نصوص مختلفة لسعدي

سعدي يوسف

 

الشاعرُ العراقيّ الوحيد

سركون بولص ( 1944-2007 ) ، يرحل في برلين...

في مستشفىً ببرلين.

في تمّوز، هذا العام، وفي الجنوب الفرنسيّ، في مهرجان لودَيف تحديداً، ألتقي سركون لقاءً غريباً.

كنتُ أعرفُ أنه في لودَيف، قادماً من لقاءٍ شعريّ بروتردام، لكني لم أجده في الأيام الأولى. انطلقتُ باحثاً عنه في الفنادق والمنازل، بلا جدوى. أنا أعرفُ أنه مريضٌ، وأنه بحاجةٍ إلى انتباه واهتمامٍ ... لم «أعثرْ» عليه في هذه البلدة الصغيرة التي لا تصلحُ أن تكون بوّابةً حتى لنفسها...

سألتُ عنه أصدقاء، فلم يجيبوا.

عجباً!

وفي صباحٍ باكرٍ. عند مخبزٍ يقدم قهوة صباحٍ. رأيتُ سركون جالساً على الرصيف. كنتُ مع أندريا. قبّــلتُه: أين أنت؟

كان شاحباً، مرتجفاً من الوهَن، محتفظاً بدعابته: في الساعة الثالثة فجراً طردتْني مالكةُ نُزْلِ الورود.  La Roseraie

كانت تصرخ مرتعبةً حين وجدتْني متمدداً على أريكةٍ في البهو. سهرتُ مع خيري منصور وغسان زقطان. هما ذهبا ليناما في غرفتَيهما. لا مجال لي للعودة إلى الغابة. قلتُ أنام قليلاً هنا حتى انبلاج الصبح. لكنّ السيدة جاءت...

سألتُه: عن أيّ غابةٍ تتحدّث؟ (ظننتُه يهذي). قال بطريقته: إي ... الغابة التي اختاروا مسكني فيها. ليس في المسكن فراشٌ مجهّز. المكان مقطوع. هناك سيارة تصل إلى المكان مرةً واحدةً في اليوم!

أخبرتُه أنني بحثتُ عنه في كل فنادق المدينة ومنازلها.

قال إنه ليس في المدينة!

جلسنا معه على الرصيف.

فجأةً لمحتُ إحدى المسؤولات عن المهرجان تخرج من باب منزلها.

ابتدرتُها بالفرنسية: Il va mourir dans la rue

سوف يموت في الشارع!

عواهرُ المهرجانات، يستمتعن، كالعادة، في غرفاتٍ عالية...

 

قلقي عليه ظلّ يلازمني.

حقاً، اشتركتُ معه، في جلسة حديثٍ مشتركة، أمام الجمهور، عن العراق، وكان رائعاً وراديكالياً كعادته، ذا موقفٍ مشرِّفٍ ضد الاحتلال، على خلاف معظم المثقفين العراقيين. أقول إن هذه الجلسة المشتركة التي بدا فيها أقرب إلى العافية، لم تخفِّفْ من قلقي عليه.

رأيتُه آخر مرةٍ، في منزل الوردِ التعيس، حيث جاء به أنطوان جوكي ومصوِّرُ سينما. قالا إنه سوف ينزل هنا (المهرجان أوشك ينتهي). ظلاّ يرهقانه بمقابلةٍ تافهةٍ. ثم أخذاه فجأةً إلى خارج منزل الوردِ. سألتُهما: أين تمضيان به؟ إنه مريض.

أجابا: هناك إجراءٌ رسميّ (توقيع أو ما إلى ذلك) ينبغي أن يستكمَل!

قلتُ لهما: إنه لا يستطيع السير. دعاه يستريح. نحن نعتني به.

قالا: لدينا سيارة!

انطلقت السيارةُ به، مبتعدةً عن منزل الورد.

في الصباح التالي غادرتُ لوديفَ إلى غير رجعةٍ.

 

قلقي عليه ظلّ يلازمني.

اتّصلتُ بفاضل العزاوي في برلين. ألححتُ عليه أن يتابع حالة سركون.

سركون في غُرَيفةِ مؤيد الراوي.

ثم اتصلتُ ثانيةً. قلت له إن سركون في المستشفى.

طمْأنني فاضل عليه.

لكني لم أطمَئِنّ.

 

هذا الصباح، ذهب خالد المعالي، يعوده، في المستشفى البرليني، ليجده ميتاً.

 

ذكرتُ أن سركون بولص هو الشاعر العراقيّ الوحيد.

قد يبدو التعبيرُ ملتبساً.

لكن الأمر، واضحٌ ، لديّ.

سركون بولص لم يدخل الشعر إلا من باب الشعر الضيّق.

بدأ في مطلع الستينيات، مجهّزاً، مكتمل الأداة، مفاجِئاً وحكيماً في آن.

لم يكن لديه ذلك النزق (الضروريّ أحياناً) لشاعرٍ شابٍّ يقتحم الساحة.

سركون بولص لم يقتحم الساحة. لقد دخلَها هادئاً، نفيساً، محبّاً، غير متنافسٍ.

كان يسدي النصيحةَ، ويقدم أطروحة الثقافة الشعرية الرصينة، مقابل الخصومةِ، والمشتبَكِ، والادّعاء.

لم يكن ليباهي بثقافته، وإن حُقّتْ له المباهاة.

هو يعتبرُ الشعرَ نتيجَ ثقافةٍ عميقةٍ وممارسةٍ ملموسةٍ .

سركون بولص يكره الإدّعاء!

 

وأقول إنه الشاعرُ الوحيدُ ...

هو لم يكن سياسياً بأيّ حالٍ.

لكنه أشجعُ كثيراً من الشعراء الكثارِ الذين استعانوا برافعة السياسة حين تَرْفعُ.

لكنهم هجروها حين اقتضت الخطر!

وقف ضدّ الاحتلال، ليس باعتباره سياسياً، إذ لم يكن سركون بولص، البتةَ، سياسياً.

وقفَ ضد الاحتلال، لأن الشاعر، بالضرورة ، يقف ضد الاحتلال.

سُــمُوُّ موقفِه

هو من سُــمُوّ قصيدته.

 

لا أكاد أعرفُ ممّن مارسوا قصيدة النثرِ، شاعراً ألَمَّ بتعقيدات قصيدةِ النثرِ، ومسؤولياتها، مثل ما ألَمَّ سركون بولص. مدخلُهُ إليها مختلفٌ تماماً. إنه ليس المدخلَ الفرانكوفونيّ إلى النصّ الـمُنْبَتّ، في فترةٍ مظلمةٍ من حياة الشعر الفرنسيّ:

رامبو مقتلَعاً من متاريس الكومونة.

مدخلُهُ، المدّ الشعريّ الأميركيّ. مجدُ النصّ المتّصل.

أطروحةُ تظاهرةِ الطلبة، حيثُ القصيدةُ والقيثارُ والساحةُ العامّة.

قد لا يعرف الكثيرون أن سركون بولص كان يطوِّفُ مع فريقٍ، لإلقاء الشعر في البلدات الأميركية والقرى.

طبلٌ وقيثارٌ وهارمونيكا.

قصيدتُه عن «السيد الأميركيّ» نشيدٌ للمقاومة الوطنية في العراق!

 

سركون بولص... شاعر العراق الوحيد!

لندن 22.10.2007

*  *  *

 

بْرومِيثيوس العصر أَم فرانكنشتاين؟

في مطْلع الثلاثينيّات، نفّذَ بوريس كارلوف فيلمَه الأول عن فرانكنشتاين، ليكونَ مقدمةً لأفلام رعبٍ أمثال زوجة فرانكنشتاين، ابن فرانكنشتاين ... إلخ.

قبل ستين عاماً، شهدتُ بإحدى دور السينما، في البصرة، مدينتي، واحداً من تلك الأفلام التي لن تُنسى.

ولقد كنتُ قرأتُ، في ما قرأتُ، سنواتِ الصبا، رواية ماري شَلِي (1797-1851) الموسومة "فرانكنشتاين أو بروميثيوس العصر" Frankenstein or Modern Prometheus  (من المفيد أن أذكر أن ماري كانت زوجة الشاعر الشهير بيرسي بيش شَلِي).

قبل أيام، وأنا في تورنتو، دخلتُ، مصادفةً، دكّانَ أنتيكات، من تلك الدكاكين التي تعرضُ كتُباً إلى جانب السِلَع الأخرى، وهي أماكنُ يرتادها الناسُ هنا، كثيراً، لأن الريع المتأتي من المبيع يذهب إلى أعمالٍ خيريةٍ.

وقد كانت سعادتي غامرةً آن وجدتُ رواية ماري شَلي، هناك، في طبعةٍ أميركيةٍ أنيقةٍ من سنة 1993.

قراءتي، اليومَ، غيرُ قراءتي أمسِ البعيد.

أنا، اليومَ، أُدَققُ، وأُنعِمُ النظرَ، وأتفكرُ في النصِّ، وأتذكّر، وأستعيدُ، وأقارِنُ. لقد دهشتُ حقّاً، لأن إنجليزيّة القرن التاسع عشر، إنجليزية ماري شَلِي، لم تختلفْ كثيراً عن إنجليزية القرن الحادي والعشرين التي نتداولُها الآن. صحيحٌ أن كلماتٍ معينةً اكتسبتْ خصوصيّةَ استعمالٍ مثل Intercourse، التي تستعمَل هذه الأيام تعبيراً عن الاتّصال الجنسي، لا الاتّصال عموماً، لكن لغة القرن التاسع عشر ظلّت مُيَسرةً لقارئٍ مثلي.

هل لفن الرواية دخْلٌ بهذا الأمر؟

على أيّ حالٍ، مضيتُ في القراءةِ، متلهِّفاً أو أكادُ، حتى لقد أتممتُ الروايةَ في يومٍ واحدٍ.

قراءتي هذه صحّحتْ لديّ أموراً من بينِها أن فرانكنشتاين ليس اسماً للمخلوق الشائه، بل هو اسمٌ للسيد فكتور فرانكنشتاين، طالب العِلْمِ المُغالي في الطلَبِ، الذي بعثَ الحياةَ في الرميم الذي أضحى وحشاً أو بمنزلة الوحش.

ومن بين ما هدتْني إليه قراءتي، أنّ العمل، عمل ماري شَلِي، ليس روايةَ رُعبٍ، بإطلاق. إنه عملٌ متأنٍّ، عميقٌ، فيه أكثرُ من مدخلٍ فلسفيٍّ إلى الإنسان ومصائره. كان فكتور فرانكنشتاين يطمحُ إلى تحقيق الإنسان الكامل: الحُلمِ الأثير.

ولقد أخطأَ السبيلَ، فجاءنا بالوحش.

إلا أن هذا الوحشَ جديرٌ بعنايتنا، نحن، بني الإنسان.

هذا الوحشُ كان يريد أن يخرج من وحشيّته. كان يريد أن يألفَ الناسَ، وأن يأْلفَه الناسُ: إنه يهذِّبُ حواسّه، ويكتشف النارَ، واللغة، والملبَسَ والمطعمَ... إلخ.

وهو حاقدٌ على فكتور فرانكنشتاين لأنه لم يَبْرأْه بشَراً سوِيّاً.

وحشُ فرانكنشتاين، في مسعاه إلى الاكتمال، ليس بعيداً عن "جمعة" روبنسن كروزو، ولا عن حيّ بن يقظان، أو فاوسْتْ ، أو الشاعر أوفِيد في مَبْعَدِه الروماني.

أُورِدُ هذا المقْطعَ:

«أتَمَّ الكائنُ كلامه، وركّزَ نظراتِه عليّ، متوقِّعاً جواباً، لكني كنت حائراً، مرتبكاً، غير قادرٍ على ترتيب أفكاري بما يكفي كي أفهمَ المدى الكامل لمقترَحِه. مضى يقول: عليك أن تخلقَ أنثى لي، أعيش معها، وأتبادل العواطفَ الضرورية لوجودي.»

إذاً:

لم يكن وحشُ فكتور فرانكنشتاين وحشاً.

مَن الوحشُ؟

 

3 أيلول 2016

*  *  *

 

إدغار ألانْ بو ونظريّة الشِّعر

قد يبدو هذا القادم من منتصف القرن التاسع عشر، ضيفاً خفيفاً.

لقد رحلَ قبل أن يتمّ عامه الأربعين، شأنه شأن أبي تمّام وامرئ القيس ورامبو وبدر شاكر السياب: هبط من القطار، في محطة نائية، بدون سبب واضح، ليُعثَرَ عليه بعد أسبوع، وهو في حشرجة الاحتضار.

لكن الرجل كان ذا تأثيرٍ في المشهد الشعريّ والثقافي، بل ظلّ تأثيره قائماً حتى اليوم، بصورة من الصوَر.

كتابه «حكايات الرعب والخيال» كان مفتتح أدب الرعب، والقصة البوليسية، والتوتّر النفسيّ، حتى أن شارل بودلير العَصِيّ نقله إلى اللغة الفرنسية.

كما أن عدداً من قصائده ظلّ خالداً، ومَعْلَماً في فن الشِّعر، مثل «الغراب» و«الأجراس».

صحيحٌ أن هناك مَن لم يعتبرْه شاعراً مهمّاً، وأشيرُ هنا إلى وليم بتلر ييتس الذي كان يرى في إدغار ألان بو، شاعراً مبتذَلاً (Vulgar)، وإلى البوسطنيّين التقليديّين، الذين ظلَّ بو يسخر منهم، مفضِّلاً عليهم، هنري لونجفِلو، الأكثر حريّةً، والذي كتب قصيدته الشهيرة «هياواثا»، القصيدة التي يمجِّدُ فيها بطولةَ الهنود الحمر، وقد كنتُ مغرَماً بها أيّامَ الصِّبا، فقد قرأتُها في المرحلة الأخيرة من دراستي الثانوية، وحاولتُ نقلَها إلى العربية، بالرغم من إنكليزيّتي المتواضعة جداً في تلك الأيّام.

أعود إلى الغايةِ الأساسِ من مقالتي هذه، وهي متّصلةٌ بآراء إدغار ألان بو في فن الشَعر:  يرى الرجل أن للشِّعر مستلزماتٍ أربعةً أساسيّةً، هي الإيجاز والموسيقى والمعرفة واللاعاطفيّة.

وهو يعيب على شعراء كثرٍ إطنابَهم، ونأيَهم عن المعرفة، واحترام الموسيقى، ويعيب عليهم العاطفيّةَ المبالَغَ فيها التي تحدُّ من المعرفة ومن سيطرة المبدعِ على مادّته.

ومن منطلَقِه في الإيجاز، يَجهدُ إدغار ألان بو في تحليل قصائدَ طوالٍ مثل «الفردوس المفقود» للشاعر الضرير جون مِلتون، و«الإلياذة».

وفي رأيه، إن القصيدة الطويلة ينبغي أن تُقرأَ باعتبارِها متواليةً من قصائدَ قصيرة.

والسببُ، هو أن الأثر السايكولوجيّ للنصّ الشِّعري، يَصّاعَدُ فجأةً، ليخمُدَ فجأةً أيضاً. ثمّتَ لحظاتٌ من التوهُّجِ حين يتلقّى المرءُ النصَّ الشِعريّ. هذه اللحظاتُ الثمينةُ لن تستمرّ. هذه اللحظاتُ ستخبو بغتةً.

هكذا رأى الرجلُ أن القصيدة الطويلة ينبغي أن تزول، كنوعٍ شِعريٍّ.

أعودُ، الآن إلى مشهدٍ من تجاربنا العربية في كتابة القصيدة الطويلة (كانت تسمّى مَلحَمةً في عراق الخمسينيّات):

بدر شاكر السياب اهتمّ أكثر من مُجايِليه، بالقصيدة الطويلة، وكتبَ عدداً مرموقاً، مقايَسةً.

كتب «المومس العمياء»، و«الأسلحة والأطفال»، و«حفّار القبور».

لكننا في استعادة ما أحببناه من قصائد بدر الطوال، هذه، سوف نطَبِّقُ مقولةَ إدغار ألان بو، حين نترنّم بمقاطع ما:

عصافيرُ أم صِبْيةٌ تمرحُ

أم الماءُ من جرّةٍ ينضحُ...

 

القصيدةُ الطويلة لم تَعُدْ نوعاً يتراكمُ.

 

نصٌّ قصيرٌ من أشعار إدغار ألان بو:

أنّابَلْ لِي

منذ سنين وسنين

في مملكةٍ عند البحرِ

عاشتْ فتاةٌ قد تعرفونها بالاسم

أنّابَلْ لي.

ولم يكن لدى تلك الفتاة ما تفكِّرُ به

سوى أن تحبّني وأحِبُّها.

كنّا صغيرَين في تلك المملكة التي عند البحر...

«النصّ مجتزأٌ من قصيدة»

2 تموز 2016

*  *  *

 

إلى محمد الصغير أولاد أحمد

لم تَعُدْ، يا محمدُ، ذاكَ الصغيرَ ...

الجنوبُ اختفى منذ أن رحلَ الزَّينُ.

في رادِسِ الغابةِ، الآنَ

صارتْ لديكَ ابنةٌ أنتَ سمَيتَها كَـلِماتٍ...

كبرْنا، إذاً، يا محمدُ

لكننا الشعراءْ!

نحن لا نتكبّرُ إذْ نكبُرُ...

الآخرون لهم ما يشاؤون!

والآنَ

يا صاحبي، يا محمد.

أنتَ تعرفُ محمود درويش؛

تعرفُ أيَّ انتباهٍ إلى أرض تونسَ جمّعَنا.

يومَها، أبلَغَتْني ، كما يلثغُ النسرُ، أُمُّ زيادٍ:

"ولا بُدَّ من نَدْبةٍ عند أبوابِ تونسَ".

يا صاحبي

يا محمّدُ أولاد أحمدَ

قُلْنا: انتهت، عندنا، السكرةُ !

الآنَ، دعني أقولُ: انتهتْ، عندنا الفكرةُ...

العجَبُ التونسيُّ، تبدّى، كما الصحنُ:

ما بين سوسةَ والقيروانِ

بعيد.

وما تُضْمِرُ القيروانُ لسوسةَ

أبعدُ، يا سيّدي، يا محمّدُ، ممّا ألِفْتَ:

أُحِبُّ البلادَ.

كما لم يحبّ البلادَ أحدْ؟

يا محمدُ أولاد أحمدَ

دعْ رادسَ الغابةِ، الآنَ، في حُلْمِها

واختلِسْ مقعداً عند أوّلِ طائرةٍ ...

فالبرابرةُ التونسيّون قد أقبلوا!

 

لندن في 26.06.2015

*  *  *

نَعُومِي كامبِل في البلدةِ  

أقولُ الحقَّ: إنني أُحِبُّ نَعومي كامبل (السوبر عارضة أزياء الشهيرة طبعاً). أحبُّها، أحبّ مشيتَها، شَعرَها الفاحم المنسدل، وغرورَها أيضاً.

أحبُّ اعتزازَها بزنجيَّتِها، وبقومِها.

وربما أحببتُ أيضاً طريقتَها الفظّـةَ في الدفاع عن النفس، ومُدافعة الآخر.

وأعجبتني جداً قصةٌ قصيرةٌ لمحمود شقير، أدخلَ فيها نعومي إلى مخيَّمِ لاجئين فلسطينيين!

كما شعرتُ بسعادةٍ خاصةٍ حين علمتُ أن صديقَها (عباس) عربيّ من دُبَيّ، غنيٌّ أكيداً، وأنها تُمضي معه، هناكَ، لياليَ مِلاحاً، آخرُها كانت لمناسبة عيد ميلادِها الميمون!

وقد لا يصدِّقُني أحدٌ أنَ أقول إنني أتتبَّعُ أخبارها في صحف التابلويد الرخيصة، وأنني أحتفظُ في زاويةٍ سرّية من مكتبتي بصورِها المقتطَعة من تلك الصحف والمجلات.

في الحُلمِ تزورني نعومي، وقد أمستْ ذات جناحَينِ أسْوَدَينِ مُهفهِفَين. أقول لها: يا نعومي. أنتِ نِعمةٌ من نِعَمِ الله. تسألُني: ماذا تعني؟

أجيبُها: لقد جعلتِ عالمَنا أجملَ. ووهبتِ المُهَمّشينَ أجنحةً تشبه جناحَيكِ.

كل هذا الذي أكُنُّه وأُبْديهِ لم ينفعْني في أن أحظى منها بنظرةٍ!

حتى جاء أمس، الجمعة.

البلدةُ التي أسكنُ ضمن حدودِها الإدارية، تُدْعى أَكْـسِـبْـرِجْ Uxbridge، وهي بين مناطـق لندن الإدارية، الأقربُ إلى مطار هيثرو، البوابة الهائلة إلى المملكة المتحدة، التي يحاول اقتحامَها، دوماً، طالبو لجوءٍ وعمالٍ من قاراتٍ شتى.

المتاعب القضائية المتعلقة بهؤلاء من حجز، وتحقيق، وإبعادٍ… إلخ، تتولاّها حاكميةُ أكسبرِج، أي مُجَمّعُها القضائي.

هذا المُجَمَّعُ متواضعٌ، وقد طالما مررتُ به، وأنا في الحافلة، فلم يُثِر انتباهي كثيراً. المبنى عاديّ من القرميد الأحمر الذي أمسى بُنِّـيّـاً بفعل الدهر والمطر. مبنىً يكاد يخلو من الناسِ، إلاّ أولئك الذين يتركون مكاتبَهم في الداخل، ليلتذّوا بتدخين سجائرِهم، وبالهواءِ الطّلْقِ.

أمسِ، كنتُ عائداً بالحافلة، من البلدةِ إلى منزلي.

عجباً!

مبنى الحاكمية، ومحيطه، من شوارع وأزقّة، ومستديرات، يكاد ينفجر بالناس.

سيارات تلفزيون وإذاعة.

أفراد شرطة إضافيون.

أناسٌ تجمّعوا في كل مكان، يتطلّعون، ويستطلعوا.

نزلتُ من الحافلة عند الموقف الأقرب، عائداً إلى مبنى الحاكمية.

سألتُ: ما الخبر؟ (خير يا طير… كما يقول الفلسطينيون) !

نَعومي كامبل، تُحاكَمُ!

انتظرتُ طويلاً، علِّي أحظى بنظرةٍ متكرِّمةٍ من نعومي، صديقتي.

لقد جئتُ كي أقف إلى جانبها، في محنتِها. لا يهمُّني إنْ عرفتْ هذا أم لم تعرف. أنا امرؤٌ مخْلصٌ، لا أنتظرُ ثواباً على إخلاصٍ.

طال الانتظار، ولم تظهر!

ربما جاؤوا بها من طريقٍ سرِّيةٍ أو نفقٍ.

وعندما انتهتْ محاكمتُها جعلوها تسلك المدخل مَخرَجاً.

في أخبار المساء، على شاشة التلفزيون، كان خبرُها، الأوّلَ …

لقد حُكِمَ عليها بالعمل الاجتماعي لمدة مئتي ساعة:

العناية بالكبار مثلاً، أو بالحدائق. تنظيف الجدران من الملصقات والغرافيتي… إلى آخر الاحتمالات المتأتية من تعبير العمل الاجتماعيّ.

لماذا حوكمتْ؟

لأنها أهانت طاقم الطائرة والشرطة حين فُقِدَتْ حقائبُها في مطار هيثرو (القاعة الخامسة) قائلةً لهم:

أنتم عنصريّون.

لو كانت الحقائبُ لامرأةٍ بيضاء لَما فُقِدَتْ!

سأظل أحبّ نعومي كامبل!

السبت 6 شباط 2016

*  *  *

 

الفلبين

«ثم وصلنا إلى بلاد طواليسي، وهي بلادٌ واسعةٌ، وملكهم منافسٌ وندٌّ قويٌّ لملك الصين، ويمتلك العديد من السفن الشراعية التي يشنّ بها حرباً على الصينيّين حتى يقبلوه ويحترموه ويفاوضوه على بعض الشروط. وهم وثنيّون ويشبهون الأتراكَ في الشكل ولكنّ لون بَشَرتهم حمراء نحاسيّة وهم شجعان ومحاربون أقوياء ونساؤهم فارساتٌ يركبن على ظهر الفرس ويقاتلن كالرجال ويستخدمن النبال والسهام بمهارة فائقة، ورسونا في ميناء بلدة كايلوكاري، وكان يحكمها ابن الملك، وهي من أكبر وأجمل مدنهم، وأحاطت بالسفينة القوّاتُ والجنود المحليّون، فذهب إليهم قائد السفينة حاملاً معه هدية لأميرهم وسألهم عنه، فأخبروه بأن أب الأمير، الملك، عيّنه حاكماً لمنطقةٍ أخرى، وجعل ابنته أوردوجا حاكمةً لهذه المدينة.

وفي اليوم التالي استدعت الأميرة قائد السفينة وجميع ركّابها وكبار الشخصيات المحلّيّين وقائد الجند لحضور مأدبة غداء، وهذه من عاداتهم في إكرام الضيف. وحضر إليّ قائد السفينة وترجّاني أن أذهب معهم، ولكني رفضت أن أهبط من السفينة وآكل غذاء الكفّار الوثنيّن. وعندما ذهب طاقم السفينة سألتهم الأميرة هل بقي منكم أحدٌ لم يحضر؟

ساعدتنا في رحلة البحر للصين.

وأخبرني القائد بأن هذه الأميرة عندها نساء في جيشها وخدم نسائي وجواري يحاربون كالرجال. وتخرج بنفسها للقتال مع جيشها المؤلف من النساء والرجال، وتهاجم الأعداء وتخترق الصفوف. وأخبرني القائد بأنها رفضت الزواج من الأمراء وتقول إنها سوف تتزوج فقط الفارس الذي يغلبني. والفرسان يتجنّبون محاربتها لقوّتها وشدة بأسها، والخوف من الخزي والعار إذا تغلّبتْ عليهم».

 

حيدر ينام

كالمستريحِ إلى النعاسِ دقيقتَينِ

ينام حيدر...

حوله الأزهار، والشمعُ الطويلُ

وضجّةُ الناسِ الذين يغمغمون

ويلعبون لأجْلِه ورَقاً... (هي الفلبين)

حيدرُ مغمضُ العينين

في شفتيه شيءٌ مثلُ شكوى، مثلُ لونٍ للمَلامةِ؛

كان حيدرُ ناعمَ الخدَّينِ

في أبهى أناقتِه...

نظيفاً

لامعاً

مترقرقَ النُّعمى كعادتِه،

وكان ينام...

 

يا ولَدي

قطعتُ الكونَ

أسبِقُ شمسَه لأراك...

يا ولَدي،

تفارقُني كعهدكَ؟

خلِّني ألمسْ يديكَ

وخلِّني أخبرْكَ عن وجَعي

وما صنعت بيَ الدنيا...

لمن أشكو إذا لم أشْكُ عندكَ؟

هكذا انقطعتْ بنا الدنيا. إذاً!

أرجوكَ...

يا ولدي،

تَنَفّسْ بُرهةً!

افتَحْ، ولو لدقيقةٍ، عينيكَ!

أبصِرْ، لحظةً، شيبي

وماءَ دمي الذي يَنهَلُّ من عينَيّ...

أبصِرْني

انتظِرْني...

كيف تسبقُني،

وتتركُني وحيداً في المفازةِ؟

 

يا صغيري نَمْ

تحَرَّرْ

طِرْ بعيداً

واسترِحْ من لعبةِ العبَثِ الطويلةِ ...

نَمْ

ودعْني في الجحيمِ!

 

(عَمّان 03.08.1999) النصّ من كتابٍ قيد النشر بين أماكن وردت في رحلات ابن بطوطة وبين نصوص سعدي يوسف المكتوبة في هذه الأماكن.

*  *  *

 

عدنٌ أيضاً...

ماذا لو اني الآنَ في عدنٍ؟ سأمضي ، هادئاً ، نحو «التواهي».

والقميصُ الرّطْبُ ، يعبَقُ ، من هواءِ البحرِ .

في باب الجماركِ سوف أستأني قليلاً

ثم أمشي ، نحو أطلالِ الكنيسةِ

سوف أدخلُ:

ثَمَّ أمسحُ من ترابٍ أسوَدٍ ، لوحَ البِلى ...

بحّارةٌ غرقى أراهم يملأون مقاعدَ اللوحِ العتيقِ .

أرى ، هنالكَ ، بينَهم ، لي رفقةً ...

وأصيحُ :

أحمدُ !

يا زكيّ !

ويا سعيدُ !

ويا

ويا ...

إني قطعتُ الكونَ من أقصاهُ ، كي آتي إليكم يا رفاقي

فَـلْـتُـفيقوا لحظةً

إني أتيتُ لكم بماءٍ سائغٍ من رأسِ رضوى

جئتُكُم بالرايةِ الحمراءِ

رايتِكُم

سأحملُها ، وإنْ وهنتْ ذراعي ..

15 أيار 2015

*  *  *

 

الفيتوري في بيروت المحاصَرة

•      لستُ أدري، بالضبط، كيف التقينا، وأين، في بيروت المحاصَرة 1982...

•      كان الإسرائيليّون أحاطوا بالعاصمة اللبنانية تماماً.

الشوارع مهجورة.

والأصدقاءُ من أهل الأدب والصحافةِ شرعوا يهجرون بيروت إلى أماكنَ آمنةٍ، مثل طرابلس، ودمشق.

ربّما كان لقائي ومحمد الفيتوري في صحيفة «السفير».

الفيتوري كان دبلوماسيّاً، يتمتع بالحصانة.

يسكن في الشرقيّة، ويأتي إلى الغربية، عبر حواجز الكتائب، من أجل «السيولة» على حدّ تعبيره، وهو يعني

سحبَ مبالغ ماليّة من مصارفَ أو مظانّ، في الغربية.

شاهدَني حائراً، مدَوّخاً...

قال لي: لِمَ لا تأتي معي؟

استفسرتُ: إلى أين؟

أجابَ: إلى الشرقيّة... ماذا تفعل هنا؟

قلتُ: والحواجز؟

أجابَ: سيُرَحِّبون بك. أأنت خائفٌ؟ أنت معي في سيّارة دبلوماسيّة. سأخبرُهم مَن أنت...

لم نواصل الحديث.

أظنُّ الفيتوري أدركَ استحالةَ أن أقبلَ عرضَه.

تناولْنا غداءً سريعاً.

وعاد هو، بالسيّارة الدبلوماسية، إلى الشرقيّة.

أُعجِبْتُ بطريقة الفيتوري في الإلقاء المحترِف.

نحن نرتبك: نرفع الصوتَ، أو نخْفضه، بدون تدقيقٍ مرهَفٍ.

ونُجهِدُ أنفُسَنا بلا فائدة.

لكنّ للفيتوري شأنٌ آخرُ...

كان يفتح عينيه واسعتَينِ جدّاً.

يُقَرِّبُ الميكرو حتى يكاد يلامسُ شفتَيه.

ويقرأُ مثل مغنّيةِ ابن الرومي (وحيد): تتغنّى كأنها لا تغَنّي من سكون...

 

سألتُ عبد الوهاب البيّاتي عن لقَب «الفيتوري».

أجابني البيّاتي (وكان خصماً لمحمد مفتاح الفيتوري):

هو من قبيلة سودانيّةٍ على الحدود الليبيّة، تُدْعى: الفواتير!

تغمّدَ الله، الإثنين، برحمته السابغة.

 

الجمعة 1 أيار 2015 عن (جريدة الأخبار) اللبنانية

*  *  *