ما زال أدونيس يُشعل الحرائق في مواقفه من «تجّار الأديان الذين وضعوا الإسلام جانباً منذ 1400 سنة، وحوّلوه أيديولوجيا تخدم صراعاتهم من أجل السلطة». وها هو الشاعر والمفكر يتوقّف في هذا النصّ عند الواقع الإسلامي اليوم والقوى الاستعمارية التي كشفت عن وجهها العاري في العدوان الصهيوني على غزة.

نحو صورة جديدة للمسلمين وللإسلام

«بيان لا يُلزِمُ أحداً غيري»

أدونـيـس

 

(1)

صار واضحاً لكلّ مَن يريد أن يرى بعينه أو بعقله، أو بهما معاً، أنّ صورةَ الإسلام في العالم الحديث، بخاصَّةٍ منذ 11 أيلول 2001 قد تَغيّرت كلّيّاً، نحو الأكثر سوءاً، لا في عين العالم غير المُسلِم وحده، وإنّما كذلك في عين العالم المُسلمِ نفسِه ــ لكن على نَحْوٍ أكثرَ تَفاوُتاً وانشقاقاً.
صارت هذه الصّورة في القرن الحادي والعشرين تَشويهاً لِما كانت عليه في القرون الأمويّة والعبّاسية والأندلسية: تُخجِلُ حيناً، وتُحَيِّرُ حيناً، وتُقلِقُ أحياناً كثيرة. وها هي اليوم تنفصِلُ كلّيّاً عن السّياق الإسلاميّ الأساس في التّحَوُّلَين الكبيرَين اللّذَين أسَّس لهما، بعد وفاة النّبيّ، وقادَهما عمر بنُ الخَطّاب، على صعيد السّلطة والسّياسة، وعليّ بن أبي طالب، على صعيد العدالة والرّؤيا «الرّوحيّة» ــ الثّقافيّة ــ الإنسانيّة.
كان التّحَوُّل العُمَريّ تجسيداً لفهمٍ عَمَليٍّ إستراتيجيّ لمعنى السّلطة ولِما يكون عليه وضْعُ المسلمين العرَب بعد وفاة النَّبيّ الذي ترك قبائلَهم المُتَفَرِّقة، اجتماعيّاً، تحت مظلّة الوحدة الدّينيّة. وكان التّحَوُّلُ الذي قادهُ عليّ بن أبي طالب ينهض على رؤيةٍ للإنسان تعطي الأوّليّةَ للخُلُقِ الكريم الفعّال، وللعمل الإنسانيّ الخلّاق، وللفكر المُبْدِع الذي يرى ويستشرف ويبني الإنسانَ وعالمَه في اتّجاه العدالةِ، والرّحمة، والحقّ.

ثقافة السّلطة والإدارة والعدالة قادَها الأوّل، وثقافة الحرّيّة والحقّ والنُّبْل، قادَها الثاني ــ في وحدة مُضْمَرة، لم يُتَحْ لها أن تظهرَ إلى العَلَن إلا نادراً وفرْدِيّاً، وتلك لحظةٌ أتاحَت للخليفة عمر أن يقول كلمتَه العالية المُضيئة في قضيّة حياةٍ أو موت تتعلّق بامرأةٍ اتُّهِمَت خطأً أو زوراً، وبَرَّأها عليٌّ بعد أن كان عمر موشِكاً أن يُدينَها وهي الكلمة التّالية: «لولا عليٌّ لَهَلَكَ عُمَر». ويمكن أن نترجمها سياسيّاً: «لولا العدالة لهلَكَت السّلطة».

(2)

اليوم صار المُسلِمون يفكِّرون ويعملون خارجَ هذا الأفق الإنسانيّ النّموذجيّ. صاروا فِرَقاً: لكلّ فرقةٍ مَرجِعٌ، ولكلّ مرجِعٍ مرجِعٌ. وخَبا ضَوءُ التّحَوُّل الثّقافيِّ العُمَريّ، وتلاشى ضوءُ التّحَوُّلِ الذي أسّس له صديقُه ورفيقُه عليّ بن أبي طالب. صار المسلمون جيوشاً وسلطات: لكلّ جيشٍ جيشٌ آخَر، داخِلاً وخارِجاً، ولكلّ سلطةٍ سلطةٌ أخرى، داخِلاً وخارِجاً.
صار «جمهورُهم» أشلاء، وأنقاضاً، وأدواتٍ وتابعين.
وها هو إسلامُ هذا الجمهور يبدو اليوم، في الممارسة وفي النّظَر، أنّهُ عالَمٌ ليس فيه من الإسلام إلّا الاسم والشّكل، وليس فيه من سياسة النّبيّ أو عمر أو عليّ وفكرِهم إلّا الاسم والشّكل أيضاً. وها هو يصل إلى مكانٍ من تاريخِهِ لم يَعُدْ فيه أيُّ مكانٍ للعدالة والحقّ، والحرّيّة، والمحبّة، ويعني ذلك أنّ الإنسانَ نفسه يبدو كأنّما لم يعُدْ له مكانٌ إلّا بالاسم والشّكل، بالرّقم والعَدَد.

وهذا يعني أنّ الإسلامَ الحديث، ابتعَدَ كلّيّاً عن المَآثِرِ العظيمة التي حَقَّقَها هذان التّحَوُّلان الكبيران، كلٌّ في ميدانِه. يعني أيضاً أنّ القطيعةَ مع المُنجَزات الإبداعيّة التي صَنَعَت تاريخَه ـــ في الشعر، والفلسفة، والتّصَوُّف، وفي الفنون والعلوم قد اكتملت، وها هو يعيش في تَحَوُّلٍ ثالثٍ يكاد أن يصيرَ فيه مُجَرَّدَ سلطةٍ، ومجرّد ثكنةٍ، ومجرَّدَ جهادٍ للحماية والدفاع و «الهجوم» ــ أفراداً وجماعاتٍ، وِفقاً لمصالح السّلطة في علاقاتها مع الغرب المُستَعمِر، بخاصّةٍ الغرب الأميركيّ.

وعلينا هنا ألّا نملَّ أبداً من التّذكير بالواقِع الأسود، على جميع المستويات، الواقع الذي يعيشه المسلمون في مُعظَمِهم والذي يتمثّل في أنّ القائدَ الأوّلَ لهذا الواقع الأسود هو الإسلام المُتَعَثْمِن في عباءة الإخوان المُسلِمين. وعلى المسلمين جميعاً أن يتذَكَّروا، على الأقلّ، أنّ الخلافةَ في صورتها العثمانيّة، دمَّرَت الإسلامَ الحضاريّ ولم تُبْقِ منه إلّا الهيكل السّلطويّ والسّيف، ودمَّرت العرب على جميع المستويات، على مدى ما يزيد عن أربعة قرون، كما لم يفعل أيّ أجنبيٍّ أو أيُّ مُستعمِر.

(3)

أدّى هذا كلُّه إلى ممارسة سياسةٍ، داخليّة وخارجيّة، أدّت بدورها إلى الظّواهر الخطيرة التّالية:
أوّلاً ــ إبقاءُ الجمهور الإسلاميّ في جهلٍ كاملٍ، معرفِيّاً بشكل عامّ، ودينيّاً بشكل خاصّ. والحقّ أنّ هذا «الجمهور» لا يعرف أن يقرأ حتّى نصوصه الدّينيّة التي يُقَدِّسها، فكيف يقدر إذاً أن يتأمّل فيها أو أن يفهمها؟
ثانِياً ــ إبقاء المرأة كما هي في عبوديّتها وقيودها وغيابها شبهِ الكامل عن حركيّة المجتمع، وهو غيابٌ يطمس نصفَ طاقاتِ المجتمع، عدا الازدراء المُهين الذي ينطوي عليه.
هذا الغياب ليس حجاباً للمرأة وحدها، وإنّما هو حجابٌ للرجل نفسه. الحرّ لا يَستعبِد، الحرّ يُحَرِّر.
الرجل المسلمُ العربيّ هو، في ما يتعلّق بوضع المرأة، العبدُ الحقيقيّ.

أكرِّرُ سؤالي للأنظمة الإسلاميّة ــ العربيّة: لماذا هذا الارتباط العضويّ بالنِّظام الأميركيّ؟
ثالثاً ــ الاستمرار في إبقاء هذا الجمهور الإسلاميّ العربيّ سجينَ الثقافة القديمة، ثقافةِ القرونِ الوسطى، ثقافةِ الفقْهِ والشرع، كما رأتْها ثقافةُ القبيلة والثّـأر، ثقافةُ التكفير والكراهية، في إقصاءٍ كاملٍ لثقافةِ الإنسان، حقوقاً وواجبات، وحرّيّات. وهكذا لم يقدر المسلمون العرب، على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً، أن يؤسِّسوا دولةً واحدة بالمعنى الحديث، دولة مُواطَنةٍ يتساوى فيها الجميع. وهكذا لا تزال البلدان العربية ممالكَ وإماراتٍ وسلطاتٍ تقوم على الانتماء القبليّ أو الطّائفيّ أو العشائريّ. وما يُسمّى «المجتمع» ليس إلّا رُكاماً من البشر يتساوون في القيام بالواجبات إزاء السّلطة، ولكنّهم لا يتساوون في الحقوق.
رابعاً ــ إبقاء السّلطة في ارتباطٍ مباشرٍ باللّاهوت، لكي يستمرّ الطّغيان تحت حجاب الغطاء اللاهوتيّ.

(4)

وها هو الإسلام، اليوم، ليس «عِلماً» وليس «فِكراً» وليس «فنّاً»، وليس «شعراً» وليس «فلسفة»، وليس «صناعة» وبالأخصّ، ليس رؤيا للمستقبل البشريّ، إلخ. فلقد حوّلَتْه السّلطة إلى مجرَّد حارسٍ مهمّتُهُ السّهَرُ على بابها وحمايتها والدّعاءُ لها.
لم أعُدْ أذكرُ اسمَ ذلك المتصوِّف الذي قال: «إذا رأيتَ عالِماً يلوذُ ببابِ سلطان، فاعلمْ أنّه لصّ». وإذا نظرنا إلى هذه الكلمة بعين الحاضر، وأصغَيْنا فإنّنا نسمع فيها ما يشبه تحويراً لعبارة ماركس: «يا عُمّالَ العالم اتَّحِدوا»!

هل يمكن للمسلمين اليوم، في مُواجَهَة الغرب السِّياسيّ، أن يُعطوا لإسلامهم صورةً جديدة تليقُ بتاريخه المُضيءِ؟

بما أنّ الإسلام، في يقين المُسلم، هو الكلمة الأخيرة التي قالَها الله للإنسان، ونقَلَها نبيُّهُ الأخير الذي لا نبيَّ بعده، فإنّ علاقة المسلم بالعالم تقوم عمليّاً على هذا المبدَأ الإلهيّ: ليس الإسلامُ هو ما يجب أن يتغيّر لكي يتشبَّه بالعالم، وإنّما العالم هو ما يجب أن يتغيّر لكي يتشبّه بالإسلام. وهو مبدأ يفسِّر امتناعَ المسلمين، أو عجزَهم [الإلهيّ] عن إقامة دولةٍ بالمعنى الإنسانيّ، على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً كما أشرنا، يُنظَرُ فيها إلى الإنسان بوصفه إنساناً، مواطِناً، بواجبات واحدة، وحقوقٍ واحدة، ويفسِّر كيف صارت جميع الأنظمة العربيّة الإسلاميّة، من دون استثناء، أدواتٍ في أيدي العالم، وخَدَماً في قصور السياسة الأجنبية.

وهكذا نفهم كيف أنّ المسلمين العرب الذين جسّدوا ظاهرةً اجتماعيّة ثقافيّةً لا مثيلَ لها في التاريخ: يزدادون تخلُّفاً طرداً مع تقدُّم العالم. الإسلام العربيّ في العصر الأمويّ وفي العصر العبّاسيّ أكثر وعياً ومعرفةً وانفتاحاً على العالم، منه في العصر الذرّيّ، وعصر الغزو الفضائيّ، في القرنين العشرين والحادي والعشرين.

(5)

استمرار المسلمين في هذا التّخلُّف - «التّقدُّم!»، يعني استمرار الحياة الإسلامية في جمودها. وأبسط ما يُقال في هذا الصّدَد هو إنّنا لا نجد فكراً دينيّاً إسلاميّاً «حديثاً»، كما نقول: «هناك فكرٌ دينيٌّ يهوديٌّ حديث، وفكرٌ مسيحيٌّ دينيٌّ حديث».
لا أشكّ في أنّ «المجاهدين» باسم الإسلام، أولئك الذين حقّقوا «الربيع الغربيّ» الذي سُمِّيَ «الرّبيع العربيّ»، «قادةَ» القرن الحادي والعشرين و«علماءَه» يقدّمون الدّليل الدّامِغ على أنّ انهيار المسلمين كامِنٌ فيهم وفي «العقل الإسلاميّ السّائد» ذاته، وعلى جميع الصُّعُد. ولم يَعُدْ ممكناً أن يحجبه أيُّ خطاب. إنّه تحت الوسادة، وعلى المائدة. ولم يعُدْ يتربَّص على العتبة. ولم يعُدْ، لدى هذا الإسلام المُتَعَثْمِن، أو المُتَأمْرِك، إلّا «ثقافة الإبادة»: كمثل النّظام الأميركيّ، وثقافة التّبَعيّة الغربية الأميركيّة.

(6)

لا تكون المقاومة المادّيّة، بمختلِف أشكالها، فعّالةً وخلاقةً إلّا إذا كانت المقاومةُ المعنويّة والفكريّة والأخلاقيّة فعّالةً وخلّاقةً، وفي مختلف أشكالها وأبعادها، في مَعْزِلٍ كاملٍ عن المَذهبيّة الدينيّة، في مختلف أشكالها وأبعادها.
إذاً، ما يكون، إسلاميّاً، الخطاب الفلسطينيّ اليوم؟ دفاعاً، ورؤيةً، ومشروعاً؟
وها هو الشعب الفلسطينيّ يموت كلَّ يوم، بطرقٍ صريحةٍ وماكرة، إقليميّة ودوليّة، لم يُواجِهْ ما يشبهها أيُّ شعبٍ في التّاريخ.

إنّها الإبرةُ الضّخمة المُلَقَّحَةُ بسُمِّ الهاوية الأميركيّة تَخيطُ جسمَ الفضاء الإسلاميِّ العربيّ، وهواءَه

في هذا السِّياق، أكرِّرُ أسئلتي للأنظمة الإسلاميّة ــ العربيّة، الأسئلة التي طرَحْتُها كثيراً بأشكالٍ مختلفة وفي مناسباتٍ متنوِّعة:
لماذا لا تكونين صادقةً، في ما يتعلَّق بقضايا المَصير الإسلاميّ ــ العربيّ، على جميع الصُّعُد، وفي طليعتها القضيّة الفلسطينيّة؟ لماذا يُواصِلُ بعضُكِ المشاركة بطريقةٍ أو بأخرى في تدمير الشّعب الفلسطينيّ؟ تُمَدُّ له يدٌ، وتُمَدُّ الأخرى إلى مَن يدمِّرونه في الوقت نفسه. أتَرَيْنَ هذا جديراً بالتّاريخ الذي تنتَمين إليه؟ أتَرَيْنَه لائقاً بالإنسان بوصفه إنساناً؟ ولماذا هذا الارتباط العضويّ بالنِّظام الأميركيّ؟
وهذا النِّظام هو الجحيم على هذه الأرض ــ الجنّة؟

(7)

الإنسان، بوَصفِهِ إنساناً، وبوصفه صورة الخالِق، هو القضِيّةُ الأولى. والقضايا كلُّها، مهما علا شأنُها، خُلِقَت من أجله.
لا يُعرَفُ الإنسان بالقضيّة، وإنّما تُعرَفُ القضيّةُ بالإنسان. والأساس، إذاً، هو في تربية الإنسان العظيم، والعمل لمجتمعٍ إنسانيٍّ عظيمٍ وخلاق، يُشارِك في بناء الإنسان، على مستوى الكون، وخلقِ حضارةٍ عظيمة في مستوى العظمة الإنسانيّة.

(8)

هُوَ ذا عالمُنا الإسلاميّ ــ العربيّ: لا مكانَ في مدُنِه العواصِم، إلّا لسَديمٍ سياسيٍّ ــ ثقافيٍّ ــ أخلاقيّ يُهَيْمِنُ ويقود. وها هي خرائطُ البشر الذين يعيشون فيه، ويبدون كأنّهم لُهاثٌ في حنجرةِ الوقت.
إنّها الإبرةُ الضّخمة المُلَقَّحَةُ بسُمِّ الهاوية الأميركيّة تَخيطُ جسمَ الفضاء الإسلاميِّ العربيّ، وهواءَه.

ها هو الشعب الفلسطينيّ يموت كلَّ يوم، بطرقٍ صريحةٍ وماكرة، إقليميّة ودوليّة، لم يُواجِهْ ما يشبهها أيُّ شعبٍ في التّاريخ

وآهٍ من دواءٍ هو نفسُه الدّاء.

(9)

السّؤال ــ التّحدّي، إسلاميّاً وحضاريّاً، الذي يُوَجِّهُهُ التّاريخ إلى العالم الإسلاميّ العربيّ اليوم هو التّالي:
هل يمكن للمسلمين اليوم، في مُواجَهَة الغرب السِّياسيّ، أن يُعطوا لإسلامهم صورةً جديدة تليقُ بتاريخه المُضيءِ العظيم، في ضَوء التّجربة التي تعيشها غزّة ــ حياةً ورمزاً ــ غزّة الحاضر، وغزّة المستقبل؟

 

عن (الأخبار اللبنانية)