قصص ثلاث، تغوص فيها الكاتبة المصرية في مشاعر الأنثى، التى تؤمن بالعمل، كما تؤمن بالحب، ليصبح كلاهما جناحى طائر محلق فوق أغصان الورود، فتبتهج الحياة، ويستقيم السلوك الإنسانى، مبتعدا عن الأمراض النفسية.

ثلاث قصص

أماني فؤاد

 

التي لم أملكها قَط
تتلألأ الدموع في عين امرأة روسية على شاشة التليفزيون، تقول: حَطَّ الموت علينا في غفلة من الزمن. وحين سألها المراسل عن البيع والشراء؛ قالت:لم يخرج من محلها اليوم سوى وردتين، خرجتا دون أن تتقاضى نقودا من الشاب الذي أخذهما، الوردتان كانتا لأمه التي ترقد بالمستشفى متصلة بجهاز التنفس، تحكي صاحبةالورد: إنه كان خجِلًا وهو يطلبهما، فلم يكن يملك نقودا، استغنوا عنه بعد أن أغلقوا المطعم الذي يعمل به.

لا يمكنه أن يلمسها، أو يعطيها الزهرتين بنفْسه، يمنعونه أن يقترب، سيلوِّح لها فقط من خلف زجاج بمجرد أن يلمحها تفتح عينيها. سمعت إحدى الممرضات- وهي تمر بالردهة - رغبته الصامتة؛ فأخذتْهما ودخلتْ غرفة العناية، ووضعتهما بجوارها، اختارهما لحُبِّها زهور عصفور الجنة، قال لسيدة الورد:إنه كان كلما سألها لماذا تحبِّين هذه الزهرة، أجابت: لأجنحتها التي لم أملكها قط.

عالقان في الزمن، ربما في منطقة ما بين الموت والحياة قد خُلقا معا، كشأنه معها منذ أن ولدته لم يستقرا بأرض أو سماء، بسعادة أو حزن، بفقر أو استغناء، كانا دائما في مرمى الرياح حسبما تُلقي بهما، شعر دوما أن معهما ثالثا، كان يراه بعينيها، وحين سألها عنه قالت: إنه الخوف.

كلماغاب عن عينيه خفقانُ قلبها؛ شَعر بالمرارة في حلْقِه، بالوحدة التي تحط طبقاتها فوق رأسه كجبال صخرية سوداء، ينتظر أن تفتح عينَيها، أن تترك أية إشارة؛ لكنها لا تفعل، هل تشعر به؟هل ترَاه؟

حين سقط جفناه دون أن يشعر؛ خفق قلبه بعنف،وهو يرى لأمه جناحين يشبهان تماما الوردتين اللتين بجوارها، وجدها تعلو وتحلِّق، تعجَّب: لمن ستتركه؟ وأين ستذهب؟ استيقظ على هَلَعِهِ، على إلزامهم له بمغادرة المكان، كان الطريق طويلا وباردا، كان لا أحد على الإطلاق.

في الصباح،تعجَّب وهو ذاهب إلى المشفى، فلقد خلا محل الزهور تماما، سأل صاحبة الورد؛ قالت: إنها ظلت طوال الليل تطرز أجنحة عصافير الجنة على وريقات زهورها، وبمجرد أن فتحت المحل صباحا، رأتهن يحلِّقن،ربما تهبهم الأجنحة بعضًامن الوقت للحياة، قالت أيضا ما دلالته إن الموت مثل طائر مجهول، له جناحان كبيران، وأنه يحوم فوق الأرض الآن.

حين ذهب متلصصا من خلف الزجاج؛ وَجَدَ فراغا، لكنه سمع صوت جناحين يضربان بوَهَنٍ في الهواء.

 

بعض الرتوش البسيطة.. لكنها واضحة
ثمانٍ وعشرون ثانية فقط هي المدة التي استغرقتها المكالمة، بمجرد أن قلت: كل عام وأنت بخير، شكرتني سريعا وسألتني: خير إن شاء الله، هل هناك شيء؟ أجبت: أردت تهنئتك بعيد الأم فقط، ساد صمت لثوانٍ ثم أنهت المكالمة، برزت الأسلاك الشائكة وقطع الزجاج المدببة ذاتها على جدار هاتفي، جرحت أصابعي فرميته بعيدا.

 تمنيتُ لو سألتني هل ستأتين اليوم لأراكِ؟ تدعوني وأحفادها، أردت أن أقول: أحتاجكِ، أشتاق لحضنك الذي لم أتعرفه أبدا، أحضرتُ لك عطرا أتمنى لو راقكِ، منذ الصباح أعد فطائر الجبن واللحم التي تحبينها وأريد أن أحضرها إليك طازجة.

لم تهبني مساحة فبدأتْ رقصتي التي أعتدت أداءَها منذ طفولتي، ذراعَيّ يضمان جسدي، وفي دائرتي أتصاعد، في كل مرة يضيق النفق ويزداد طولا، فأطلق صيحاتي المحرومة الغاضبة، منذ وعيت الحياة والأبواب بيننا تنغلق سريعا؛مُصدِرة جلَبة وضجيجا يتركاني بلا أحد.

سمعتها تقول لخالتي متأففة: لا أعرف كيف تتعاملين معها؟ في ماذا تحكيان؟ عكس أختيها لم تتم الكلمات بيننا ولا الحكايات.

عاودتْ الاتصال بعد ثلاثة أسابيع ــفقد كنت أحصي الأيام بدقة ــ قالت: لقد استقر رأي العائلة على تجهيز"جلسة رجال" للنظر في شأن عملك بعد شكوى زوجك المتكررة، يقول إنه يجعلك قوية فيزداد تمردك، ننتظرك السبت القادم في السابعة، وعليك أن تلتزمي بما سيحكمون.

عاودت أصابعي النزف سريعا بمجرد سماعها، لكنني سألتها: ماذا تعرفين عني، هل بدلتِ أحزاني مرة واحدة،وأطلقتِها فراشات لتطير فوق رأسي كما تفعل الأمهات؟ ماذا يعرف رجال العائلة عن حياتي؟ لن أترك عملي؛ يشغلني عن خياناته المستمرة،عندما واجهته؛ تبجح قائلا ماذا أفعل؟ مريض أنا بعشق الجميلات، سلِّمي بمرضي، وعيشي لتربِّي أولادك. كيف سأصف في جلسة الرجال النيران التي تشتعل برأسي حين أسمعه يغازل إحداهن بالساعات على الهاتف؟ مُهانة أنا ومعلَّقة بالفراغ، لا تقولي لي رجُل ويفعل ما يشاء.

لم يخذلني عملي. هل قلتِ لي مرة واحدة إنك لن تتخلي عني أبدا، هل ضمَّتني عيناكِ الكبيرتان وأغلقتْ أهدابها عليّ؟ عملي - على بساطته- هو الذي كفكف دمعي حين أتيتك؛ فكان ردُّك:"ما يحتاجه البيت يحرم على الجامع"،كفانا عملي السؤال؛  يكسو أولادي ويطعمهم بعد أن تأثرت تجارته وظَلَّفي البيت طويلا.

لماذا لا تحاربين معي معاركي لو أنها عادلةّ !؟ لماذا لم تردِ عني لمرة واحدة، فحين يقول لك لا يروقه عملي في محل لتصفيف الشعر!؟ قولي له: هو ما وجدتْ، ويكفيها وأولادها بشرف، لماذا أظل أنتظر شمسك التي لم تشرق أبدا لي.

صرخت قائلة: لا أريد أن أسمعكِ أكثر من هذا، لا تكسري كلامنا؛ أنا ووالدك قررنا وانتهى الأمر، منذ صغرك وأنت تثيرين المشاكل والجدل، لا تعرفين معنى الطاعة، ترفضين أولا ثم تبدأ سلسلة من المهاترات، منذ طفولتك لا تأتيني راحة من طرفك.

نفس الأسلاك الشائكة وقطع الزجاج المدببة في صوتها، في مقاعدها ومطبخها وتلفازها، في الأطعمة التي نادرا ما تعدها لي مثلما تفعل مع أخوتي، في ملامحها.

قلتُ: لا ترتبي لجلسة الرجال فلن أحضر، لن أتنازل عن عملي، لن أقبل بما يحدده آخَرون لا يعرفون حياتي، لا يعنيني رأيك الباحث عن صلصال ليِّن يشكله، كل ما أعرفه أنه ليس ذنبا أن أعتد بما أرى، أنا لست صنما تُملِين عليه أنتِ وجلسة الرجال ما تريدون. أغلقتْ الهاتف، كانت تلعن اليوم الذي أنجبتني فيه.

نظرتُ طويلا في المرآة، تحسست ملامحي التي لم ترُقْني أبدا، أخرجت علبة المكياج وبدأت أضع رتوشا مما تعلمته أثناء ملاحظتي لخبيرة التجميل بالمركز، ثم أطلقت شَعري و نظرت ثانية، وجدتني جميلة، لم أعد أشبه أمي، تساقطت بعض قطع الزجاج المدببة على الأرض، وبعض الأسلاك الشائكة.

 

فقط بعض الملابس الخاوية
كان عليها أن ترسل إيميل للشركة في هولندا ترجوهم إلغاء سفرتها التي تقررت في السابق، تبحث عن حاسوبها، تتظاهر بأنها لا تراه،في النهاية تُرغم أصابعها على الكتابة.

 تقف خلف الزجاج تراقب حبات البرَد الصغيرة، تتساقط بيضاء دائرية، ثم ماتلبث أن تذوب وتختفي، تتجمد أطرافها رغم كوب القرفة الساخن، الذي تتصاعد أبخرته على ملامحها، انتبهت لورقة شجر يابسة، تطفو على سيل ماء منحدِر نحو طريق بلا معالم أو نهاية، هي الأخرى تطفو على الأيام، يلفُّها الحزن ويخفيها في طياته.

كانوا قد طلبوا سَفرها منذ فترة للمقر الرئيس، حين تأكدت من الموعد؛ أرسلت تخبره، قال: هكذا تكون الأخبار السارة. اشتغلتْ بهِمَّة على استكمال ما طُلب منها من رسومات ودراسات جدوى، فتلك فرصتهما ليكونا معًا،حتى لو لأيام معدودة.

انتبهت أثناء عملهاعلى صوت تسلُّم هاتفها لرسالة، وجدتها منه؛ فرحت، لكنها أرجأت قراءتها على مَهل.

راحت تتوقع ما كتبه، بلا شك، سيخبرها بما يخططه للأيام التي سيقضيانها معًا. كانت تمنِّي نفْسها بالعودة إلى بيتها؛ لتنفرد بكلماته، تحلم بمتعة الوقت القادم معه، التنزُّه وحدهما، تذوُّق مايقوله ويفعله برويَّة،تخيَّلت بيتًا صغيرًا يجمعهم ابعيدًا عن العمل.

مرَّت عيناها على الأسطر سريعا، لم تستوعب، عاودَت القراءة مرَّات، بدأت السطور ترتعش، تتساقط الكلمات؛ فتتكسَّر وتتهشَّم داخل عينيها، تنشرخ أرض روحها لنصفين إثر زلزال لم تتوقعه، ربما رجَّحته في فترة سابقة من عُمر حُبِّهما، ليس الآن.

 كتب يقول: إنه يشعر بتأنيب الضمير منذ شهور، فهو يحب زوجته ويحترمها، وهي الأخرى تبادله نفْس المشاعر وأكثر، كما أن أطفاله صغار، وبحاجة لكامل رعايته ووقته، طلب أن يَظلَّا أصدقاء، وأن عليها أن تتفهَّم.حاول تلطيف كلماته؛ فذَكَر أنه كان يفرح بها.

نظرت للرسالة طويلا، قرأتها مرَّات؛ لئلا تنسى ما بها من كلمات، والأهم كان عليها أن تستدعي بعضها الذي يجب أن يتفهَّم. تعجَّب من عدم تلقي أي رد؛ فكتب يقول: أعرف أنك رأيتِ.اضطُرَّت؛ فكتبت كلمة واحدة: "أتفهم".

 كيف لمن أحَبَّ يومًا أن يمارس القسوة على هذا النحو!!على الأرجح لم يحبها قط..

بعضها – هذا الذي يتفهَّم -سيحاول إقناعهالاحقا أنه شُغف بها، لم تكن لديه نزوة تلاشى الاهتمام بها مع الوقت، نِصفها هذا قد يلتمس له الأعذار،سيدعي أنه لم يكن يقصد دفْعها إلى التعلق به، فدون أن يشعُرَا انساب بينهما جدولًا رقراقًا، بعضها هذا سيقول:إنه يخشى على أولاده وحياته التي هيَّأها قبل أن يلتقيا. بعضها هذا يبرر له بأن الحب يمكن ألا يقتصر على فرد، وتتعدد صوره.

بعضها الآخر - الذي أخرسته- يتصادم بجدران ضياعها. دلفت إلى ذاتها، ترتطم بها الأسئلة؛ فيتهاوى كيانها، ثم تعاود الوقوف: لماذا الآن، كيف لم يدرك أن عبورها إليه لم يكن سهلًا، كمّ نحّت مخاوفها الكثيرة لتصمتَ عمَّا يمكن أن يؤذيه أو يقلقه؟ لماذا يتركها الآن تكابد انخلاعه، غرقها في بحيرة حزن كثيفة؟

لم تسعفها حروفها لقول أي شيء؛ صمتت. كانت كلما اغمضت عينَيها؛ وَجَدَتْه يهديها عصفورًا يغرِّد، وحين يهِمُّ بالتحليق؛ يهشَّم أجنحته الملونة أمام عينَيها.ربما أوجعتها حقيقة أنه حينما يوجَد الحُبُّ؛ يأتي مغموسًا بالمرارة.

أول تعارفهما،كانت كلَّما ابتعدتْ؛ مَدَّ جُسورًا، وكلَّما دلَف إلى صمته؛ أشعلتْ من أجْله البخور، ونثَرت الشموسَ والأغنياتِ، كانا سطرًا يعشق التالي، ويستدعيه، ثم سريعًا ما يمحوه.

ظنَّ هو أنه بمجرد طلبه أن يكونا أصدقاء؛ سيتلاشى شعوره بالذنب، أو يكاد، فحبيبته لم تعد حبيبته،لن يخفي شيئًا، لن يختليَ بنفْسه دقائق ليكتب لها، أو يفكِّر فيها، لن تأتي بأحلامه، تخلَّص مما كان يؤرّقه.

تنقَّلتْ مذبوحة بين كهوف صمتها، تنزف روحها وهي تسير، فالحياة لا تسمح لنا باستراحة ألمٍ إلا نادرًا، مَرَّ اليوم الأول، وتلاه ثانيا، ثم مرَّت الأسابيع، كانت مياه الأشياء تجف بداخلها.

لا يدري، لماذا تتثاقل الأيام على روحه، عينه الشاردة فقط تصحبه أينما ذهبَ، يشعر بالبهجة قد ولّت؟ تذوَّق معهاعذوبة تغازِل جوهر مشاعره، راقت له، كيف لم يطفِئْ قراره ظلال شموعَها بقلبه.

أحد الصباحات التي اشتد فيها الحنين، سألها: متى ستأتين لتباشرين عملَكِ؟ ردَّت بأنها طلبت إلغاء سفرتها.

ثمة أمر يجرح بعضها الذي لا يتفهَّم، بَدَتْ كأنها لديه الوقت الفائض من الحياة! الدقائق التي يسرقها وهو يتلفَّت حول نفْسه، ثم يعاوده الندم سريعا! وهو يقرر لم يشعر بالعطب الذي سيجتاح كيانها،هل سيعيدها قرارُه بيضاءَ بلا ذاكرة؟ للَّحظة قبْلَ أن يلتقيا؟ فلا تعاني فقْدًا، ودون أن تتساقط عشرات الخطط التي حلِمَا بها معًا.

طهَّرت تجويف أذنيها مِرارًا من أشواقه التي سمعتها، كانت تمحو مابقِيَ في عينَيها من كلماته؛ فتعاندها وتُعاود رغمًا عنها الظهور.تُلملِم خططه التي حلَّقت كثيرًا فوق أقراطها، وانسابت بين خصلات شَعرها لتبعثرها بعيدًا.كان عليها - لكي تتعايش- ألَّا تترك شيئًا.

تعاركت صرخات الأسى المكتومةُ داخل كهوفها دون أن تُفصح أو يصدر لها صوتٌ، صرخات تشقُّ الصدر كما الروح. لم يكن أمامها إلا أن تلملم انكسارها، حين امتدت أصابعها تقشِّر قِصَّتهما معًا وتتأمُّلها، استقرَّ بكيانها أن الحُب مهما بدا بحجم الكون؛ يختنق، تلفلفه أكفان الواقع سريعًا، تلفظه الحياة كما لفَظها بقراره.

حين اضطُرَّت للسَّفر بعد شهور،طلبوا عرْض ما أنجزتْ أمام مجلس إدارة الشركة، وكما يؤدِّي الروبوت؛ فَعَلَتْ، ربما سَمعته يعلِّق، لكنَّ عينَيها لم تَر إلا فراغًا، لاحظت ملابسه فقط فوق مقعده الدائري، الذي يتصدر الطاولة، كانت ملابسه خاوية منه، يتحرك كُمَّاها؛ فتعلو الأنسجة البيضاء لِوَجه،ثم تركن بالقرب من ذقنه، ثم تهبط لتدُقَّ على الطاولة ليدعم رأيًا، ثنيات ملابسه وحركتها فقطما تؤكِّد وجوده.

كيف لم تعد تراه!؟ نظَّارته المُلقاة على الطاولة تلك تعرفها، كانت كلما اقتربت منه تخلعها عن عينيه؛ لتتسع مساحة وجهه لقُبَلها دون عائق.

قال الطبيب لاحقً اشيئًا عن العَمَى النوعي الذي أصابها، هوانها عليه غلَّق عينيها رغم نصفها المتفهِّم. حكى زملاؤها في المساء أن القمر رائعٌ، دعَوها لرؤيته من الشرفة، كان أن وجدت السماء شديدة الظلمة، فارغة تمامًا، فقط بعض الملابس الخاوية.