في مقال سابق يعود إلى عام 2016، حيث كان هناك إضراب للمعلمين دون أن يكون هذا الإضراب تحت راية "اتحاد المعلمين" المناصر والداعم للحكومة لأنه ابنها كما هو حال كل الاتحاد في فلسطين، نشرت مقالة قصيرة بعنوان "عندما تنحاز فتح إلى الجهة الخاسرة"، إذ حاولت بكل ما أوتيت من عنجهية وصلف أن تفشل هذا الإضراب، وأنهيت ذلك المقال بما يأتي: "إن في هذا لبلاغا لقوم يعقلون من حركة فتح أولا تلك التي كانت تطلق على نفسها أم الجماهير، فعليها ألا تتحول إلى خادمة ظلم وطغيان، لتجد نفسها وإذا بها عدوةٌ للجماهير وينفضّ عنها أتباعها أولئك الذين سيشعرون بغصة أن حركتهم لم تنتصر لهم في معركتهم النقابية من أجل لقمة عيش كريمة في وطن متجسد أولا وأخيرا في الإنسان الفلسطيني، ويشكل المعلم حارسا أمينا للذاكرة الثقافية والتاريخية لهذا الوطن، بعد أن أصبح مستَلبا، ولم يعد موجودا منه إلا أشلاء جغرافيا منهوشة على أرض الواقع. فلا تهزموا الفكرة والحلم والإرادة بعد ذلك العجز عن تحرير الأرض من المغتصبين".
وها هي حركة فتح مرة أخرى تنزلق نحو الهاوية في معاداة الشعب الفلسطيني وهو يطالب بألا تتغول على أبنائه أجهزة أمنية وحشية، تسحل الناس في الشوارع، وتعتدي على النساء والصحفيين والناس أجمعين. لقد رضيت فتح أن تمارس دور الشبيحة في لباس مدنيّ لتضرب الناس أو تعتقلهم وتعين الظلمة على المظلومين. فما هو الذنب الذي جناه الناس من أجل أن تتغول حركة فتح عليه؟
إن مثل هذا الأمر ليشعر الناس بالصدمة وخيبة الأمل من حركة كان خطابها السياسي أنها حركة تحرر بكل ما يعنيه مفهوم "التحرر" من معنى. لقد كان الأولى بحركة فتح أن تحترم نضالها وتاريخها الذي يدّعيه قادتها، وألا توظف هذا التاريخ لقهر الناس وإذلالهم، ليجتمع على الناس ثلاث جهات ظالمة، السلطة وأجهزتها الأمنية، والاحتلال، وأخيرا أبناء حركة فتح. والله إنها لكبيرة وعظيمة، وترقى لأن تكون خيانة عظمى للفكرة وللوطن ولكل القيم الإنسانية العالمية. لقد كان من الأولى أن تكون حركة فتح منحازة للجماهير، وضاغطة من أجل إصلاح عمل السلطة وأجهزتها الأمية، وتربأ بنفسها أن تكون أداة قمعية بيد الأجهزة الأمنية، فمن أعان ظالما على ظلمه سلطه الله عليه. ومن أقدر من فتح من تصويب المسار والمطالبة بمحاسبة المسؤولين وأن تكون راعية لمطالب الجماهير المحقة وليس ضدها؟ فحركة فتح ليست هي الحكومة إلا إذا نظرت إلى نفسها كذلك، وحركة فتح ليست هي السلطة وإن كان رئيسها هو رئيس السلطة، إلا إذا هي رضيت أن تكون كذلك وتذوب في تلك الدهاليز.
لا شك في أن هناك عقلاء في حركة فتح، آمل أن يتداركوا الأمر وألا تأخذهم العزة بالإثم، وباستطاعة فتح كحركة أن توقف كل هذا العبث لو فكرت مثلا بسحب وزرائها من الحكومة، كما فعل حزب الشعب الفلسطيني بخطوة شجاعة ووطنية عندما استقال الوزير "نصر أبو جيش" ليسحب الحزب بذلك مقعده من الحكومة، وعلى كل الفصائل، وخاصة فصائل اليسار على الأقل أن تخرج من الحكومة، احتجاجا على ما يجري إن لم تقف فتح وقفة جادة، وتوقف الانهيار.
وهنا أسجل استنكاري وشجبي العنيفين لموقف وزير الثقافة في عدم انحيازه للحق والعدالة والوطنية والإنسانية، وأستغرب بقاءه وزيرا للثقافة في حكومة أمنية تسحل الناس في الشوارع منتهكة أبسط الحقوق الإنسانية، حق التعبير عن الرأي وممارسة حرية التعبير المكفولة بوصفها حقا فطريا إنسانيا لا خلاف فيه، وأكدت هذا الحق كل الشرائع والمواثيق الدولية والوطنية، بما فيها القانون الأساسي الفلسطيني وميثاق حركة فتح نفسها. إن انسحاب وزير الثقافة من الحكومة- وإن كان منتميا إلى فتح- لهو انحياز لقيم الثقافة أولا، تلك القيم التي يقف دائما مدافعا عنها وأهمها حق التعبير عن الرأي والموقف. وثنيا هو انحياز لنقاء حركة فتح ذاتها، إلا إذا رضي الوزير عن أداء الحكومة وتصرفها الهمجي ورأى فيه "وطنية" و"فعل مقاومة" ثقافية.
فهل تصحو حركة فتح من سكرتها قبل أن يتحول أبناؤها إلى مجرد شبيحة يدافعون عن سلطة باتت مكروهة وبقوة من كل فئات المجتمع الفلسطيني ومثقفيه وقادته؟