الهزيمة تستمر أربعين عاما ولحظة النصر تمر عابرة!

تقدم قراءة المحلل السياسي المصري نقدها للتغطية الإعلامية الواسعة للمناسبة، وتطرح مع هذا النقد تحليلها لأسباب استمرار الهزيمة لأربعين عاما، بينما مرت لحظة النصر دون استثمار، بل وانقلبت بالسياسة على نفسها.

محمد عبدالحكم دياب

كان الاهتمام هذا العام بمناسبة مرور أربعين عاما علي حرب 1967 زائدا. أفسحت لها الصحف ومحطات البث المسموع والمرئي مساحات واسعة ومناقشات مستفيضة، وكان الخط الغالب علي التناول تقليديا إلي حد كبير، يركز علي المسميات والألفاظ والمصطلحات. وينتهي بصك إدانة لا نقض فيه لمرحلة المد القومي بما لها وما عليها. بشكل يبعث علي الملل من التكرار غير المفيد. هذا علي الرغم من أن هناك وثائق نشرت، بعد مرور مدد الحظر القانونية، وأهم ما كشفته هو أن هذه الحرب كانت عدوانا مبيتا، بكل معني الكلمة. للقضاء علي حركة التحرر العربية، وتصفية الدور القومي والإقليمي والدولي المصري، وإزاحة عبد الناصر، القائد البارز الذي أحيا هذا الدور، وقاد حركة القومية العربية. ومعني هذا هو أن نخفف من جلد الذات، ونتوقف عن الانسياق وراء مظاهر الخنوع الشديد، والقصة أن هناك معتديا ومعتدَي عليه، والعرب هم الطرف المعتدَي عليه، عليه ألا يقترف في حق نفسه خطيئة الشماتة، والصلاة شكرا لله علي الهزيمة، كما حدث من واحد من كبار رجال الدين، غفر الله له، بغض النظر عن طبيعة الأداء العسكري والسياسي، فيما سبق الحرب أو صاحبها.

ووضع عدوان 1967 ضمن هذا السياق يسمح برؤيته بعيون سليمة، غير مصابة بأي رمد من أي نوع. وبذلك يتم التعرف علي السر وراء طول يوم الهزيمة، واستمراره لمدة إربعين عاما، وقصر لحظة النصر، حتي مرت عابرة، وكأنها لم تكن، وهذا أعطي انطباعا بأن الأصل في حياتنا وتاريخنا هو الهزيمة، أما النصر فهو استثناء. لا نحب الإغراق في تحديد المعاني المعروفة للنصر والهزيمة، بأكثر مما هو مطلوب. النصر، بإيجاز، هو أن تكسر إرادة عدوك، وتفرض عليه التسليم بحقك، وتقنعه بعدم جدوي القوة للاحتفاظ به.
والهزيمة هي أن تنكسر إرادتك، وتستسلم وتتنازل عن حقك، وتقتنع بعدم جدوي القوة لاسترداده. وهذا ما أريد من عدوان 1967، والعدو، الذي هو بحجم المنظومة الغربية، ذات الطبيعة العنصرية التوسعية الاستعمارية، وهي دائمة الاشتباك مع منطقتنا، علي الأقل خلال القرنين الماضيين. إلي أن دخل هذا الاشتباك طورا جديدا بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة لقيام الدولة الصهيونية، بما لها من دلال وتأثير، مباشر وغير مباشر، علي المنظومة الغربية، الممتدة من شمال أمريكا وكندا، مرورا بأوروبا، وصولا إلي استراليا ونيوزيلندا، بإمكانياتها ونفوذها وقدراتها العسكرية والاقتصادية والسياسية والإعلامية الغلاّبة.

وكما خرجت، بعد استقرار طويل، من المنطقة عادت نتيجة اختفاء الكوابح المحلية والإقليمية والدولية، وبعد أن دانت الأمور، مؤقتا، لرواد الاستيطان القديم. فارتدوا اللباس المسيحي الصهيوني، وتزيوا بحلل المحافظين والليبراليين الجدد. وبرزت مشكلتهم في عدم فهم تاريخ العرب. وهو لن يخرج عن كونه سلسلة متصلة من الرفض والصمود والمقاومة. والعرب، كشعب، لا يسلمون بالهزيمة. ومنذ حملة نابليون، وما أعقبها من حملات أوروبية، علي مشرق الوطن العربي ومغربه، وبعد فشل حملة فريزر الانكليزية علي مصر، نجحت الحملة الفرنسية علي الجزائر في 1830، وأعيد قضم المنطقة، قطعة قطعة. وما كادت الحرب العالمية الأولي تضع أوزارها حتي وجدنا الوطن العربي يخضع للاحتلال المباشر، مع استثناءات بسيطة. ركن هنا أو زاوية هناك.

استقر في ذهن المنظومة الغربية، المنتصرة في القرن التاسع عشر، وحتي منتصف القرن العشرين، أن اللحظة قد واتتها، للاستجابة للمخطط الصهيوني، فتتمكن من شطر المنطقة إلي نصفين، يباعد بينهما الجسم الصهيوني الغريب. والتفاصيل التاريخية معروفة علي هذا الصعيد، لتبقي بها أطول فترة ممكنة. ومع كل مظاهر الرضوخ والإذعان الرسمية، لم يشعر أي غاز أو مستوطن بالاستقرار أبدا. إلي أن رسخ في الوعي الرسمي الغربي أن الإبادة هي الحل مع هذا النوع من البشر. فعلوا ذلك في الجزائر .. واستأنفوه في فلسطين، ويؤكدونه في الصومال والعراق، ويحيونه في لبنان.

ضمن هذا السياق يجب أن توضع الحروب الاستعمارية والصهيونية. لا يختلف الأمر بعد الحرب العالمية الثانية، وبزوغ النجم الأمريكي، ورعايته للدولة الصهيونية، بدءا بحرب 1948، وما تلاها من حروب، في 1956 و1967، 1973، وغزو لبنان 1982، وحرب الخليج الثانية 1991، وغزو العراق 2003، وغزو لبنان من الداخل والخارج 2006، واعتزام احتلال سورية، وتقسيمها دويلات طائفية ومذهبية وعرقية. وانتظار فرصة مواتية لتفكيك الجزيرة العربية ومصر والسودان، من أجل تيسير الإبادة وجعلها أكثر سهولة.
واسترجع الغرب تراثه في إبادة أهل البلاد الأصليين. بعد ما جري للعالم، وفقدانه للتوازن، كأثر مباشر، من آثار اختفاء الكوابح، التي أعاقت حركة المنظومة الغربية، لعدة عقود، وفرضت عليها لبس ثوب ليس لها، وتغطية وجهها البشع بقناع من الشعارات المزيفة، عن حقوق الإنسان والديمقراطية والاستثمار والتقدم. وفلتت منهاالفرصة، لفترة، في عدوان 1967، برغم القدرة التدميرية الهائلة، التي مكنت الدولة الصهيونية من تحقيق انتصار غير مسبوق، زاد من تأثيره حجم الأخطاء الاستراتيجية، غير المبررة، التي وقعنا فيها. والسبب أنه رغم تلك الفداحة في الخسارة، تغلبت روح المقاومة ورفض الهزيمة، ويرجع الفضل في ذلك للشعب، الذي خرج يومي 9 و10 حزيران (يونيو)، ولم تنكسر إرادة عرب ذلك الزمان، والإرادة التي لا تنكسر تضع العدوان في مكانه، كحلقة في سلسلة معارك الحرب المستمرة، التي لا تتوقف إلا بالتحرير وإعادة الحقوق المغتصبة إلي أصحابها. ومثل هذا المناخ يعطي أكله. وأقام تضامنا عربيا، عبرت عنه قمة الخرطوم، في آب (اغسطس) من نفس عام العام. بلاءاتها المعروفه: لا صلح .. لا تفاوض .. لا اعتراف. لا تفريط في حق الشعب الفلسطيني. وقراراتها بدعم الدول العربية المتضررة، مصر وسورية والأردن وفلسطين، واضفت بذلك بعدا قوميا علي رفض الهزيمة، وعبرت عن التقاء متطلبات الصمود مع توجهات النظام الرسمي العربي حينها.

استمر النظام الرسمي العربي، حتي 1973، يحمل بعض جينات تلك المرحلة، وقدرا من سماتها وصفاتها. إلي أن أحدث السادات تحولا دراميا، بالرهان علي الولايات المتحدة وسياستها، ومنحها تفويضا بالتصرف فيما أسماه 99% من أوراق اللعب في المنطقة. وهو تحول أحدث خضة شديدة، وانتهي، منذ مطلع التسعينات، إلي نقل أمر زمام المنطقة بالكامل من اليد العربية إلي اليد الأمريكية. وكان تكريس الهزيمة عملا مهما لتزكية هذا الانتقال، وهلل النظام العربي لـ "السلام كخيار استراتيجي"، وأقام خصومة مع أي نصر، حتي لو كان محدودا. وتمادي في إبعاد شبحه عن الحياة العربية، وانقلبت القاعدة المعروفة، التي تقول بأن الهزيمة يتيمة أو لقيطة .. لا أب لها ولا أم .. بما تجلب من عار ومهانة. أما النصر فله ألف أب وألف أم. بما يبعث علي العزة والإباء والكرامة.

وأصبحت الهزيمة في ذاتها أيديولوجية، وجدت من يتبناها ويعمقها في نفوس الناس. فصار لها آلاف الآباء والأمهات، وتمكنت من الاستمرار أربعين عاما. أما النصر الذي تحقق 1973، تُرك يتيما وأُلْقِيَ به جانبا. يواجه بالتجاهل والإهمال، وهو أسوأ ما استغلت فيه حرب تشرين الاول (اكتوبر). شخصنوها. وسحبوا نصرها من رصيد الأمة، وأضافوه لحساب العدو، فحقق به ما لم يكن يحلم بتحقيقه في حرب 1967، وبات النصر كأنه خارج سياق التاريخ العربي، وأضحي مجرد جملة اعتراضية، في سفر الهزائم، وعمل مروجو هذه الأيديولوجية علي بذل كل ما في وسعهم لإلغاء الذاكرة الوطنية والقومية. شطبوا معارك النصر من كتب تاريخنا الزائف، ومن مفردات إعلامنا المضلل، ومن علي معلقاتنا الهابطة، لا يُسمح لأبنائنا الاطلاع علي سيرة الثورة الجزائرية، ولا علي قصة انتصارها علي الاستيطان الفرنسي. ولم يتح لهم التعرف علي مقاومة الجنوب اليمني المحتل إلي أن تحقق لها النصر، وطـُمست معالم المقاومة البطولية لليبيين ضد المستوطنين الإيطاليين. ويحدث نفس الشيء مع الثورة الفلسطينية المتجددة، ومنذ اندلاعها في ثلاثينات القرن الماضي. وكذا انتصارات الشعب اللبناني، وطرد الاحتلال الصهيوني 1983، وإلغائه اتفاق 17 أيار (مايو)، وانتصاراته سنة 2000 وتحريره للجنوب، وانتصاره في تموز (يوليو) الماضي.

وقبل هذا وبعده، أهدرت أيديولوجية الهزيمة دم شهداء، رأس العش، بعد أسابيع قليلة من العدوان، والجزيرة الخضراء وشدوان. وشهداء مدرسة بحر البقر ومصنع أبو زعبل، وأضاعت جهد من أغرقوا المدمرة إيلات، وفدائية عمليات منظمة سيناء العربية، وحرب الاستنزاف. واقتحام خطوط العدو الأمامية بالعمليات الجسورة. وكانت هناك جبهة داخلية متماسكة، فوضت عبد الناصر، بمهمة إزالة آثار العدوان، ولم تتوان في الخروج احتجاجا علي الأحكام المخففة التي صدرت بحق المتسببين في النكسة. فأمر بإعادة المحاكمات مرة أخري. واستمرار الهزيمة وفكرها وثقافتها وروادها، لمدة أربعين عاما، والعمل علي إحيائها دوما، ليس إلا ثمرة جهد عربي رسمي، نذر نفسه لتأكيدها ونشر ثقافتها، مبررا لتبعيته، ومزكيا بها الرهان علي العدو في حل مشاكل ومعضلات هي من صنعه. ومن أجل أن يقدم النظام العربي التنازل تلو التنازل، مع التزام بمساعدة هذا العدو، وتمكينه من العودة لاحتلال الأرض، وإبادة ما عليها من بشر، ونهب ما فيها من خيرات.

ويصر هذا النظام العربي علي فرض الهزيمة، في وقت يهيئ فيه نفسه لنقلة أخري، تتوحد فيها المواصفات القياسية للحاكم العربي، المناسب لحقبة الاحتلال والتقسيم والتفتيت، فيكون علي شاكلة المالكي، في العراق، وعباس في فلسطين، والسنيورة في لبنان. ممن يقبلون بالاحتلال، ويلتزمون بالعمل خدما مطيعين له. وطول يوم الهزيمة، لهذا المدي الممتد لأربعين عاما، يراد له أن يطول إلي الأبد. فإن ذلك تم اعتمادا علي كسر الإرادة، وتدني السياسة العربية الرسمية، التابعة المصهينة، المتماهية مع عدوها، حتي صارت صهيونية أكثر من الصهاينة أنفسهم. وبقيت ركيزة يعتمد عليها في اشعال الحروب، والقيام بعمليات التخريب والاغتصاب والتطهيرالعرقي. وسوف يدفع النظام العربي ثمن التزامه بأيديولوجية الهزيمة من وجوده ذاته. ويوم أن يحل محله نظام أكثر تعبيرا عن الأمة، وقتها لن يكون النصر شيئا عابرا، وسوف تثبت الأيام أن الهزيمة هي الشيء العابر في حياة العرب، وإلا ما استمرت أمتهم عصية علي الإفناء.