ينفتح الباب الكبير بصريره المكتوم، تبرز من ثلثه العلوي قبضة صدئة ترتكز على كرة نحاسية بهت لونها تعانق خشب الباب العتيق. أنحدر عبره إلى المدخل المعتم. تغزوني رائحةُ عطنٍ قديم. في الركن ينتصب زيرٌ منتفخُ البطن بالماء، مرتاحًا على حمالة حديدية بلون الصدأ، أرجلها الثلاث معقوفة نهاياتها المرتكزة على الأرض المبلولة، تفوح منها دائمًا رائحةُ زخمة نفَّاذة. أتفادى صفائح المياه الصدئة، والطشوت، والخِرَق القديمة المتسخة، والكراسي مكسورة الأرجل، وأنا أخطو بحذر وتوجس بين الكراكيب المتناثرة، وبرك الطين المبلولة. غرف متتابعة تطل على المدخل، مفتوحة أبوابها عن بوابير الجاز المتقدة تفح نارًا وصهدًا تحت الطبيخ والغسيل، وساكنات الغرف يفترشن الأرض بلحمهن المندلق وهدومهن المفتوحة عن أفخاذ وفيرة لامعة وأثداء محصورة منبعجة، أو متهدلة ساقطة في أفواه الرضع، حتى أصل إلى بير السلم. تهب عليَّ رائحةُ رطوبةٍ قديمةٍ، والأنوار تتخايل على السلالم، فوق.
السلم، بدرجاته الحجرية الناحلة الملساء، أصعده جريًا، درجتان درجتان حتى أصل إلى السطح.
رجفة النشوة التي تهز الروح وتسرقها. كهفي الذي أؤوب إليه مشحونًا بالقلق والترقب. يصطخب بداخلي شغف رقراق، وقلبي يضرب مثل طبل كبير. الهدوء الساري، وخفوت كل ضجيج. تكعيبة العنب– التي واكبتها منذ بدأت كرأس دبوس– مورقة وظليلة وبليلة الأنفاس. رقرقة الهواء بين أوراق العنب، المتدلية من التعريشة، تعلوها طبقة خفيفة من تراب ناعم. الظلال المتراوحة المنقوشة ببقع شمس العصاري اللينة، السكون المشحون بالتوتر والانتظار وصوت أم كلثوم يصدح أسيانا: أنا في انتظارك.
دقائق معدودات وتلحق بي "هند" جارتنا ورفيقة صبايا ولعبي وسري المكنون. تنثر مرحها وبهجتها على المكان. تنظر إليَّ بعينين محلقتين اشتياقا، حافلتين بأسرار البكارة والوعود والأحلام، يسيل منهما حنوٌّ أنثويٌّ يغمر قلبي. نظراتها فاهمة معابثة. حمرة الخجل الذي يصعد إلى الوجه فيتورد خداها وتنسال اللهفة من عينيها السوداوين العميقتين في الصمت المظلل بحفيف أوراق العنب.
اقترب منها، تقترب مني حتى تلفحني أنفاسها، وخجلنا الهزيل نخلعه معًا. ضممتها إليَّ، ووجدتها بين ذراعي كقطةٍ أليفةٍ. كان ملمس خدها أشبه بوسادة حريرية أسلمتني لخدر جميل. شفتاها تبثان لهفة القبلات. أحسستُ صدرها الغضَّ النافر، وهي تنهج، على صدري، وقلبي يتقافز بين ضلوعي رعبًا ونشوة. ثدياها صغيران ناهدان في دورانهما ليونة متماسكة، وبطنها، مثل حشية وثيرة– بسرتها التي في استدارة عجين مختمر– يصطدم بي، فينبعث منها إلى جوارحي دفء مؤثر، وهي تحس اشتعالي الذي يضرب جسدي وتعرفه. شفتاي الجافتان، وأنفاسي متلاحقة، أضعهما على شفتيها المكتنزتين الدافئتين فأحس نعومتهما وسخونتهما المنداة. نشقت رائحة جسدها، معبق بالصابون والقرنفل، ومحمل بأريج بكر، ويداي تتخللان شعرها المبعثر في كفي.
خبطت الجارة– في السطح المجاور- على صدرها وهي تردد: يالهوي.. يالهوي.. يالهوي! فانفلتت من بين ذراعي مذعورة وأسرعنا نعدو نغادر المكان وأنا الملم آخر مذاق لشفتيها.
ما من نجمةٍ في السماء، ما من أغنيةٍ حالمة تنبعث من راديو الجيران الذي خمد صوته الآن، وأنا عائدٌ إلى البيت– بعد ساعات من التسكع– أقلب جميع خياراتي، أشعر بريبة تخالطها طمأنينة لا تقف على قدمين.
ناداني أبي بصوتٍ كنت أخشاه وأتوقعه. ينظر إلى بعينين صلبتين فلا أجرؤ على النظر تجاههما. أطأطئ رأسي وصوته يهدر يسألني ماذا كنت أفعل مع البنت هند فوق السطوح، فأجيب: كنا نلعب. وبدون كلمة، ارتفعت اليد الغاضبة وأحسست صدمة الصفعة تهز جسدي كله، بقوتها المفاجئة، ووقع الإهانة وقسوتها أكبر بكثير من ألم الضربة ولذعها.
مطعونًا بالرعب والدموع، وقلبي يدق بعنف، كنت أسمعه– من بين صفير أذني وغيامة الغضب والخزي– يقول بأننا كبرنا على لعب العيال، وأننا عشنا حياتنا كلها في الحارة لم يسمع لنا أحد حسًّا ولا أمسك علينا خطأً، ويتكلم عن الأصول وحقوق الجيرة، وألسنة الناس التي لا ترحم، والذين لا شيء يشغلهم إلا الخوض في سيرة الناس.
تتلقفني أمي في حضنها الغامر الوثير، أحس طراوته ونعومته. تربت على ظهري وشبح ابتسامة على شفتيها وهي تقول: دا لعب عيال ياراجل. وهل ستأخذ على كلام هذه المرأة، دي مرة هوَّالة.
في قلب الليل، إذ تسكن الأشياء، ترتجف في قيعانه الهمسات الغامضة الغريبة، وتعبق الغرفة برائحة عرق الأجساد المستغرقة في النوم، في الضوء الوسنان. أرقد، مقهورًا خزيانًا، وطيف هند يشاركني فراشي الضيق. أسمع، كما في رؤى منسحبة إلى أبعد الأغوار، الصوت الخشن، زاحفًا، هامسًا، ملحًّا، تتسلل يده إلى جسدها، تزحف أصابعه على طراوة اللحم، وحفيف الأغطية والملاءات تتحرك. وجاء الصوت الخافت، ناعمًا، رخوًا، فيه تمنع: لم نفسك ياراجل. وعاد الصوت الخشن مخبوءًا تحت طيات تكتم خائف متأثم، مطموسًا آمرًا في لهفته لا يقاوم، لا يني يرجف بالاقتحام والرغبة اللحوح.
تجمدت في رقدتي وصمتُّ، صمت الكون كله من حولي مترقبًا، وتحول كياني كله إلى مجرد آذان كبيرة منصتة تلتقط الآن بوضوح، الشهقات المرتجفة المتلاحقة، فحيح يمتزج بتأوه، وارتطام اللحم باللحم طريًّا متدافعًا، والصهيل اللاهث المبحوح، فياضًا غير محجوز، ليس فيه تهيب ولا تحرج، والأنفاس المتسارعة المحمومة، أستطيع أن أميز صوته الخشن من بين ثنائية الصوت المشتبكة في لحظات انفلاتها من الإيقاع، ثم الأنين الأجش المكتوم المنتشى. يلتقطان حبل أنفاسهما اللاهث، ينتهي إلى تنهيدة منهكة ساخنة، وصمت مفاجئ عميق يلف المكان... ثم غمرني ارتخاء لذيذ.