طالما كان الفلاسفة والمفكرون والمبدعون والمثقفون والكتّاب المتنورون، هدفاً للتعنيف من قبل السلطتين السياسية والدينية، حيث تقومان بالتضييق بشتى السبل عليهم، وقد يتم الاعتقال والزج بهم في السجون، بل أبعد من ذلك إذ وصل الأمر إلى القتل الشنيع، بل أكثر كحرقهم وهم أحياء، والتمثيل بجثثهم، أو صلبهم فوق ألواح خشبية في أماكن عامة، وتعذيبهم وجلدهم وتركم يموتون ببطء. في تاريخنا الكثير من الصفحات التي دوّنت أساليباً متعددة في القتل، تعكس همجية موغلة في الوحشية إلى أبغض الحدود، وتستحضرنا عدة أسماء لأشخاص كان عندهم رؤى مختلفة عما هو سائد، وحاولوا تحريك المياه الآسنة، ودفع العامة لإعادة التفكير في المسلمات، وخضّ الأفكار والقناعات لدى الغوغاء الذين كان يجري توظيفهم من قبل السلطة الطاغية لمواجهة أي صوت حر يوخز ورم الجمود الجاثم على العقول والأفكار والبصيرة، على أمل الشفاء لتحريك الواقع وتغييره ولو قليلاً.
إعدام أول رجل بسبب أفكاره
لقد تعرض كثير من الفلاسفة على مر التاريخ للاضطهاد والقهر، وصل إلى حد القتل، وكان إعدام الفيلسوف اليوناني "سقراط" قد شكل واقعة غير مسبوقة في التاريخ البشري لإعدام إنسان بسبب افكاره ومواقفه، وهي بذات الوقت أول موقف عدائي معلوم من الفلسفة، حيث تحالفت السلطتين السياسية والدينية لمحاربة التفكير الحر وعدم التسليم بما يقال، الذي كان يدعو له سقراط فتم قتله بتهمة إفساد عقول الشباب. في العصور الوسطى تعرض العديد من الفلاسفة والعلماء للاستبداد والقهر والإذلال، وهذا ما حصل مع عالما الفلك البولندي "نيكولاس كوپرنيكوس" والإيطالي "جاليليو جاليلي" اللذان وضعا حجر الأساس للفيزياء الحديثة، وأول من صاغا نظرية مركزية الشمس وكون الأرض جرماً يدور في فلكها. ووصل الإرهاب الفكري حداً تم فيه حرق الفيلسوف والعالم "جوردانو برونو" حياً في ميدان بروما على يد رجال الدين الكهنوت لأنه تبنى نظرية كوبرنيكوس وجاليلو. كذلك تعرض المكتشف "كريستوفر كولومبس" لانتقاد رجال الدين الذين حذروه إن ما وصل إلى حافة الأرض فسوف يسقط هو وبحارته ويهلكون. لكنه مضى في رحلته التي أوصلته إلى اكتشاف القارة الأمريكية.
في التراث الإسلامي
في الخلافة الإسلامية نجد أمثلة شبيهة لعل أشهرها قيام الخليفة العباسي "ابي جعفر المنصور" بقتل "ابن المقفع" صاحب كتاب "كليلة ودمنة" بتقطيع أطرافه وإلقاءها في النار وهو حي، والتهمة هي قيام ابن المقفع بنشر الرسالة التي كان قد أرسلها إلى المنصور بهدف الإصلاح، وانتقد فيها موقف الفقهاء الذي يدعو الناس إلى الطاعة المطلقة للخليفة والولاة، الرسالة المعروفة "رسالة الصحابة"، وتم قتل صديقه صاحب البلاغة الشهير "عبد الحميد الكاتب" بوضع وعاء محمى من النحاس فوق رأسه حتى مات ببطء. ومن الأمثلة الأخرى في التاريخ الإسلامي قيام "صلاح الدين الأيوبي" بأمر ولده الملك الظاهر بقتل الفيلسوف "شهاب الدين عمر بن محمد بن عبد الله السهرودي" المعروف بالسهرودي المقتول، ولا يمكن لأي مثقف أن يغفر لصلاح الدين -مهما كانت عظمته- هذا الفعل. السهرودي كان شيخاً وعالماً زاهداً محدثاً تم سجنه وتركه يموت جوعاً بسبب فتنة ومكيدة أعدها له فقهاء حلب الذين أفتوا في قتله بعد اتهامه بالزندقة.
في العصر العباسي تم أيضاً إعدام الشاعر والفيلسوف الصوفي "أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج" المعروف بالحلاج. حيث نشب خلاف بينه وبين أعلام الصوفية في عصره الذين كانوا يؤثرون العزلة عن الناس تاركين تدبير أمورهم إلى الله، لكن الحلاج تملكته نزعة إصلاحية حملته على الجهر بأفكاره لعامة الناس، وانتقاد الأوضاع السائدة، فتم الإيقاع به بمكيدة واتهامه بالزندقة والإلحاد، وسُجن ثم صلب حياً حتى فاضت روحه بعد أن تم جلده بشدة، وبعد موته قطع رأسه وحرق جثمانه. وكذلك قيام الخليفة العباسي "المهدي محمد بن المنصور" بقتل الشاعر والحكيم "أبو الفضل صالح بن عبد القدوس الأزدى" بتهمة الزندقة.
علماء يضطهدون علماء
لم يتوقف الأمر عند قيام السلطتين السياسية والدينية بممارسة الاضطهاد والجور للفلاسفة والعلماء، بل أن بعض الفقهاء والمؤرخين شاركوا بهذه الأفعال، حين كان يتم إلقاء تهمة الكفر والتجديف على كل من يخالفهم الفكر. على سبيل الذكر لا الحصر فإن المتصوف الأندلسي الإمام "محي الدين محمد بن علي بن محمد بن عربي" المشهور بابن عربي اتهمه فقهاء عصره بالكفر والضلال، وهو الذي يعتبر شيخ الصوفية، وكان يميز بين المنهج العقلي الاستدلالي الذي يستعمله الفلاسفة، وبين منهج الصوفية في المعرفة الذي أسماه الذوق، وقال إن الأولين أصحاب فكر لا ذوق، والآخرين أصحاب أذواق وأحوال، لا أصحاب فكر واستدلال. أفكار ابن عربي وخاصة كتابه "ترجمان الأشواق" كانت سبباً في توجيه تهم توظيف الرمز لستر ما ينافي الدين. وقام كل من "ابن تيمية" و "ابن خلدون" بتكفيره، ثم انقسم الناس حوله فمنهم من كفره وبدعه وهم أكثر العلماء، ومنهم من عده الشيخ الأكبر وعده من كبار الأولياء وهم الصوفية، ومنهم من اعتقد ولايته وصلاحه ومع ذلك حرم النظر في كتبه.
وزارة الزندقة
في واقعة غريبة أخرى حصلت في القرن الثاني الهجري، فقد أنشا أمير المؤمنين "المهدي محمد بن المنصور" وزارة من مهماتها ملاحقة الزنادقة، وسميت "ديوان الزنادقة"، اشتهر هذا الديوان بملاحقة من كان يعتبر زنديقاً لخروجه عن الثوابت والمقدسات، بل أن مهام هذا الديوان اتسعت بحيث نال كل من يخالف الأمراء والفقهاء العباسيين، وتحول الديوان إلى محكمة تفتيش. حيث تم إلقاء القبض على جميع الزنادقة وأمر الخليفة بقتلهم جميعاً وإحراق كتبهم. لكن تهمة الزندقة رفعت أيضاً في وجه الخصوم لأسباب سياسية. أذكر هنا في هذا السياق قيام الخليفة "أبو محمد موسى الهادي" المعروف بالهادي ابن الخليفة "أبي جعفر المنصور" بقتل " يعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة" بتهمة الزندقة بناء على وصية من والده المنصور.
وبالرغم من أن الخليفة العباسي "عبد الله المأمون" ابن الخليفة "هارون الرشيد" كان مهتماً بالعلم والعلماء وبالبحث العلمي، وأسس جامعة بيت الحكمة في بغداد، وشهدت فترة حكمه ازدهاراً علمياً، واعتبرت فترة حكمه نقطة تحول في تاريخ الفلسفة الإسلامية من خلال انفتاحها على الفلسفة اليونانية، إلا أنه يعاب على المأمون غياب حرية الفكر الفلسفي في فترة حكمه، وتم في عصره امتحان الفقهاء ورجال الفكر بذريعة محاربة الزندقة، وقد كان يشارك بنفسه في مناقشة العلماء فيما سمي "محنة القرآن" وما تبع ذلك من قتل وسجن وأذية المخالفون لفكر الدولة. الخليفة المعتصم "أبي إسحاق محمد المعتصم بالله بن هارون الرشيد بن المهدي بن المنصور" ثامن الخلفاء العباسيين، المشهور عنه قصة وامعتصماه، اتهم "علي بن عبيدة الريحاني" بالزندقة، وهو أحد أهم البلغاء الفصحاء في عصره، حتى قيل إنه أهم من الجاحظ بلاغة.
الشاعر الشهير والضرير "بشار بن برد العقيلي" رغم أنه كان سليط اللسان، فقد ذهب كثيرون أن سبب قتله من قبل الخليفة المهدي ليس زندقته إنما هجائه للخليفة ببيتين قالهما، أوردهما هنا لمن لا يعرف الواقعة "خليفة يزني بعماته-يلعب بالدبوق والصولجــان -أبدلنا الله به غيره- ودس موسى في حر الخيزران".
الحجاج بن يوسف الثقفي قام بقتل الشاعر "الأعشى الهمداني" لأنه كان من أنصار ثورة "ابن الأشعث" الفاشلة فضرب الحجاج عنقه بعد أن هجاه الأعشى. الشاعر "طرفة بن العبد" قتله ملك الحيرة "عمر بن هند" بتقطيع قدميه ويديه ودفنه حياً، وكان طرفة ما زال شاباً صغيراً، لأنه قام بهجاء الملك. الشاعر واللغوي والفيلسوف "أبو علاء المعري" رغم اختلاف الأقوال حوله، بين كونه متشككاً في عقيدته ومندداً بالخرافات، وبين من اعتبره يهاجم أصحاب الديانات وليس الديانات ذاتها، إنما وجهت له تهم الزندقة والتجديف. حيث قال فيه "أبو الفرح بن الجوزي" أن "زنادقة الإسلام ثلاثة، ابن الراوندي، وأبو حيان التوحيدي، وأبو علاء المعري، وأشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنهما صرّحا، وهو مجمج لم يصرح".
الإمام "أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي" الفقيه والعالم وأول الأئمة الأربعة، وصاحب المذهب الحنفي في الفقه الإسلامي، تعرض للاضطهاد حين ساند حركة "زيد بن علي" على الخليفة الأموي "هشام بن عبد الملك" وهرب على أثرها إلى مكة. وهو الذي شهد الخلافتين الأموية والعباسية. وتعرض لمحنة ثانية حين رفض عرض الخليفة المنصور بتولي القضاء والقيام بإفتاء ما يصدره الخليفة من أحكام، فأنزل به المنصور السجن والعذاب.
كما ان الإمام "أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل" أحد فقهاء المسلمين، ورابع الأئمة عند أهل السنة وصاحل المذهب الحنبلي، قد عانى الأمرين أيضاً في محنة ما سمي "خلق القرآن" التي استمرت خمسة عشر عاماً، وقام الخليفة "المأمون" بسجن الإمام أحمد لمدة تزيد عن عامين. وسميت محنة خلق القرآن لأن المأمون سعى لفرض أرائه وأفكاره الفلسفية على العلماء، وكان يوجه إلى أشخاص بعينهم سؤالاً يتعلق فيما إذا كان القرآن مخلوقاً أم لا. وفي ذات المحنة قام "خلد بن عبد الله القسري" والي الكوفة، بقتل "الجعد بن درهم" الذي قال إن القرآن مخلوق ومُحدث.
وهكذا بدءًا من عهد الخليفة المنصور مروراً بالخلفاء المهدي والهادي والمأمون والمعتصم، تم توظيف تهم الزندقة سياسياً إضافة إلى عمقها الفقهي الديني، وتم محاربة واضطهاد حركة الزنادقة التي تكونت من مفكرين وشعراء وأدباء وفلاسفة أصحاب التفكير الإسلامي الحر، تمت ملاحقتهم محاكمتهم وإدانتهم من طرف السلطة السياسية ومشاركة السلطة الدينية التي قمعت الفكر النقدي، وصنفت معظم الفلاسفة على أنهم ملحدين غايتهم إفساد العقيدة الإسلامية.
محارق الكتب
يعمد بعض المفكرين والكتّاب نتيجة الهلع الشديد من السلطة لإفراطها في التعذيب والتنكيل، إلى تقديم براءة ذمة إما بإخفاء إنتاجهم أو حرقه والتخلص منه، وهذا ما فعله الفيلسوف والأديب صاحب القول الشهير "لا كرامة لنبي في قومه" وهو "ابي حيّان التوحيدي" الذي حرق مؤلفاته نتيجة الإجحاف الشديد الذي تعرض له من قومه والسلطة الحاكمة حينذاك. ويحدث في العالمين الإسلامي والعربي أن تجد مفكراً أو كاتباً قد فقد نصف سنوات عمره في البحث والتحليل ومناقشة النظريات والأفكار، وفي والكتابة والتأليف، وتكون النتيجة أن يقابله عامة الناس من مجتمعه بالإهمال بل بالاستهزاء والسخرية، والمؤسسات الثقافية تدير ظهرها لإبداعاته بل وتنكرها خاصة إن كان كاتباً تنويرياً، وقد يقع في شر مؤلفاته إن رأت إحدى السلطتين السياسية أو الدينية خروجاً عما هو مألوفاً من أعراف وقواعد سائدة في كتاباته.
لو طالعت صفحات التاريخ لأصابك عسر الفهم ومسّك العجب وأنت تتابع قيام الكثير من الكتّاب والأدباء والفلاسفة والمفكرين في إتلاف إنتاجهم الثقافي حرقاً أو رمياً في الأنهار أو دفناً في قاع التراب. كثيرة هي الأمثلة، ومنها قيام الواعظ الزاهد "يوسف بن أسباط بن واصل" المشهور بالشيباني، بدفن مخطوطاته في أحد الكهوف وأغلق عليها بصخرة. وأما الصوفي "عبد الرحمن بن عطية" الملقب "أبي سليمان الدراني" نسبة إلى مسقط رأسه في داريا بغوطة دمشق، فقد أحرق مؤلفاته وهو يبكي ويقول ما حرقتك حتى كدت أحترق بك.
الاتهامات بالزندقة والكفر والإلحاد والخروج عن الجماعة، كانت دوماً حاضرة لوصم الفلاسفة والمفكرين والمبدعين المتنورين، واللافت وجود ثلة من المتربصين كانت دوماً حاضرة تنبري للإيقاع بهؤلاء المفكرين، خاصة إن تعرضت مصالحها للنقد والمسائلة وإن تم كشف عورتهم. في تاريخنا قام حوالي أربعين عالماً ومفكراً وأديباً بإتلاف مؤلفاتهم عمداً، بسبب الخشية من السلطان الجائر. بالرغم من وجود عدد من المفكرين أزهق مخطوطاته لأنه شعر بعدم جدوى ما يكتب أمام مفارقات واقعه وضنكه، واللامبالاة التي يلمسها من محيطه بسبب تراكم الجهل وإهمال المبدعين وعدم الالتفات لرؤيتهم وفلسفتهم. لكن أغلبية المفكرين تخلصوا من مؤلفاتهم خوفاً من السلطتين السياسية والدينية التي لم تتوانى عن اتهامهم بالكفر والانحراف، فقاموا بالتخلص من أوراقهم للحفاظ على حياتهم، وحتى لا تكون مؤلفاتهم وسيلة إدانة لهم من قبل أعداء التنوير والتجديد.
غيض من فيض
أورد هنا بعض الأمثلة على قيام علماء بأفعال غريبة عجيبة نادرة.
العالم الجليل "أبو عمرو بن العلاء بن عمار" الذي ولد في الكوفة عام 70 هجرية وتوفي فيها عام 154، هو أحد القراء السبعة، كان أعلم الناس بالقرآن الكريم والعربية والشعر. رافق والده إلى الحجاز هرباً من الحجاج. يقال إنه عرف من النحو ما لا يستطيع الأعمش حمله. وكان من أشراف العرب ومدحه الفرزدق بشعره. قام هذا النحوي الجليل بحرق مؤلفاته - وقيل طمرها في التراب- نتيجة الإهمال الذي لاقاه وسبب له اليأس.
أيضاً واحد من تلامذة الإمام "أبي حنيفة النعمان" وهو الفقيه الزاهد العابد "داود بن نصير الطائي" الشهير بأبو سليمان الكوفي. ولد العام 104 هجرية وتوفي عام 162. عن زهده قالوا إن داود ورث عن أمه أربع مئة درهم، اقتات بها طوال ثلاثين عاماً. قبل أن يتوفاه الله قام بجمع كتبه خلسة ورماها في أحد الأنهار.
من منا لا يعرف شيخ الإسلام "أبو عبد الله سفيان بن سعيد بن مسروق بن حبيب الثوري" الشهير بسفيان الثوري، ولد عام 97 هجري وتوفي العام 161. كان زاهداً ورعاً، عالماً اشتهر بالفقه وشدة الحفظ. حكايته مع أبي جعفر المنصور معروفة لمعظم الناس، حين رفض سفيان تولي القضاء، وغضب أمير المؤمنين غضباً شديداً منه، وقد أوشك على حز عنقه، أمر بكتابة عهده على قضاء الكوفة على ألا يعترض عليه، فكتب ودفع إليه، فأخذه سفيان الثوري ورمى به في دجلة وهرب من أمير المؤمنين صوب اليمن، وعاش حياته متخفياً عن عيون الوالي. هذا الفقيه الإمام الخاشع التقي قام بتمزيق أكثر من ألف جزء من مؤلفاته، ورهاما في الهواء وهو يقول: ليتني لم أكتب حرفاً واحداً.
شخصية أخرى هو "أبو سعيد الحسن بن عبد الله المرزبان السيرافي"، كان نحوياً عالماً بالأدب، وصوفياً نزيهاً عفيفاً. كان السيرافي يدرّس ويلي القضاء من غير أن يأخذ على التدريس أو على الحكم مالا، لا يأكل إلا من كسب يده، ينسخ الكتب بالأجرة ويعيش منها. ولد العام 284 هجرية وتوفى العام 368. قبل وفاته أخبر ابنه وهو يختضر: يا بني لقد تركت لك كتباً، فإن رأيت أنها ستهلكك فاحرقها وتخلص من أذيتها.
"محمد بن العلاء بن كريب الهمداني الكوفي" المعروف بكنيته أبي كريب، الإمام الحافظ، شيخ المحدثين، ولد عام 161 هجرية وتوفي عام 248. قال السلف ما بالعراق أكثر حديثاً من أبي كريب. هذا الشيخ الجليل أوصى بدفن كتبه معه حين يحين موته.
قام الخليفة المتوكل بجلد الفيلسوف العالم "يعقوب ابن اسحق الكندي" وأباح مكتبته الضخمة، لأن الوشاة شوهوا سمعة الكندي أمام الخليفة. ولم تشفع للكندي كافة إنجازاته في فروع العلم، وأهمها قيامه بترجمة أهم كتب الفلسفة اليونانية إلى العربية في عهد المأمون، إضافة إلى مساهماته المهمة في الطب والرياضيات والفنون وعلم المنطق والكيمياء.
هذا ما يجيد فعله الحاكم بمعاونة حاشيته، مدفوعاً بالأطماع والمصالح التي تبتغي أن يظل الناس في قاع الجهل والتخدير العقلي وتغييب الوعي وفقدان الأمل بالأفضل والأرقى. هذا ما تفعله السلطة ماضياً وحاضراً، حين تنكس رأسها صوب الأرض، كي لا ترى ما يحصل من تقدم وتطور وتحضر وتنوير في هذا العالم. هكذا سيبقى الحاكم والسلطة ما دامت الشعوب تتصارع فيما بينها قبائلاً وطوائفاً ومذاهباً وأعراقاً، وتحتكم لقوانين الجاهلية، تائهة في بداوة بدائية، تقتات على شوك صحراوي في وقت يشكو فيه الأبناء والشباب من جوع حضاري لا ينفع معه سوى تغيير بنيوي شامل كامل لكافة مفاصل أطراف هذه الأمة.