يواصل الكاتب الفلسطيني مصطفى يوسف اللداوي رصد الحراك الفلسطيني على الأرض من خلال تقاريره التي ترصد بعين ناقدة الوضع في محاوله تحليل خلفياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أمام التلكؤ والصمت المدوي وفي مواصلة للبطش والعدوان الصهيوني، ولا تتوقف التقارير عند الأحداث بقدر ما يقارب الكاتب العديد من المواقف ويحلل أبعادها السياسية والوضع في المنطقة.

تقارير من فلسطين

مصطفى يوسف اللداوي

 

إنجاز المعاملات الرسمية هدرٌ للوقت والكرامة واستنزافٌ للصحة والعافية

ليس منا في بلادنا العربية، من لم يشكُ يوماً خلال محاولته إنجاز معاملةٍ رسميةٍ أو استصدار وثيقةٍ أو استخراج بدل فاقد أو تصديق صورٍ وشهادات، أو غير ذلك من المعاملات الكثيرة التي تقوم بها مؤسسات الدولة حصراً، ولا يمكن إصدارها من أي جهةٍ أخرى بديلةٍ، من سوء المعاملة وطول الانتظار، ورعونة الموظفين وإهمال المكلفين، وفُحش الإدارة وفجاجة العاملين، وتعالي المسؤولين وخشبية القوانين، وتعطيل الأولوية وغياب الشفافية، وتفضيل المحسوبية وتقديم العلاقات الشخصية، واعتماد الرشاوى ورفض الشكاوى.

لينجز المواطنون معاملاتهم لدى دوائر الدولة الرسمية في بلادنا العربية يجب عليهم أن يذهبوا إليها مبكرين، وأن يقفوا في طوابير طويلة لا تتحرك أحياناً إلا بصعوبة، ولا يقل أعداد المصطفين فيها إلا قليلاً، إذ يتجاوزها المقربون والمسؤولون، والمشاهير والمعروفون، والموصى عليهم والمحظوظون بواسطتهم، واللافتات للنظر بجمالهن أو بثيابهن، والمثيرات للجدل بزينتهن أو أشكالهن، وليس من المستغرب أن يقوم موظفٌ أو عاملٌ باستخدام العصا وضرب المواطنين بحجة تنظيم الطوابير، ولا يترددون أحياناً في إخراج بعضهم من الطابور وحرمانهم من حقهم ودورهم الذي عانوا للوصول إليه كثيراً.

أما عامة المواطنين من الرجال والنساء، سواء كانوا رجالاً مسنين أو شباناً ويافعين، فلا يأبه بهم أحد، ولا يثير انتباه المسؤولين منهم شيخٌ عجوزٌ أو مقعدٌ مريضٌ أو امرأة حامل، أو أخرى تحمل طفلها الصغير الباكي، فأولئك جميعاً من العامة الدهماء ممن لا يدفعون ولا يرشون، ولا يملكون ما يقدمون، ومعهم فئةٌ غير قليلةٍ من خيرة المواطنين الذين يعتبرون الرشاوى عيباً والواسطة اعتداءً على حقوق الآخرين، ورغم هندامهم الأنيق، وهيئاتهم المحترمة، وسمتهم المؤدب، ولسانهم اللبق، فإن هذه المناقبية الأخلاقية لا تشفع لهم، ولا تؤهلهم لتجاوز الدور أو التعجيل في إتمام معاملاتهم وتسوية ملفاتهم، فيضطرون كغيرهم إلى انتظار دورهم الذي يتأخر غالباً.

أما السماسرة والأذنة والحراس، وصغار العاملين في الدوائر والمؤسسات، والحجاب والسائقون وأمثالهم، الذين يفهمون طبيعة العمل ويعرفون النظام المعمول به وأسرار المكاتب المغلقة والمفاتيح السحرية لكل منها، فهم يصولون ويجولون بين الطوابير، يقتنصون الزبائن ويصطادون الفرائس، ويبحثون عن كل راغبٍ في الدفع وجاهزٍ لأداء الثمن، فيأخذون أوراقهم وينجزونها بأنفسهم، وهذا يكلف أصحابها كلفةً أكثر، أو يسهلون دخولهم إلى الغرف المغلقة والمكاتب الموصدة، بعد أن يحصلوا منهم على "المعلوم"، أو يخبروهم عن قيمته عند الدخول، وإلا فإن عليهم المكوث والانتظار طويلاً حتى يصلهم الدور وتسوى معاملتهم وتنجز، أو يردها المسؤولون لمزاجهم المتعكر أو لخلقهم السيء بحجة الأوراق الناقصة والمعاملة غير المكتملة.

غالباً لا ينجح المراجعون في إتمام أو إنجاز معاملتهم في نفس اليوم، إذ يتطلب إنجازها التوقيع من أكثر من مكتبٍ وديوان، والمصادقة عليها من أكثر من مديرٍ ومسؤول، وأحياناً لا يجد المراجعون والمستدعون طوابع بريدية، أو أوراق رسمية يسجلون عليها طلباتهم، كما لا يجدون آلات تصوير واستنساخٍ، إلا عند بعض الموظفين، حيث تكون الأسعار عالية، رغم أن الدقة تكون قليلة، إلا أنه لا سبيل أمام المستدعين وأصحاب الحاجات إلا التصوير عندهم، والخضوع لأسعارهم، وشراء الطوابع وكتابة الطلبات عندهم، وإلا فإن الموظفين والمسؤولين يرفضون طلباتهم، ويجبرونهم على العودة من جديد، كونهم أصلاً شركاء مع أصحاب الأكشاك والدكاكين المجاورة.

يصادف المراجعين لدى الدوائر الرسمية العربية حوادثٌ غريبةٌ وقصصٌ عجيبة، كأن يجد المواطن أن جنسه المثبت في السجلات عكس حقيقته، وحينها عليه أن يثبت لدى الجهات المختصة جنسه الحقيقي، أو أن يكون تاريخ ميلاده المثبت في السجلات الرسمية قبل قرنٍ من الزمان، أو أنه ميتٌ وليس حياً، أو أن يقوم الموظف بتمزيق الملفات وإتلافها، وغير ذلك من الحوادث التي تفرض على المواطن أن يعيد إصدار كل أوراقه الرسمية من جديدٍ، وأن يتحمل نفسه كل التكاليف المترتبة على خطأ الموظفين الذين ثبتوا في سجلاتهم بياناتٍ خاطئةً.

ليس فيما قدمت وعرضت أي مبالغة أو تهويل، بل هو أقل بكثيرٍ من حقيقة ما يعانيه المواطن العربي لدى دوائر الدولة الرسمية المختلفة، ولعلنا جميعاً مررنا بواحدة على الأقل من هذه الحالات، فعانينا وقاسينا، وتذمرنا وغضبنا، وشكونا واعترضنا، ولكن أحداً لا يسمع الشكوى أو يأبه بالاعتراض، أو يطالب بالمراجعة والمعالجة، أو التحقيق والمساءلة، وكأننا قد جبلنا على هذا الواقع المزري البئيس، الذي يستنزف قوانا ويضيع أوقاتنا، ويهدر حقوقنا ويمتهن كرامتنا، ورضينا به قدراً، أو سكتنا عنه جبراً، وتميزنا به عن غيرنا من الشعوب لكن لجهة الجهالة والدونية، والتخلف والرجعية.

 

الإدارة الأمريكية تذرُ الرماد في عيون الفلسطينيين

تحاول الإدارة الأمريكية برئاسة جو بايدن إقناع الفلسطينيين أنها معهم وتؤيدهم، وأنها تدعمهم وتساندهم، وأنها تحرص على مصالحهم وترفض التضييق عليهم، وأنها تدعم مشروع حل الدولتين، وتؤيد حق الشعب الفلسطيني في أن تكون له دولة متماسكة وقابلة للحياة، وتصف الممارسات الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية بأنها ممارسات عنفية مرفوضة، وتندد بعمليات الاقتحام والقتل والاعتقال المستمرة، وتحمل رئيس الحكومة الإسرائيلية المسؤولية عنها، وتعتبر أن هذه الإجراءات تؤدي إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، وقتل فرص التوصل إلى سلامٍ دائمٍ وعادلٍ وشاملٍ بين الأطراف المتنازعة.

وتبدي الإدارة الأمريكية أنها تعارض سياسات الحكومة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، وتدين مصادرة الأراضي وبناء مستوطناتٍ جديدةٍ وتوسيع القديمة وبناء وحداتٍ سكنية جديدة فيها، وتتهم حكومة نتنياهو بأنها حكومة يمينية متطرفة، وتطالبها بالكف عن مواصلة الاستيطان، وترفض شكلياً على خلفية سياساتها التعاون الإيجابي معها، وتمتنع عن استقبال وزرائها في عاصمتها وترفض اللقاء بهم، وتتلكأ في تحديد موعدٍ لزيارة رئيسها بنيامين نتنياهو إلى واشنطن، وهي الزيارة التي يتطلع إليها ويتمناها ويحتاج إليها ويريدها، ليجلو صورته، ويثبت حكومته ويعزز سياسته، ويتصدى لمعارضيه ويفكك معسكرهم.

قد يبدو للبعض عند الوهلة الأولى أن الإدارة الأمريكية منصفة في مواقفها، وصادقة في سياساتها، وموضوعية في أحكامها، وأنها فعلاً تدين الحكومة الإسرائيلية وتنظر بعين "العدل" للشعب الفلسطيني، وتريد إنصافه وتعويضه، والتخفيف عنه ومساعدته، وأنها بهذه المواقف لم تعد الحليف الأقرب والأصدق للكيان الصهيوني، الذي يستغل تأييدها له في الإيغال أكثر في سياسات العنف والتطرف ضد الفلسطينيين، ويضرب عرض الحائط بكل القوانين والأعراف الدولية، ويحرجها أكثر بسياساته وممارساته العنصرية التي تدمر لب مشروعها للحل في المنطقة.

صحيح أن الإدارة الأمريكية رفضت استقبال وزراء المالية الإسرائيلي سموتريتش، والأمن القومي بن غفير والخارجية كوهين في واشنطن، وما زالت ترفض تنظيم زيارة دولة لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، وهو ما جعل البعض يظن أن تغييراً حقيقياً في السياسة الأمريكية قد حدث، لكن الحقيقة أن أشياء كثيرة أخرى يجري تنظيمها ويقع العمل بها بصورة مشتركة، منها الخفي ومنها المعلن، فقد شاركت في مناورة اللكمة القاضية، وعرضت فيها قدراتها العسكرية التي من الممكن أن تكون جزءاً من أي حربٍ قادمة، وحافظت على مشاركة الكيان في أي مناورة أخرى تجري في المنطقة بالتعاون مع بعض الدول العربية.

أما البنتاغون فما زالت تفتح أبوابها لكبار الضباط والمسؤولين العسكريين والأمنيين لمناقشة تطورات الملف النووي، وسبل التعاون المشتركة لإحباط النوايا الإيرانية بامتلاك أسلحة نووية، وإفشال مشاريع تطوير مفاعلاتها وتخصيب اليورانيوم، وتنسيق الجهود الأمنية والعسكرية بهذا الشأن، علماً أن هذا الملف المشترك يفتح على عشرات الملفات الاستراتيجية الأخرى، التي تعزز آفاق التعاون العسكري والأمني والتقني والتكنولوجي بينهما، والتي لا تبدي فيها الولايات المتحدة الأمريكية أي ترددٍ في التعاون مع الكيان الإسرائيلي، باعتبار أن مشروعهما واحد، وأن قوتهما مشتركة، وأن أهدافهما واحدة، وأنهما ينوبان عن بعضهما البعض في تنفيذ المهام الأمنية والعسكرية على السواء.

وفي الأشهر القليلة الماضية ضمت الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل إلى قيادة قوات المنطقة الوسطى، بما يجعل منها جزءاً من القوة العظمى ومستودعاً ضخماً للأسلحة الاستراتيجية الفتاكة، والعتاد العسكري اللازم للحروب والمعارك ومختلف أنواع العمليات في المنطقة، فضلاً عن مشاركتها في صناعة القرارات ورسم الخطط ووضع البرامج على مدى سنواتٍ قادمةٍ، وكانت قد عوضت قبتها الحديدية بعد الحروب الأخيرة على قطاع غزة مئات الصواريخ المضادة، نتيجة للنقص الفادح الذي أصاب منظومتها الحديدية.

بمقابل إغداق العطاءات وسخاء التقديمات للكيان الصهيوني، فإن الإدارة الأمريكية تلقي بالفتات من المساعدات للفلسطينيين، وتقوم بتوزيعها على بعض المؤسسات الصحية والتعليمة المحدودة، وتفرض عليها شروطها وتقوم بمراقبتها ومتابعتها، وأحياناً بمحاسبتها ومعاقبتها، وتكتفي بتقديم الدعم اللافت للأجهزة الأمنية الفلسطينية التي تقوم بتقديم خدماتٍ مباشرة للاحتلال الإسرائيلي من خلال عمليات التنسيق الأمني المشتركة التي يشرف عليها ضباط أمريكيون كبار، ويصرون على الاستمرار بها وعدم تجميدها أو وقفها مهما كانت الأسباب.

أما زيارات المسؤولين الأمريكيين الكبار إلى الكيان الصهيوني فهي لا تتوقف، وتنفذ وفق برامج وخطط معدة مسبقاً، وهي زياراتٌ متعددة الأشكال والمستويات والتخصصات، يشارك في بعضها إلى جانب المبعوثين السياسيين إلى المنطقة، والمشرفين على مسار العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية، ضباطٌ عسكريون وأمنيون كبار، منهم قادة قوات المنطقة الوسطى التي أصبحت إسرائيل جزءاً منها، إلا أن أحداً من هؤلاء الزوار الكبار لا يزور مقر المقاطعة الفلسطينية في رام الله، وفي حال قام بعضهم بزيارتها ولقاء رئيس السلطة الفلسطينية، فإن مدتها تكون قصيرة، وملفاتها محدودة، والتعهدات والوعود فيها قليلة، لكن الوصايا فيها كثيرة، والتحذيرات الموجهة إليها عديدة، لجهة محاربة العنف، وملاحقة النشطاء وتحييد الخطرين، وتفعيل التنسيق الأمني، والعمل على ضبط الأمن في المنطقة.

تلك هي الحقيقة التي يجب أن ندركها وألا نغفلها، فالولايات المتحدة الأمريكية، أياً كان ساكن البيت الأبيض فيها، لا تهمها سوى المصالح الإسرائيلية، ولا يعنيها الشأن الفلسطيني إلا بما يضمن الأمن للإسرائيليين ويحفظ وجودهم ويحقق سلامتهم، وفي مقابل ذلك فإنها تخدر الفلسطينيين بوعودٍ خلابةٍ كاذبةٍ، وتمنيهم بأماني معسولةٍ مخادعة، وتتعهد لهم بسلامٍ ذليلٍ وكيانٍ هزيلٍ، وتتعهد لهم بمشاريع لا تؤمن بها، أو تعجز عن تنفيذها، ورغم ذلك فإن البعض للأسف ما زال يؤمن بها ويثق، ويراهن عليها ويعتمد، وهو يعلم أنه لا يتوقع منها غير الرياح يحصدها والأشواك يجنيها.

 

إخراجُ غزةَ من الصراع غايةٌ إسرائيليةٌ ومساعي دوليةٌ

شاعت في الأيام القليلة الماضية أنباءٌ متضاربة نفتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي، حول مساعي التوصل إلى اتفاقية هدنة طويلة الأمد بين الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة والعدو الإسرائيلي، ونشرت وسائلٌ إعلامية عديدة، بصورةٍ مقصودة ومتعمدة، ولغاياتٍ معلومةٍ وأهدافٍ محددة، تفاصيل الحوارات السرية التي تجري خلف الأبواب المغلقة حسب وصفها، وذكرت بأن القاهرة التي استضافت قادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي عرضت عليهما اقتراحاً بعقد هدنة طويلة الأمد مع "الجانب" الإسرائيلي، وتباينت التقارير المسربة والمقالات المكتوبة حول مدة الهدنة بدءً من سبع سنواتٍ وصولاً إلى ثلاثين سنة، مقابل تسهيلاتٍ وعطاءاتٍ مختلفة يقدمها العدو الإسرائيلي، وتساهم في كثيرٍ منها الولايات المتحدة الأمريكية ودولٌ أوروبية وعربية بالإضافة إلى الأمم المتحدة ومؤسساتها.

لعلها ليست المرة الأولى التي يتم فيها الحديث عن هدنةٍ طويلة الأمد بين الجانبين، أو تهدئةٍ متفاهمٍ عليها بين الطرفين برعايةٍ مصريةٍ ومباركةٍ أمريكيةٍ وإقليمية ودوليةٍ، فقد سبقتها عشرات التوقعات عن قرب التوصل إلى وقفٍ لإطلاق النار بمختلف الأشكال وعلى كل الصُعد والجبهات بين المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة والعدو الإسرائيلي، إلا أن الحديث هذه المرة مختلفٌ نسبياً، كون هذه التسريبات لا تأتي خلال حربٍ أو إثر عدوانٍ إسرائيلي على قطاع غزة، وليست خلال موجة تصعيد عنفٍ وإطلاق صواريخ من قطاع غزة على مدن ومستوطنات الغلاف، فالأوضاع الآن شبه هادئة بعد انتهاء حرب الأيام الخمسة، ونجاح مصر في تثبيت وقف إطلاق النار بين العدو وحركة الجهاد الإسلامي.

أي أن الحديث عن الهدنة يأتي هذه المرة في ظل أجواء هادئة على الجبهة الجنوبية في قطاع غزة، بما يشير إلى أن هناك من يفكر ويخطط للاستفادة من فترة الهدوء السائدة في فرض اتفاقٍ "أمني-اقتصادي" بين الجانبين، يطمئن العدو الإسرائيلي من خلاله على أمنه من الناحية الجنوبية، ليتفرغ للعمل على جبهاتٍ أخرى، تتجاوز القدس والضفة الغربية التي ينشط فيها ليل نهارٍ لتهويدها ومصادرة أراضي أهلها وبناء المزيد من المستوطنات فيها وتوسيع القديم منها، ومواصلة العمل على زيادة عدد المستوطنين القاطنين فيها إلى قرابة مليون مستوطنٍ، إضافةً إلى عمليات الاجتياح والمداهمة وقتل واعتقال نشطاء المقاومة فيها.

يتطلع العدو الإسرائيلي بتسكين جبهة غزة للعمل على جبهاتٍ أخرى يرى أنها خطرة جداً عليه، وأنها قنابل موقوتة قد تنفجر في وجهه في أي لحظةٍ، ويريد توجيه ضرباتٍ استباقية حاسمة ضدها، ويقصد بها الجبهات الشمالية في سوريا ولبنان، والجمهورية الإسلامية في إيران، التي يشكل مشروعها النووي وتطورها العسكري وتحالفاتها الإقليمية كابوساً مرعباً له، لهذا فهو يعمل على تنفيذ مخططاته لمواجهة إيران وتدمير مشروعها النووي داخل حدودها، أو التصدي لها واستهداف القوى المتحالفة معها والمنتسبة إليها خارج حدودها كحزب الله في لبنان، ومواصلة توجيه ضربات أمنية ضدها في أكثر من مكانٍ في العالم، أو عسكرية ضد أهدافٍ لها في سوريا.

أمام هذه الأجندة الإسرائيلية الضاغطة، وفي مواجهة الأخطار الداهمة ومعالجة الملفات الساخنة، وحتى يتفرغ لها ويركز عملياته ضدها، يريد العدو أن يُسَكِّنَ المقاومة في قطاع غزة، وأن يهدئ جبهتها، ويخلق حالة من الأمن المؤقت والسلام الكاذب فيها، ليس لأنه مطمئنٌ إليها ولا يريد أن يستهدفها ويقضي عليها، بل إنه يتمنى تقويضها وتفكيك قواها وتدمير قدراتها والقضاء على تهديداتها، والشفاء من الصداع المزمن الذي تسببه له، فهي تشكل عليه خطراً حقيقياً وكبيراً، كونها الأقرب إليه والأقدر على إيلامه وإرباكه، والأكثر استنزافاً له وإشغالاً لجيشه، وقد شن ضدها العديد من الحروب والمعارك، لكنه فشل وعجز عن إخضاعها وتحقيق أهدافه المرجوة بالقوة وبالمزيد من القوة ضدها.

إذن يريد العدو بخبثٍ ودهاء، ومكرٍ وخداع، أن يقصي قطاع غزة عن الصراع ويبعدها عن المواجهة، مقابل جزرةٍ مسمومةٍ يقدمها إليها وتسهيلاتٍ يعدها بها، ووعودٍ يطلقها ويتعهد بها، يعلم الجميع أنها وعودٌ كاذبة، وتعهداتٌ مؤقتة لا يلتزم بها ولا يحافظ عليها، ولا يقوى الوسطاء ولا الرعاة على إلزامه بها والضغط عليه للوفاء بشروطها وعدم سحبها والتراجع عنها، أو القيام بما يفسدها ويبطلها، فالسوابق التي تشهد على نكثه العهود كثيرة، وصفحاته السوداء ضد الفلسطينيين لا تحصى، وتجاربهم معه لا تنسى، ولسان حال الفلسطينيين يقول له "كيف أنساك وهذا أثر فأسك"، فالموت والدمار والخراب والجوع والحرمان والحصار يشهدون عليه ويؤكدون على عدم الثقة به والتسليم له.

أياً تكن التسهيلات الإسرائيلية والوعود الدولية والضمانات الإقليمية فهي عطاءاتٌ مسمومةٌ مؤقتة، ووعودٌ كاذبةٌ مبطنة، سرعان ما تنتهي وينقلب عليها العدو وينكثها، وإن سلمنا له وصدقناه، وآمنا به وعاهدناه، فإن دورنا سيأتي واستهدافنا سيكون قريباً وسريعاً، وبطشه بنا سيكون قاسياً، وإن التخلي عن الحلفاء والقبول بتسكين الجبهات والاستمتاع بالعشاء الأخير قبل أن تحز سكين العدو رقابنا، في تأكيدٍ لما ورثناه من حكمةٍ وتجربةٍ "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، سيكون قريباً وأكيداً، فلنحذر هذا اليوم، ولنتجنب وقوعه، ولنرفض مقدماته، ولنكن حذرين فطنين منتبهين، مخافة أن يصيبنا ما أصاب غيرنا، ويستفرد العدو بعد ذلك بنا.

 

الحربُ الدولية على النكبة سياسةٌ مقصودةٌ وأهدافٌ معلومةٌ

كأنه لا تكفيهم النكبة التي أصابت الشعب الفلسطيني، وما لحق به من شتاتٍ وضياعٍ ولجوءٍ وفقدٍ وحرمانٍ، وما نزل به من المحن والابتلاءات والحروب والكوارث، ولا يعنيهم الظلم الفادح البَيِّن المبين الذي وقع عليه والعدوان الذي يمارسه العدو الصهيوني ضده كل يومٍ، وعمليات القتل والإعدام والاعتقال والمصادرة والتضييق والحصار والعقاب الجماعي، وغيرها من الممارسات العدوانية العنصرية البغيضة التي يمارسها ومستوطنوه ضد الفلسطينيين في عموم وطنهم المحتل، وضد مقدساتهم وحرماتهم وقبورهم وتاريخهم وتراثهم وحضارتهم، وكأن الفلسطينيين ليسوا شعباً ولا ينتمون إلى أمةٍ، وليسوا بشراً ولا يستحقون العيش الكريم شأنهم شأن غيرهم من الأمم والشعوب التي تنعم بالحرية وترفل بالعافية وتتمتع بالاستقلال.

تلك هي مجموعة من الدول الأوروبية ومعها الولايات المتحدة الأمريكية، الذين يوالون الكيان الصهيوني ويقفون معه، ويؤيدون سياسته ويدعمون دولته، ويشجعون حكوماته ويصمتون عن جرائمه، ويساندونه في بغيه وعدوانه، ويمدونه بالمال والقوة والسلاح وتقنيات القتل والإبادة، قد تكاتفوا وتعاونوا، وتعاضدوا واتفقوا، ووقفوا معارضين للفلسطينيين ومن تضامن معهم، وتصدوا لهم وفضوا جمعهم، وأصدروا قراراتٍ تمنعهم وأخرى تعاقبهم، ورفضوا أن يحيوا في بلدانهم ذكرى النكبة الأليمة التي لحقت بالأمتين العربية والإسلامية، وأن يستعرضوا معاناة الشعب الفلسطيني، ويذكروا المجتمع الدولي بمسؤولياته القانونية والإنسانية تجاه شعبٍ شُرِّدَ ووطن أُحتُلَ ومقدسات دُنِست وحرمات انتُهكت.

عارضت مجموعة الدول الأوروبية وفي مقدمتها بريطانيا وألمانيا والبرتغال، أي نشاطٍ يتضامن مع فلسطين وأهلها، أو يذكر بها وبشعبها، ويحرض على تحريرها واستعادتها، وتطهير مقدساتها وعودة أبنائها، ووقفت ضد أي فعاليةٍ تنظم، وحذرت القائمين عليها والمنظمين والراعين لها وتوعدتهم، واعتبرت أي نشاطٍ يقومون به شكلاً من أشكال الفوضى وخرق القانون، وحذرت بمحاسبة المخالفين ومعاقبتهم، فيما يبدو أنه عملية ترهيب سافرة ضد أصحاب الحق المضطهدين المظلومين، حيث رفعت حكومات بعض الدول الأوروبية سيف قوانينها الجائرة ضد الفلسطينيين، وهددت باتخاذ قراراتٍ أكثر شدةً وحزماً ضدهم.

غريبٌ موقف هذه الدول الأوروبية التي تدعي الديمقراطية والحداثة، وتتظاهر بالحضارة والتمدن، وتدعو إلى احترام حقوق الإنسان والحفاظ على كرامة الشعوب، كيف تقف ضد شعبٍ يُظلم أمام عيونها كل يومٍ، ويُقتل أبناؤه ويُعتدَى عليه على مرأى ومسمعٍ من سفاراتهم وقنصلياتهم ووسائل إعلامهم، وكيف تصنف الكيان الصهيوني القاتل الباغي والمعتدي الظالم، الذي لا يحترم حقوقاً ولا يلتزم نظاماً، ولا يعترف بالقوانين ولا يؤمن بالشرائع، بأنه كيانٌ ديمقراطي ينبغي أن يُعترف به ويُحترم، وأن يُقدر ويكرم، وأن تصان حدوده وتحفظ حياة سكانه، وأن يعيش بأمنٍ وسلامٍ على أرض شعبٍ طرده واستولى على دياره وممتلكاته.

إنهم بسياستهم المستنكرة ومعاييرهم المزدوجة يساندون الظلم ضد العدل، والهمجية ضد الإنسانية، والكراهية ضد السماحة، والعدوان ضد السلام، والجريمة ضد القانون، ولا يترددون في إظهار صورتهم الحقيقية التي ساهمت في خلق الكيان الصهيوني القاتل، رغم أنهم يتحملون مع المجتمع الدولي جزءً كبيراً من المسؤولية عن النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني، وعليهم يقع عبء التكفير عن هذه الجريمة التي اقترفها آباؤهم وتمسك بها خلفهم، فإن كان صمتهم عن العدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني جريمةً، فإن منعهم الفلسطينيين من الشكوى والاعتراض، ومن التظاهر والتضامن، هو شراكة في العدوان، ومسؤولية كاملة عن الانتهاكات.

ألا ترون أن الدول الأوروبية التي تمنع إحياء ذكرى النكبة تتساوق وتتماهى مع الكيان الصهيوني الذي شرع قوانين تمنع إحياء ذكرى النكبة، وأصدر قراراتٍ اعتبر بموجبها أن أي فعالية تضامنية مع الفلسطينيين في يوم النكبة جريمة يحاسب عليها القانون، فهو يعتبر أن يوم النكبة هو يوم فرحةٍ عنده، فهو يمثل يوم الاستقلال وإعلان تأسيس الدولة، والدول الأوروبية التي تحرم الفلسطينيين من الجأر والشكوى والصراخ، والتظاهر والرفض والاعتراض، تهنئ الكيان الصهيوني في هذا اليوم بمناسبة "الاستقلال"، وترسل لحكومته رسائل تهنئة ومباركة، وتشارك سفارته في عواصمها في احتفالاته بهذه المناسبة.

إنهم والكيان الصهيوني يريدون أن يشطبوا التاريخ ويتجاوزوا الماضي، وأن يتحللوا من الجريمة ويتخلصوا من الخطيئة، وأن يطمسوا العقول ويغيروا المفاهيم، ويتعمدون محاربة الفلسطينيين في ذكرى نكبتهم لتنسى أجيالهم بلادها، وتتخلى عن أحلامها بالعودة إلى وطنها واستعادة حقوقها، ويأملون أنهم بأفعالهم الشنيعة هذه يستطيعون شطب الحقوق الفلسطينية، وتشريع الاغتصاب الصهيوني، وخلق وقائع جديدة تنسي الفلسطينيين ماضيهم، وتفصلهم عن تاريخهم، وتجعلهم يقبلون بالواقع الحالي، ويسكتون عن المطالبة بتغييره والعودة إلى الأصول الأولى التي كانوا عليها في وطنهم الحر وعلى أرضهم المباركة، إلا أن ذاكرة الفلسطينيين لا تشطب، وأجيالهم لا تنسى، وأبناؤهم لا يفرطون، وعن حقوقهم مهما طال الزمن لا يتخلون ولا يتنازلون.

 

سياسةُ تسكين الجبهات وتسخين القدس والضفة

كثرت في الأيام القليلة الماضية التهديدات الإسرائيلية بقصف إيران واستهداف لبنان وتأديب قطاع غزة، واستعرضت قيادة الأركان الإسرائيلية قوة جيشها وجاهزيته على حدود قطاع غزة تارةً وعلى الحدود الشمالية لفلسطين تارةً أخرى، وأعلنت عن حالة استنفارٍ شاملةٍ، شملت مختلف قطاعاتها العسكرية، وعمدت إلى عقد اجتماعات أمنية وعسكرية موسعة، أعلنت عن بعضها وكشفت عنها، وحافظت على سرية كثيرٍ منها، وأوحت اجتماعاتها المتعددة المستويات إلى احتمال قيامها بتنفيذ عمليةٍ عسكريةٍ ما، قد تكون مختلفة عن عملياتها المستمرة في سوريا، التي تواظب عليها على شكل غاراتٍ سريعةٍ ومباغتةٍ، إلا أنها لا ترقى لأن تكون حرباً أو معركةً مستمرةً.

بالغ المسؤولون الإسرائيليون في تصريحاتهم وأكثروا من تهديداتهم، وبدت الساحة السياسية الإسرائيلية وكأنها على أعتاب جبهة قتالٍ حقيقية، هيأت لها جبهتها الداخلية وأشعرت بها دول الجوار والإقليم، بالإضافة إلى الإدارة الأمريكية ودول أوروبا الغربية، وزاد من مستوى التهديدات وعزز جديتها، المناورة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة، التي تحاكي القتال على عدة جبهات، وتستهدف في وقتٍ واحدٍ أكثر من عدو، ويستخدم فيها جيش الاحتلال مختلف أنواع الأسلحة الاستراتيجية والتكتيكية، معتمداً على أسطول الطيران الحربي الحديث الذي يملكه، والترسانة العسكرية التي يتميز بها عن دول المنطقة.

لكن عين العدو الإسرائيلي الخبيث الماكر ليست موجهة إلى الخارج وإن بدت كذلك، فهو أضعف من أن يشن حرباً على المقاومة الإسلامية في لبنان، وأجبن بكثير من أن يقصف إيران أو أن يعتدي عليها، ولعله أعقل من أن يكرر تجاربه الفاشلة مع قطاع غزة، التي لا تضعف مقاومتها، ولا يتراجع رجالها، ولا يفت في عزيمة أهلها كثرة ضحاياها، وإنما أراد بتصريحاته وتهديداته المعلنة أن يعمي على أهدافه الحقيقية، وأن يبعد الأضواء عن سياساته الفعلية، فلسانه في مكانٍ وعيونه على مكانٍ آخر، وقد ظن أنه سينجح في مكائده، وستمكن من بالخديعة والمكر من تحقيق أهدافه.

ربما كانت نوايا العدو الإسرائيلي على العكس تماماً مما أظهرها، فهو يريد لهذه الجبهات القوية أن تهدأ وتسكن، وأن تبرد ولا تتوتر، وألا تتهيأ مقاومتها أو تتحرك قواها، إذ لا ينوي إثارتها ومهاجمتها، أو الاعتداء عليها واستفزازها، خشية ردود فعلها التي قد تكون شديدة وعنيفة، ومفاجئة وصادمة، لكن هدفه الحقيقي كان ولا يزال هو القدس والضفة الغربية، فهو يريد أن يستفرد بهما ويشغل الجبهات الأخرى عنهما، ويتطلع إلى ابتلاعهما وتهويدهما، وطرد أهلهما وتغيير معالمهما، والسيطرة عليهما والتحكم فيهما، فهما حسب ادعائهم حلم الدولة اليهودية، وقلب ممالكهم القديمة، وموطن أنبيائهم وأجدادهم التاريخية.

تلك هي الحقيقة التي يجب أن نعيها وننتبه لها، وأن نجتهد في التصدي لها ومواجهتها، فالإسرائيليون يركزون على منطقة القدس والضفة الغربية، وينشغلون فيها ويركزون العمل في كل أنحائها، ولا يترددون في قضمها وتعجيل تهويدها، ولا يخفون مخططاتهم الجديدة فيها ولا أحلامهم القديمة في ممالكها، فأطماعهم فيها لا تنتهي، وخوفهم منها أيضاً لا يتراجع، ولهذا نراهم يقتلون المقاومين، ويغتالون القادة، ويعتقلون المئات من أبنائها، وينسفون بيوتها، ويطردون أهلها، ويصادرون ممتلكاتهم، ويبنون المزيد من المستوطنات على أراضي القرى والبلدات الفلسطينية، ولعله لا يكاد يمر يومٌ واحدٌ في القدس والضفة الغربية دون عمليات اقتحامٍ للمسجد الأقصى وانتهاكٍ للمقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية.

ربما تظن الحكومة الإسرائيلية أنها تستطيع ذر الرماد في العيون الفلسطينية والعربية، وإشغال المقاومة في جبهاتٍ بعيدةٍ ومعارك غير متوقعة، واستنزاف قدراتها وشل قواها وصرف أنظارها، لكن المقاومة الفلسطينية تدرك حقيقة النوايا الإسرائيلية، وتفهم مخططاته وتتابع تحركاته، وترفع الصوت عالياً تحذر به الأمة العربية والإسلامية من مخاطر الصمت عن الممارسات الإسرائيلية في القدس والضفة الغربية، وتطالبها بسرعة التحرك الجاد لحماية القدس والمسجد الأقصى، واستنقاذ ما بقي من الأراضي والممتلكات الفلسطينية، وعدم السماح للعدو بأن يستفرد بالقدس والضفة الغربية ويعزلهما عن بقية الوطن فلسطين.

تعلم المقاومة الفلسطينية أن السبيل الوحيد للتصدي للعدو الصهيوني ولجمه، ومنعه من مواصلة سياسة الاستفراد بالقدس والضفة الغربية، وإجباره على التوقف عن عمليات الاستنزاف المستمرة التي تستهدف المواطنين الفلسطينيين، ودفعه لتبريد جبهاتها والكف عن العدوان عليها، والإقلاع عن سياسة الغش والخداع، والكذب والتمويه، ليس إلا القوة المسلحة والمقاومة القادرة، وتنسيق الجهود ووحدة الساحات وتسخين مختلف الجبهات، وتعدد أشكال القتال، ليشعر بجدية المواجهة، وجاهزية المقاومة، وارتفاع كلفة العدوان، فهذا عدوٌ لا يردعه إلا الدم، ولا يوقفه عند حده سوى خسارة الأرواح وتلف الأبدان، إذ ما عادت لديه عقيدة تدفعه، ولا قيم مشتركة تجمعه، ولا أحلام توراتية تحرضه، ولا قادة تاريخيين يقودونه ويكونون لمستوطنيه قدوةً ومثالاً.

 

في القدس والأقصى الصلاةُ مقاومةٌ والرباطُ صمودٌ والعربيةُ هويةٌ

يدرك الفلسطينيون أن الحرب اليهودية على القدس والمسجد الأقصى حربٌ مفتوحةٌ، وهي حربٌ ضروسٌ طاحنةٌ، مستمرةٌ أبداً، ومستعرةٌ دوماً، لا تخبو نارها ولا ينطفئ جمرها، ولا تتوقف فصولها ولا تنتهي أشكالها، ولا يتورع العدو الإسرائيلي خلالها أن يستخدم كل أسلحته القاتلة وأدواته القذرة، ولا يمتنع أبداً عن اللجوء إلى وسائله الخبيثة وأساليبه الخشنة للوصول إلى أهدافه المرسومة وغاياته القديمة المعلومة، فهو يريد السيطرة على القدس وما حولها كما فلسطين كلها، ولا يريد أن يرى فيها أهلها ولا أن يعيش فيها أبناؤها، ويعمل على هدم مسجدها وتدمير أقصاها وطمس هويتها واستبدال صورتها، ليبني مكانها هيكله المزعوم وكنيسة الخراب المشؤومة.

 ينبري الفلسطينيون جميعاً بقوةٍ وحماسةٍ، وجرأةٍ وشجاعةٍ، وصدقٍ وإخلاصٍ، للقيام بواجبهم ولا يترددون، ويتصدون للعدوان الإسرائيلي أياً كان شكله وحجمه، ويشتركون جميعاً في محاولات صد المستوطنين ومنعهم،  وثني حكومتهم ومسؤوليهم عن قراراتهم التعسفية، أفراداً وعائلات، مسلمين ومسيحيين، مقيمين وزائرين، ومقدسيين وغيرهم، ليقينهم أن هذه الأرض كلها والقدس ومقدساتها هي للفلسطينيين، وهي ملكٌ لهم ولأجيالهم التي سبقت وتلك الآتية إلى يوم القيامة، وهي تستحق التضحية والفداء، وتستأهل المقاومة والنضال، وتهون من أجلها المهج والأرواح.

وأمام الهجمات الصهيونية المسعورة، ومحاولات الاقتحام اليهودية المتكررة، وجرائم الانتهاك العنصرية المقصودة، يلجأ الفلسطينيون جميعاً إلى مختلف الوسائل الممكنة للدفاع عن مدينتهم المقدسة ومسجدهم الأقصى المبارك، ولا يدخرون وسيلةً تغيظ العدو وتزعجه، وتعطل مشاريعه وتربكه، وتفشل مخططاته وتحبطه، إلا ويلجأون إليها ويركزون عليها، ولا يقصرون على وجه العموم والمقدسيون منهم على وجه الخصوص في الدفاع عن حقوقهم وحرماتهم، بل يتداعون من كل المشارب والفئات العمرية والجنسية، ومن كل المناطق الفلسطينية التي يستطيعون الخروج منها والدخول إلى القدس.

الصلاة فرض وهي عبادةٌ، والرباط شكلٌ من أشكال الاعتكاف وهو مندوبٌ، ولكنها في القدس والمسجد الأقصى ظاهرةٌ مختلفة، فهي جهادٌ ومقاومةٌ، وصمودٌ ومواجهةٌ، وقد حض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا أمته إلى شد الرحال إليها والصلاة في مسجدها، وعَدَّ الصلاة فيه بخمسمائة صلاةٍ في غيره أجراً ومثوبةً ومنزلةً وفضلاً، وجعل خير المرابطين من أمته فيها، ووصفهم بأنهم على الحق ظاهرين، وعلى موقفهم ثابتين، ولا يظهرهم ما يصيبهم من اللأواء في سبيلها، وبشرهم بالتمكين والنصر وأعداءهم بالهزيمة والدحر.

علم الفلسطينيون أثر الصلاة في المسجد الأقصى على العدو الإسرائيلي فحرصوا على أدائها فيه رغم الصعوبات والعقبات، فشد مئات الالاف من الرجال والنساء والصبيان الرحال إليه للصلاة فيه في أيام الجمعة، وهو ما اعتادوا عليه سنين طويلة، لكن ما أغاظ العدو أكثر وأشعره بالضعة والمهانة والضعف أمام الفلسطينيين، هي صلاة الفجر العظيم، التي اعتاد أداءها آلاف الفلسطينيين ممن يستطيعون الوصول إلى القدس والدخول إلى المسجد الأقصى.

شكل الفلسطينيون في أيام الفجر العظيم تظاهراتٍ ضخمةً ومسيراتٍ حاشدة، تغذُ الخطا بهمةٍ وعزيمةٍ، وأملٍ ويقينٍ، إلى المسجد الأقصى المبارك، يؤمهم العلماء والشيوخ، والنخب العلمية ورجال الدين، وعامة الفلسطينيين وخاصتهم، وحذا حذوهم ملايين المسلمين في كل مكانٍ، يقلدونهم ويحتذون بهم، تأييداً لهم ومساندة، وتضامناً معهم ودعماً لهم، الأمر الذي أغاظ الإسرائيليين أكثر، وأكد لهم أن القدس خطٌ أحمر، وأن الأقصى فتيل انفجار وبركان لهب، وأن الاقتراب منه سيفجر حرباً شاملةً ومواجهةً داميةً قد لا يقوى عليها، وسيصعب عليه السيطرة عليها أو الانتصار فيها.

وكما كانت الصلاة سلاحاً ومقاومة، فقد كان الرباط في المسجد الأقصى والثبات في القدس، والصمود في مواجهة الطغيان الإسرائيلي، وإثبات الطابع العربي للمدينة المقدسة وإبراز هويتها العربية الحضارية، مقاومةً أخرى، حرص الفلسطينيون على إظهارها والقتال بها والإصرار عليها، فذاك سلاحٌ جديدٌ لا تهدده الآلة العسكرية الإسرائيلية، ولا توقفه العربدات اليهودية، ولا يحد منها أو يمنعها، أو يفت فيها ويضعفها، صلفُ العدو وطغيانه، وجرائمُ القتل المتعمدة والإعدامات الميدانية ومئاتُ حالاتِ الاعتقال اليومية.

يدرك الفلسطينيون أن القدس يحفظها أهلها، ويبقي على هويتها سكانها، ويثبت وجودهم فيها أبناؤها، فتراهم رغم الصعوبات والعقبات، والتحديات والاستفزازات، والسياسات والقرارات، يتمسكون ببقائهم فيها، ويحافظون على وجودهم في بلداتها، ويدفعون جنى عمرهم وحصاد سنواتهم ضرائب لبلدية القدس لتسمح لهم بالبناء والترميم، والحصول على الخدمات والاستفادة من التسهيلات التي يتمتع بها المستوطنون اليهود ويحرم منها المواطنون الفلسطينيون، وهم السكان الأصليون والمُلَّاك الحقيقيون.

ويعرفون أن العدو الصهيوني يريد اقتلاعهم من أرضهم، ونفيهم من بلادهم، وطردهم خاصةً من القدس ومن فلسطين كلها عامةً، وحرمانهم من حقهم في الحياة فيها، والصلاة في مسجدها، إنه يريد الخلاص منهم كلهم وإلى الأبد، طرداً وإخراجاً أو قتلاً وموتاً لا فرق، المهم أن تخلو البلاد منهم، ولا يكونون في فلسطين معهم أو شركاء لهم، فهم يؤمنون أن هذه الأرض لا تتسع لشعبين، ولا تجوز لديانتين، والفلسطينيون يؤمنون أن اليهود يحلمون ويتمنون، ويبنون أحلامهم على أساطير وخرافات، وأماني وخيالات، ولكن شيئاً من أحلامهم لن يتحقق، وإن بدا لهم أنهم يملكون ويسيطرون، ويعلون ويقوون، ولكنه علو السقوط وقوة الانتحار إن شاء الله.

 

هاجس الإلهام ورعب المحاكاة يخيف الإسرائيليين

تغيرت الشكاوى الإسرائيلية وتبدلت، وأخذت أشكالاً جديدة وتنوعت، فلم تعد شكواهم تقتصر فقط على الصواريخ والمسيرات والمضادات، وإطلاق النار والاشتباكات، وعمليات الدهس والصدم والطعن، وإطلاق البالونات الحارقة والطائرات الورقية، وإشعال الحرائق وتخريب الحقول والبساتين وإتلاف المحاصيل، وغيرها من العمليات التي دأبت المقاومة الفلسطينية على القيام بها وتنفيذها، وهي بلا شك قد أوجعت العدو وآلمته، وألحقت به خسائر بشرية ومادية ومعنوية ونفسية، وتسببت له في أضرار اقتصادية وتهتك في البنية الاجتماعية وتصدع في الجبهة الداخلية، وأظهرت عجز الكيان ومؤسساته عن مواجهة تنامي هذه الظواهر وتنوعها.

لكن ما بات يخيف الإسرائيليين ويقلقهم أكثر، خاصةً بعد كل عمليةٍ ناجحة تقوم بها المقاومة، وتحقق فيها بعض أهدافها، وتؤلمهم وتوجعهم، وتبكي جنودهم وتجزعهم، وتفرض عليهم أجواءً من الرعب والهلع، هي تلك الآثار الإيجابية التي تتركها عمليات المقاومة في نفوس جمهورها العربي والفلسطيني، فترفع روحهم المعنوية، وتبعث فيهم الأمل قوياً من جديد، وتستنهض هممهم وتحرك مشاعرهم وتجيش نفوسهم، وتجعلهم أقدر على الصبر والصمود، وأقوى في المواجهة والتحدي، وأشد شوكةً وأصلب عوداً في مقارعة الاحتلال وإيلامه وإساءة وجهه، وأكثر إصراراً على تحقيق الأهداف والوصول إلى الغايات.

لكن خشية العدو الإسرائيلي من عمليات المقاومة النوعية الفريدة، التي يطلق عليها عمليات "الذئب المنفرد"، التي بات ينفذها شبانٌ يافعون، ومقاومون جريئون، وطلابٌ مميزون، وأثرياء ميسورون، ونشطاء وسيمون، وصبيةٌ متحمسون، وزائرون غاضبون، وغيرهم ممن باتوا يفاجئون العدو ويربكونه، ويصدمونه ويصدعونه، فلا ما يدل على منفذي هذه العمليات النوعية، ولا ما يشير إلى قرب وقوعها، ولا ما يساعد على فك طلاسمها ومعرفة تفاصيلها وكشف أسرارها، ولا ما يقود إلى إلقاء القبض على أمثالهم ممن بيتوا النية وعقدوا العزم على تنفيذ عملياتٍ انتقامية وثأرية، رداً على عدوان الاحتلال وجرائمه المستمرة ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه ومقدساته.

خشية العدو المتعاظمة يوماً بعد آخر هي من محاولات التقليد والمحاكاة والتأسي والاحتذاء، التي بات يلجأ إليها المقاومون الفلسطينيون وغيرهم، ممن يرغبون في تنفيذ عملياتٍ انتقامية وثأرية ضد العدو، الذي لا يتوقف عن عدوانه وعملياته الاستفزازية ضد الشعب الفلسطيني، حيث برزت لدى المقاومة ظواهر إيجابية جداً، وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي في انتشارها وشيوعها، وتقليدها والاستفادة منها في تنفيذ أفضل منها، وتحقيق أهدافٍ أكثر وأفضل، وتجنب الأخطاء وتجاوز السلبيات، والبحث عن مختلف الأهداف وأنسب الأماكن للقيام بمثل هذه العمليات.

يدرك العدو الصهيوني أن المقاومين الجدد باتوا أيقوناتٍ وطنيةً، ورموزاً قوميةً، وأعلاماً في سماء المقاومة والنضال، وصفحاتٍ مشرقةً في تاريخ الشعب والأمة، وأنهم أصبحوا بما قدموا نماذج تُحتذى وأمثلةً تُقلد، وغدوا مصادر إلهامٍ ومراكز إشعاعٍ لعمل الأجيال الجديدة، الذين وجدوا في بعض المقاومين قدوةً حسنةً يقتدون بهم، وعملاً موفقاً يقلدونه ويتعلمون منه، ويقومون بمثله وربما أفضل منه، ولعل ما شهدته الشوراع العربية في الأيام الماضية من مظاهر ابتهاجٍ وفرحةٍ، بالعملية البطولية التي نفذها البطل المصري محمد صلاح لهي خير مثالٍ على هذه الأيقونات القومية، التي أصبحت موضع اعتزاز وافتخار الأمة.

لا ينسى الإسرائيليون صور المقاومين الفلسطينيين الجدد، الشبان اليافعين، الأقوياء البنية والمتفوقين دراسةً، الوسيمي الشكل الأنيقي المظهر، المدللين عائلياً، الذين نفذوا عملياتٍ عسكريةً، وانتقلوا مكانٍ إلى آخر يلاحقون أهدافهم، وانتقوا منها ما يشاؤون، وحيدوا منها ما لا يريدون، فلم يقتلوا طفلاً ولم يستهدفوا امرأةً، وأظهروا مهاراتهم  الفنية في استخدام الأسلحة التي يحملون، قديمها وحديثها، وصغيرها وكبيرها، وأبيضها وغيره، واستمروا في القتال والمقاومة وإطلاق النار، وقوفاً وقعوداً وعلى جنوبهم، وواصلوا مقاومتهم رغم غزارة النيران التي يطلقها عليهم المستوطنون، إلا أنهم لم يبدوا استلاماً، ولم يظهروا ضعفاً، وأثبتوا أنهم رغم قسوة الظروف وصعوبة المهمات، قادرون على الوصول إلى أهدافهم، وتجاوز العقبات الأمنية والإجراءات الاحترازية.

أمام هذا التحدي الجديد طالب مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، ومؤسسات أمنية أخرى تعنى بدراسة سلوك المقاومة واتجاهات الرأي العربية الشعبية، الحكومة الإسرائيلية بالطلب من السلطات المصرية محاربة ظاهرة تقليد محمد صلاح، ومحاسبة كل الذين يظهرون فرحاً وابتهاجاً بما قام به، ومراقبة سلوك وتصرفات عناصرها الأمنية وجنود جيشها العاملين في مناطق الحدود أو قريباً منها، واعتبرت أن التساهل في هذا الأمر يجعل من السيطرة على مثل هذه العمليات أمراً صعباً، إذ سيعمد الكثير من الجنود والعناصر الأمنية إلى تقليد الجندي المصري، وذلك بالنظر إلى الحظوة والمكانة التي وصل إليها وتمتع بها.

لن يهنأ العدو الإسرائيلي بيننا ولن ينام ليله الطويل، ولن يطمئن باله ولن يطول في أرضنا بقاؤه، ولن ينعم بالهدوء وهو يحتل أرضنا ويعيث فساداً في بلادنا، ولن يعيش الأمان وهو يستوطن ديارنا ويدنس مقدساتنا وينتهك حرماتنا، فهذا عهد أحرار الأمة كلهم أن ينتقموا منه ويثأروا، وأن يقاتلوه بشجاعةٍ ويقاوموه ببسالةٍ، وسيخرج من بيننا دوماً صلاحٌ جديدٌ كما خاطر والدقامسة وغيرهم، وسيرسم المقاومون الفلسطينيون الشجعان على هام الزمان آياتٍ من العز والفخار، تكتب سيرتهم وتخلد ذكرهم وترسم ملحمتهم وتحيي أمجادهم، فقد آن أوانهم وحل زمانهم، وأشرقت فلسطين بنورهم.

 

في عيد المقاومة ويوم التحرير لفلسطين عهدٌ ووعدٌ

إنه يومٌ من أيام الله عز وجل المجيدة، وهي ساعاتٌ من عمر الأمة خالدةٌ، ومشاهدٌ من العزة والكرامة عظيمةٌ، وصورٌ من القوة والقدرة واعدةٌ، ومظاهرٌ كثيرة تشي بالعظمة والرفعة، ولوحاتٌ ملحميةٌ تمتاز بالجرأة والشجاعة، ومهاراتٌ فنيةٌ وعسكريةٌ مبتكرةٌ، وعروضٌ فرديةٌ وجماعيةٌ تحمل الأمل وتطرق أبواب النصر، وحركاتٌ تحاكي الحلم وتنهض بالآمال، وجبالٌ شاهقاتٌ تطل على الأرض المباركة، تمدُ إليها يدها مصافحةً، وترنو بعيونها إليها صادقةً، وهي تقف أمامها شامخةً، وتهمس في آذان أهلها واثقةً أن النصر قادمٌ، وأن فجر الحرية عما قريبٍ آتٍ، وما هي إلا سويعاتٌ وينبلج الصبح وتشرق الشمس على فلسطين من جديدٍ بلا عدوٍ يحتلها، ولا وافدين غرباء يستوطنون أرضها ويضطهدون شعبها، ويعيثون فساداً في أكنافها.

إنها المناورة العسكرية الحية التي نفذتها المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان بالقرب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، ودعت إليها نخبةً من الإعلاميين العرب والأجانب، وثلةً من الشخصيات اللبنانية والفلسطينية، الذين لبوا الدعوة مبتهجين، وعجلوا بحجز أماكنهم شاكرين للجنة الإعلامية في حزب الله دعوتهم، وقد مَنَّوا أنفسهم بسبقٍ إعلاميٍ كبيرٍ، واستعدوا لتغطيةٍ إعلاميةٍ مختلفةٍ، وهي المناورة التي كانت قيادة حزب الله قد أعلنت عنها وتهيأت لها، وحددت مكانها وزمانها، وقد بدا منذ الإعلان عنها أنها ستكون استعراضاً عسكرياً مختلفاً، وستكون لها رسائلها المباشرة المتعددة العناوين والاتجاهات، والمختلفة المضامين والمعاني، وستتجاوز الأسلحة والقدرات إلى النوايا والتوجهات والمقاصد والغايات.

بكل فخرٍ واعتزازٍ لبيتُ الدعوة وشهدتُ المناورة، وقد سعدتُ أنني واحدٌ من الذين شاهدوا بأم العين فعاليات مناورة النصر، وتابعوا عن قربٍ مشاهد المعركة وسيناريوهات الهجوم والتحرير، فشعرتُ بزهوٍ كبيرٍ وطمأنينةٍ عاليةٍ إلى قدرات المقاومة وإمكانياتها، واطمأنت نفسي إلى جاهزيتها واستعدادها، وإلى إقدامها وصدقها وعزمها وجدها.

فقد كانت المناورة هجوميةً ولم تكن دفاعية، وكانت أحداثها تجري داخل مستوطنات العدو، بعد أن هاجمتها المقاومة بمختلف الأسلحة المناسبة، في إشارةٍ واضحةٍ لا تحتمل التأويل، ولا يختلف في تفسيرها الأعداء والمحبون، فقد قالت المقاومة الإسلامية في مناورتها للعدو وغيره، بلغةٍ واضحةٍ صريحةٍ مباشرةٍ، أننا اليوم نغزو ولا نُغزى، ونهاجم ولا يعتدى علينا، وأننا بتنا على أعتاب النصر ومشارف التحرير، وأن المعركة القادمة بيننا وبينه هي المعركة الفصل وهي الحرب الخاتم، التي ينتهي فيها كيانهم ويزول ملكهم، في الوقت الذي تشرق فيه شمس فلسطين وقد تحررت من الاحتلال، وعاد إليها أهلها واللاجئون.

أكاد أجزم أن غالبية من شهدوا المناورة لم يكونوا على علمٍ بتفاصيلها، ولا يعرفون شيئاً عن فقراتها، وكثيرٌ منهم قد شهد حروباً سابقة، أو شارك في تغطية يوميات معارك وحروب طاحنة، لكنهم وقد أخذوا مواقعهم أمام المنصة، وتهيأوا لمشاهدة فقرات المناورة، ما كانوا يعلمون أنهم سيشهدون معركةً حقيقيةً متعددة الجبهات، وملحمةً بطوليةً مختلفة المشاهد، وسيرون أسراب المسيرات، وعربات ودراجات الهجوم والاقتحام، وأفراد فرقة الرضوان وفرق النخبة الأخرى وهم ينفذون مهام قتالية وعملياتٍ هجومية مختلفة، ويجرون محاكاةً دقيقة لاستهداف آلياتٍ عسكريةٍ وتدميرها، ويسوقون طواقمها أسرى ويسحبون جثت القتلى، وأخرى للهجوم على مستوطنةٍ والسيطرة عليها، وإنزال الأعلام الإسرائيلية ورفع أعلام المقاومة مكانها.

إلا أنني أجزم أن العدو الإسرائيلي قبل غيره قد أدرك أنه المقصود وحده بهذه المناورة، وأنه المستهدف بها دون غيره، وأن نارها ستحرقه، وأن المقاومة تحذره، وأن الصواريخ التي أطلقت تستهدفه، وترسل له رسائل واضحة ومباشرةً، بأنها ومحور المقاومة تتربص به وتتهيأ له، وتستعد لقتاله وتتجهز لمواجهته، وأنها لن تسكت عنه ولن تخاف منه، وأنها سترد عليه وستردعه، وأن الزمان الذي كان يظن فيه أنه يملك الجيش الأقوى والأكثر فتكاً قد ولى وانتهى، فقد بات في مواجهة مقاومةٍ مدربة ومؤهلة، وقادرة وجاهزة، وموحدة القيادة ومنسقة الجهود، وتملك القدرة والشجاعة على مواجهته، ولديها الثقة واليقين أنها ستغلبه وستنتصر عليه.

أما الفلسطينيون وأنا أحدهم، وقد خرجنا للتو من معركة "ثأر الأحرار"، فقد شعرنا بأن هذه المناورة العسكرية التي أقلقت العدو وأزعجته، وزادت من عمق أزمته وشرخ جبهته، قد أفرحتنا وأسعدتنا، وأشعرتنا بأننا لسنا وحدنا في المعركة، وأن هناك من ينتصر لنا ويعمل معنا، ويعد العدة ويتجهز لخوض المعركة إلى جانبنا والانتصار لنا، وكأن هذه المناورة هدية لنا على صبرنا، ومكافأةً لنا على صمودنا، ورسالةً لنا من على أرض المعركة وميادين القتال أن لكم جنداً ينصرونكم، ومدداً يردفكم، ومقاومةً تقاتل معكم.

بحول الله عز وجل وقدرته، وبعد التوكل عليه والاستعانة به، فإننا لن نغلب اليوم من قلةٍ، ولن ينتصر علينا العدو لضعفٍ أو عجزٍ، ولن يرهبنا ويخضعنا لقوةٍ فيه أو تفوقٍ لديه، ولن يستفرد بنا أو يستقوي علينا لفرقةٍ بيننا أو خلافٍ يعصفُ بنا، ولن ينال من فريقٍ منا ويستفرد بآخر فينا، فقد بتنا اليوم بفضلٍ من الله ونعمةٍ، نمتلك قوةً رادعةً، وقدرةً فائقةً، وأسلحةً متفوقةً، ومن قبل لدينا الصدق واليقين والعزم والإيمان، والجاهزية والاستعداد، والإرادة الحرة والقرار المستقل، ونجحنا بحمد الله وفضله من فرض قواعد للحرب جديدة، ورسمنا معادلاتٍ للصراع كاسرةً وألزمنا العدو بها وأخضعناه لها، ولعله اليوم أكثر من يعيها ويفهمها، ويخاف منها ويخشاها، تماماً كما قرأ المناورة ووصلته رسائلها، وساء وجهه بسببها، وتكدرت حاله لتداعياتها. 

 

الموت أثناء الاستجواب شبهة وخلال التعذيب جريمة

تستوقفني دائماً حوادث "الوفاة" داخل السجون الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، وأشعر بالكثير من الحزن والأسى لوقوعها، وهي للأسف باتت حوادث كثيرة ومتكررة ومحزنة ومؤلمة، ومثيرة للسؤال والاستغراب، وغالباً تطال الموقوفين أثناء التحقيق، وتحديداً خلال الأيام الأولى لتوقيفهم، وأحياناً بعد ساعاتٍ قليلة من دخولهم السجن، وقَلَّ أن تحدث وفيات بين المحكومين الذين تجاوزوا مراحل التحقيق والاستجواب

إلا أنني –وغيري كثير- لا أصدق التقارير الصادرة عن الجهات الرسمية في المنطقتين، أو أشكك في صدقيتها وموضوعيتها ومهنيتها، ولا أقبل بها ولا أسلم بمبرراتها، حيث تتشابه التقارير الطبية التي تصدرها جهات الاختصاص الصحية، التي تعزو الوفاة غالباً إلى تعرض الموقوف لأزمةٍ قلبيةٍ مفاجئة، نتيجة انسداد شريانٍ أدى إلى توقف القلب، أو نتيجة لجلطة دماغية أو ذبحة قلبية، وغير ذلك من أسباب "الوفاة" المفاجئة، التي تشخصها اللجان الطبية وتصادق عليها وزارة الصحة، وتعتمدها السلطات الرسمية، الأمنية والسياسية.

كما أنكر على الجهات الرسمية مطالبتها وإلزامها أهل "المتوفى" خاصةً والشعب عامةً وهيئات حقوق الإنسان، واللجان والمؤسسات الحقوقية، بتصديق الرواية الرسمية الصادرة عن هيئاتها المختصة، واعتماد نتائجها وتعميمها وعدم التشكيك بها، وتستنكر إدانتها وتوجيه اللوم لها، وتعيب على من ينتقدها ويعارض فعلها، وترفض أن توجه أي اتهاماتٍ لها أو لعناصرها الأمنية التي أوقفت المتهم، أو لضباط التحقيق الذين أشرفوا على الاستجواب والتحقيق، أو للجهات الإدارية المشرفة على مراكز التوقيف ورعاية الموقوفين وحمايتهم.

لعله من الخطأ الجسيم السكوت على مثل هذه الحوادث، والقبول بها والتسليم بعفويتها، أو المساهمة في تضليل الناس وطمس الحقائق وإخفاء المعلومات عنهم، والتعمية على المتسببين بها والتستر عليهم وإعلان براءتهم، سواء كانوا عامدين وقاصدين، أو حدثت الوفاة قدراً خلال التوقيف، بل أرى أنه من الواجب علينا أن نسلط الضوء عليها إقراراً للعدالة، وصوناً للحقوق، وحفظاً لكرامة مواطنينا، وحماية للمقاومة، ومنعاً للتغول، ومحاربةً للظلم، وكفاً للظالم، وضرباً على أيدي المتجاوزين للقوانين والمعتدين على كرامات الناس وحقوقهم، وإلا فإن الكثير من هذه الحوادث ستتكرر، وستترك آثاراً كبيرةً على وحدة مجتمعاتنا وتماسكها، وستقود إلى تمزيق صفوفنا، وضعف حاضنتنا، وتخلي الكثير عن مقاومتنا.

فنحن جميعاً نعيب على العدو الإسرائيلي، الذي يحتل أرضنا ويغتصب حقوقنا ويدنس مقدساتنا ويعتدي علينا ليل نهار، إقدامه على قتل أسرانا وإعدامهم بوسائل شتى، ونتهمه بتعمد قتلهم أو الإهمال في علاجهم ومتابعة حالتهم الصحية مما يؤدي إلى وفاتهم، أو المبالغة في تعذيبهم والتضييق عليهم، وندين استخدامه وسائل خشنة وقاسية خلال عمليات التحقيق معهم، ونحمله والمجتمع الدولي كامل المسؤولية عن حياة أسرانا وصحة معتقلينا، ونعتبر أن ما يمارسه بحقهم جريمةً ضد الإنسانية، ينبغي أن يحاسب ويعاقب عليها.

مما لا شك فيه أنني لا أقارن بين الحالتين، ولا أدعي التشابه بينهما، فالفرق كبيرٌ جداً والمقارنة بينهما باطلة وفاسدة، فذاك عدو نتوقع منه دوماً الأسوأ والأقسى، ولا ننتظر منه مودةً ولا رحمةً، ولا يفرق في عدوانه ضدنا بين فلسطينيٍ وآخر، بل كل الفلسطينيين هم أعداؤه، أياً كان انتماؤهم وولاؤهم، وهو يتعمد المبالغة في تعذيب الأسرى والمعتقلين عموماً، ولا يعنيه أبداً إن هم قتلوا جراء التعذيب وأثناء التحقيق، أو نتيجة الإهمال الطبي والمعاناة من الأمراض المستعصية.

لكننا نعيب وبشدة على السلطات الفلسطينية، التي تدير شؤون الناس وتعنى بهموم المواطنين، وتقود الشعب وتنظم شؤونه وتدعي المسؤولية عنه، قبولها بمثل هذه الحوادث التي لا يراها الشعب عادية، ولا ينظر إليها على أنها طبيعية، ونستنكر استخفافها بالعقول وتبسيطها للحوادث، فحالات الوفاة في أغلبها ليست عادية أو نتيجةً لأسباب طبيعية، بل هي قطعاً نتيجة التعذيب الشديد والضرب العنيف، وقد ثبت أن بعض الموقوفين قد توفوا نتيجة ضربهم بعتلاتٍ حديدةٍ وبسلاسل معدنيةٍ ثقيلةٍ، وبسياطٍ مغلظةٍ، فضلاً عن الضرب بالعصي والهراوات والأدوات الحادة، التي تصيب مناطق حساسة من الجسد في الرأس والصدر والبطن، ما يؤدي إلى حدوث حالات وفاة سريعة.

أمام هذه الوقائع المتكررة والحقائق الثابتة، نرى أن على السلطات الحاكمة، وهم أولياء الأمر، أن تقف عند مسؤولياتها، وأن تكون أمينة على حياة شعبها ومصالح أبنائها، وأن تضبط بقوةٍ وحزمٍ أداء الشرطة وعمل الأجهزة الأمنية، وأن تعاقب المتجاوزين، وتحاسب المخالفين، وأن تخضع العاملين في قطاع السجون ومراكز التحقيق والاستجواب إلى دوراتٍ خاصةٍ، تؤهلهم فيها إنسانياً بنفس القدر الذي تؤهلهم فيها مهنياً، وأن تلجأ في عمليات التحقيق إلى وسائل أخرى، دقيقة وحازمة ومضبوطة، تتوخى من خلالها الوصول إلى الحقيقة، في الوقت الذي تحفظ فيه كرامة الإنسان، وتصون حياته، وتحفظ سمعة وشرف وماء وجه أهله.

وعلى السلطات الحاكمة أيضاً أن تسهل عمل لجان الرقابة والتفتيش، وأن تسمح للجان حقوق الإنسان والمؤسسات المدنية، بإجراء تحقيقاتٍ مستقلة، وتوجيه مساءلة قانونية للمتورطين في مثل هذه الحوادث، وينبغي عليها  ألا تكون لينة أو متساهلة مع كل من يتجاوز القانون، أو يفرط في استخدام القوة، أو يلجأ إلى ممارسة التعذيب الشديد، فبعض المسؤولين مهوسون أمنياً ومرضى سيكولوجياً، ويظنون أنهم يحققون مع عدوٍ، ويستجوبون جواسيس وعملاء، مع التأكيد على مبدأ المهنية في التحقيق، والعدالة في الإجراءات، والإنسانية في التعامل مع أي موقوفٍ أياً كانت تهمته وجريمته، إلى أن يحال إلى المحكمة التي يؤمل فيها أن تصدر في حقه الحكم المناسب والجزاء العادل.

إلا نقوم بذلك ونحرص على الحق والعدل، والمساواة والإنصاف، ومحاسبة المخطئين ومعاقبة المتورطين، وإقصاء الفاسدين، وإبعاد المرضى والمهوسين، فإننا نغضب الله عز وجل ونستحل لعنته، ونخسر شعبنا، ونفقد حاضنتنا، ونضعف قاعدتنا، ونفض الناس من حولنا، ونؤسس للحاقدين علينا والكارهين لنا، ونمكن للعدو فينا، فنحن أقوياء بطاعتنا لله عز وجل وصدقنا معه سبحانه وتعالى، وبعدالة قضيتنا، وقدسية بلادنا، وطهر مقاومتنا، ووحدة شعبنا، وصفاء نفوسنا، وتواضعنا لبعضنا، وذلتنا فيما بيننا وعزتنا على عدونا.

 

مؤتمرُ فلسطينيي أوروبا يحفظُ الهويةَ ويحمي القضيةَ 

يظنون أنه لا وجود لهذا الشعب ولا هوية له، ولا تاريخ يربطه بأرضه ولا ذكريات له في وطنه، ولا مقدساتٍ يتوق إليها ولا أمجاد له فيها، ولا انتماء يتمسك به ولا أصول يصر عليها، ولا آباء قاتلوا من أجله، أو أجداد غرست أجسادهم في أرضه، ولا ما يشده إلى ماضيه أو يربطه بمجده، فقد أنكروا وجوده، ورفضوا تمثيله، وتمنوا شطبه، وعملوا على زواله، وتآمروا عليه وعملوا ضده، واحتالوا عليه واتحدوا ضده، ولم يقصروا في حربه والاعتداء عليه ومحاولة خلعه، لكن مساعيهم كلها قد خابت، وباءت جهودهم كلها بالفشل، واستعلى الشعب الفلسطيني وسما، ونقش اسمه على هام الزمان ومضى، وسجل مجده على صفحات التاريخ وسنا. 

فهذا الشعب الضاربة جذوره في عمق الزمن وعلى مدى التاريخ، الثابت رغم الصعاب، والباقي رغم التحديات، والمصر على العودة، يأبى الشطب، ويرفض الذوبان، ولا يقبل بالتهميش، ولا يرضى بالركن أو يستسلم للحصار ويموت بالخنق، بل ينتفض ويثور على محاولات الإساءة والتضييق، ومساعي التعمية والتزييف، وأماني التخلي والنسيان، ويصر على كرامته، ويضحي من أجل حريته، ويتفانى في قتال عدوه، ولا ييأس في معركته، ولا يخاف من مواجهته، ويبتكر وسائل جديدة لقتاله، ويبتدع سبلاً مختلفة لمقاومته.

الفلسطيني حيث يكون يمثل وطنه، ويعيش قضيته، وينوب عن شعبه، ويعبر عن ألمه، ويكون خير سفيرٍ لبلده، وأصدق رائدٍ مع أهله، ومهما كان بعيداً فهو إلى وطنه أقرب، وإليه يحن، ومن أجله يعمل، وفي سبيله يقدم ويضحي، ويعطي ويمنح، ويجود ويسخو وخير ماله يبذل، وهو لا ينتظر داعياً يحثه، ولا محرضاً يدفعه، ولا غيوراً يشجعه، ولا عملاً يستفزه، ولا حوافز تغريه، أو مكافئاتٍ ترضيه، ذلك أنه يؤمن أن فلسطين وطنه، وأن تحريرها واجب، واستنقاذها فرضٌ، واستعادتها حقٌ، وأن القدس أمانةٌ، والأقصى آيةٌ، والمسرى عقيدةٌ، ولن تكون الأمة بخيرٍ ما لم تستعد فلسطين وتسترجعها، وتعود إليها حرةً عزيزةً مستقلةً.

لهذه المبادئ السامية والمفاهيم الوطنية الصادقة، والثوابت العقدية الخالصة، والشعارات التاريخية الخالدة، يعمل مؤتمر فلسطينيي أوروبا، وينظم مؤتمره السنوي للسنة العشرين على التوالي، دون كللٍ أو مللٍ، أو يأسٍ وقنوط، رغم حملة التحريض ضده، ومحاولات تشويه دوره وتلويث هدفه، حيث يؤمن منظموه أن الفلسطينيين القاطنين في أوروبا يستحقون بذل الجهد من أجلهم، والعمل معهم، وتنسيق الجهود وإياهم، وتوجيه طاقاتهم وترشيد اهتماماتهم.

فهم في أوروبا باتوا عشرات الآلاف، وقد غدو في دولها طاقاتٍ فاعلةً، وكفاءاتٍ علميةً مميزة، وقدرات اقتصادية كبيرة، وكثيرٌ منهم يتمتع بجنسياتٍ أوروبية، تحميهم وتقويهم، وتمنحهم الفرصة أكثر للعمل من أجل بلادهم، والتضامن مع شعبهم، والمطالبة برفع الظلم معهم، ومساندتهم في قضيتهم وتأييدهم في نضالهم، وكلهم يرغب في أن يكون له دورٌ في النضال وسهمٌ في القتال، أياً كان شكل المقاومة ونوعها، فقد غدت المقاومة صنوفاً وأنواعاً، ولم تعد سلاحاً فقط وقتالاً في الميدان.

تلك هي المفاهيم التي يعمل مؤتمر فلسطينيي أوروبا على بعثها وإحيائها، وتكريسها وتثبيتها، وتطويرها وتنويعها، وقد شعر الفلسطينيون المقيمون في أوروبا، أن هذا المؤتمر يمثلهم ويعبر عنهم، ويعكس رغباتهم ويترجم مشاعرهم، فلبوا نداءه، واستجابوا إلى إعلانه، وأخذت أجيالهم تتوافد عليه منذ عشرين عاماً، واشترك أبناؤهم على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية وفئاتهم العمرية في كل المؤتمرات السابقة، التي حرص منظموه على أن يعقد دورياً في دولٍ مختلفة، ويطوفون به على كل العواصم الأوروبية، ليتسنى لجميع فلسطينيي أوروبا المشاركة فيه، والمساهمة في فعالياته، علماً أنهم يشاركون على نفقتهم الخاصة، ويأتون إليه من أقاصي أوروبا، يتكبدون المشاق، ويلاقون الصعاب، ويأخذون الإجازات، ويضحون بالوظائف والأعمال، بل ويقدمون ويتبرعون، ويساهمون في تغطية نفقات الانعقاد وبرامج العرض والتقديم.

مؤتمر فلسطينيي أوروبا مَكَّنَ الفلسطينيين المنسيين في أوروبا، والمهمشين قديماً من مرجعياتهم، من أن يكون لهم دورٌ وعملٌ، وساعد في تسليط الضوء على قدراتهم وإمكانياتهم، وكشف عن مواهبهم وطاقاتهم، وأظهر أنهم يستطيعون أن يساهموا في المقاومة وخدمة شعبهم ودعم صمودهم وترسيخ ثباتهم.

وساعد المؤتمر في حماية الهوية الفلسطينية، والدفاع عن الحقوق الوطنية، فبات العدو يخشاهم ويخاف منهم، فهم أقوياء في طرحهم، وصادقون في قضيتهم، ويحسنون التعبير عن معاناة شعبهم، وبيان مدى الظلم الواقع على أهلهم، وهم يتقنون اللغات الأوروبية، ويتمتعون بجنسيات بلادها المختلفة، وكثيرٌ منهم يتبوأ أعلى المناصب الحكومية والوطنية، وأفضل المراكز الاقتصادية وأكثرها تأثيراً وفعاليةً، وأصبحوا في المجتمعات الأوروبية صوتاً عالياً وعاملاً فاعلاً فيها، يؤثر سياسات حكوماتها، ويصوب قراراتها، ويدفعها لممارسة الضغط على الحكومات الإسرائيلية.

غريبٌ أمرهم ومستنكرٌ فعلهم، وفاضحٌ قولهم ومشينٌ نصحهم، وعيبٌ سعيهم ومشبوهٌ جمعهم، أولئك الذين يعترضون على مؤتمر فلسطينيي أوروبا، ويصفونه تارةً بأنه مؤتمر ضرار، وأخرى بأنه فتنة سياسية وانقلابٌ وانقسامٌ وشرذمةٌ، ويرفضون غيرة منظميه على قضيتهم، ويشككون في انتمائهم، ويتهمونهم في وطنيتهم، ويعيبون عليهم أنهم يهتمون بشؤون أهلهم، ويقلقون على مستقبل أجيالهم في أوروبا، ويصرون على حقهم في العودة إلى ديارهم، في الوقت الذي أهملوا فيه شعبهم، ولم يهتموا بشؤونه، وتركوه سنين طويلة وحده، وقد كان حرياً بهم، وهم يدعون أنهم المرجعية والممثل، أن يولوا أهلهم في دول أوروبا وغيرها الاهتمام المطلوب، لئلا تنحرف أجيالهم، ويضيع أبناؤهم، وتنحرف بوصلتهم، وتضل مجتمعاتهم.

مؤتمر فلسطينيي أوروبا أداةٌ نضالية وطنية جديدة، فهو منبرٌ متقدمٌ، ومنصةٌ عاليةٌ، وبرلمانٌ مفتوحٌ، وفسحةٌ دولية، وفرصة سانحة للتعبير عن الموقف الوطني الفلسطيني وتحصينه، وبيان هويته وحماية قضيته، وهو هيئةٌ وطنيةٌ جامعةٌ لشتات الفلسطينيين في أوروبا، تحافظ عليهم، وتثبت موقفهم، وتصون وحدتهم، وتوجه بوصلتهم، وتنظم جهودهم، وترفع صوتهم عالياً أمام المجتمع الدولي ومؤسساته السياسية والحقوقية والإنسانية.

والفلسطينيون في أوروبا يرونه خير من يعبر عنهم ويصون حقوقهم، ويدافع عنهم وينطق باسمهم، فهو لا يصنف المنتسبين إليه والمؤمنين به، ولا يفرق بينهم ولا يقصي أحداً منهم، ولا يحرم فريقاً أو يخون ويجرم طرفاً، بل يمنح الحرية للجميع ضمن الثوابت الوطنية، فلا يحتكر منبراً ولا يخمد صوتاً، ولا يصادر رأياً، فهل نتعاون معه ونساعده، ونؤيده ونسانده، أم نتعامل معه كما تعامل المشركون مع نبي الله إبراهيم عليه السلام فهلكوا ونجا، "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّار إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".