لم يستدرجوه إلى سفارةٍ أجنبيةٍ ليقتلوه، ولم يوهموه بالأمان ليخدعوه، ولكنهم داهموا بيته وفيه ضربوه، وأمام زوجته وأطفاله سحلوه، وبشهادة شهود العيان انهالوا على رأسه ضرباً بعتلاتٍ حديديةٍ، وبأعقاب البنادق والمسدسات الثقيلة، وجروه بقوةٍ وعنفٍ إلى أحد المقار "الوطنية" الأمنية، وفيه واصلوا تعذيبه، واستمروا في ضربه، وأمعنوا في إهانته، حتى أجهزوا عليه وفاضت روحه الطاهرة إلى بارئها، بعد ساعاتٍ قليلة على اعتقاله، وكأنهم كانوا يريدون قتله وتصفيته، لا اعتقاله ومحاسبته، ليضمنوا صمته، ويطمئنوا إلى سكوته الأبدي.
ومن قبل كانوا قد أطلقوا على بيته النار وحذروه، وأرسلوا له رسائل التهديد وتوعدوه، وطالبوه بالصمت وإلا قتلوه، والكف عن المعارضة والتشهير وإلا صَفُّوه، فقد علا صوته معارضاً للسلطة وناقداً لقيادتها، ومحذراً لها ومنها، وتعمد كشف فضائحها وتعرية رجالاتها، وتسليط الضوء على جرائمها، ورفض الصمت على أخطائها، وأصر على مواقفه منها واتهامه لها، فاغتاظت منه السلطة وأجهزتها الأمنية، فقرروا التحرك ضده والتعامل معه بقوةٍ وعنفٍ، ليردعوه وغيره، ويسكتوه وسواه، فقد ضاقوا به ذرعاً، وتأذوا منه نقداً، وتوجعوا منه تعريضاً وتصريحاً.
يتساءل الفلسطينيون ما الجريمة التي ارتكبها نزار بنات، ولماذا استحق هذا القتل البشع والخاتمة الأليمة، وهل كان يستحق أن يلق هذا المصير أمام زوجته وأولاده، وعلى مرأى من أهله وجيرانه، فهل أجرم في حق شعبه إذ ساعده في كشف الحقائق وإماطة اللثام عن الجرائم، أم أنه أخطأ إذ حذر السلطة من مغبة الاستمرار في خداع الشعب وظلمه، والكذب عليه والإساءة إليه، وبيعه الوهم وتجريعه الألم، والإمعان في ظلمه والإصرار على قتله، والاستمرار في التعاون والتنسيق مع عدوه، والمتاجرة بحقوقه وممتلكاته، والتفريط في حاضره ومستقبله، والتنازل عن وطنه ومقدساته.
كأنه لا يكفي الشعب الفلسطيني ممارسات الاحتلال الإسرائيلي البغيضة وعدوانه المستمر، فجيشه وقواته الأمنية تجتاح يومياً مدن وبلدات ومخيمات الضفة الغربية، تعربد وتعيث فساداً فيها، تعتقل وتقتل وتدمر وتهدم وتخرب، ولكنها تدخل إليها بعلم السلطة وبالتنسيق المسبق والدقيق مع أجهزتها الأمنية، التي تسهل دخولهم وتؤمن خروجهم، وتمنع عناصرها من التشويش عليهم أو تعطيل مهمتهم، وتعاقب كل من يخالف أوامرها ويطلق النار عليهم، وتسكت عن جرائم العدو إن قتل عناصرها الأمنية أو اعتدى عليها.
لا أدري كيف ستخرج السلطة الفلسطينية هذه المرة من أزمتها، وكيف ستستر فضيحتها وتواري سوءتها، فحجم جريمتها كبير، والشهادة على سوء فعلتها كثير، ولعلها تخطئ كثيراً إن ظنت أن دم نزار سيجف، وأن صوته سيصمت، وأن نقده سيتوقف، أو أن معارضته ستنتهي، وما علم قاتلوه أنه سيكون عليهم لعنةً تطارهم، وشبحاً يرعبهم، وضميراً يؤلمهم، وسيفاً مسلطاً على رقابهم، وأنه سيكون عليهم وبالاً لا يتوقعونه، وفتحاً لمئاتٍ أمثاله لا يطيقونهم، وكأنني أراه طفل الاخدود الخالد في قرآننا، أرادوا قتله لتموت دعوته وتنتهي قضيته، وتآمروا عليه ليسكتوه ويرتاحوا منه، إلا أن دعوته سمت ورسالته بقيت، وأعداءه ذهبوا واندثروا، وما بقي منهم لا اسم ولا رسم، ولا فعلٌ ولا أثر.
ويلٌ لها السلطة الفلسطينية وقيادتها، وعارٌ عليها وعلى رئيسها، وسحقاً لحكومتها ورئيسها، والخزي لها ولأجهزتها الأمنية، وتباً لضباطها الأمنيين وقادتها الفاسدين، فهم جميعاً شركاء في هذه الجريمة النكراء، وعنها سيسألون وسيحاسبون، فلا براءة لأحد، ولا صمت عن أي مسؤولٍ، ولا قبول لأي حجةٍ أو تبريرٍ، ولا طي لصفحة الجريمة، ولا إحالة لها لأي لجنة تحقيقٍ وهمية، ولا لأي معالجة شكلية، فلا تنطلي علينا حججهم القديمة ووسائلهم الخبيثة، التي يطوون فيها جرائمهم ويسترون بها عيوبهم، وينسون الشعب بجديد جرائمهم، بل ينبغي على الشعب معاقبتهم بشدةٍ ومحاسبتهم بلا رحمةٍ، والإصرار على استقالة كبيرهم وصغيرهم، فلا مكان لهم بيننا، ولا سيادة لهم علينا، ولا سمع ولا طاعة لهم منا.
رحمة الله عليك نزار، يا صاحب الصوت الصادح والكلمة الحرة، والموقف الجريء والتحدي الصارخ، أيها القابض على الحق كجمرة، والثابت في الأرض كشجرة، والباقي فينا فكرةً وثورةً، والخالد فينا روحاً ونفساً، واعلم أن كلماتك ستبقى حيةً فينا، وصوتك سيبقى مجلجلاً بيننا، وغرسك معنا سيثمر خيراً وصلاحاً، ودمك سيروي أرضنا صدقاً وإخلاصاً، وسيأتي من بعدك رجالٌ يحملون الراية ويواصلون المسيرة توفيقاً وفلاحاً، فدعوتك يا نزار لن تموت، وجمرك لن يُخمد، ونارك لن تُطفأ، وثورتك لن تهدأ، وفكرك لن يموت، وستفرح يوماً وشعبك بالنصر ولو بعد حين.
نزار بنات ليس الأولُ فهل هو الأخيرُ
لعل جريمة تصفية الناشط الفلسطيني نزار بنات في أقبية التحقيق الرسمية التابعة للسلطة الفلسطينية في مدينة الخليل، تفتح الباب واسعاً أمام الجرائم المخزية التي ترتكبها الأجهزة الأمنية الفلسطينية عموماً، وتسلط الضوء على الممارسات المنافية للأخلاق والقيم والقانون، والمناقضة للعرف والشرف والنبل والشهامة، التي تمارس ضد المعتقلين في السجون الفلسطينية عموماً، وضد معتقلي الرأي والمعارضين السياسيين بصورةٍ خاصةٍ، وهي جرائمٌ مكشوفة ومفضوحة، ومتكررة ومتعددة، وباتت معروفة لدى الشعب ومؤسساته العاملة في مجال القانون وحقوق الإنسان، إلى الدرجة التي يخشى فيها الأهل على مصير أبنائهم في حال اعتقالهم.
فقد كثرت حوادث "الوفاة" المفاجئة في السجون الفلسطينية، التي تطال المعتقلين الشبان الأصحاء، والمعافين من الأمراض والأقوياء، ممن لا يشكون من ضعفٍ أو مرضٍ، الأمر الذي ينفي شبهة الوفاة الطبيعية، ويعزز شبهة الجريمة السياسية والأمنية، وغالباً تتم "الوفاة" بعد ساعاتٍ أو أيامٍ قليلة من الاعتقال، وهي الفترة الأصعب في حياة المعتقلين، التي يتعرضون فيها لعمليات الضرب العنيف والتنكيل الشديد قبل المباشرة في التحقيق، لإحداث الصدمة الأولى القاسية، ولتدمير نفسية المعتقلين وترهيبهم، ودفعهم إلى التعاون مع المحققين والاعتراف السريع بما ينسب إليهم، لتبرير اعتقالهم، والانتشاء بالنجاح الذي تحققه أجهزتهم الأمنية.
هذا النوع من الجرائم مدانٌ ومستنكرٌ، ومرفوضٌ ومحرمٌ ويجب أن يحارب، ويتحمل المسؤولية المباشرة عنه الكثير من المسؤولين الفلسطينيين، يتقدمهم في المسؤولية الأولى ووجوب المحاسبة القاسية والمسائلة المباشرة، رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس شخصياً، ورئيس حكومته محمد شتية، ورئيس جهاز المخابرات الفلسطينية ماجد فرج، ورئيس جهاز الأمن الوقائي زياد هب الريح، وكل ضابطٍ أمنيٍ ومسؤولٍ سياسي، وغيرهم ممن يعرف يصمت، ويستطيع أن يتدخل ويجبن.
وهنا لا أبرئُ أي عنصرٍ أمني ممن تدنت رتبته وبسطت مهمته، وشارك في عمليات الاعتقال والتحقيق، والحراسة والمرافقة، وحمل البندقية للترهيب أو العصا للضرب، وشارك فعلاً أو صامتاً في ضرب وإيذاء أي معتقل، من المسؤولية المباشرة عن وقوع هذه الجريمة وغيرها، إذ نسي هذا العنصر أنه ينتمي إلى شعبه، وأنه في مؤسسته الأمنية لحماية أهله والدفاع عن وطنه، وأنه ليس عبداً أجيراً عند ضباطٍ مرتهنين، ومسؤولين فاسدين، وإنما هو أمينٌ على أهله وشعبه ووطنه ومقدساته، فلا يدعي عنصرٌ أمني أنه بريء، وأنه لا يتحمل المسؤولية، بحجة أنه "شقفة" عنصر، لا يقوى على المعارضة، ولا يستطيع رفض الأوامر، بل هو شريكٌ كاملٌ في الجريمة، وعليه من الوزر والعقاب واللعنة ما يقع على كل مسؤولٍ وضابطٍ مدانٍ.
حتى تكون جريمة تصفية نزار بنات هي الجريمة الأخيرة، وحتى لا تتكرر مرةً أخرى في أي مكانٍ من سجوننا "الوطنية"، ينبغي أولاً إعادة النظر في العقيدة الوطنية للأجهزة الأمنية الفلسطينية، لتكون عقيدةً وطنيةً بحقٍ، تعمل لصالح الشعب الفلسطيني، ولا تمارس الظلم في حقه، ولا تنسق مع العدو ضده، وعلى كل عنصرٍ أمني أن يرفض تنفيذ أي أمرٍ يتناقض مع الثوابت الوطنية ويمس كرامة ومصالح شعبه، أو يعرض حياة أي مواطنٍ معتقلٍ أمني أو جنائي للخطر أو الأذى.
وعليه يجب الالتزام بعددٍ من القضايا والمسائل الهامة إلى جانب ترسيخ العقيدة الأمنية الوطنية لدى مؤسساتنا الأمنية، كوقف الاعتقال السياسي كلياً، والامتناع عن محاسبة أي مواطنٍ على رأيه وموقفه السياسي، بل يجب أن نحافظ ونصون حرية التعبير لدى شعبنا الفلسطيني، ضمن إطار الثوابت الوطنية، سواء التعبير بالكلمة المكتوبة أو المسموعة، أو بالفن والتمثيل والريشة والرسم والصورة والتعليق، وغير ذلك من مظاهر الاحتجاج والتظاهر المشروع للتعبير عن الرأي والموقف.
ولا اعتقال سياسي، ولا تحقيق مخالفاً للأصول، ولا تعذيب في السجون، ولا ممارسة لأساليب ووسائل تخالف القانون ويحاسب عليها، ولا تغييب لمؤسسات الرقابة القانونية والتشريعية، الرسمية والأهلية والمدنية، ولا حرمان لأي معتقل من حقه في أن يكون له محامي يعرف قضيته ويتطلع على ملفه، ويتمكن من زيارته والاختلاء به، ولا منع للأهل من زيارة أبنائهم المعتقلين والتواصل معهم، ومعرفة أخبارهم ومكان احتجازهم، والتهمة الموجهة إليهم، ومسار التحقيق معهم.
وينبغي أن يعرض كل موقوفٍ على أطباء عدولٍ محلفين، يحفظون عهدهم ويخلصون في الولاء لشعبهم، ويساهمون في متابعة حالة المعتقلين الصحية، وتقديم تقارير مهنية حقيقية عنهم، بما يحفظ حياتهم، ويحول دون المساس بهم، ولا يخفون أي أدلةٍ تشير إلى تعرضهم للتعذيب الجسدي القاسي والعنيف.
لئلا تتكرر هذه الجريمة، وتكون جريمة اغتيال نزار بنات هي الأخيرة، يجب محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم محاسبة قاسية وشديدة، تكون جزاءً للمجرمين ورادعاً لغيرهم، ودرساً قاسياً ومباشراً لسواهم، تماماً كما حدث أمس مع قاتل المواطن الأمريكي جورج فلويد، الذي حكم عليه القضاء الأمريكي بالسجن لأكثر من 22 عاماً، وما زال الأمريكيون ينظرون إلى أن هذا الحكم مخفف ويجب مضاعفته، وهو ما يطالب بمثله شعبنا الفلسطيني في كل مكانٍ، ضد كل من أجرم في حقه وقتل أبناءه في أي سجنٍ فلسطينيٍ، سواء كانت تهمته جنائية أو سياسية أو أمنية، وأياً كانت السلطة الفعلية المسؤولة عن الأمن وتنفيذ القانون.
رأسُ المقاومةِ مطلوبٌ والسكوتُ عنها ممنوعٌ
يبدو أن رأس المقاومة الفلسطينية مطلوبٌ في هذه المرحلة أكثر من أي مرحلةٍ مضت، وأن ما كان قبل معركة "سيف القدس" ينبغي ألا يعود أبداً، وألا يتكرر مرةً أخرى، فقد كشفت هذه المعركة أكثر من سابقاتها أن الكيان الصهيوني وحلفائه لا يستطيع الصمت أكثر تجاه قوى المقاومة المتعاظمة، ولا يستطيع مساكنتها أو التعايش معها، كما لا يستطيع تدجينها وتقليم أظافرها، أو ضبط أدائها ترغيباً والسيطرة على سلوكها ترهيباً، فقد شبت عن الطوق فعلاً، وخرجت عن السيطرة كلياً، وباتت لاعباً أساسياً لا يمكن إغفالها ولا يستطيع أحدٌ تهميشها، وزاد الأمر خطورةً نهمُ المقاومةِ وتطلعاتها، وتغير برامجها وتبدل خطابها، وعلوُ صوتها واختلاف نبرتها، والتفاف الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية حولها.
صدمت المقاومة الفلسطينية العدو بقدراتها، وفاجأت أهلها وأصدقاءها بأدائها، وأذهلت المراقبين لها والمراهنين عليها بقوة فعلها وسداد رميها ودقة إصابتها، وأربكت العدو والصديق بغزارة نيرانها وجاهزية منصاتها وكثافة رشقاتها، وأحسنت استخدام قدراتها وتوظيف معلوماتها والاستفادة مما جمعته وراكمته، فأدرك العدو أنه أمامها مكشوف، وأن أهدافه عندها مرصودة، واحداثياتها معلومة بدقةٍ، وأن الاستمرار في المعركة أكثر سيكشف عن المزيد من نقاط الضعف ومظاهر الخرق، وسيمزق الجبهة الداخلية أكثر، بعد أن أجبرت صواريخ المقاومة غالبية مستوطني الكيان الصهيوني على الهروب إلى الملاجئ والبيوت المحصنة.
أصبحت المقاومة بتراكم قوتها وآخر معاركها التي أطلقت عليها اسم "سيف القدس"، قادرة على إثبات وجودها وفرض قواعدها وحماية معادلاتها، وباتت ذراعها طويلة بعد أن كانت جدرانها حصينة، وأصبحت تغزو وتهاجم بعد أن كانت تصد وتدافع، فأصاب العدو هلعٌ كبيرٌ بأن مشروعه في فلسطين بات مهدداً فعلياً من الداخل، وأن إمكانية تفجيره من داخله أصبحت ممكنة، وهو الذي اعتاد على خوض الحروب القصيرة المدى خارج حدوده، وعلى أرض خصومه، ولكن الحال تغير والواقع تبدل، وباتت المعركة بين مستوطنيه وداخل تجمعاته السكنية، ونجحت المقاومة في تعطيل الحياة العامة، وإغلاق الأجواء الإقليمية ووقف الملاحة الجوية، وخسرت المطارات البعيدة ميزتها الاستراتيجية، بعد أن أدخلتها المقاومة في أتون المعركة.
أدرك الكيان الصهيوني المتخبط سياسياً، والمضطرب اقتصادياً، والمتصدع داخلياً، والقلق على تحالفاته الدولية، أنه لن يستطيع بحروبه التقليدية، وسياساته المتكررة نفسها، ضبط المقاومة، أو نزع سلاحها، أو ترويضها وإجبارها على القبول بالشروط الدولية والالتزام بضوابط الاتفاقيات والمعادات، فلجأ إلى حلفائه الدوليين وأصدقائه الإقليميين، وعرض عليهم أزمته وشكا إليهم خطورة ما يواجه، وطلب منهم المساعدة في ضبط الفلسطينيين وإخضاعهم، وتحجيم قوتهم وإلزامهم، ودعاهم إلى استخدام كل الوسائل الممكنة للوصول إلى الغايات المرجوة والأهداف المنشودة.
يريد الإسرائيليون بكل صراحةِ ووضوحٍ من المجتمع الدولي مساعدتهم في الحرب على المقاومة الفلسطينية عموماً وعلى حركة المقاومة الإسلامية "حماس" على وجه الخصوص، والوقوف معهم وتفهم مخاوفهم، فهم لا يريدون قوةً تهددهم، ولا سلاحاً يرعبهم، ولا قراراً مستقلاً يفاجئهم أو إرادةً حرةً تزلزلهم، والمقاومة الفلسطينية باتت حرةً في قرارها، سيدةً في موقفها، قويةً في سلاحها، عنيدةً في موقفها، ومصرةً على تحقيق أهدافها، وهو الأمر الذي ما كانوا يتوقعونه يوماً أو يخشون منه تاريخياً، وكأنهم بعد أن تفككت الجيوش العربية النظامية التي كانت تهددهم، ابتلوا بما هو أشد منها وأقوى، وأخطر عليها وأشد.
يبدو أن التنسيق الأمني الدولي والإقليمي قد تم بالفعل، وأن الأهداف قد حددت بدقةٍ، والخطط قد رسمت بتفاصيلها، وأن التنفيذ الرسمي قد بدأ فعلياً، فقطاع غزة يجب أن يستمر حصاره ويشتد، فلا مسافاتٍ بحرية توسع، ولا معابر تفتح، ولا بوابات تشغل، ولا بريد إليه يصل، ولا أموال إليه تدفع، ولا كهرباء إليه تصل، وأهلها يجب أن يحبسوا فيه ويخنقوا، فلا دواء يصلهم، ولا معوناتٍ تقدم إليهم، ولا سفر يتاح لهم، ولا إعمار لما دمرته الحروب السابقة والحرب الأخيرة، ولا تعويض للمواطنين، ولا مساعدة للمتضررين.
الحرب على المقاومة وأهلها، والتضييق على شعبها وحاضنتها، ليس حصاراً اقتصادياً فقط، أو تجويعاً يومياً ومعاناةً ماديةً، بل إن خطة العدو وحلفائه متكاملة، وهي على كل الجبهات وفي مختلف العناوين، فالحرب مستمرة والعدوان متواصل، والعمليات الحربية قد تستأنف بقوةٍ وعنفٍ، ولا أمن للمقاومين، ولا ضمان لاستمرار الهدوء أو الالتزام بالهدنة ووقف القصف والغارات الجوية.
يريد الإسرائيليون من الوسطاء الدوليين والإقليميين توصيل الرسالة إلى الفلسطينيين بصورةٍ مباشرةٍ، الحرب مستمرة، والضغط متواصل، حتى يسلم الفلسطينيون سلاحهم، ويتخلوا عن مقاومتهم، ويعيدوا إلى الإسرائيليين جنودهم المفقودين وأشلاءهم، فهل تسمح لهم المقاومة بتمرير مخططهم، وتنفيذ مشروعهم، أم أنها يقظة ومدركةٌ، وواعيةٌ ومنتبهةٌ، وتعرف كيف تواجه عدوها وترغمه على تغيير أفكاره وتبديل مفاهيمه، والتاريخ على قدرة شعبها شاهدٌ وعجز عدوها دامغٌ.
بيروت في 22/6/2021