حمايةُ المقاومين مقاومةٌ والحفاظُ على سلامتِهم نصرٌ
رغم أن العدو الصهيوني كيانٌ ودولةٌ، وحكومةٌ وجيشٌ، وأجهزةٌ ومؤسسات، ولديه إمكانياتٌ كبيرةٌ، وعنده قدراتٌ ضخمة، ويتمتع بوسائل تجسس ومراقبة، وآليات اختراقٍ ومتابعة، وسبل هجوم ومباغتة، وقد لا تستطيع أيدي المقاومة الوصول إليهم والنيل منهم، لبعدهم عنهم، وإغلاق المناطق دونهم، فضلاً عن إجراءاتهم الأمنية المشددة.
إلا أنه رغم ذلك يقلق على جنوده، ويخاف على عناصر أمنه، ويخشى أن يتعرضوا لأي ضررٍ أو أذى، سواء كان مادياً أو معنوياً، ما دعاه إلى تشكيل فرقٍ خاصةٍ أمنيةٍ وقانونية، واجتماعية ونفسية، مهمتها الأساس حماية قادته والدفاع عن ضباطه، وضمان سلامة جنوده مهما تدنت رتبتهم، وعدم تعريض حياتهم للخطر، أو المساس بممتلكاتهم وحقوقهم، فتراه لا يعلن أسماءهم، ولا يكشف صورهم، ويخفي الكثير من المعلومات عنهم، بل يعمل على التعمية عليهم، ويمنع نشر أي شيءٍ يتعلق بهم، ويتجنب في حفلات التكريم وتوزيع الأوسمة وشهادات التقدير عرض صورهم، أو الكشف عن أسمائهم وعائلاتهم، وما زال الكثير من عناصر وحدات النخبة الذين نفذوا عملياتٍ أمنية خاصة مجهولة أسماءهم، وغير معروفة مهامهم.
إلا أننا لا نحذو حذوه ولا نقلده في أعماله، رغم أنه يقوم بما يخدم كيانه ويحفظ أمنه، فلا نحاول مثله حماية أبطالنا، والحفاظ على أراوح رجالنا، وإبعادهم قدر المستطاع عن الرصد والاستهداف، رغم أن هذا واجبٌ علينا وطنياً، وفرضٌ دينياً، ومسؤولية أخلاقية وإنسانية، قبل أن يكون تقليداً للعدو وتميناً به، أو تشبهاً به ومنافسةً له، علماً أننا ننشغل أكثر في حماية قادتنا وحراسة مسؤولينا، الذين قد لا يكون بعضهم مطلوباً للكيان، أو مصنفاً لديه خطراً، وليس في سجله ما يغيظ العدو ويؤلمه، أو يدفعه للحقد عليه والتربص به، والتخطيط لقتله أو اعتقاله، إلا أن أسباباً كثيرة قدمته، وعوامل مختلفة قد رفعته.
بينما نهمل من يجب علينا حمايتهم والمحافظة على حياتهم، ونقصر في الحفاظ عليهم أحراراً أو أحياءً، رغم أنهم في حاجةٍ ماسةٍ إلى الحماية والرعاية والاحتضان، والإحساس بالدفء والأمان في كنف شعبهم وبين أهلهم، إذ ينجح العدو غالباً في اعتقال المطاردين منهم، ويلقي القبض على المطلوبين والملاحقين، ويظهر في كل مرةٍ فرحته بصيده الثمين، ويبدي شماتته الكبيرة بنا بما حقق وأنجز، فغاية ما يريده هو أن يفت في عضد هذا الشعب ويوهنه، وأن يشعره بأنه وحيدٌ معزولٌ، وأن أحداً لا ينصره أو يقوى على حمايته والدفاع عنه.
وفي هذه الأيام يهدد قادة جيش العدو ومسؤولوه الأمنيون، ويحرض إعلاميوه ويدعو مستوطنوه، ومعهم ذوو القناص القتيل، إلى تصفية أو اعتقال الشاب الفلسطيني الذي انتقم لأطفال شعبه وضحاياه، فقتل من نقطة الصفر بمسدسٍ صغير، القناص الإسرائيلي الذي أثخن في شعبنا، وقتل على الحدود مع قطاع غزة، غيلةً وغدراً، وقنصاً وجبناً، العديد من أبنائنا وبناتنا، وكان آخر ضحاياه صبيٌ صغير لم يتجاوز الثالثة عشر من عمره، أستشهد فيما بعد من جراء الإصابة، فكان قتله قصاصاً، وتصفيته عدلاً، وإنزاله من صياصيه درساً، والنيل منه ثأراً شرفٌ لا يناله إلا المخلصون.
ولولا أن نجح هذا الشاب الفلسطيني في قتله، فأسكت بندقيته وأوقف إجرامه، لربما واصل هذا "القناص" المجرم استهداف خيرة المتظاهرين، ورموز المشاركين، علماً أنهم يستهدفون الأطفال والنساء والشبان والرجال، والمقعدين وذوي الاحتياجات الخاصة، والعاملين في الأطقم الصحية وأجهزة الدفاع المدني، ويتعمدون قتل الصحافيين والمصورين والعاملين في المجال الإعلامي، رغم أنهم وغيرهم من الأطقم الإنسانية، يستخدون الخوذ الخاصة بهم، ويحملون الشارات الدالة عليهم، ويلبسون بزاتٍ مدنية لا تخطئها العيون، ولا يختلط أمرهم أبداً على المراقبين والمتابعين، وعلى القتلة المجرمين، إلا أنهم يتعمدون القتل ويقصدون الإصابة.
قادة جيش العدو وأجهزته الأمنية يتلمظون بغضب، ويهددون بحقدٍ، ويتربصون بحذرٍ، وقد أطلقوا يد المتعاونين معهم، وشغلوا أجهزتهم ومعداتهم، ولن يدخروا وسعاً في استخدام طائرات الرصد بدون طيار والأقمار الاصطناعية، وغيرها من وسائل التقانة الحديثة التي نجهلها أو نعرفها، إذ أعلنوا عزمهم تصفية قاتل قناصهم، وقتل من مرغ أنوفهم بالتراب وأحرجهم، وكشف ضعفهم وهشاشتهم، واستهزأ بهم وتهكم عليهم، وجعلهم أضحوكة بين الناس ومثار غضبٍ بين مستوطنيه.
فلهذا فهم لا يخفون نيتهم قتله وتصفيته، وقد وعدوا أُمَّ القناص وطمأنوها، وطلبوا منها الهدوء والانتظار، ووعدوا شعبهم ومَنَّوهُ بالانتقام السريع والثأر المباشر، الذي يثلج صدرهم ويبرد نار قلوبهم، ويعيد الثقة من جديدٍ بجيشهم وأجهزته الأمنية، الذي هزته أحداثٌ كثيرة قبل قتل القناص وبعده، فزادت في اضطراب حالته واهتزاز صورته، وأظهرته ضعيفاً يتردد، وهشاً ينكسر، وليناً يعصر.
يا شعبنا العظيم ويا أهلنا في قطاع غزة الحبيب، لا نريد أن نمنى بخسارةٍ جديدةٍ، أو نصاب بنكسةٍ أخرى، فقد أصابنا ما يكفي من الحزن والأسى والحسرة والألم، نتيجة فشلنا في حماية أبطالنا الأحرار الستة، الذين حاولوا الفرار ولم يتمكنوا، لا لجبنٍ فيهم، أو لخوفٍ وعجزٍ عندهم، بل بسبب عجز المقاومة عن حمايتهم، وتقصيرها في التواصل معهم وتأمينهم وتوفير ما يلزمهم.
فلا نقع في الخطأ مرةً أخرى، ونعجز عن حماية من انتقم لنا وثأر باسمنا، ولا نفرح عدونا ولا نشمته من جديدٍ فينا، بل يجب علينا أن ننتبه ونحذر، وأن نجد ونعمل، بصمتٍ وهدوءٍ، وحكمةٍ وخبرةٍ، مستفيدين من تجاربنا، ومتعلمين من أخطائنا، ولنحفظه في قلوبنا، ولنخفيه في حنايا صدورنا، ولندافع عنه بأشفار عيوننا، حتى يصل إلى مأمنه ونطمئن إليه، فلا تراه عين العدو ولا تصل إليه يده، والله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.
توماس نيدز على خطى دافيد فريدمان
لا يبدو ثمة فرق بين السفير الأمريكي السابق لدى الكيان الصهيوني دافيد فريدمان، الذي تميز بمواقفه الصهيونية المتطرفة، وبرؤيته الاستيطانية العنصرية، وبتصريحاته المستفزة، ومواقفه العدوانية تجاه الشعب الفلسطيني، وحقده الكبير على أبنائه وشهدائه ومعتقليه، ومواقفه المتقدمة كثيراً في دعم الكيان الصهيوني على رئيسه دونالد ترامب، الذي كان يلقى منه الدعم والتأييد، والتشجيع والتحريض، وقد كان ثالث الشياطين الكبار الذين خططوا لما كان يسمى "صفقة القرن"، ولولا كلمةٌ سبقت فأزاحت رئيسه وأقصت حزبه، لبقي في منصبه سفيراً مستفزاً، وعنصرياً حاقداً، وصهيونياً معادياً.
لكن غياب فريدمان لم يغير شيئاً في السياسة الأمريكية تجاه القضية الفلسطينية، ولم يعدل في مواقف الإدارة الأمريكية وقراراتها، ولم يؤدِ إلى تراجعها عما قامت به الإدارة السابقة، إذ أعلن السفير الأمريكي الجديد لدى الكيان الصهيوني عن الخطوط العامة لسياسة إدارة بلاده في المنطقة، والتي بدا فيها وكأنه يبني على قرارات الإدارة السابقة، ويعترف بها ويكرس وجودها، ويؤكد على ضرورة احترامها وعدم المساس بها.
علماً أن الرئيس الأمريكي جو بايدن هو الذي اختار سفيره الجديد إلى الكيان الصهيوني، وهو يعلم حساسية الموقع وأهمية المنطقة، ومدى انعكاس طبيعة شخصية السفير وحقيقية مواقفه، وسلوكه العام وأفكاره السياسية، على مختلف الأطراف في المنطقة، ما يعني أن سياسة سفيره إنما هي انعكاسٌ لمواقفه، وتعبيرٌ عن سياسته الرسمية.
كان توماس نيدز صريحاً جداً ومباشراً، وهو يقدم رؤيته لقضايا الصراع وملفات النزاع المتعلقة بالشرق الأوسط، وذلك خلال جلسة الاستماع التي عقدت في مجلس الشيوخ الأمريكي، فأكد لهم أنه سينطلق من قاعدة أن القدس هي العاصمة الأبدية لدولة "إسرائيل"، وأنها لن تكون موضع نزاع أو تفاوض على الطاولة بين الفرقاء، وأنه لا يفكر أبداً بنقل سفارة بلاده من مدينة القدس إلى أي مكان آخر.
وأشار إلى أن مكانها في مدينة القدس هو المكان الطبيعي، إذ هي العاصمة المعترف بها، وهي مركز سفارات دول العالم، ووجودها في هذا المكان سلوك سيادي بين دولتين مستقلتين في قرارهما، وأكد أنها ستبقى في مكانها في مدينة القدس إلى الأبد.
وقلل توماس نيذز من أهمية القنصلية الأمريكية في شرق القدس، رافضاً اعتبارها اعترافا أمريكيا بأنها تقع في عاصمة الدولة الفلسطينية، بل هي من أجل تسهيل عمل ومعاملات الفلسطينيين بصورة عامة، والذين يحملون الجنسية الأمريكية بصورة خاصة، وهذا الأمر لا ينبغي أن يشكل مساساً أو انتهاك للسيادة الإسرائيلية في عاصمتها القدس.
وزاد في تطمين المشرعين بقوله، أنه ينوي الإقامة في مدينة القدس، وسينقل إليها أفراد أسرته، ولن ينوي الإقامة في أي مكان آخر.
وكان من قبل قد أشرف مع وزارة الخارجية الأمريكية، على اتفاق الإطار مع الأونروا، التي كبلها بشروطه، وضيق عليها بمحدداته، وجعل منها منصة أمنية لا تعترف بالمعايير الإنسانية، ولا تقدم خدمات على أساسها.
يبدو أن توماس نيذز قد جاء ليكمل ما بدأه سلفه، ولا يفرط فيما أنجز وحقق، ولا يتراجع عن خطوة قام بها، ولو أنها كانت خاطئة وسلبية، وتضر بأمن المنطقة، وتتعارض مع قوانين الأمم المتحدة وقراراتها الدولية.
فقد أعلن أمام أعضاء الكونجرس الأمريكي أن "إسرائيل" من حقها الاحتفاظ بمرتفعات الجولان السورية والبقاء فيها، وذلك بالنظر إلى أهميتها الاستراتيجية من الناحية الأمنية، واعتبر أنه من الخطأ ممارسة أي ضغط على الحكومة الإسرائيلية في هذه المسألة، وإلا فإننا ندفعها نحو الانتحار الأمني والسياسي.
وأكد على موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن من حل الدولتين، واعتبر أنه الحل الأنسب للصراع في المنطقة، لكنه رأى أن الوقت غير مناسب لفرض هذه الرؤية، وأن إدارته لا تستطيع ممارسة أي ضغط على الحكومة الإسرائيلية بهذا الشأن، ودعا إلى إرجاء البحث في هذه المسألة إلى حين عقد لقاءات تفاوضٍ مباشرة بين الفلسطينيين والاسرائيليين، وبذا يكون السفير الأمريكي الجديد قد وضع حدوداً للجهود الأمريكية، وسقفاً لطموحاتها في المنطقة، لا تختلف كثيرا عن سياسة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، وليس مستبعداً أن يعود والإدارة الأمريكية عملياً إلى بنود صفقة القرن، فيمررون بنودها بصمت وهدوء، خاصة أنه صرح أنه من المستحيل في هذه المرحلة تمرير حل الدولتين.
ودان نيذز بشدة سياسة السلطة الفلسطينية الداعمة للأسرى الفلسطينيين وأسر الشهداء، واستنكر قيامها بتقديم المساعدة المالية لهم، واعتبر أن قيامها بدفع تعويضات مالية لهم من المساعدات الأمريكية والدولية عملاً بغيضاً، وأكد أنه سيطلب من السلطة الفلسطينية التوقف عن هذا السلوك الذي يتنافى مع التفاهمات البينية بينها وبين الإسرائيليين والادارة الأمريكية.
ودعا نيذز إلى ملاحقة كل الذين يقدمون الدعم للإرهاب بكل أشكاله، واعتبر أن المقاومة الفلسطينية إرهاباً، وأن شهداءهم ومعتقليهم ليسوا إلا إرهابيين، لا يستحقون العطف أو الرعاية والاهتمام.
وفي الوقت نفسه دعا إدارته إلى تقديم أكبر الدعم والإسناد إلى الكيان الصهيوني، معتبراً إياه يتعرض لتهديداتٍ أمنيةٍ خطيرةٍ، مما يوجب على الإدارة الأمريكية والمجتمع الدولي مساعدته والوقوف معه ضد كل من يهدد أمنه ويعرض سلامة مستوطنيه للخطر.
وفي السياق نفسه دعا الكونغرس الأمريكي، إلى الموافقة على منح إسرائيل مساعدة بمليار دولار، لتعويضها عن الأضرار الأخيرة التي تعرضت لها منظومتها الصاروخية الدفاعية، ودعا إلى إعادة تزويد بطاريات الباتريوت الأمريكية بصواريخ جديدة، تجعل من هذه المنصات منظومات فاعلة ورادعة، وتعيدها إلى العمل الفاعل والجهوزية الكاملة كما كانت قبل الحرب الأخيرة مع قطاع غزة.
إنها السياسةُ الأمريكية المنحازة إلى الكيان الصهيوني والمؤيدة له، سياسةٌ واحدة لا تتغير، والتزامٌ واحدٌ لا يتبدلُ، وتعهدٌ أمريكي قديمٌ يتجددُ، يلتزم به كلُ رئيسٍ أمريكي ولا يفرط فيه، فلا يظنن أحدٌ يوماً أن الولايات المتحدة الأمريكية قد تغير موقفها من "إسرائيل"، أو قد تتخلى عنها وتتوقف عن دعمها وحمايتها ومساندتها، فعلى كل المراهنين عليها أن يستفيقوا من غفلتهم، وأن يصحوا من سكرتهم، وألا يبنوا أمالاً جديدة عليها، أو أن يركنوا إليها، وعليهم ألا يفرطوا في ثوابتهم، أو يتخلوا عن أسباب قوتهم، وألا يسلموا أوراقهم إلى عدوٍ لا يرحمهم، وإدارةٍ لا تفضلهم، وإلا فإن الإدارة الأمريكية الجديدة ستأخذهم إلى البحر، ليعودوا منه أشد عطشاً وأكثر ظمأ.
الضفةُ الفلسطينيةُ تتحدى يهودا والسامرة
إنها قلب المشروع الصهيوني وروحه، وهي محل أطماعه وموضع صراعه، وهي أساس الكيان الصهيوني وعنوان وجوده، وهي التي اكتمل بها مشروعهم، وتحقق بالسيطرة عليها حلمهم، وهي التي تدور حولها أساطيرهم وتنسج باسمها خرافاتهم، وهي التي وردت أخبارها في السفر القديم "التوراة" وفي كتابهم الأسطوري "التلمود"، وتحدث عنها أحبارهم في كتبهم المسمومة، التي ضمنوها خرافاتهم وأودعوها أساطيرهم الكاذبة ورواياتهم المختلقة، والتي إليها كانوا يشدون الرحال، وإلى العودة إليها كانوا يتواعدون ويتعاهدون، وباسمها كانوا يقسمون ويحلفون، ويدعون على أنفسهم بالويل والثبور وعظائم الأمور، إن هم نسوها أو فرطوا فيها وتخلوا عنها.
لا يتصور الإسرائيليون أبداً ولا رواد الحركة الصهيونية، قديماً على مر التاريخ، وحديثاً في تاريخهم المعاصر، كيانهم بدون القدس "أور شاليم"، أو نابلس "شخيم"، أو الخليل "حبرون"، وبدون غيرها من مدن الضفة الغربية وقراها، التي يطلق عليها اليهود عموماً اسم "أرض الميعاد"، ويسميها الإسرائيليون "أرض إسرائيل"، ويعتقدون أنها أرض الآباء والأجداد، وهي منحة الرب ووعده، وفيها ممالكهم القديمة التي بناها ملوكهم، وروى ثراها أبناؤهم، والتي فيها يجتمعون، وعلى أرضها من كل شتات الدنيا يلتقون.
بهذه العقيدة المزورة والروايات المحرفة والأساطير والخرافات يحاربنا الإسرائيليون ويحاولون القضاء علينا، فهم يريدون الضفة الغربية أرضاً خالصةً لهم، لا يقيم فيها غيرهم، ولا يساكنهم فيها سواهم، ولا يدعي الملكية لها أحدٌ غيرهم، وهم لا يؤمنون بتقسيمات أوسلو "A,B,C"، ولا يعترفون بحق الفلسطينيين بالعيش في جزءٍ منها، أو في التصرف في بعضٍ منها تعميراً وبناءً وزراعةً، وإنشاء معامل ومصانع وورش عملٍ فيها، كما لا يجيزون للفلسطينيين عموماً الاستفادة من مياهها الجوفية، ولا من خيراتها المدفونة فيها، ولا من كنوزها المخبوءة في جوفها، ولا يقبلون بأي شكلٍ من أشكال السيادة الفلسطينية عليها، ولو كانت ضمن التنسيق الأمني وتحت إطار الاحتلال مباشرةً.
يعمد الإسرائيليون في حربهم المفتوحة على الشعب الفلسطينية، وفي عدوانهم السافر على أهلنا في القدس والضفة الغربية، إلى تغيير معالم أرضنا الفلسطينية، واستبدال أسماءها العربية الأصيلة بعبريةٍ دخيلة، ويعملون على تقطيع أوصالها وتفكيك مكوناتها، فأغرقوها بمستوطناتهم التي زروعها في كل مكانٍ في القدس والضفة الغربية، وضاعفوا مستوطنيهم فيها إلى عشرات الأضعاف، ومكنوهم من الأرض وشوارعها، ومن المياه وآبارها، ومن الجبال وقممها، ومن السماء ومجالها، وقد قامت كل مشاريعهم الاستيطانية على مصادرة الأراضي الفلسطينية، وحرمان أهلها منها والبناء عليها، حتى غدت الضفة الغربية أرضاً مرقطةً بمستوطناتهم، ومقطعة الأوصال بتجمعاتهم.
يدرك الفلسطينيون حقيقة المشروع الصهيوني، ويعرفون أطماعهم، ولا تخفى عليهم أحلامهم، ويعلمون أن العدو في نهاية المطاف يريد تطبيق شعاره القديم في الضفة الغربية "أرضاً أكثر وسكاناً أقل"، وهو في سبيل تحقيق أحلامه وتنفيذ مشروعه، يسابق الزمن ويقضم الأرض، ويزرع المستوطنات ويزيد السكان، ويطوي المراحل ويزور الحقائق، ويحارب المقاومة ويخمد جمرها أينما كانت، إذ أنه يخشى أن تنشأ في الضفة الغربية مقاومة شعبية لا يقوى على صدها، وانتفاضةً وطنيةً لا يستطيع الوقوف في وجهها، فالضفة الغربية في قلبه وداخل أحشائه، فلن يستطيع حربها وهي فيه متداخلة، ولن يتمكن من صد هجماتها والحد من مقاومتها وهي من مدنه وبلداته قريبة، ولهذا تشتد قبضته عليها، وتتركز جهوده الأمنية وعملياته العسكرية ضدها.
قد تكون مواجهات اليوم في القدس وجنين وبقية مدن الضفة الغربية، التي خاض غمارها مقاومون فلسطينيون ضد وحدات "اليمام ودفدوفان" الخاصة، ضمن سياسة العدو القائمة على الخوف والخشية، والقلق والاضطراب، فهو لا يريد لجمرة المقاومة أن تتقد في الضفة الغربية، ولا يريد أن يفقد السيطرة على الأمن والمبادرة فيها، ويريد بالعمليات الاستباقية العمل على وأد أي ثورةٍ عامةٍ أو انتفاضةٍ شاملةٍ ضده، فالأرض إن مادت في الضفة الغربية فإنها ستميد تحت أقدامه، وإن تزلزلت فستقوض بنيانه، والنار إن اشتعلت فلن تقتصر على مكانٍ وتتوقف عند حدٍ.
ما يحدث في مدن الضفة الغربية وبلداتها في هذه الأثناء ليست أحداثاً عفوية، ولا مصادفاتٍ غير مقصودة، فقد أدركت المقاومة الفلسطينية أن وجودها الأقوى هو في الضفة الغربية، وأن الرصاصة فيها أشد خطراً على العدو من البندقية في غيرها، وأن التسليح فيها مرعبٌ للعدو، والإعداد فيها مخيفٌ له ومهددٌ لمشروعه، ولهذا زادت نقاط الاشتباك وتضاعفت، وانتشرت وتعددت، وشملت مناطق عديدة في القدس والضفة الغربية.
وفي الأثناء لن يتوقف العدو الإسرائيلي عن عمليات القتل المفرط والاعتقال الشامل في صفوف أهلنا في الضفة الغربية، ليخيفهم ويرعبهم، ويصدهم ويردعهم، ويرسل إليهم رسائل بالدم والنار، مفادها أن الرد سيكون عنيفاً، وأن الثمن سيكون قاسياً، وأن عاقبة التفكير في المقاومة سيكون مكلفاً، قتلاً واعتقالاً وحصاراً وتدميراً وطرداً وعقاباً.
إنها معادلةُ واضحةٌ وحربٌ صريحةٌ مكشوفة، وأرضٌ متاحةٌ معلومةٌ، فأم المعارك هي في الضفة الغربية، وساحة الحرب والنزال، وميدان المواجهة والمقاومة هي في الضفة الغربية، وهي التي إن ثارت وانتفضت، ثارت كل فلسطين وانتفضت، وهي إن تحررت وانعتقت، تحررت كل فلسطين واستقلت، ونحن فيها أقوياء أعزاء، كرماء أصلاء، ففيها أهلنا الصامدين في أرضهم، والثابتين على حقهم، والمصممين على استعادة حقوقهم ونيل حرياتهم وتحرير أبنائهم.
فلنضاعف فيها عملنا، ولنراكم فيها سلاحنا، ولنواصل فيها الإعداد والتجهيز، وليتعاظم فيها أملنا، ولنمد لأهلها يد العون والمساعدة، والتأييد والمناصرة، ولنكن لهم السند المتين والشريان الوتين، فهم اليوم جبهتنا المتقدمة، وفيها أملنا الموعود وغدنا المشهود، وفيها رجالنا الشجعان، وأبطالنا الصِيْدُ الكماة، وأخواتنا الباسلات، وأمهاتنا الصابرات، وشعبنا الحر الكريم، الثائر العظيم.
العراقُ يقاومُ ولا يساومُ ويمانعُ ولا يطبعُ
لسنا بحاجةٍ نحن الفلسطينيين إلى من يذكرنا بالعراق الأصيل، وبأهله الأماجد، وسكانه الشرفاء، وشعبه العظيم، وتاريخه العريق، وصموده الرهيب، وثباته المهيب، وقتاله العنيد، ومجده التليد، ومواقفه الخالدة، وسياساته الرائدة، وراياته في الحرب الخفاقة، ومعاركه ضد العدو الباقية، وآثاره في أرضنا الخالدة، فتاريخه القديم والجديد شاهدٌ على شعبه المعطاء، وتضحياته العظيمة، ونخوته العربية، ومشاعره الصادقة، وسخائه وجوده، ونصرته ومروءته، وبأسه الشديد، وعنفوانه الحديد، وقتاله الضاري، واستبساله العجيب، وإقدامه الماضي كسيف، والقاطع كسكينٍ، والمندفع كسيلٍ.
لا نَشُكُ يوماً في حب العراق لفلسطين وشعبها، وعشق أهله لهم ولها، وصدقهم معها وإخلاصهم لها، وتفانيهم من أجلها، وتضحياتهم في سبيلها، فهي تسكن قلوبهم، وتجري مع الدماء في عروقهم، ويرضعونها أطفالهم مع حليب أمهاتهم، ويربون أبناءهم على حبها، وينشئونهم على الولاء لها، ويستنشقون عبيرها مع الأنفاس، ويشمون أريجها المنبعث منها كضياء، والممتد منها كنورٍ، فلا يحجبهم عنها شيء، ولا يمنعهم عن نصرتها أحدٌ، ولا يجبرهم على خذلانها سلطانٌ جائرٌ أو حاكمٌ ظالمٌ، ويسكنهم حلم تحريرها والصلاة فيها، واستعادتها والرباط فيها، وتطهيرها ونيل بركتها، فهي قبلتهم الأولى، ومسرى رسولهم الأكرم، ومعراجه إلى السماوات العلى، وفيها ثالث الحرمين الشريفين الذي إليه تشدُ الرحال.
الفلسطينيون جميعاً يحبون العراق وشعبه، إذ ما رأوا منه إلا خيراً، وما لمسوا منه إلا صدقاً، وما عرفوا عنه إلا أنه كان سباقاً إلى كل مكرمةٍ، وتواقاً إلى كل معركةٍ، وقد أغدق على الفلسطينيين وأعطاهم، ومنحهم وأسبغ عليهم، وكان سخياً أكثر من غيره، وجواداً أكثر من سواه، يحثو عليهم المال، ويغدق عليهم بالسلاح، وكان الفلسطيني الذي لم يَشْكُ فيه من غربةٍ أو وحدةٍ، بينهم معززاً مكرماً، فكان كالعراقي في حقوقه، وكابن البلد في امتيازاته، فلا يفرق العراقيون بينهم، ولا يقصرون في التقرب إليهم والتواد معهم، فكانوا جيرانهم في السكن، وأصهارهم في النسب، وشركاءهم في العمل، وأهلهم في الأفراح، والأقرب إليهم في الأتراح، وكانوا في المدارس مع أولادهم أترابُ، وفي الجامعات مع أبنائهم زملاءُ، وفي البعثات العلمية مع مبعوثيهم رفاقُ.
أما العدو الصهيوني فهو يمقت العراق ويكرهه، ويخشاه ويخاف منه، ويحقد عليه ويتربص به، ويتآمر عليه ويخطط له، وهو يدرك قوته ويعرف قدرته، ويهاب من مجابهته ويهرب من مواجهته، فقد ذاق منه الأمرين، واكتوى جنوده من حمم ناره وقذائف دباباته، وأوهنت مدافعه قواه، وألحقت به قواته خسائر جسيمة في الأرواح والمعدات، وما زال العدو يعدها ويحفظها، ويذكرها ولا ينساها، فقد شارك الجيش العراقي في كل الحروب العربية ضد الكيان الصهيوني، في الأعوام "48، 67، 73"، وكان لكتائبه صولاتٌ وجولاتٌ في أكثر من جبهةٍ مع العدو، وكان لجنوده بأسٌ عرفوه، وشدةٌ ذاقوا مرارتها، وكثافة نيران أوجعتهم.
لا يريد الإسرائيليون وحلفاؤه للعراق العظيم أن يعود إلى سابق مجده، أو أن يحافظ على صدق وعده، وأن يكون وشعبه إلى جانب الفلسطينيين ومعهم، جنوداً ناصرين، ومقاومين صادقين، وصناديد مقاتلين، أوفياء مخلصين، وعمقاً للفلسطينيين يؤوبون إليه، وحضناً دافئاً يلجأون إليه، وظهيراً صادقاً يعتمدون عليه، فهو يدرك أن العراق قويٌ إذا نهضَ، وصادقٌ إذا وعد، وصبورٌ إذا حارب، وجسورٌ إذا قاتل، وتاريخه الجديد يشبه تاريخه القديم، فالذي شردهم ومزقهم أول مرةٍ، وشتتهم وفرقهم وأدبهم وعاقبهم، عراقيٌ لا ينسونه، ولا يسامحون شعبه من بعده، ولا يأمنون بلاده التي كان يوماً ملكاً عليها وحاكماً فيها.
فرح الإسرائيليون وغنوا، وظنوا أنهم انتصروا وكسبوا، وأنهم حققوا ما يريدون ونالوا ما تمنوا، وأن الذين اجتمعوا على أرض العراق يخطبون وده، ويمدون يدهم لمصافحته، ويعلنون رغبتهم الاعتراف به ومصالحته، والتطبيع معه ومسالمته، سيلحقون بركب الموقعين على اتفاقية "أبراهام"، وسيوقعون مثلهم، وسيكونون فيه الطرف الأكبر والأهم، ومكسب الكيان الأعظم، إذ لا يوازي العراق بلدٌ، ولا تدانيه دولةٌ، ولا يبز تاريخه تاريخٌ، ولا تناطح حضارته حضارةٌ، ولا يكاثر شعبه شعبٌ، ما يجعل السلام معه مختلفاً، واعترافه بكيانهم مزلزلاً.
لهذا فرح الإسرائيليون للسراب الذي ظنوه ماءً، وطربوا للنهيق الذي ظنوه غناءً، وأشادوا بالقطيع الذي التأمَ وقد ظنوه شعباً، واستبشروا بالجعجعة التي ظنوها طحيناً، وما علموا أن المجتمعين سيخرجون من مكان اجتماعهم وقد غطوا وجوههم بالنقاب لئلا يعرفوا، وعضوا بأسنانهم على أطراف جلابيبهم وهربوا، وفي الظلام ومن الأبواب الخفية تسللوا، وقد أيقنوا عِظمَ ما اقترفوا، وفداحة ما ارتكبوا، وسوء ما أعلنوا، وعلموا أن عاقبتهم وخيمة، وخاتمتهم أليمة، ومحاسبتهم شديدة، وعقابهم قاسي، ولقد صدقهم النهار حدسه، ففضحهم عندما طلعت شمسه، وكشفت ببريقها زيف ما صنعوا، ونكثت بأشعتها باطل ما نسجوا.
هذا العراق العظيم لا يفرط ولا يساوم، ولا يعترف ولا يفاوض، ولا يهادن ولا يسالم، ولا يطبع ولا يُسَلِّمُ، وإن أخطأ بعض أبنائه هفوةً، أو زلت بهم الأقدام سقطةً، أو ضلوا الطريق غفوةً، فإنهم لن يغيروا وجه العراق ولن يطمسوا هويته، ولن يبدلوا ثقافته أو يشوهوا حضارته، ولن يشطبوا ماضيه أو يتنكروا لتاريخه، بل سيستيقظون لا محالة، وسيعودون عن ضلالتهم بلا شك، وسيندمون على فعلتهم، وسيتأسفون على جريمتهم، وسيتنكرون لمؤتمرهم، وسيعلنون البراءة منه والطهارة من رجسه، وإلا فإن الشعب العراقي الذي يحز الرأس التي تخون، ويقطع اللسان الذي يعترف بالعدو واليد التي تصافحه، سيلفظهم وسيلعنهم، وسيعلن البراءة منهم وسيحاكمهم، وسيجردهم من شرف الانتماء إلى العراق الأصيل، وسينزع عنهم رداء العروبة الشامخ، وسيعلن ردتهم عن إسلامه الحنيف ودينه القويم.
مهمةُ الشعبِ والمقاومةِ قتلُ البسمةِ الاسرائيليةِ واغتيالُ فرحتِهم
نجاح العدو الإسرائيلي في الوصول إلى الأسيرين المحررين الأخيرين واعتقالهما، في عملية مداهمةٍ ليليةٍ واسعةٍ لشرق مدينة جنين، شاركت فيها إلى جانب قوات النخبة في الجيش، وحدةُ "اليمام" الخاصة وغيرها، واحتفاله اللافت باعتقال الأسرى الستة، وإعادتهم من جديد إلى سجونه ومعتقلاته، لا يبرر له أفراحه وتصريحاته، ولا يجيز له احتفالاته وتهديداته، التي تعمد إظهارها والإكثار من صورها الأرضية والفضائية، بقصد تسليط الضوء على نجاحه، وقد أراد من خلالها أن يرسل رسائل إيجابية إلى مستوطنيه، أنه الأقوى والأقدر والأطول ذراعاً والأشد بأساً، وسلبية إلى الشعب الفلسطيني ومقاومته، أنهم الأضعف والأقل قدرةً وحيلةً، وأنه لا فائدة من جهودهم، ولا طائل من محاولاتهم سوى المزيد من الخسارة والندامة.
يغيب عن العدو الإسرائيلي ومن يفكر معه وله، أن هذا الاعتقال هو كالشهادة أو النجاة قد كان متوقعاً، وهو من ضمن الاحتمالات الثلاثة التي وطَّنَ الأسرى الأحرار أنفسهم عليها، فكما كانوا يتوقعون الحرية والإفلات من ملاحقة الاحتلال لهم، فقد كانوا يتوقعون الاشتباك والموجهة، والمقاومة والقتال، فإما ينالون الشهادة التي تزيدهم شرفاً، أو يتكالب عليهم العدو، ويتآمر معه آخرون، فيتمكنون منهم ويعتقلونهم، فلا يظن العدو أن الأسرى الأحرار أصيبوا بنكسةٍ، أو أنهم شعروا بالحسرة والندامة، أو أنهم استسلموا للهزيمة وغصوا بمرارتها، وضاقوا ذرعاً بقساوتها، فما أصابهم كان ضمن حساباتهم، ولن يضيرهم اعتقالهم وهم المعتقلين، وحبسهم وهم المحبوسين، أو تعذيبهم وهم المعذبين، واضطهادهم وهم المضطهدين.
لا يعني ولا بأي حالٍ من الأحوال نجاح العدو في الإمساك بهم أنه انتصر عليهم وعلى الشعب الفلسطيني ومقاومته، فقد راج في الشارع الفلسطيني تعليقٌ على عملية الأسر الأولى، أن الستة خرجوا في نزهةٍ في شوارع الوطن وبلداته، ليسجلوا أسماءهم في قائمة تبادل الأسرى القادمة، التي لن تتم بدونهم، ولن تبرم إلا بحريتهم، وقد شعر العدو بأن المفاوضات حول صفقة تبادل الأسرى الجديدة قد تعقدت، وأن فرار الستة جعلها صعبة، وقد صرح بذلك مسؤولون إسرائيليون كبار، فقد باتوا يشعرون أن الثمن الذي سيدفعونه هذه المرة سيكون أكثر وجعاً وإيلاماً، إذ لن يكتفوا فقط بالإفراج عما يسمونهم بالأسرى الملطخة أيديهم بدماء "الإسرائيليين"، بل سيضطرون إلى الدفع من كرامتهم، والتنازل عن كبريائهم، والإفراج عمن أثخن فيهم قتلاً، وأمعن فيهم إهانةً وتشويهاً لسمعتهم، وتلطيخاً لصورتهم.
العدو الإسرائيلي بكل مستوياته الأمنية والعسكرية والسياسية، يدرك تماماً أنه يكذب بما يروج، ويخدع بما ينشر، ويطمس بما يكشف، ويحاول التزين بما يعرض، فهو في قرارة نفسه وبين جدران مؤسساته، وخلال نقاشاته وتحقيقاته، يدرك أن الأسرى الفلسطينيين الستة قد "علَّموا" عليه، وأنه تهكموا منه واستهزأوا ببنيته الأمنية وقدراته المهولة، وأنهم استطاعوا بقلمٍ بسيطٍ، وملعقةٍ صدأةٍ، وقطعةٍ معدنية معكوفةٍ لطنجرةٍ صغيرة، أن يحفروا الأرض وأن ينقبوا الجدار، وأن يتجاوزوا التحصينات ويغافلوا الحراس، وأن يغيبوا عن أعين الكاميرات وشاشات المتابعة والمراقبة.
نحن الذين يجب أن نفرح ونسعد، وأن نحتفي ونحتفل بقدرات أبنائنا، وعزم رجالنا، وتصميم أبطالنا، وسيشهد التاريخ قريباً مئات الكتب والروايات التي تدون تجربتهم، وترصد قصتهم، وتحكي للعامة حكايتهم، وستبادر شركاتٌ إعلامية ومؤسساتٌ فنية إلى تخليد محاولتهم، وتصوير ملحمتهم في أفلام سينمائية، ومروياتٍ فنيةٍ، تظهر قوة الفلسطينيين ورباطة جأشهم، وعظيم مجدهم وأصيل انتمائهم، أمام ضعف العدو وغبائه، وعجز جيشه وتراجع إمكانياته.
فهذه ملحمةٌ يفخر بها أبطالها الأحرار وشعبهم العظيم، وكم من قصةٍ عالميةٍ ما انتهت صفحاتها بغياب أبطالها، بل بدأت فصولها وظهرت تجلياتها بعد غيابهم ورحيلهم، وطفل الأخدود على ذلك خير شاهدٍ، فقتله غير الأحوال وبدل الظروف، وأزال الغشاوة وحدد البصيرة، فأحيا أمةً، ووضع خاتمةً لطاغيةٍ، ونهايةً لجبروتٍ مقيتٍ وحكمٍ ظالمٍ.
وقديماً فرح رعاة "اليهود" وصناع المشروع الصهيوني في فلسطين، عندما أقدمت سلطات الانتداب البريطاني على إعدام أبطال ثورة البراق الثلاثة عام 1929، وظنت أن إعدامهم سيطفئ جذوة المقاومة، وسيخمد نار الثورة، وسيجبر الفلسطينيين على الخضوع والاستسلام، والتوقف عن المقاومة والتخلي عن السلاح، وأن أحداً لن يسمع عنهم بعد دفنهم، وأن أسماءهم ستنسى بعد أيامٍ من إعدامهم، وما علمت أن ثورة بعدهم بدمائهم ستشتعل، وإضراباً كبيراً بأفكارهم سينطلق، وأن أرواحهم الطاهرة ستبقى تحوم في سمائنا، وتسكن في أرضنا، تلهمنا الثورة، وتمنحنا القوة، وتعطينا العزم على العطاء والتضحية.
لم تنتهِ قصة الأسرى الأحرار الستة عند هذه الخاتمة، ولن يتمكن العدو الإسرائيلي من جعل الاعتقال هو نهاية المواجهة، ولن يتمكن من إسدال الستارة على قضية الأسرى عامةً، بل سيجد نفسه أمام صفحةٍ مفتوحةٍ دائماً، ومواجهةٍ سافرةٍ أبداً، فمحاولات الفرار ستتواصل، ومساعي نيل الحرية ستتظافر، والإصرار على تبيض السجون والمعتقلات الإسرائيلية من جميع الأسرى الفلسطينيين والعرب ستتواصل، وعهد المقاومة ماضٍ، وعزمها حديدٌ، وإرادتها قويةٌ لا تلين، وتصريحاتها المعلنة عزيزة، ومفاوضاتها السرية عنيدة، وستثبت الأيام ولو طالت أن أبواب الزنازين ستفتح، وجدران السجون ستهدم، وأسوارها ستقوض، فالليل مهما طال سيتلوه النهار، وفجر الصباح الأبلج يأتي بعد ظلام الليل الأبهم.
بيروت في 20/9/2021