في هذه المراجعة لكتابين يتناولات آليات استلاب المثقف العربي ونشر الوعي الزائف يربط الكاتب الفلسطيني بين المخطط الأمريكي في المنطقة وغياب الوعي.

مثقفو التبعية العرب

رشاد أبوشاور

عنوان الكتاب هو (الحداثة ومثقفو التبعية العربية الجديدة) ومؤلفه هو الدكتور فضل مصطفي النقيب والكتاب صدر عن منشورات مركز الغد العربي في دمشق. أول مرة قرأت لفضل النقيب كانت دراسة عميقة عن مسيرة غسان كنفاني الأدبية ضمن كتيب صغير ضم ثلاث دراسات وصدر بعد استشهاده. بلال الحسن أصدر في العام 2005 كتابا سجاليا بعنوان (ثقافة الاستسلام) عن منشورات الريّس فضح فيه تهافت أطروحات خمسة كتاب هم: كنعان مكية، حازم صاغية، صالح بشير، العفيف لخضر، وشخص اسمه أمين المهدي، من خلال تسليط الضوء علي خلفيات تلك الأطروحات وتهافتها، وعدمية أصحابها واستماتتهم في تبرير الاستسلام والتخلي عن الحقوق بحجة (قوة) الكيان الصهيوني، وتبشيرا بالحداثة التي تعني التخلي عن فلسطين، والكف عن الدعوة للصراع مع الصهاينة المحتلين، والإقلاع نهائيا عن فكرة الوحدة العربية، ورفض المقاومة ومعاداة الإسلام.. بلال الحسن في كتابه أضاء خلفيات هذه المجموعة الفكرية وتبعيتهم التامة لطروحات المحافظين الجدد في أمريكا. قرأت كتاب بلال الحسن وقدرت تضحيته بتبديد وقته في مناقشة خطاب هذه المجموعة الذي يتماهي مع خطاب من نظروا للحرب علي العراق، وتدميره بوعود الديمقراطية. ومن يبيحون فلسطين أرضا وشعبا للاحتلال التوسعي الصهيوني.

كشف خطاب منظري ثقافة الاستسلام رغم سطحيته وارتباكه وافتضاحه في العراق وفلسطين ولبنان لا سيما بعد كارثة العراق يصب في خدمة وعي الأمة بالتعريف بمن يروجون من بين ظهرانيها لفكر سياسي فاسد. ولذا فإن تبديد بعض الوقت في الرد عليهم ودحض مقولاتهم لا يعتبر خسارة فادحة. بالرد علي تهافت خطاب هذه المجموعة فإن وقت بلال الحسن لم يذهب سدي حتي وهو يناقش الكتابات السطحية لأحد الأشخاص الخمسة والذي لم يعرف عنه أنه كاتب، ولكنه مع ذلك أدلي بدلوه في المعمعة التبشيرية بمقالتين تمتحان من نفس النبع الذي خرجت منه أفكار «زملائه».

فضل النقيب ـ صديق بلال ـ الأكاديمي والباحث الاقتصادي والأستاذ في جامعة (واترلو) في كندا غاص في جذور ظاهرة المحافظين الجدد أساتذة مثقفي التبعية العربية الجديدة. وقدم خدمة لا تقدر للقارئ العربي الذي ينفر من سياسة المحافظين الجدد وخطابهم السياسي العدواني الذي افتضحت بشاعته وانحطاطه بجريمته الماثلة في العراق والانحياز العنصري للكيان الصهيوني في فلسطين. ينطلق الكاتب من أسئلة ترد في المقدمة:هل السير علي طريق الحداثة يتطلب التضحية بالاستقلال وقبول التبعية؟ وهل التمسك بالاستقلال يتطلب حقا التضحية بالحداثة والقبول بالتأخر؟ ولماذا المقايضة الجدلية غير المنطقية بين الحق والاستقلال والديمقراطية والحداثة.. بين التبعية والقبول بالاحتلال؟!

بلال الحسن وفضل النقيب يتكاملان في كتابيهما، فواحد يتصدي لظاهرة مثقفي الاستسلام أدعياء الديمقراطية والليبرالية، كتبة الخطاب التضليلي، والذين يحدد بلال (مهمتهم): لقد اعتاد المستعمرون أن يرسلوا بعثاتهم الاستطلاعية و(الاستشراقية) لدراسة البلدان التي ينوون غزوها واستعمارها، أما في عصر العولمة فلم تعد هناك حاجة لإرسال هذه البعثات وانتظار نتائجها، فثمة نوع من المثقفين راغب في أداء هذا الدور من الداخل وصياغته بإتقان فكري.. هذا النوع لا يعمل من أجل تطوير الثقافة العربية إنه يعمل من أجل هدمها. فضل النقيب يتوغل في جوهر فلسفة وخطاب المحافظين الجدد في امريكا الذين هم أساتذة وأولياء نعمة مروجي خطاب الديمقراطية والليبرالية والحداثة والمقايضة.

في فصل التبعية الجديدة يري النقيب أن الإدارة الأمريكية التي يسيطر عليها تيار المحافظين الجدد توصلت إلي قناعتين بالنسبة إلي الوضع السياسي في العالم العربي: الأولي هي أن الأنظمة الحاكمة العربية الموالية لها شاخت وهرمت وأصبحت غير قادرة علي حماية المصالح الأمريكية في المنطقة. بل إنها حولت بلادها إلي أرض خصبة لنمو الحركات (الإرهابية) المعادية للمصالح الأمريكية. والقناعة الثانية هي أن هناك بوادر حركات تغيير وطنية قد أخذت في الظهور والتعبير عن الإرادة الوطنية المكبوتة منذ عقود وأن هذه الحركات قد تنجح في إقامة أنظمة جديدة قد تكون وطنية ديمقراطية، أو راديكالية إسلامية، ولكنها في كلتا الحالتين ستكون مناهضة للسياسة الأمريكية في المنطقة. هل ستقف الإدارة الأمريكية ساكنة تراقب ولا تفعل منتظرة أن تصبح التغيرات الراديكالية القومية أو الإسلامية الثورية حقيقة واقعة تلتف حولها جماهير متعطشة للتحرر والاستقلال والحرية والخبز والكرامة؟!

يري النقيب أن الإدارة الأمريكية تعمل من أجل أن تجهض احتمالات التغيير عن طريق رعاية قيام أنظمة جديدة تكون مقبولة نسبيا من شعوبها لأنها تسمح بحيز من الحرية والمساءلة واحترام حقوق الإنسان، وفي نفس الوقت تكون قادرة علي خدمة المصالح الأمريكية بشكل أكفأ من الأنظمة الحالية (ص7). يري النقيب أن دعاة التسوية ومثقفي التبعية باتوا يشكلون تيارا كبيرا في العالم العربي ـ وليس الخمسة الذين فضحهم بلال الحسن في كتابه وهم عينة ـ ويضرب مثالاً علي ذلك بالمعارضة العراقية التي ضمت أحزابا يسارية ودينية وليبرالية أيدت الغزو الأمريكي للعراق، انطلاقا من نفس منطق المقايضة بين الاستقلال والحداثة، فمنطق تلك المعارضة هو أن التخلص من أوضاع التخلف في العراق ـ الحكم الديكتاتوري القمعي..الخ ـ لا يمكن أن يتم بالاعتماد علي الإمكانات الذاتية للشعب العراقي وحدها (ص8). منطق دعاة التبعية انطلاقا من منطق المقايضة:التمسك بالحقوق يقود إلي التخلف، والسير علي طريق الحداثة يستدعي التنازل عن الحقوق (ص13).

يتنبه النقيب إلي نوع آخر من دعاة التنازل هؤلاء ويصنفهم بأنهم أصحاب فكرة (خذ وطالب) انطلاقا من العجز عن مناطحة الإمبريالية الأمريكية المنحازة للكيان الصهيوني. وهذا منطق الذين يدعون للقبول بتسوية الصراع العربي الإسرائيلي وفق الإملاءات الأمريكية (الإسرائيلية). فهم تيار التبعية العربية الجديدة يتطلب فهم تيار المحافطين الجدد، وهنا يصحح النقيب ترجمة المصطلح فهو ليس كما درجنا علي ترديده ولكن الترجمة الحرفية هي:المحافظون المحدثون، وهذا يعني أنها المجموعة التي تنادي بالفكر المحافظ القديم. هؤلاء ليسوا في حزب سياسي واحد، وإن كانت غالبيتهم من الحزب الجمهوري. كيف تؤثر هذه المجموعة علي الرأي العام الأمريكي وصناع القرار؟ عن ثلاث طرق: الإعلام مراكز الدراسات، وجود شخصيات من التيار في مراكز هامة.. والتيار له نفوذ هائل في إدارة بوش الإبن.

منذ السبعينات بدأ الحديث عن تيار المحافظين الجدد وبخاصة عن: نورمان بودهارتز وإيرفنج كريستل وهما يهوديان من مهاجري أوربة الشرقية وكانا في الأربعينات والخمسينات أعضاء في الجماعات التروتيسكية (عندما كانا في أوربة الشرقية). وأحد آباء فكر المحافظين هو الأستاذ الجامعي (ليو ستراوس) وهو يهودي ألماني انخرط في النشاط الصهيوني، وهو في السابعة عشرة من عمره. هاجر إلي أمريكا وعمل أستاذا جامعيا في شيكاغو. جوهر تفكيره أن الفلسفة لا يجب أن تنحدر إلي مستوي عقول العامة. يكتب النقيب: قامت الأكاديمية الأمريكية (شادية دروري) بدراسة علاقة تيار المحافظين الجدد بالفلسفة الستراوسية ـ نسبة إلي ليو ستراوس ـ فرأت أن تلك الفلسفة هي الأساس الفكري لعملية الخداع (deception) التي يمارسها المحافظون الجدد بالنسبة لموضوعي الدين والقومية.

بالنسبة للدين فإن المحافظين الجدد يعملون علي تقوية نفوذ المؤسسات الدينية في المجتمع الأمريكي علي أساس أن ذلك يساعد الإنسان العادي علي العيش وفق مفاهيم واضحة من الخير والشر والحق والباطل. وبنفس الوقت فإنهم يرون أن من الضرر التزام النخبة الحاكمة بتلك المفاهيم (ص54). المحافظون الجدد يرون في الدين أفيونا مفيدا، وعكس ما تراه الماركسية. ولذا فهم يوظفونه في إشغال العامة عن الشأن العام. وفي موضوع القومية فإنهم يرون أن يوجه العداء للخارج، أي إشغال العامة بالتعصب في معاداة آخرين يتهددون قوميتهم وذلك بهدف صون السلم الاجتماعي. كتابان يخوضان معركة واحدة يتكاملان ويسهمان في توعية كل من يعنيهم معرفة ما يراد لأمتهم، يفضحان زيف خطاب مثقفي التبعية العرب، ويكشفون عن المصادر التي يستقون منها (جوهر) خطابهم بغرض إحداث خرق في الوعي العربي خدمة لأعداء الأمة.