخاص بنا عما اقترحناه من مصطلح " ((الإيقاع الجمالي والمعرفى اللاواعي))، يجب أن نستبعد من هذا الإيقاع شبهة المزاوجة العلمية والنقدية والجمالية بين فكرة " (الإيقاع الجمالي للاوعي "( و(فكرة اللاوعي الجمالي) المعروف في التصور الشعري عامة والتصور الشعرى السريالي خاصة، سواء في موروثه الفرنسي لدى رامبو وبودلير وأندريه بريتون وغيرهم ، وموروثه العربي كما نظره أدونيس وأنسي الحاج نقلا عن الموروث الشعري الفرنسي ،أو ما أصله الشاعر والناقد السوريالى العربى  السورى أورخان ميسر فى دراساته عن ((علم الجمال السريالى)) أو جماعة ((الفن والحرية)) المصرية التى  أسسها أصحاب مجلة(( التطور)) المصرية مثل رمسيس يونان وأنور كامل وكامل التلمسانى وأحمد مرسى وألبير قصيرى وغيرهم،ثم من جاء من بعدهم من الشعراء والنقاد السرياليين العرب، وكلنا نعرف أن قصيدة النثر كانت هي السقف الجمالي الأقصى للسريالية الفرنسية ، وأظن أن علم الجمال السريالي – لو صح التعبير بكلمات الشاعر السوري السريالي أورخان ميسر له مفاهيمه وتصوراته وأهدافه ، ولكنه لم يتحقق فيما نرى إلا بصورة نظرية افتراضية أكثر منها شعرية تطبيقية ولم يصل إلى حالات الكتابة الآلية العفوية التدفقية اللاواعية إلا جزء ضئيل جدا من شعر هؤلاء الشعراء وكان تحت تأثيرا المخدارات، وكان أشبه بالفراديس الاصطناعية التي توهمها بودلير وتأثرها رامبو من بعد ، وكانت أغلبها تحت تأثير المخدرات المغيبة للوعي ، لا التجارب المفعلة له ، والمشكلة لحركة نشاط الخيال فيه ، وأظن أن مفهوم جماعة السرياليين لفكرة اللاوعي الجمالي ، أو الكتابة اللاواعية سواء لدى الفرنسيين أو أتباعهم المقلدة من العرب – أدونيس والحاج ومن شايعهم من جيلهم أو الأجيال التي كتبت متتلمذة عليهم – أظن أن جميع ذلك كان وهما جماليا نظريا ، لا تأ صيليا شعريا له تصوراته النظرية الرصينة ، وممارساته الشعرية الأصيلة ، وذلك لأن فكرة غياب العقل الواعي وإنفصاله الحسى الفعلى عن الوعي الشعري هي فكرة وهمية ، ففي كل كتابة شعرية لا واعية يكمن ظل العقل المنظم المشكل ولو بصورة لا واعية فالغياب الكلي للعقل والوعي ، ليس حلولا كليا في حالة اللاوعي الجمالي المبدع ، بل خروج بالكلية عن حد المعقولية وحد الوجود معا ، بل يعنى السقوط الفعلي في حالة الجنون والتخثر والهذيان بمعناه الإكلينيكي والحياتي اليومي ، فليس هناك أي قدرة إنسانية أو جمالية او معرفية على كتابة لا واعية طليقة تماما من حدود العقل ، هذا وهم نظري ، وافتعال تصوري ، ومغالطة وجودية كبرى ، ينتج عنه هذا الذهان اللغوي المتناثر ، وهذا التشظي الصوري المجنون الذي يدعيه كتاب قصيدة النثر الصغار تحت دعاوى علمية وهمية مثل  الكتابة الفوضوية  أو ملامسة اليومي العفوي المسكوت عنه ، أو تحت أي دعاوى علمية وهمية أخرى ، ولكننا نؤكد هنا أن أي صورة من صور الفوضى المنتجة وراءها ولو بصورة خفية لا مرئية وعي لغوي جمالي تنظيمي فلا مفر من اللاوعي نفسه سواء كان شعريا أو نفسيا أو لغويا هي صورة من صور الوعي الكامن أو الغائب أو قل العقل الجمالي الصامت والمسكوت عنه ، وتتعدد صور هذا اللاوعي الجمالي والمعرفي تعدد صور المضمرات المغيبات في أنساقنا الثقافية والسياسية والواقعية ، والأيديولوجية اليومية الراسخة ، وبما أن كتاب قصيدة النثر لم يصلوا بالفعل الشعري التطبيقي إلى كتابة هذه الفوضى اللامتشكلة والمنسابة عبر أشكال اللاوعي الجمالي والمعرفي الكامن بعد – لم يصلوا إلى هذا التصور الجمالى والمعرفى الذي نبديه هنا بصورة خلاقة بعد،فأنا أقول ـ حتى لا يتهمنا أحد فى عروبتنا وديننا وثقافتنا  وإنسانيتنا بالتهم المعدة سلفا فى دولاب الهرطقات العربية ـ  أقول إن الخيار التشكيلى والبنائى لإيقاع اللاوعى الجمالى والثقافى العربى مفتوح أمام جميع أشكال الشعر العربي المعاصر للوصول إليه ، الموزون منه والحر والشعر النثري ، فهذا التصور هو ما يحدد من بعض الجوانب المستقبل الجمالي لهذه الأشكال الشعرية وهو ما يدفعها صوب الإنجاز الشعري الفعلي إن كانت قادرة عليه بالفعل لا بالقول النظري المجرد غير المستنبع من نبض الشكل الشعري نفسه.

     لقد استطردنا كثيرا حتى نستبين الفوارق المعرفية والجمالية بين ما نقصده هنا من فكرة تأسيس " ((الإيقاع الجمالي والمعرفي اللاواعي)) " في الشعريات المعاصرة ، وفكرة الكتابة الآلية العفوية اللاواعية الشائعة في علم الجمال السريالي ، وفرقنا بدقة علمية واجبة بين وهمية الخلاص التام من رقابة العقل،وسلطة الشكل، ووهمية تشكيل ما يسمى بالتشظي المطلق ، أو كتابة الفوضى اللاكتلية المنساحة في الوجود،كل ذلك كان محض تصور نقدي وهمي في غيبة فكرة التعقل والوعي وضغوط المواريث الشكلية السابقة،لكننا نفرق هنا بين كل هذه التصورات الوهمية الاعتسافية المتطرفة وغير الواقعية وبين فكرتنا عن "(( الإيقاع الجمالي اللاواعي)) بوصفه منطقة ظل لاواعية داخل بنية النسق التصورى للثقافة نفسها،وليس داخل النسق البيولوجى لمكونات النفس والجسد،نؤسس هنا ((للإيقاع اللاواعى))"،بوصفه تشكيلا جماليا قابعا في حيز الإمكان الشعري الاستشرافي التجريبي قبل أن يكون قرين الإنجاز الفعلي الآني ، فاللاوعي الإيقاعي هنا ينصرف إلى التقاط فكرة العبور في مواجهة فكرة الثبات ولا أقول الفوضى في مقابلة التنظيم ولا الحرية في مقابلة القيد، بل أنقل الجدل الشعري الثنائي المعتاد في الشعريات العربية المعاصرة على اختلاف أنماطها وأشكالها إلى فكرة الجدل المادي التعددي البيني المفتوح بما ينقل شكل الحالة الشعرية من التذبذب الحاد الغليظ بين حالة الشكل واللاشكل كما تصورها شعراء ونقاد القصيدة العربية الحداثية الموزونة وغير الموزونة معا – ينقل هذه الحالة الجمالية الصلبة والفقيرة إلى حالة تموجات جمالية بينية خصيبة ومعقدة تنقل معها فكرة الزمان الجمالى نفسه من كونه تصورا تجريديا خارجيا يقع في انفصال تتابعي سببي بين ماض جمالي وحاضر ومستقبل إلى كونه تصورا كتليا كثيفا مغروسا في الرغبة والجسد والعالم ويتحرك عبر منطق دوري بيني كتلي تداخلي ، منطق متعدد وملتبس وغائم في جدل تركيبى اختلافى أعقد من جدليات الثنائيات الجمالية والمعرفية والشكلية المتضادة مثل التقابل الثقافى المعهود بين: فكرة اللاوعي النفسي الفرويدي في مقابل الوعي ، أو الجدل الماركسي المادي بين المادة والروح والطبقة ووسائل الإنتاج ، أو الجدل الهيجلي المركب عن نقيضين سابقين، بل نريد أن ننقل كل صور هذا الجدل الثنائي الغليظ من الإطار الفلسفي والشعري والمعرفي إلى صورة من صور التكوثر الجدلي اللامتناهي في فكرة الحاضر الواقعي المادي نفسه بما يؤسس ((زمنية جمالية كبرى مفرطة))،وكأن ثمة حلول للمطلق في النسبي بما يجعل منه حضورا زمنيا وجماليا ومعرفيا لا متناهيا أو هو حضور تعددي تداخلي يقع دائما بين لحظة حضور وأخرى سابقة في الحضور عليه أولاحقة عنه في ذات لحظة الحضور الجمالي نفسه وإلى مالانهاية ، وهنا لا تقع فكرة اللاوعي الجمالي والمعرفي أو فكرة اللاشكل في مواجهة فكرة الوعي أو الشكل بل تقع دائما على الحدود الجمالية والمعرفية البينية التعددية الصامتة والغامضة المتكوثرة غير المحددة  بين لحظة إضمار ولحظة ظهور، لخطة تخفي ولحظة تجلي، ولحظة إمكان استشرافى تجريبى في ذات اللحظة الجمالية الحاضرة دوما والتي بسبيلها إلى الحضور الجمالي الذي ما يلبث أن يحضر حتى يؤجل حضوره في لحظة أخرى وهكذا دواليك إلى مالانهاية ، وعندئذ نستطيع  أن نوسع على النقد والنظرية والواقع والشعر من المجال التخييلي والمعرفي لفكرة اللاوعي الجمالي الذي نرصده هنا، وفق مستويات الشعرية كافة : إيقاعيا وتراكيبيا ، وبناء وصورا ومجازات ورؤى وإمكانات تجريبية مستشرفة . ولعل هذه التصورات الجمالية والنقدية والمنهجية هي ما تفتح بالفعل المستقبل الجمالي لكل أشكال الشعريات العربية الحداثية الموزونة وغير الموزونة – تفتحها أو تهددها معا ،بما يدفع بالشعريات العربية المعاصرة والمستقبلة إلى قوة الإنجاز أو فداحة الانهيار ولا مفر؟! فالواقع الشعري الإنجازي هو القادر وحده على الصمود التشكيلي في وجه إنجاز المستقبل الجمالي من عدمه . وربما يكون من المناسب هنا أن نفتح النقد والشعر معا بكافة صورهم المعرفية وأشكالهم الجمالية على هذا المستقبل،يقول هشام عبد الرحمن من نص ((" أين قصيدة التحذير من الخطر الداهم)) " :

 

هناك قصائد البكاء على الأطلال

وهناك قصائد الفرح بالأطلال

وقصائد كالعطور

وقصائد كالألحان

إنما حيثما تبحث

لن تجد اليوم قصيدة واحدة

للتحذير من الخطر الداهم

للتحذير من الخطر القادم

فأين قصيدة التحذير من المكائد ؟

أين قصيدة التحذير من المكائد ؟

أين قصيدة التحذير من المصائد ؟

أين قصيدة التحذير مما لا نراه ؟

أين قصيدة التحذير مما نراه ؟

ثم لم الشعر ، لم الشعر إن لم يكن بالشعور بالخطر

الداهم وبالخطر القادم ؟!

فأين قصيدة التحذير من الانفعال الكاذب ؟

من خطر الأمل الكاذب ؟

من خطر الحقد الكاذب ؟

من خطر الجبن الكاذب ؟

من خطر اليأس الكاذب ؟ (1)

وبهذه المثابة نحن لا نريد شعرا يرتهن في جمالياته الحاضرة لماضينا الجمالي أو لماضي الآخرين، ولا نريد شعرا يرسم مستقبلنا الجمالي من خلال شتل مستقبل الآخرين في جباهنا الجمالية عنوة واقتتارا ففي كل واقع جمالي خاص ، تركيب بنيوي خاص يتوالد ذاتيا بقدر ما يتوالد منهجيا ومعرفيا،ولاينتفع من الولادات الجمالية في حضارات الآخرين إلا بما هو على وشك الولادة الجمالية الطبيعية في الأشكال الجمالية لحضارة الأنا ، نريد شعرا لا يسمي العدم وجودا ، ولا الفوضى حرية،ولا القواعد منهجية، شعرا يصغي لأشكال التعدد اللاشكلي اللانهائي في الذات والواقع والثقافة بقدر إصغائه لأشكال التعدد الشكلي الراسخة في عقلنا الجمالي الخاص ، ومن ثمة لابد من إعادة فحص واختبار كثير من المقولات النقدية والجمالية الخطيرة التي أسست للعدم الشعري المعاصر فيما عرف بقصيدة النثر مثل مقولات – الإيقاع الداخلي – إيقاع الخلجات – إيقاع الأفكار – اللاعضوية – اللازمنية – الكتلية – موسيقى اليومي الموغل في خفائه – الإيقاع المطلق خارج أطار الثقافات والأنظمة والأنساق الجمالية واللغوية والرمزية الخاصة بنسق اللغات والحضارات ، ولا يخدعنا الدراسات الدقيقة والعميقة التي قام بها الأوروبيون عن أشعار غربية ، ففي أحسن الأحوال تظل تنظيراتهم وتطبيقاتهم الإيقاعية مرهونة بجمالياتهم الخاصة ضمن نسقهم الثقافي الخاص ، فما تتهدى إليه الروح الجمالية الفرنسية أو الأمريكية ليس حقا جماليا مطلقا يجب أن تخضع له الروح الجمالية العربية في ماضيها وحاضرها ومستقبلها أيضا،(( فلن نكون أكثر ملكية من الملك نفسه ولو ادعينا ذلك لحاجة فى نفس يعقوب)) وإن وجدت المقولات الإيقاعية السابقة التي عرضنا لها وسلم بها شعراء قصيدة النثر العربية ـ مسوغا لها في التشكيل الشعري الفرنسي أو الانجليزي أو الأمريكي فذلك راجع إلى طبيعة الانسجام الصوتي والدلالي والنبري فى  الثقافة الجمالية والمعرفية لهذا الشع، والتى تجمع فيه بين بني الأشكال الجمالية في هذه اللغات ، مما يشكل تطورا إيقاعيا طبيعيا وعفويا ضمن النسق الثقافي الجمالي الأوروبي الخاص به ، ولم يدعي الأوروبيون على الإطلاق في كل ما كتبوا نقادا وشعراء أن ما توصلوا إليه من حقائق وخصائص وأسرار الإيقاعات في أشعارهم واجب الوجود في كل إيقاعات الشعر في أربعة أركان الأرض ، ولا نريد أن نستطرد هنا لنثبت عبر عشرات الدراسات الغربية الجادة هذه الحقائق العلمية والمنهجية والجمالية فيكفي أن نرجع لها في مظانها النقدية المتعددة ، ومن هنا ندعو في هذه الدراسة إلى وجوب إعادة تأسيس الدراسات الإيقاعية في ثقافتنا الجمالية العربية المعاصرة والقديمة معا وفقا لمنهج ثقافي سياقي معرفي تعددى لا يسلم فقط  كما اعتاد معظم نقادنا بالمنهج اللغوي الفلولوجي في دراسة الإيقاع إيقاعا وصرفا ونحوا وتراكيب ودلالات ، فإيقاع الشعريات في الأمم شئ ينصرف إلى أنماط روحية ومعرفية وخيالية كلية كامنة في روح هذه الأمة ـ ماضيها وحاضرها ومستقبلها ـ ليس على سبيل ثبات الهوية الجمالية لديها كما يدعى رافضوا قصيدة النثر، بل على سبيل خصوصية هذه الهوية ثقافيا وجماليا وحضاريا وانفتاحها معا، سواء في حوارها الجمالي مع أشكالها الجمالية الخاصة ، أو حوارها الجمالي مع أشكال الجمال لدى الآخرين . ولا ينخدع نقادنا وشعراؤنا أصحاب قصيدة النثر أو غيرهم بتنظيرات المستشرقين للإيقاع العربي القديم والمعاصر ، فمعظمهم شاحب الحس اللغوي تجاه الإيقاع العربي ، ومعظمهم ضئيل الحصيلة اللغوية المكينة التي تؤهله للكشف عن أسرار لغتنا الظاهرة والمضمرة والمستشرفة معا ، وقديما التفت الجاحظ إلى مسألة  العى البيانى، إذا تعاورت لغتان لسانا واحدا ، فاللغة الأصلية تجور جورا مرئيا ولا مرئيا معا على اللغة الدخيلة في اللسان سواء كان الأمر منصرفا إلى بنية اللغة بصورة حرفية أو جمالية أو ثقافية وإلا لانعدمت فوارق الزمان والمكان والجغرافيا والتاريخ والهويات بين الثقافات ودخلنا فى حياة ثقافية وهمية افتراضية رقمية .

  لقد كشف العلم المعاصر في أحدث تصوراته العلمية والمنهجية والفلسفية والتجريبية عن التحكم الإجباري للنماذج المعرفية والمنطقية والمنهجية القابعة في بنية أي ثقافة والتى تحكم  طبيعة رؤيتها الأشياء والمعارف وألوان الجمال في الواقع والعالم ، فكل تصوراتنا المعرفية والجمالية هي ألوان معرفية تحيزية شئنا أم أبينا ، والسؤال الفلسفي المعاصر ينقل السؤال المعرفي القديم : هل نحن متحيزون معرفيا وجماليا أم لا ؟ إلى صيغة سؤال أكثر أصالة وعمقا ومنهجية في : كل تصوراتنا العلمية والمجازية والمنطقية والتجريبية متحيزة وما نملكه فقط يتحدد في كيفية ترشيد انحيازاتنا لا في إلغاء هذه التحيزات ؟! وبعد ذلك نحب أن نلفت نظر نقادنا وشعرائنا إلى الخديعة المعرفية والجمالية الكبرى في أن نرى إيقاعنا وأخيلتنا وجمالياتنا الخاصة من خلال إيقاعات وجماليات الآخرين ، لقد صدق حدس صوفيينا القدامى عندما قالوا " لكل منظر عين تخصه " ،ومن واقع التصورات النقدية والجمالية والثقافية والحضارية السابقة على الشعر العربي المعاصر في جميع أشكاله وتقنياته وأساليبه ومراميه " العمودي – التفعيلي – المنثور " أن يتخذ سمت الحذر والقلق وقوة الشعور بالمسئولية الجمالية والثقافية والأخلاقية معا في ممارسته حريته الجمالية والثقافية والأخلاقية ضد أنساق الثقافة والتاريخ والمؤسسة ، فالحرية الجمالية الخلاقة لا تهدم إلا لتبنى ، ولا تزعزع أساسات تشكيلية إلا لتؤسس أساسات تشكيلية أخرى أكثر أصالة وصدقا ومرونة وانفتاحا ، إن أية ثورة شعرية وثقافية تمارس نقلات نوعية جذرية في مصطلح الشعرية ومفهومها ووظيفتها وتطبيقها لا تملك إلا أن تحتقب ضمن اطرادها التشكيلي الداخلي البنيوي كل أشكال الشعريات السابقة عليها موسعة من حدودها ومفسحة من تصوراتها ، ومؤسسة لأبنية جمالية بديلة تتخذ من فكرة الحد الجمالي والخيالي والنقدي والثقافي بداية مرحلة تشكيلية لا نهاية مرحلة ، والنظر إلى الحد بوصفه بنية لها قوة التنظيم الذاتي البنيوي الداخلي وقوة الترامي البنيوي الخارجي مع سائر الحدود الجمالية والمعرفية الأخرى فيكون الحد ما به الجدل والتشابك والتداخل من جهة ومابه الانفتاح والتجريب والخلق من جهة أخرى، وليس ما به الانهدام والعزل والفوضى والخصام المغلق الواهم . وستظل جميع أشكال الشعر العربي المعاصر تعاني الهموم الجمالية الفادحة أمام هذا التحدي التشكيلي الآني والمستقبلي في الخروج إلى الشكل الجمالي المناسب لراهنية اللحظة دون التضحية الكاملة بالماضي والمستقبل معا . وفي سبيل هذا التحدي يجب أن يتسلح الوعي الجمالي والنقدي لدى الشعراء والنقاد بالقدرة على السيطرة على أنساق التشكيل وتحريكها معا ، احتواء الذات الجمالية ونقدها وإعادة فتح إمكانها الجمالي التحرري ، لابد من ممارسة إزاحات معرفية ومنهجية ونظرية إلى جانب ممارسة الإزاحات الأسلوبية والتشكيلية ، لابد من إزاحات جمالية ومنهجية متعددة تنقل فكرة ثبات الأشكال الفنية والشعرية من أي نسق تأسيسي أو حتى حداثي إلى أنساق الإعدام الدلالي والجمالي الإرجائي المستمر ، لا على سبيل التيه والعماء والفوضى المتخثرة الجنونية،ولكن على سبيل التطامن المعرفي والتشكيلي والمنهجي من حدة الأصول والتأصيل والتأسيس ومن ثمة الانفتاح التشكيلي اللانهائي المرن على آفاق الإمكان والتعدد والتداخل، والترامي بين التماهي مع الأشكال الجمالية المعاصرة والحداثية والقدرة على إعادة تشكيلها ثانية من خلال نسق ابتكاري تشكيلي مفتوح ومتعدد يتسع لكل الأذواق الجادة ، والتصورات الجمالية المسئولة ، والأشكال الفنية البصيرة القادرة على تخطي العمى الثقافي الجمالي العام، بفتح بصيرة للإمكان الشعري التجاوزي وذلك بإحلال البعد الأنطولوجي داخل حدود البعد الأبستمولوجي نفسه ،بغية تأسيس وعى سيميولجى جديد تصير المعرفة الجمالية والنقدية والمنهجية فيه  صورة من صور الوجود قبل أن تكون نسقا من أنساق المعرفة والثقافة الجمالية العامة ، ومن هنا يصبح الوعي الجمالي والتشكيلي والنقدي صورة من صور تعقل وتشكيل الوجود اليومي وليس بديلا عنها ، فالثقافة ليست الواقع ، والنظريات النقدية ليست النصوص الإبداعية ، والمناهج والإجراءات لا تتساوى وإمكانات التخييل نفسها .

   

 

 

المراجع والمصادر

       1 ـ عبد السلام بن عبد العالى ،فى الانفصال، دار توبقال،المغرب،2008،ص48          

         2ـ راجع فى ذلك:على الديرى،مجازات بها نرى،المؤسسة العربية للنشر،بيروت،ط2006،ص وراجع أيضا د. أيمن تعيلب،منطق التجريب فى الخطاب السردى المعاصر،  نادى القصة بالقاهرة،الكتاب الفضى،2008،ص

  3 ـ د . صلاح فضل ، أساليب الشعرية المعاصرة ، كتابات نقدية ، العدد54 ، أغسطس ، القاهرة ، 1996م ، ص438 .وانظر ذى ذلك معظم الدراسات النقدية حول قصيدة النثر فى الخطاب النقدى العربى المعاصر:

سامي مهدي: أفق الحداثة وحداثة النمط .دراسة في حداثة مجلة <<شعر>> بيئة ومشروعا ونموذجا. دار الشؤون الثقافية العامة. الطبعة الأولى بغداد 1988 ص 106.

الدكتور رشيد يحياوى: ((قصيدة النثر العربية،الأرض المحروقة،دارافريقيا الشرق،ط1، 2006.))

د.عبد القادر القط :(قصيدة النثر بين النقد والإبداع))،جائزة يمانى،التجديد فى القصيدة العربية،1997.

أدونيس: فى قصيدة النثر،مجلة شعر،لبنان،العدد 14، 1960.

بول شاؤول،مقدمة فى قصيدة النثر العربية،مجلة فصول(أفق الشعر)،مجلد 16، العدد1، القاهرة،صيف،1997.

د. رشيد يحياوى،قصيدة النثر:مغالطات التعريف،مجلة علامات فى النقد ،مجلد8،الجزء32،مايو،جدة،1999.

رفعت سلام،قصيدة النثر العربية،ملاحظات أولية،مجلة فصول،أفق الشعر،مج16،العدد1،القاهرة،صيف،1997.

د.على عشرى زايد،إن كان هذا شعر فكلام العرب باطل،مجلة إبداع،القاهرة، العدد 3،مارس،1996.

د.فخرى صالح،قصيدة النثر العربية:الإطار النظرى والنماذج الجديدة،مجلة فصول،عدد (0أفق الشعر)مرجع سابق.

د.كمال أبوديب،قصيدة النثر وجماليات الخروج والانقطاع،مؤسسة عمان للصحافة والأنباء والنشر،العدد17،يناير1999.

د.كمال نشأت،شعر الحياة اليومية،مجلة إبداع،العدد3،القاهرة،1996.

د.محمد عبد المطلب،النص المشكل،الهيئة العامة لقصور الثقافة،القاهرة،1999.

د. على جعفر العلاق،شعرية النثر وبنية التضاد فى تجربة ميسون صقر الشعرية،مجلة نزوى،عمان،العدد41،

د.عبد القادر الغزالى، قصيدة النثر العربية: الاسس النظرية والبنيات النصية.،أطروحة دكتوراه الدولة،جامعة محمد الاول، كلية الآداب، وجدة، 2002.

د.حسن مخافى،الأسس النظرية لقصيدة النثر فى الأدب العربى الحديث،(مرحلة التأسيس)،مجلة نزى،عمان،العدد38.

نهاد خياطة: رأي في قصيدة النثر. <<شعر>> العدد 25. السنة السابعة. شتاء 1963. ص97.

"سوزان برنار :قصيدة النثر من بودلير إلى عصرنا ، ترجمة د. زهير مجيد مغامس ،بغداد، 1993 م ،ص

   
 

عصام محفوظ - السوريالية وتفاعلاتها العربية - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - الطبعة الأولى 1987 .

شربل داغر - الشعرية الحربية الحديثة - تحليل نصي - دار توبقال  الطبعة الأول - 6988 - 64.

 

حورية الخمليشى،الشعر والنثر:السياق التاريخى والمفاضلة،مجلة نزوى،عمان،العدد

د.عزالدين المناصرة،قصيدة النثر:إشكالية التسمية والتجنيس والتأريخ،مجلة نزوىنعمان،العدد29، 2002. عن كتاب سيصدر قريبا عن قصيدة النثر بعنوان(((قصيدة النثر: نص مفتوح عابر للأنواع).

د. فخرى صالح،القصيدة العربية الجديدة،الإطار النظرى والنماذج،مجلة نزوى،عمان،العدد10 ،1997.

د.صلاح فضل أساليب الشعريتة المعاصرة .. دار الآداب بيروت 1995، ص 219.

أنسي الحاج مقدمة ديوانه " لن " ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتبرزيه ، بيروت ، الطبعة الثانية ،  1983.

 

 

أنسي الحاج ،مجموعة لن ،بيروت ،المقدمة ،ص15

يوسف الخال: نحو شكل جديد لشعر عربي جديد. شعر. العدد 31/32 السنة الثامنة. صيف/ خريف 1964. ص 126.

أدونيس: في قصيدة النثر. <<شعر>> العدد 41. السنة الرابعة. ربيع 1960. ص 76. يراجع أيضا كتاب أدونيس: زمن الشعر.

خليل أحمد خليل: الشعر والنثر والجهل. الآداب.  العدد 4 السنة الرابعة عشرة أبريل 1966 ص 65

عبد العزيز المقالح: أزمة القصيدة العربية: مشروع تساؤل. دار الآداب.الطبعة الأولى. بيروت 1985. ص 71.

د.ياسين النصير ، قصيده النثر قصيده مستقبليه ،صلاح فائق نموذجا ..... دراسة واستنتاجات ، ضمن كتاب شعرية الماء : أفاق من الشعر العراقي ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، العدد 46 ، عام 2004 ، ص154.

د. محمود الضبع،قصيدة النثر وتحولات الشعرية العربية،كتابات نقدية،العدد 138،القاهرة،الهيئة العامة لقصور الثقافة،سبتمبر،2003.

ـ محمد الصالحى،قصيدة النثر،تأملات فى المصطلح،مجلة نزوى،عمان،العدد،10، 1997.

4 ـ إيهاب خليفة ،مساء يستريح علي الطاولة ،الأمل للطباعة ،القاهرة يوليو 2007م ص 7-20

  5 ـ أشرف يوسف،((حصيلة اليوم قبلة))،دار شرقيات،القاهرة،ط1 ،2007 ، ص24

 

 7 ـ د. أيمن تعيلب، انظر المقترحات التنظيرية والمعرفية والإجرائية الاجتهادية التى قدمناها بصورة مطولة فى كتابنا عن ((الشعرية القديمة والتلقى النقدى المعاصر:نحو تأسيس منهجى تجريبى))،المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة،2009.

 8 ـ د. ايمن تعيلب،خطاب النظرية وخطاب التجريب،تفكيك العقل النقدى العربى،سلسلة كتابات نقدية،القاهرة،قيد الطبع،ص54        

9 ـ أشرف يوسف،الديوان السابق،ص 64، 65.

10 ـ الديوان السابق،ص 68، 69.

11 ـ د . محمد عابد الجابري ، بنية العقل العربي ، الدار البيضاء، المغرب، ص565 ، 599 .

12 ـ موسى ديب الخورى،النظام والفوضى فى العلم الحديث،دمشق،سوريا،ص

وانظر بخصوص ذلك أيضاً: ـ Paui feyerabend : contre  la methode, Edition du seuil, 1979,p.190،

نقلا عن د. نظير جاهل،المنهج اللاسلطوى فى فلسفة العلم،مجلة الفكر العربى،ع97،صيف،1999،ص154. 30ـ وانظر أيضا: المسرح التجريبى ومفهوم اللاتحدد،دراسة حالة فى نظرية الكيوتيكا،مايكل فاندين هوفيل،ترجمة سامح فكرى،عدد  المسرح والتجريب،،مجلة فصول،القاهرة مج 13 ،ع4،شتاء،1995،ص53،وتوماس كون/بنية الثورات العلمية/ ترجمة/ شوقى جلال/ المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب/ عالم المعرفة/ع/168/ الكويت/ ديسمبر/1992،ص55،وانظر أيضا بخصوص ذلك: توماس كون/بنية الثورات العلمية/ ترجمة/ شوقى جلال/ المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب/ عالم المعرفة/ع/168/ الكويت/ ديسمبر/1992،ص55،و كارل بوبر، أسطورة الإطار، فى دفاع عن العلم والعقلانية، تحرير: مارك أ ، نوترنو،ترجمة:د. يمنى طريف الخولى، المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، علم المعرفة، الكويت، ع292، أبريل، 2003 ، ص36 ـ 40،وندرة اليازجى، التصور الحديث للعلم بين حكمة كريشنا مورتى وفيزياء دافيد بوهم، مجلة المعرفة السورية، ع323، أغسطس، 1990،ص9 ،30: و طارق على حسن، هل هناك دور للفنون فى رأب فجوة التخلف، مجلة فصول، الأدب والفنون، مج5،ع2، يناير ـ مارس،1985، ص95 ـ 99،ود. نبيهة قارة،مشكلة الوهم فى الفكر الفلسفى،مطبعة علامات،تونس،دار النشر الجامعى،ط 2003، ص3، 4. وانظر: عبد الرحمن مرحبا، العلم يقرر ولا يفسر، مجلة المعرفة السورية، كانون الثاني، سوريا، دمشق، ع35، عام، 1965،ود.ابرهيم البليهى، الجهل بوصفه موضوعا للدراسة: موقع الانترنت،8/11/2002. موقع ـ  د. عبد الصمد الكباص ، الزمن الأيقوني ودغمائية المستقبل ، مجلة فكر ونقد ، المغرب  ع16 ، فبراير ، 1999م ، ص31-32 .وانظر للمؤلف نفسه:المجرى الأنطولوجى،دار أفريقيا الشرق،المغرب،الدار البيضاء،ط1 ،2006. وانظر أيضا ـ عبد السلام بن عبد العالى،الفلسفة أساسا للحوار،مجلة نزوى،عمان،العدد47،يونية،عام 2006، ص،حيث يفرق بدقة بين مفاهيم الاتفاق بوصفها حدا أقصى للرسوخ المفاهيمى لدى العلماء والفلاسفة،ومفاهيم الانفصال بوصفها حدا أقصى يتساوى فيه العلماء والدهماء،أعلم العالمين وأجهل الجاهلين.بما يستتبع معه طرح الأسئلة التى تبدو معروفة من جديد وبصورة جذرية.وقد ضم المؤلف أخيرا هذه الدراسة القيمة فى كتابه الجديد (( منطق الخلل )) دار توبقال،المغرب، الدار البيضاء،الطبعة الأولى،2007،ص50 وراجع نفس التصورات لدى الكاتب فى كتابه ((فى الانفصال))،المغرب،دارتوبقال،الدار البيضاء،المقالتين الخاصتين ب( فى الانفصال)، ص5، 7 و((تفكيك الميتافيزيقا ...عندنا))،ص7،9.

14 ـ  عبد السلام بن عبد العالي ، في الانفصال ، دار توبقال ، المغرب ، ط1 ، 2008 ، ص6 ، 7

15 ـ صبحى موسى، ديوان،لهذا أرحل،ص

16 ـ إيهاب خليفة ، مساء يستريح على طاولة ، مرجع سابق ، ص78 – 79 .

 17ـ شريف رزق ، مجرة النهايات ، قصيدة ، ط1 ، 1999 ، ص6 – 8 ، ط على نفقة المؤلف .

  18 ـ شريف رزق ، المرجع السابق ، ص65 .

 19 ـ حسن خضر، ديوان " عطر ميت "، هيئة قصور الثقافة، ص27 – 29 .

 20 ـ الديوان السابق ، ص24 ، 29

21 ـ نجوى سالم ، فراشات بلون الذاكرة ، كتاب مرايا الشعري ، القاهرة – المحلة الكبرى ، ط1 ،
أغسطس ، 2006، ص90،  91

 22 ـ د عواطف يونس ، ولعبت بأوتادي فراشة ، نفرو للنشر والتوزيع ، القاهرة ، ط 1، 2008 ، ص 17. وانظر أيضا :للذين أوجعتهم مثلي الجراح ، الديوان السابق ، ص 11 ، 12 .

 23 ـ - سمير درويش / يوميات قائد الأوركسترا " القاهرة  ، ط2 ، 2008 ، ص98 .

 24 ـ  إ . ريتشاردذ،مبادىء النقد الأدبى، ترجمة  ص188،

 


 د. صلاح فاروق:تحولا ت القصيدة العربية فى النصف الثانى من القرن العشرين