مع تواصل حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، وما شهده القطاع من عمليات قصف، وقتل، واعتقالات، وتهجير قسري للسكان، وتدمير المساكن والمدارس والمشافي ودور العبادة. وقطع كامل للمياه والكهرباء والاتصالات. تشهد المدن في الضفة الغربية اعتداءات متصاعدة من قبل المستوطنين وقوات الاحتلال التي أغلقت الضفة بالكامل وقطعت أوصالها ومنعت العمال من الوصول إلى أماكن عملهم. حيث قام الجيش الإسرائيلي باعتقال أكثر من ثلاثة آلاف أسير، وقتل ما يزيد عن ثلاثمائة شهيد خلال الشهور الأخيرة. وما زالت القوات الصهيونية تقتحم المدن والقرى الفلسطينية في الضفة الغربية يومياً، وتقوم بأعمال القتل والاغتيال وهدم المنازل، وتدمير البنية التحتية وتخريب الطرقات، في أعمال ثأر انتقامية وحشية من الشعب الفلسطيني.
كل هذا يحصل على بعد أمتار فقط من مقر إقامة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومن أماكن إقامة قيادات السلطة الفلسطينية، التي لم يصدر عنها للآن سوى بيانات الشجب والإدانة ومطالبات للمجتمع الدولي بوقف هذه الاعتداءات، وهو ما أثار حالة من السخط من قبل الفلسطينيين الذين وصفوا هذا الموقف بـ"المتخاذل"، والذي لا يرقى بحال إلى حجم العدوان الذي تقوم به إسرائيل. يطالب الشارع الفلسطيني بصورة مستمرة قيادة السلطة أن تأخذ دورها والالتحام مع الشعب في مواجهة ما يتعرض له في كل مناطق وجوده. ويوجه انتقادات كبيرة لطريقة التعامل الرسمية مع أربعة عشر ألف عامل من قطاع غزة تقطعت بهم السبل في الضفة الغربية دون مأوى أو عمل. ولم تقدم القيادة الفلسطينية حتى الآن على خطوة تبين انحيازها للشعب والشارع الفلسطيني، حتى أنها لم توقف التنسيق الأمني، ولم تعلن الانسحاب من الاتفاقيات التي تربطها مع الاحتلال، وقبل ذلك لم تقم بإطلاق سراح المقاومين الذين تعتقلهم وتمنعهم من مقاومة الاحتلال. بالرغم من وجود فرصة حقيقية حالية لدى السلطة وقيادتها للتكفير عن سنوات التنسيق الأمني مع الاحتلال.
في خدمة إسرائيل
واجهت السلطة الفلسطينية ـ منذ تأسيسها كنتيجة اتفاق أوسلو ـ سياسات صهيونية أدت إلى تقزيمها، وجردتها من كل سلطتها، وأفرغت الاتفاق البغيض من محتواه. فلا دولة فلسطينية، ولا حتى صلاحيات سياسية للسلطة الفلسطينية. لا اقتصاد ولا أمن. ولا إمكانية للعمل سواء على الساحة الخارجية أو الداخلية. وتواصل بناء المستوطنات فوق الأرض الفلسطينية. واستمر الجيش الإسرائيلي بانتهاك حدود السلطة عبر اقتحامه مدن وقرى الضفة الغربية على الدوام، والقيام بأعمال القتل والتفجير والاعتقالات. والأدهى من هذا كله التلويح الإسرائيلي المستمر والتهديد العلني والمبطن بتفكيك السلطة وإنهاء عملها. وحين تُعلن إسرائيل إنها ستعيد أموال الضرائب الفلسطينية المسروقة إلى السلطة، في خطوة رمزية لمنع انهيار السلطة، يخرج اليمين الصهيوني الديني المتشدد برفض مثل هذه الإجراءات على لسان "بتسلائيل سموتريتش" و"ايتامار بن جفير"
في تصريح سابق له الشهر المنصرم، قال رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي "تساحي هنغبي" إن انهيار السلطة الفلسطينية لا يخدم المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية "بسبب الدور الأمني المهم الذي تلعبه". وحدد هنغبي مهمة السلطة قائلاً: "حسب الاتفاقات الموقعة بيننا وبينهم، فإن الدور الرئيس المكلفين به هو مكافحة الإرهاب" والمقصود بالإرهاب هنا هو المقاومة الفلسطينية. بموازاة المصلحة الإسرائيلية لبقاء السلطة الفلسطينية، هناك أزمة ثقة عميقة بين الشعب الفلسطيني والسلطة الفلسطينية بسبب طابع الوظيفة الأمنية التي تؤديها لصالح إسرائيل، في حين لا تحرك ساكناً لوقف عدوان جيش الاحتلال وتغول المستوطنين اليهود على البلدات والقرى الفلسطينية الواقعة في تخوم المستوطنات في أرجاء الضفة الغربية. ولأنها عاجزة تماماً عن فعل أي شيء في مواجهة العدوان الصهيوني الغاشم على غزة، وغير قادرة على اتخاذ أبسط المواقف بإنهاء التنسيق الأمني مع إسرائيل، وإعلان إنهاء التزامها ببنود اتفاقية أوسلو من جانب واحد، وهو أضعف الإيمان.
في استطلاع للرأي أجراه حديثاً المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية ـ مركز مستقل في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال الفترة الواقعة بين 6 ـ 9 أيلول/ سبتمبر 2023 توصل إلى نتائج كان من أبرزها ما يلي:
87% يعتقدون بوجود فساد في مؤسسات السلطة الفلسطينية.
62% يقولون أن السلطة الفلسطينية أصبحت عبء على الشعب الفلسطيني.
63% يؤيدون تخلي السلطة عن اتفاق أوسلو.
68% يقولون أن اتفاق أوسلو قد أضر بالمصلحة الوطنية.
حوالي الثلثين يقولون إن الوضع الآن أسوء مما كان قبل أوسلو.
60% من الفلسطينيين يطالبون بوقف التعاون الأمني مع إسرائيل، إذ إن 79% منهم يرى أن السلطة لم توقف التعاون الأمني رغم إعلانها ذلك، في حين أن أكثر من 80% منهم يرفضون أن تسلم حركات المقاومة في الضفة أسلحتها للسلطة الفلسطينية، فضلا عن أن 77% يرون أن على رئيس السلطة محمود عباس الاستقالة فورا. كيف ولدت هذه السلطة، وبأي طريقة، وفي أية ظروف، وكيف تشكلت، وإلى أية مآل انتهت؟
أواسط السبعينيات
بعد حرب عام 1973 بدأت تظهر بوادر تحركات دولية باتجاه السعي لإيجاد حلول سياسية للنزاع الفلسطيني العربي- الاسرائيلي. وقد انشغلت الساحة الفلسطينية في تلك الفترة الزمنية التاريخية بجدال سياسي حول قضايا مصيرية مثل الاعتراف بالقرارين الدوليين242 و 338 ومحاولة البحث عن حلول مباشرة للقضية الوطنية الفلسطينية، تكون حلولاً مرحلية، بديلاً عن ما هو تاريخي واستراتيجي في الأجندة الوطنية لكفاح الشعب الفلسطيني .فبرز في البيت الفلسطيني تيار تبنى ما أطلق عليه "الواقعية" في تحقيق أهداف الحركة الوطنية الفلسطينية، ونادى بإقامة سلطة وطنية فلسطينية على أي جزء من الأراضي الفلسطينية المحتلة يجري دحر الاحتلال الإسرائيلي عنها .
وبعد نقاش فكري وسياسي عميق تحول إلى صراع بين مختلف قادة منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها امتد قرابة عام، تمكن التيار الواقعي من تعزيز مواقعه في صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية وداخل أطر م ت ف، وتحول من تيار كان يمثل الأقلية إلى تيار الأغلبية. ولاحقا نجح في تحويل أفكاره من الحيز النظري داخل غرف الاجتماعات وتحويلها إلى سياسة عامة لمنظمة التحرير، حين أقر المجلس الوطني الفلسطيني في العام 1974 برنامج “النقاط العشر”، والذي عرف في حينها “ببرنامج السلطة الوطنية الفلسطينية المستقلة”. منذ ذلك الوقت رفعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية هذا البرنامج في مواجهة الاتهامات التي كانت توجهه لهم بأنهم متطرفين وغير واقعيين. واستخدموه في التدليل على مرونتهم وواقعيتهم، وعلى استعدادهم المساهمة في المساعي الهادفة إلى إيجاد حلول سياسية عادلة وواقعية للصراع مع إسرائيل.
وفي حينها اعتقدت قيادة م ت ف ومعظم القيادة الفلسطينية أن الظروف والأوضاع الدولية مهيأة لانبعاث الكيان الفلسطيني الجديد، وقيام السلطة الوطنية على جزء من الأرض الفلسطينية .لقد أكدت الأحداث اللاحقة ومسار الأحداث في المنطقة والعالم ،أن القوى الدولية المقررة، وبخاصة قطبي الحرب الباردة حينذاك الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لم يكونا جادين في ايجاد حلول واقعية وعادلة لقضايا المنطقة وصراعاتها المستفحلة. وإن كل منهما كان يسعى في تلك الفترة لتوظيف الصراع العربي الإسرائيلي لتعزيز نفوذه ومواقعه في المنطقة. كما أكدت أيضا أن ظروف وأوضاع أهل المنطقة أنفسهم لم تكن ناضجة للتوصل إلى أية حلول جدية لصراعاتهم العميقة.
اتفاقية أوسلو
في ربيع العام 1991 أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب مبادرة يدعو فيها أطراف الصراع الفلسطينيون والعرب وإسرائيل، إلى مغادرة ميادين القتال والحروب، واعتماد طريق السلام من خلال التفاوض المباشر لحل النزاعات المزمنة في المنطقة .وهذا ما حصل، فقد التقى العرب في مدريد، ولاحقاً التقى وفد يمثل منظمة التحرير الفلسطينية سراً مع ممثلين عن الحكومة الإسرائيلية، وتوصلوا بعد مفاوضات عسيرة إلى اتفاق ”إعلان مبادئ” حول ترتيبات حكومة ذاتية فلسطينية انتقالية، عرف هذا الاتفاق فيما بعد باتفاق أوسلو. جوهر هذا الاتفاق بشكل أساسي هو إقامة سلطة حكومة ذاتية انتقالية فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لفترة خمس سنوات، تؤدي إلى تسوية دائمة على اساس قراري مجلس الأمن رقم 242 ورقم 338.
وهكذا في أجواء احتفالية غير مسبوقة، تم التوقيع في أيلول العام 1993 على هذا الاتفاق الشهير بين الفلسطينيين وإسرائيل في العاصمة الأمريكية واشنطن برعاية الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، على أن تتم مناقشة قضايا الحل النهائي بعد ثلاث سنوات وهي القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه .غير أن هذا الاتفاق أغفل وضع جداول زمنية محددة للانسحاب الإسرائيلي من الضفة وقطاع غزة، كذلك سقط من الاتفاق أية آلية دولية تلزم إسرائيل لتنفيذ استحقاقاتها من الاتفاق، أنتج هذا الأمر وضعاً غريباً، فقد أغرق الجانب الفلسطيني في ما يسمى معالجة التفاصيل قبل معالجة جوهر المشكلة، وكان الاتفاق ملزماً للفلسطينيين بينما تنصلت إسرائيل من التزاماتها، الأمر الذي كرس الاحتلال بدلاً عن إزالته .طوال الأعوام الماضية ظل رجال السلطة الفلسطينية يلهثون بسعار خلف جزرة الحل النهائي الذي لم يتحقق من بنوده شيء، بل على العكس تماماً، تنصلت إسرائيل من كافة التزاماتها من اتفاق أوسلو وكأنه لم يكن.
إن جزء من الشعب الفلسطيني الذي اعتقد أن تشكيل السلطة أنجاز لابد من حمايته والدفع به لتحقيق إنجازات أخرى، اكتشف أن هذا الاتفاق الذي أبرم مع إسرائيل لا يعبر عن أمنه ومصالحه ولا عن أهدافه الوطنية ، بل على العكس، وجد المواطن الفلسطيني نفسه أنه يعاني من سلطتين، سلطات الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية التي ألزمتها إسرائيل بالتنسيق الأمني معها ضد كافة النشطاء والمناضلين الفلسطينيين، الأمر الذي أدى إلى اغتيال عشرات من خيرة أبناء شعبنا الفلسطيني ، واعتقال الآلاف منهم .
سلطة المنافع والمصالح
لقد أعادت السلطة الفلسطينية إنتاج نظام التنفيع الذي ورثته من منظمة التحرير الفلسطينية، وبدلاً عن المضي في بناء مؤسسات لمختلف القطاعات واعتماد مبدأ الكفاءة والجدارة، أصبحت علاقات المنفعة والمصالح الشخصية والولاءات هي السياسة المعتمدة لهيكل السلطة، وأصبحت هذه الطريقة أداة قوية وفاعلة في الاستيعاب للمنتفعين والمتسلقين والانتهازيين، >ووسيلة أيضاً لإقصاء الشرفاء والمناضلين وأصحاب الكفاءة .إن السلطة الفلسطينية أخذت تعمل على كسب ولاء الناس من خلال الحصول على مورد اقتصادي، الأمر الذي أدى إلى تضخم شديد في القطاع الحكومي العام للسلطة حيث وصل عدد موظفي السلطة حوالي 170,000 موظف تعتمد رواتبهم بشكل أساسي على المعونات الدولية. المصيبة أن 44 % منهم يتبعون الأجهزة الأمنية وبالتالي يستحوذون على حوالي نصف الميزانية، بينما يا للسخرية لا يتم صرف سوى واحد في المائة على قطاع الزراعة ، وساهمت هذه السياسة في مأسسة الفساد وانتشاره، وهو ما كانت إسرائيل تريده من خلال إنشاء سلطة بعد أوسلو تكون منتفعة وضعيفة تتحكم فيها إسرائيل من خلال الموارد المالية.
فتم توزيع المناصب في هيئات وإدارات السلطة على المحسوبيات والمقربين، حتى المعارضة السياسية من مستقلين ويساريين وإسلاميين لم تستثنى من هذه الامتيازات، فتم دمج الآلاف منهم في مؤسسات السلطة الفلسطينية، ومنحوا مناصب في القطاع الحكومي مقابل ولائهم السياسي .من جهة أخرى برزت في النظام السياسي الفلسطيني في الداخل ظاهرة زواج المصلحة بين رجال الأعمال ورجال السلطة وهو الشكل الأكثر انتشاراً للفساد، يستمد قوته من تمتع النخب بالحصانة السياسية والاجتماعية والقانونية، فامتلأت الحسابات المصرفية لآلاف الفاسدين بالمال الفاسد .كما أن استغلال المناصب لتحقيق مكاسب شخصية وعشائرية يشكل ظاهرة واضحة في مؤسسات السلطة، إبرام صفقات مشبوهة، استخدام موارد السلطة والوزارات للأغراض الشخصية، سرقة الممتلكات الوظيفية وإهدار المال العام ، حتى أن إحدى عمليات التدقيق والرقابة في بداية الألفية أثبتت أن حوالي %40 من ميزانية السلطة قد أسيء استخدامها .
إسرائيل ليست بعيدة عن هذا الفساد، بل على العكس هي تساهم في تعزيز هذا الفساد في السلطة الفلسطينية وتحسن استغلاله فيما بعد، وتحاول إشغال الرأي العام بهذا الفساد كي تصرف أنظار العالم عن الآثار المدمرة التي تلحقها سياساتها العدوانية بالبنية الاقتصادية والتنمية الفلسطينية، وما تقوم به إسرائيل من تدمير ممنهج للاقتصاد الفلسطيني.
تراجع الشعارات والأهداف الثورية
لقد أدى هذا الوضع الشاذ إلى جملة من التغيرات في بنية الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها التي انحدرت إلى مستويات غير مسبوقة من الضعف والهشاشة، وتراجع الشعارات والأهداف الثورية التي طالما تغنى بها الشعب الفلسطيني وميزته عن باقي شعوب الأرض التي استحق احترامها وتقديرها ومساندتها نتيجة لكفاحه والتضحيات التي قدمها عموم الشعب الفلسطيني في طافة أماكن تواجده وجعلته يحظى بكل تلك الهالة المقدسة التي كان يعتز بها .لكن الفلسطيني ذاته أخذ يشعر بالغضب والحزن والإحباط الشديدين بسبب ما وصلت إليه قضيته الوطنية التي أصبحت تهمة للمناضلين، ومطية للمتسلقين الانتهازيين من الفلسطينيين أنفسهم قبل غيرهم، كما تحولت القضية إلى ميدان للمزايدات لدى البعض، وفرصة لشتم وتحقير الشعب الفلسطيني وقيادته، وتعداد محاسن إسرائيل لدى البعض الآخر .
ثمة مفارقات عجيبة تحصل في خلفية المشهد السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي يزداد حجم ومستوى التضامن الأوروبي والعالمي مع الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية، نشهد تراجعاً عربياً ملحوظاً على المستويين الرسمي والشعبي في التضامن مع نضال الشعب الفلسطيني ودعم قضيته الوطنية، التي هي بالأساس قضية العرب الأولى وقضية عموم المسلمين .
فما الذي أوصل أهم قضية تحرر وطني في التاريخ إلى هذا المستوى الذي لا يسر أحداً ولا يدلل على عافية، ولماذا جنح بعض العرب إلى مستوى غير مسبوق من الحقد على الفلسطينيين، وهل نحن أمام واقع جديد في التعامل مع القضية الفلسطينية، أم أنه برزت أولويات جديدة أمام الشعوب العربية، أم أنه انعكاس طبيعي لواقع الحال الفلسطيني والعربي الذي يشهد حالة متعاظمة من التردي والسقوط والانحدار على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية والأخلاقية، الأمر الذي جعل زيارة وزيرة العدل الإسرائيلية ”تسيبي ليفني” سراً إلى إحدى عشرة دولة عربية لتطلب منهم عدم تقديم أية تبرعات مالية إضافية للسلطة الفلسطينية، يبدو خبراً طبيعياً حين تم تسريبه. وتعاملت الدول العربية معه بصمت وتجاهل بعد أن انصاعت الحكومات العربية إلى المطالب الإسرائيلية دون خجل، وهكذا وضع الأشقاء العرب قرارهم بدعم القدس العربية بمبلغ مليار دولار في سلة النفايات العربية، ولم يكلف الأمين العام للجامعة العربية نفسه عناء تكذيب هذا الخبر حفاظاً على ماء وجه العرب .
الدور السلبي لقيادة السلطة الفلسطينية
مما لا شك فيه أن هناك أسباب ومسببات عديدة ومختلفة وراء إيصال قضية سامية وعادلة كالقضية الفلسطينية إلى ما وصلت إليه، إلا أنه أيضاً كل تلك الأسباب والعوامل ما كانت لتكون مؤثرة وفاعلة لولا الدور السلبي للقيادة الفلسطينية ومواقفها المتخاذلة وسعيها وراء السلطة وامتيازاتها بدلاً من تعزيز ودعم فكرة النضال والكفاح ضد المغتصب، وبالرغم من أننا لسنا في وارد تقييم تجربة الثورة الفلسطينية ، إلا أن ما نشهده اليوم من إحباطات وانهيارات وانسدادات أمام القضية الوطنية الفلسطينية لم يكن وليد المتغيرات الأخيرة التي تشهدها المنطقة، إنما هو نتيجة طبيعية وكارثية لكل السياسات التي انتهجتها القيادة الفلسطينية والخيارات التي اقدمت عليها منذ انطلاق العمل الفلسطيني المسلح في منتصف ستينيات القرن الماضي .
إن مجمل هذه السياسات أدت فيما أدت إلى تقزيم منظمة التحرير الفلسطينية، وإضعاف العامل الفلسطيني برمته، وتحويل قضية فلسطين الوطنية إلى حائط مبكى، وظهور قيادات فلسطينية ضعيفة ومخترقة من قبل العديد من أجهزة المخابرات وخاصة الأمريكية والإسرائيلية، أنيطت بهذه القيادات مسؤولية الحل والربط فيما يتعلق بمستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته، وهم المسؤولين مسؤولية مباشرة عن تقليص الحقوق الفلسطينية وضياعها، من خلال حجم التنازلات المرعب الذي قدمته هذه القيادة الفلسطينية للجانب الإسرائيلي بدءًا من التنازلات التي قدمت للوصول إلى اتفاقية أوسلو الملعونة ، وصولا إلى كافة التنازلات التي مازالت تقدمها القيادة الفلسطينية في سبيل محافظتها على مناصبها وامتيازاتها على حساب مصالح شعبنا الفلسطيني وتضحياته، هذه التنازلات جعلت إسرائيل تتنمر على السلطة الفلسطينية بل وتتجرأ بكل وقاحة وتطلب ويا للعجب من القيادة الفلسطينية الضعيفة الاعتراف بيهودية دولة إسرائيل !!
هذه القيادة التي تستقوي على شعبها وعلى الفصائل الأخرى بالأنظمة العربية التي كانت داعم رئيسي لنضال الشعب الفلسطيني ولقضيته الوطنية مالياً وسياسيا، فأصبحت الثوابت الفلسطينية والعربية تجاه الصراع مع إسرائيل تُنتهك وتحذف بمباركة عربية استعاضت بها القيادة الفلسطينية لغبائها عن الغطاء الشعبي الفلسطيني لتمرير سياسات التنازل والاستسلام، تلك الأنظمة العربية مغلولة اليد أمام النفوذ الأمريكي والإسرائيلي لا تريد سوى السلامة حتى لو كانت على حساب القضية الفلسطينية، لكنها تصبح شرطي بعصا غليظة حين تستقوي بها السلطة الفلسطينية لكسر إرادة قوى المعارضة الفلسطينية الرافضة لكل سياسات السلطة التنازلية، هذا الاستقواء في الحقيقة -إضافة إلى عوامل أخرى- هو ما جعل الأنظمة العربية نفسها تستقوي على القضية الفلسطينية وعلى الفلسطينيين أنفسهم، وإلى إخضاعهم إلى التجاذبات المتنافرة في السياسة العربية .
لقد سقطت السلطة الفلسطينية في مستنقع الفساد والاستنفاع، وانكشفت عورتها أمام الجميع، وكل أوراق التوت والتين لا تستطيع ستر عورات سلطة هجينة، وليدة اتفاقيات مذلة، وحولت جميع الحقوق الثابتة التاريخية للشعب الفلسطيني إلى” مشاكل قابلة للتفاوض” وحولت قضية وطن محتل ومغتصب إلى خلاف على تقاسم نفوذ فيما بينها، وتتبنى سياسة التنسيق الأمني مع أجهزة الأمن الإسرائيلية، هي العقلية ذاتها التي تطاولت بالكلام بداية على المناضلين والأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية عام 1988 أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى تحت شعار “هجوم السلام الفلسطيني” وتحول هذا الهجوم فيما بعد إلى تآمر لضرب الحركة الوطنية الفلسطينية، وقامت أجهزة أمن السلطة الفلسطينية المحترمة باعتقال قيادة وكوادر ونشطاء المقاومة الفلسطينية، وتعاونت مع قوات الاحتلال الإسرائيلي لاغتيال مناضلين.
إن السلطة الفلسطينية التي لا سلطة لها على نفسها اساساً، هي ليست أكثر من أداة وظيفية لدى الاحتلال الإسرائيلي، وقد أصبحت حاجة إسرائيلية لضرب المشروع الوطني، فاتفاقيات أوسلو التي أنجبت السلطة أنهت الحكم العسكري الإسرائيلي، لكنها لم تُنه الاحتلال نفسه، وبينما انشغلت السلطة بإدارة الحياة اليومية، تحول الاحتلال إلى استعمار نظيف قليل التكلفة حيث تتولى أجهزة السلطة الفلسطينية كافة الملفات القذرة، تتابع إسرائيل مصادرة الأراضي وفرض الحقائق على الأرض.
إسقاط السلطة ضرورة وطنية
لذلك لا بد من إسقاط هذه السلطة لإنهاء عبثية مسار التفاوض مع إسرائيل الذي اثبت عقمه، ولوضع إسرائيل أمام مسؤولياتها كاملة كسلطات احتلال تجاه الشعب الفلسطيني، وحتى تكف السلطة عن كونها غطاء لهذا الاحتلال. ومن جهة أخرى لوضع المجتمع الدولي والأطراف الراعية لعملية السلام أمام استحقاقاتهم الموضوعية في فشل مسار التسوية السياسية، وهذا يجب أن يؤدي إلى اعتبار أن شعبنا الفلسطيني يرزح تحت الاحتلال ومن حقه مقاومة هذا الاحتلال وفق المواثيق الأممية.
إسقاط السلطة سوف يعيد الاعتبار لمنظمة التحرير الفلسطينية التي قزمها رجال السلطة وجعلوها ظل عديم الفعالية تابع لهم بعد أن قاموا بإفراغ المنظمة ومؤسساتها من دورها الوطني باعتبارها حاضنة المشروع الوطني الفلسطيني .وهذا من شأنه أن يساهم في تقوية الموقف الفلسطيني الذي أضعفه زج السلطة بالرقم الفلسطيني في مفارقات العرب السياسية، فانتقلت القضية الفلسطينية بقدسيتها من حالتها في الضمير والوجدان العربي والأممي إلى رقم ضعيف في الجامعة العربية . إن هذه السلطة المتخمة بالفساد السياسي والأمني والسلوكي والأخلاقي، التي حولت القضية الفلسطينية إلى ممسحة لبعض الأنظمة العربية وسياساتهم وصفقاتهم، سوف يذكرها التاريخ على أنها سلطة متهمة ومدانة بهزيمة شعبها وقضيته الوطنية، في عالم لم تعد تعنيه كثيراً قضايا الضمير والحق والعدل، بل يلتفت إلى من يملك قوة الفعل والتأثير في مجريات التاريخ.