إعلاء لقيمة ثقافة النقد والرفض والأمل في مستقبل مختلف، واحتفاء بالمسكوت عنه تنشر (الكلمة) هنا هذا اللقاء المتميز مع الشيخ إمام عيسى الذي حلت مئويته في العام الذي انصرم، ولم يحتفل بها أحد، بينما احتفلت المؤسسة بمئوية السادات الذي مازالت مصر تعاني من سياساته المشؤومة حتى اليوم.

حكاية الشيخ أمام وحكاياته

إبراهيم داود

 

انشغل المهتمون بالشيخ إمام - طوال الوقت ـ بتاريخه الذي بدأ مع هزيمة يونيو (1967)، وسجله ومواقفه السياسية وعلاقته بالفاجومى الكبير احمد فؤاد نجم .. متجاهلين هذا الكفيف الذي قادته قدماه من مقابر اليهود .. حيث خطفه صوت الست أم كلثوم فى "ليه تلاوعينى" عند مدخل "حوش قدم "ليبدأ حياة جديدة بين صناع الوجدان العظام فى الثلاثينيات والأربعينيات .يتحدث " إمام" هنا .. فى أمور قد لا تعنى غير عشاق الغناء القديم وفن التلاوة وسحر العالم السري لقاهرة المعز في الزمان البعيد .. يتحدث الشيخ لنشم رائحة الليالي الصافية والرحابة والبهجة والإيمان ... والغناء الخام والبساطة ...
فى قرية أبو النمرس التابعة لمحافظة الجيزة ولدت سنة (1918)، لأبوين فقيرين ... أبى كان يبيع زجاج المصابيح، يدور فى البلاد على رأسه بها، ويعمل أيضا مدريا للقمح بالأجرة فى القرى المجاورة .
فى السنة الأولى من ولادتي، لا أعلم في أي شهر، فقدت بصري وعندما بلغت الخامسة ذهبت الى الكتاب لحفظ القرآن الكريم، كنت أستمع وأنا في السابعة الى عماتي وأمي وهن يغنين أثناء تنقية القمح وفى مناسبات الحج والفرح، كان غناء شجيا يأخذني ويجعلني لا أتحرك .. وكان يصل الحال بهم الى البكاء وهم يتغنون .. ومن هؤلاء اكتشفت معنى الغناء وأنني وهبت الموهبة الموسيقية .
كانت "أبو النمرس" تابعة للجمعية الشرعية، والتي يوجد مقرها الرئيسي فى القاهرة (في المغربلين) .. من أهداف هذه الجمعية عندما يحدث "فرح" فى بلد يتبعها يخرج واحد من الجمعية ليلقى محاضرة تتناول مراسم الزواج وما يجب أن يحدث، وآخر يلقى تواشيح بعد المحاضرة .. يتم اختيار ثلاثة للعمل ككورال لهذه الموشحات .. وكان أبى دائما وسط الكورال المختار .. وبالتالي أنا معه .. أُعجب الشيخ بي وقال لأبى: بعد إتمامه المصحف يأتي الى قصر الجمعية، يجود القرآن، ويتعلم شئون الدين .. فاستبشر أبى.
وبعد أن أتممت المصحف ... كنت قد بلغت الثانية عشرة .. أخذني أبى الى هناك .. ولم تكن المرة الأولى التي أنزل القاهرة فيها، لأنني عندما كنت في الكتاب كان يأخذني عمى لصلاة الجمعة عند الشيخ محمد رفعت في مسجده في درب الجماميز، وكان اسم المسجد جامع فاضل باشا "مسجد بتشاك" .. واذكر انه في أول جمعة صليتها عنده ذهبنا للسلام عليه، أنا وعمى، فلما أمسك يدي أحس الشيخ رفعت أنني كفيف، لأنه كان كفيفا هو الآخر، فسألني عن إسمي، وسألني: هل تذهب الى الكتاب؟ ثم قال: سيكون لك شأن عظيم .. وكان عمري في ذلك الوقت سبع سنوات.
عندما ختمت المصحف جئت الى القاهرة مقيما .. حيث الجمعية، كان مؤسسها من الصوفيين الأفاضل، من الذين يعلّمون العلم لوجه الله، وكان أسمه الشيخ محمود خطاب السبكي .. تعلمت التجويد على أحد رجال الجمعية، وكان إماما من أئمة علم القراءات .. وعملت مساعد موشح ثم ترقيت حتى أصبحت موشحا .. ظللت في هذه الجمعية حوالي 4 سنوات الى أن توفى مؤسسها الشيخ السبكي .. كان الراديو في ذلك الوقت حديثا، وكان محمد رفعت العلم الوحيد للإذاعة، يقرأ مرتين كل أسبوع (جمعة وثلاثاء) وكنت أحرص على سماعه، أما في الجمعية فكان سماع القرآن في الراديو حرام .. الى ان "ضبطني" أحدهم وأنا أستمع الى الشيخ رفعت في الراديو فذهب وأبلغ الجمعية عنى .. ففصلوني!
وعندما علم أبى بخبر فصلى، ضربني وشتمني، فأصبحت بلا مأوى أجلس نهارا في جامع سيدنا الحسين وليلا أنام في "الأزهر" .. في هذه الفترة شاهدت الويل .. وعرفت الكثير .. كم سُرقت منى "عمم" وأحذية في "الأزهر" وأنا نائم .. كنت "أتلفلف" في الحصيرة مثل " الكرنبة" وأستيقظ أجد نفسي "مقرفص" والجو يهمى ثلج "بلا عمة ولا حذاء وحالتي كدر".

عبد النور باشا !
فى هذه الفترة جاءني رجل وأنا جالس ذات يوم في جامع سيدنا الحسين وقال لي: السلام عليكم ياسيدنا الشيخ، فقلت عليكم السلام .. وقدم لي نفسه .. وقال انه يعمل عند باشا يدعى عبد النور باشا .. ودائما يكلفه بجلب مقرئين من "الحسين" للقراءة عنده كل خميس، ويعطى "نفحات" وقال انه سمعني ويريد أن يأخذني للقراءة عنده ..
يوم الخميس كنت على أهبة الاستعداد، لابسا الجبة والقفطان .. جاء الرجل .. وخرجنا كنا صيفا في عز بؤونة في الواحدة بعد الظهر وظللنا نمشى لأكثر من ساعة وسط اللهيب، الى أن دخلنا الى مكان أحسست فيه نسيما وقال لي: نحن الآن في حديقة الباشا .. والباشا عادة ما يكون نائما في هذا الوقت. وباستطاعتك أن تنام قليلا وسوف أوقظك في الرابعة لتلبس ملابسك وتصعد له .. وقال اخلع "هدومك" لكي أعلقها لك، فقلت عندما أدخل الغرفة التي سأنام فيها فقال لي بأنه سيأخذني وملابسي بعد ذلك الى تلك الغرفة .. فقلت: إنني لا أستطيع إلا داخل الغرفة فأخرج سكينا وقال: تقلع ولا تتقطع؟ فخلعت كل ملابسي باستثناء ما يستر العورة .. وأخذ كل شيء وتركني ..
ظللت أبحث في تلك الحديقة عن أي شيء .. دون جدوى، فانهمرت في البكاء .. لا ذبابة ولا عصفورة .. تعبت من البكاء ومن الوقوف ومن الجلوس .. ثم جاءتني فكرة .. أبحث عن الباب الذى دخلنا منه .. وأقف اليه .. رحت أبحث دون جدوى الى ان وجدت المدخل .. وبعد فترة سمعت صوت أقدام .. فتصدرت لصاحبها .. فخاف .. وظنني عفريتا .. كل هذا وأنا على يقين أنني في حديقة .. وصرخت في الرجل: أنا بنى آدم .. وأخيرا جاء .. وعاينني وتأكد أنني إنسيّ .. وعندما سألته عن صاحب الحديقة قال لي: أنت في مقابر اليهود .. وحكيت له الحكاية .. فأخذني الى قسم البوليس لعمل محضر .. ثم أخذني الى بيته وأعطاني جلبابا وحذاء .. وأمر زوجته بخدمتي وجلست عنده ثلاثة أيام .. لا أذكر اسم هذا الرجل الكريم .. الذى كان يسكن في منطقة تسمى كوم الشيخ سلامة .
بعد الأيام الثلاثة قادتني قدماي الى "حوش قدم" .

القاهرة 30
جئت الى حوش قدم عن طريق الصدفة .. أول دخولي الى الحارة .. عند مقهى عاشور يوجد "مزين" كان أسمه محمد بيومى .. سمعت عنده أم كلثوم تغنى "ليه تلاوعيني" في الاذاعة وكنت أسمعها للمرة الاولى فوقفت "متسمر" فناداني "الأسطى" وطلب منى أن أقرأ شيئا من القرآن، وبدأت القراءة حتى اجتمع عدد غفير من أبناء المنطقة التي كان عدد كبير من ملاك بيوتها من " ابو النمرس" أو نمارسة كما يقولون .. تعرفوا على ورحبوا بي .. وبدأت أقرأ "رواتب" عندهم .. كان عمرى 18 سنة أي سنة (1936) .. سكنت في غرفة في بيت في جبلاية في آخر بيت "غانم النمارسى" .. بثمانية قروش في الشهر، وفى هذا البيت وحده كنت اقرأ في ثلاث شقق، آخذ من كل واحدة خمسة قروش، في هذه الفترة كان كل سكان البيوت يجلسون على طبلية واحدة و"لا يوجد ساكن وصاحب بيت" واذا غاب فرد يتم البحث عنه .. كان هذا شأن القاهرة كلها، كان التجار الذين أقرأ في محلاتهم .. يصلون الفجر ويفتحون هذه المحلات ويأتي العمال يرشون الماء ويبخرون المحلات ثم يأتي "الفقي" يقرأ .. ومن التقاليد الجميلة التي شهدتها عند التجار .. يأتي زبون لشراء شيء .. ثم يأتي زبون آخر يطلب شيئا .. يكون موجودا عندهم .. فينكرون وجوده ويدلونه على المحل المجاور .. لكى " يستفتح" هو الأخر .. كان هذا شأن الشعب كله .. في كل المهن .. أخذ وعطاء .. ومحبة .
وأنا أقرأ ذات يوم عند محمد بيومي المزين دخل الشيخ درويش الحريري للحلاقة .. وكان من سكان الدرب الأحمر فاستمع لي وقال : ياسيدنا الشيخ (يقول لى أنا سيدنا الشيخ!) .. كان أستاذا يدرّس الموشحات في معهد الموسيقى العربية ويعلم القراءات أيضا في ( معهد فؤاد) (ومعهد فؤاد غير معهد عابدين الذي كان صاحبه إبراهيم شفيق .. )
قال لي الأسطى هذا هو الشيخ درويش الحريري الذي علم محمد عبد الوهاب وزكريا احمد .. فقمت وقبلت يديه .. وعندما أوصاه الأسطى على وقال له: علمه، قال الشيخ : نحن نتعلم منهم
ومنذ تلك اللحظة "لبدت فيه وقلت له "أنا قتيلك" وأريد أن أتعلم .
تعرفت في هذه الفترة على عمنا الشيخ زكريا احمد الذي كان يقضى جميع سهراته في "حوش قدم" حيث كان يعد ألحان أم كلثوم في هذا البيت الذي كنت أسكنه،
وظللت مع الشيخ درويش طوال الوقت أتعلم منه عن طريق التقليد، ولم أفارقه إلا في فترات "الرواتب" .. التي كنت أنجزها وأنام قليلا ثم أجرى الى بيته ... وكان لا يبخل بعلمه على أحد .
وكان يذهب الى بيته كبار الملحنين والمطربين أمثال أمين المهدي (أفضل عازف عود) وصالح عبد الحي ومحمد عبد الوهاب .. وكان عبد الوهاب يتلقى الدروس عنده وكان شوقي بك هو الذي يدفع الأجرة للشيخ درويش .. ولكنني لم ألحق فترة عبد الوهاب ..
أمشى معه طوال الليل وأذني عند فمه .. كنت أسجل حتى "الزنة" كنت أمام كنز .. معه أينما ذهب .. لأنه وجد فيّ استعدادا للتعلم وتلميذا غير المكفوفين الذين يتمتعون بقدر كبير من " الألاطة" .. كنا نذهب الى بيته في الرابعة صباحا بعد السهرة .. فيقول لزوجته : "هتأكلينا أيه ياأبلتى" فتقول كذا ... فيجيبها : مثلا! وبعد أن "آكل" يقول لى: "عارف بيتكم أقول له: طبعا يقول: عليه !
كانت حياته لا تنسى، طبيعة خالية من العجرفة .. أستاذ .. ديمقراطي .. كان لنا صديق مكفوف نجتمع عنده في الخرنفش أنا والشيخ (وكان كفيفا هو الآخر) مع أكثر من عشرين مكفوفا بزوجاتهم (المكفوفات) .. نقسم الليلة على عدة أشياء .. مرات مطارحات شعرية والمخطئ يدفع قرش صاغ .. وكنت أجمع أنا والشيخ درويش كل ليلة ثلاثين قرشا في المتوسط .. لزوم الحجرين والذي منه .. ومرات نغنى .. (يمسك الشيخ الرق .. الملحنون القدامى كانت مهمتهم مسك الإيقاع، لان الملحن اذا كان جاهلا بعلم الإيقاع .. "طز فيه" وهذا العلم يأتي من الموشحات) ونغنى موشحات وأغنيات من التراث القديم وكنت في هذه الأيام على وشك التعرف على الشيخ زكريا احمد الذي تعرفت عليه سنة 1939 عندما كان يأتي عندنا في حوش قدم عند عائلة الشعبينى، أصحاب البيت الذي اسكنه كان يسهر من 8 الى 8، كان ساحرا، يقلد الحواة والفقهاء بتوع القرافة .. كان يجنن .. أحبني الشيخ زكريا لأنني كنت كلما سمعت الجملة أقولها معه "من أول مرة" في الإعادة، احبني أيضا "سى" على الشعبينى الذي كان محبا للموسيقى وكنا نلتقي صباحا، نصطبح سويا .
في هذه الفترة كنت أغنى في " الحتة" كهاو .. في سبوع، في عيد ميلاد، في طهور .. وأقول لهم أسمعوا الأغنية التي ستغنيها أم كلثوم الشهر القادم .. وتعلمت أصول الموسيقى دون أن أتعلم العزف على العود .
كنت أعرف النغمات وأصولها والأرباع والأنصاف والمقامات ولكنني لا أعزف، لأنني كنت أظن أن المكفوفين لا يتعلمون العود، الى أن جاءت سهرة عزف فيها العواد الماهر كامل الحمصاني وكان موجودا زميل مكفوف .. عزف هو الآخر على العود .. فجن جنوني وقررت أن أتعلمه .. وقلت لصديقنا هذا: علمني كيف أضع أصابعي على الأوتار وأخذت معه خمس حصص وبدأت أمرن نفسي بعد أن اشتريت عودا بخمسين قرشا ..
فى سنة (1945) أشار على البعض أن اخلع العمة والكاكولا والقفطان، لأنه لا يصح أن ألبسهم وأنا أحمل العود .. ولم يكن لدى ما يمكنني من شراء بدلة .. فأعطاني "سى " على الشعبينى بدلة وقيفتها، كانت فرحة الدنيا عندي لا تعادلها فرحة .. وأسكنني الشعبينى في بيته مجانا .
بدأت أغنى محمد عثمان والشيخ زكريا وموشحات عمى الشيخ درويش وبدأت أمارس الغناء كمحترف .. وتركت احتراف قراءة القرآن ... عائلة الشعبينى مغاربة في الأصل .. وكانوا يعطفون عليّ .. كانوا أثرياء "كويسين" ونفسيتهم حلوة، وكان والدهم طه الشعبينى من علماء الأزهر، وكان ابوه هو الذى اشترى هذا البيت وكان على الطريقة الشاذلية .. وهذا البيت كان للخزين فقط للسمن والقمح والبصل وغرفة للأولاد يستذكرون فيها (هي التي يسكنها أخونا نجم) ناس أهل خير آل الشعبينى .. كانت بيوتا .. وكان خيرا، بيوت مفتوحة للجميع .. شأنهم شأن الشعب المصري .. تترك شقتك مفتوحة وتغيب سنة، تعود .. وهى كما هي .
ظللت محترفا للغناء حتى سنة (1962) سنة تعرفي على الشاعر أحمد فؤاد نجم .

رفعت/ أم كلثوم/ فتحية/ على محمود
كان الشيخ رفعت رحمة الله عليه يأخذ ابنه ويبحث عن ميت عند "ناس فقراء" ويقرأ فيه .. ويدفع اللى فيه النصيب، وكان الوحيد من بين المقرئين الذى يحرص المسيحيون على سماعه، أرادت الاذاعة عندما كان مستشارها سعيد لطفى ان تسجل له المصحف كاملا حتى يتم الاستغناء عنه، فقال لهم لا مانع عندي بشرط ان اذيع، وتظل هذه التسجيلات حتى اموت فرفضوا .. وفصلوه . لكن التلغرافات التي جاءت للإذاعة من كل مكان أرغمتهم على اعادته .
صوته مثل صوت ام كلثوم يشبه العسل النحل أول قطفة، صوتان جاد بهما الزمان في "قصعة" الحلاوة .. صوتان مكتملان من القرار الى الجواب (يعنى ثلاثة أوكتافات). هناك صوتان لا يملكان حلاوة الصوت ولكنهما من الناحية الفنية أساتذة عمالقة هما .. الشيخ على محمود والست فتحية أحمد .. رفعت وأم كلثوم صوتان لا مثيل لهما ولكن فنهما "على قدهم" .. انما على محمود نهر متدفق للفن بدون حلاوة صوت، ولكنه يشعرك بفنه أنك في الجنة كذلك فتحية .. التي علمت أم كلثوم. الست فتحية أبوها كان الشيخ أحمد الحمزاوى وأمها كانت بمبة كشر، أبوها كان من حفظة القرآن ولكنه كان يذهب الى الأفراح ليقول منولوجات في فترات راحة المطرب .. وكان يحمل ساعة اسمها " ليديا" في حجم الرغيف .. ولم يكن يجيب على من يسأله عن الساعة الا اذا قال له يامستر أحمد .
من الأشياء التي كان يضحك الجمهور بها على سبيل المثال .. قصيدة لحنها الشيخ أبو العلا محمد تقول: غيرى على السلوان قادر
وسواي في العشاق غادر
لي في الغرام سريرة
والله أعلم بالسرائر
فيغنى الشيخ الحمزاوي اللحن الأصلي ومعه بطانته المكونة من اثنين أو أكثر حتى يصل الى
" والله أعلم"بالس....." فيردون عليه: ياقطة .. ياقطة ..
والست فتحية تعلمت على الشيخ درويش الحريرى .. أم كلثوم لم تصل الا بحلاوة صوتها .. أما علمها بالنغمات فكان غير دقيق، الفن في الأساس ألحان محددة "مزمنة" .. أما فتحية فكانت أستاذة لأنها شربت فنها من كامل الخلعي ومن سيد درويش ومن درويش الحريرى .. "أتعجنت" وسطهم ثانيا كانت من أسرة فنانين، أبوها يلم بالوسط، ثم أخواتها الثلاث مطربات، مفيدة، رتيبة، نعيمة (نعيمة المصرية)، وكانت بنت بلد (مولودة في باب الشعرية) .. ولو كانت حافظت على ما كسبت لاشترت نصف مصر .. ولكن هذا الجيل كان "هلوكى" هاتى ياسدرة .. ودى يامدرة".

الحامولى
سأحكى حكاية قالها لي الشيخ درويش الحريري عن سيدة تسكن بجوار السيدة زينب، وكان لها ولد وحيد، تعبت في تربيته، ووجدت له أخيرا بنت الحلال التي سيتزوجها، ودارت تدعو فلانة وفلانة .. قالت احداهن لها : "انت ياختي فرحانة كده ليه .. تكونيش داعية عبد الحامولي" .. في الوقت الذى كان يمر فيه عبده الحامولي مصادفة فسمع ما قيل ومشى خلفها حتى عرف بيتها .. ثم ارسل الفراشة لإقامة الصوان والطباخ والجزار الى هذا البيت .. وأم العريس في دهشة .. ثم دار عبده الحامولي على معارفه من كبار رجال الدولة ومن الأعيان وقال لهم اللى عايز يسمع عبده الحامولى يأتي في المكان الفلاني. وذهب عبده ومعه تخته والمعازيم من أصحاب العزة والسعادة والمعالى وشرع في الغناء، ثم اخرج منديله المحلاوي وقال: اللي يحب عبده "ينقط" عبده .. وسقطت الجنيهات الذهبية "ترف" حتى امتلأ المنديل عن آخره .. وبعد انتهاء الليلة "طبّق" المنديل وذهب الى أم العريس وقال لها "دي نقطة حبايب العريس .. وأنا لا أمتلك شيئا غير هذا الخاتم وخلعه وأعطاه اياها .. وقال هذه هديتي ..، هل في زماننا هذا من يفعل ذلك؟! كان هذا شأن الفنانين والفقهاء، وكان الفنانون يذهبون لسماع المقرئين وكذلك العكس .. كان هناك ارتباطا وثيقا لأنهما أبناء "كار" واحد هو "كار" الصوت

محمود صبح
قابلت الشيخ محمود صبح مرات قليلة .. كان فتوة ورياضيا .. يلعب حديد وبكس .. وكفيف! وفى عز "طوبة" يخرج بالقميص نصف الكم والبنطلون الشورت .. ويحمل شومة كبيرة جدا يدب بها، في أحدى الجلسات التي كنت موجودا فيها عند عائلة البنداري .. جاءت سيرة المطربين .. فقالت سيدة معروفة كانت زوجة حسن نشأت باشا سفير مصر في لندن آنذاك، فذكرت اسم عزيز عثمان، فقال الشيخ محمود صبح " يازكية هانم أنا محمود .. ومادام محمود هنا مافيش أي أسم يذكر" ... فقالت صحيح .. ولكنى أقول هذا احقاقا للحق .. فأجاب "باقولك أنا محمود .. ولا يوجد غير محمود ... قالت : ياأستاذ لا يستطيع أحد أنكار عبقريتك وأستاذيتك فقاطعها الشيخ :والله لن أعاملك الا باللى في رجلي يا بنت ...
كان يسكن في شارع الملك ... ويذهب الى الاذاعة للغناء ويعزف على كل الآلات الموسيقية .. ويعزف في كل حفل على كل الآلات، فيأخذ الكمان مثلا ويقول بصوته الأجش للعازف "هات الكمنجة علشان اعلمك إزاي تعزف .. وكذلك مع الناياتى وغيره ...
كان مصطفى بك رضا مستشار الاذاعة، أيام كانت على الهواء وقف محمود صبح ذات مرة وقال "أنا ها أغنى موشحة جديدة لي أسمها، غنت لطلعته البلابل .. اسمع واتعلم يا مصطفى بيه .. يابن ...
كان الجميع يخاف منه حتى الموسيقيون وكان رحمه الله بعد ان يفرغ من حفلته في الإذاعة يركب الترابزين ولا ينزل مثل الناس على السلم . محمود صبح كان صاحب لون منفرد في التلحين اذ كان يصنع كلاما عربيا على أنغام تركية .. ولهذا السبب يستحيل أن يكون له تلاميذ، عبد الوهاب فقط هو الذى استفاد منه وأخذ عنه الكثير، كان يلحن وهو جالس في الشباك، "مدلدلا " قدماه ناحية الشارع وكان يسكن في الدور الثالث، وكان يمتلك أكثر من عود ولكل عود تسمية، عود اسمه الكناريا وعود اسمه الكروان وعود اسمه البلبل .. ينادى زوجته، هاتى البلبل يا أم محمد ...وهو في الاصل " ابن ناس أغنياء أصحاب مغلق خشب في شارع تحت الربع" أخوه كان ابراهيم صبح الملاكم الشهير، وكانت الموسيقى بالنسبة له هواية .. كان خفيف الظل .. تجده مثل الجمل الهزور، وفى الوقت نفسه مثل العصفور في رقته ..
ذات مرة أحس أن لصا في البيت .. فأخذ الشومة وانتظره وعندما أحس اللص أنه في خطر اتجه نحو الباب فأمسكه الشيخ محمود .. وقال له "اسمع"! .. أنت وقعت في يد من لايرحم يابن ... ولم تشفع توسلات الحرامى وأخذ الشيخ منه كل ما معه وضربه ضربا مبرحا!
كان له بنت اسمها ثريا .. راحت تغنى أغنية أم كلثوم .. افرح ياقلبي! .. فسمعها أبوها ... ناداها وقال لها : ثريا ثريا! أجابت : نعم يا بابا .. أغلق الباب و"كتّفها" من شعرها وقال لها "أبوكى أستاذ يابنت ... وتغنى حاجات لناس ثانية" ... وراح يضربها .

زكريا
للشيخ زكريا أغنية لحنها لأم كلثوم اسمها "ليه عزيز دمعى تذله .. كل ساعة بين ايديك .. بعد صبر العمر كله .. وانشغال قلبي عليك مش حرام؟.. والله حرام ... وكانت عنده "وصلة" غنائية في الإذاعة .. وكان له صديق عزيز في ذلك الوقت اسمه عزيز فهمى .. فدخل الشيخ للغناء وهو في حالة " سطل" عالية .. وبعد التقاسيم والليالي وما الى ذلك بدأ الشيخ زكريا الأغذية: ليه عزيز فهمى تذله . كان الكيف كيف .. على الفول والسمن البلدي في الإفطار . لماذا؟ لكى نشد على الجوزة بعد ذلك .. تخيل؟ حتى الشاي .. كان هو الآخر لا يخلو منه .. ذات مرة عاد من لبنان حيث كان يقوم بتلحين فيلم أحكام العرب لمحمد الكحلاوي .. وجاء معه بصنف ابن30 فى 60، وكان الشيخ زكريا من أولئك الذين لا يمكن الاقتراب منهم فى هذا الموضوع .. أيام الملك .. اشترى بكل أجر الفيلم حشيش .. كان يجلس ببدلته الإسموكن و"يكرس" "ويخدّم" على الناس ... وكان يأتي بالقماش ويصنع منه "تخاشين" تحت حجر الجوزة، ويخيطه بالإبرة، بحيث لا تكون هناك ربع "تنفيسة" و"المنقد" النحاس "يملاه" عن آخره بالفحم .. ويأتي " بالزراير الصدف" لتكون هى "الحصو" للحجر، وكان يعمل الحشيش "كشرى". و"يوقع" فوقه بعد ذلك وكان يسميه "أبو عمة" القرش على ثلاثة أحجار. لا ملل .. ولا وجع قلب ولا صداع . كان الناس في فرح .. يهربون من الضحك ... اليوم أنت تشد الضحكة من "وشك ..لا من قلبك"، تضحك "برو عتب".. ولكن لابد من التفاؤل .. وتشد الضحكة حتى لو" قشرة" .. حتى تصبح حقيقة.

نعم الله
من باب التحدث بالنعمة، تفضل على الله وفعل معي أول شيء .. أخذ عيني .. ووضع مكانهما أجمل وأحسن نعمة هي نعمة الادراك والاحساس .. و"حفظنى" كلامه وزرع فيّ موهبة الموسيقى .. وجعلني محبوبا من الناس كل هذه النعم أمام نعمة واحدة ... كم أنت محظوظ .. ياإمام !!