دأب الكاتب المصري على الا يقف مكانه ساكنا، ولكنه دائم البحث والتجريب. كما دأب على أن يُضمر شيئا في خلفية أعماله غير ما يبدو منها على السطح. ففي قصته "قصة والقصة مرة أخرى" تبدوان كقصتين منفصلتين، غير أن قراءتهما معا يُعطى رؤية مختلفة، تنزع إلى رؤية ما بداخل الإنسان المصرى، والعربى عامة، وتفلسف تصرفه، غير المنطقى.

قصة أخرى

منير عتيبة

 

1-قصة
الثالثة إلا عشر دقائق، لملم أوراقه بسرعة ورتبها فى مكانها على المكتب، أسرع ليلحق بالأوتوبيس الذى يغادر فى تمام الثالثة، أنزله الأوتوبيس على أول الشارع، ألقى السلام على المعلم فرج صاحب المقهى وهو يمد خطواته، حاول المعلم فرج إيقافه ليسأله عن شئ ما، لم يتوقف، أخبر المعلم فرج أنه سيعود إليه بعد المغرب ويجلسان ويتحدثان براحتهما، لاحظ تجمعا كبيرا من أهالى الشارع أمام دكان سعيد الحاوى للبراويز، يحاولون تخليص طفل صغير؛ هشّم بكرته بعض البراويز، من يد سعيد. واصل طريقه دون أن يتابع ما يجرى، بائع العرقسوس العجوز وقف فى طريقه وهمّ بصب كوب له، لكنه لم يعطه الفرصة وأسرع مبتعدا. صعد درجات السلم قفزا وهو يتعجب من نفسه، لماذا يشعر بكل هذا الشوق إليها اليوم؟ إنه الأربعاء، منذ أكثر من عشر سنوات استقر برنامجهما على ليلة الجمعة، يشاهدان سهرة القناة الأولى، ترتدى قميص نوم لا يلاحظ لونه عادة، يدخلان الفراش برزانة، تحرك يدها على صدره وفخذيه، تقبل شحمة أذنه، يغمض عينيه ويجوس بيديه خلال جسدها دون أن يشعر بحركة يديه، يحاول استجماع همته داعيا الله أن تمر الدقائق المقبلة على خير، تنتهى رغبته بعد أقل من نصف دقيقة من التحامه بها، يضغط على نفسه نصف دقيقة أخرى وأحيانا دقيقة كاملة حتى لا تغضب منه، لكنه فى النهاية يخرج منها وقد بدأت رائحة عرقها تغزو أنفه، رائحة العرق التى لم تكن موجودة خلال الدقيقة المنصرمة، يدير كل منهما ظهره للآخر، لا ينظر فى عينيها أبدا، لا يتحدث معها أبدا، يتوقع انفجارا ما قد يطيح بحياتهما، يسرقه النوم وهى ما زالت تتقلب محتضنة مخدة صغيرة، لكنه اليوم يشعر بشوق لم يعرفه منذ دهر، ويشعر برغبة لم تناوشه منذ عقود، ويشعر بقوة لم يعرفها أبدا، إن خياله المجنون لا يزين له فقط أن يعاشرها فى غير ليلة الجمعة، بل فى النهار أيضا، سيأخذها كما لم يأخذها من قبل، بمجرد أن يدخل من باب البيت وتستقبله سيحتضنها ويواقعها على الأرض، مجرد التفكير فى ذلك، مجرد التفكير فى أنه سيفعل ما يجعلها تتأوه، يؤجج فى جسده نارا يزداد سعيرها لحظة بعد أخرى، أخرج المفتاح من جيبه، سمع صرخة مكتومة، زوجته تصرخ: ما هذا الذى تريد أن تفعله؟

فتح الباب بسرعة، بينما صينية الشاى والكوب الساخن الملآن يقعان على الأرض بضجة مزعجة، زوجته تقف محتدة فى مواجهة السباك الشاب الضخم، فهم الموقف بسرعة، وقف أمام السباك ينتفض غضبا، صرخ فيه شاتما، حمد الله أن السباك لم يغضب ولم يلقه أرضا، جمع للسباك عدته بنفسه؛ بسرعة محمومة، وألقاها إليه، وأشار ناحية الباب بغضب، نظر السباك إليهما نظرة ساخرة، وغادر بخطوات بطيئة، لف ذراعه حول كتف زوجته، نظر إليها فخورا ببطولته التى أنقذتها، نظرة الكراهية التى رآها فى عينيها أخمدت سعيره!!

 

2-القصة مرة أخرى
أنزله الأوتوبيس على أول الشارع، ألقى السلام على المعلم فرج صاحب المقهى ووقف يستمع إليه وهو يشكو من سوء الحال، وتفكيره الجدى فى إغلاق المقهى لأنها لم تعد تغطى تكاليفها، وصبيه الذى يسرقه لكنه لا يستطيع الاستغناء عنه، والضرائب التى تأخذ الجلد والسقط، والزوجتين السمينتين وأولادهما ومطالبهم التى لا تنتهى، كان ذهنه فى عالم آخر، يحاول استبطان مشاعره الجديدة، عشرون سنة مرت على زواجه، هل تذكر زوجته أن اليوم يوافق ذكرى زواجهما، إنهما لم يذكراه أبدا، كان فى الثلاثين عندما تزوجا، وكانت تصغره بعشر سنوات على الأقل، أسابيع الزواج الأولى كانت شيئا خياليا، إنه لا يتذكر تفاصيلها، يعتقد أحيانا أنها لم تحدث أبدا، لا يتذكر سوى أنها كانت أسابيع استثنائية فى حياته، يبدو أن مشاعره خلالها أكبر من طاقته على تخزينها كذكريات، وبقدرته التنظيمية الهائلة التى اكتسبها من وظيفته فى الشهر العقارى استطاع أن يرتب حياته معها، لكل شئ وقت ومكان محددين، الزيارات من الأهل وإليهم، الخروج إلى السينما، اللقاء الحميمى ليلة الجمعة، جدول الوجبات الغذائية الأسبوعى، وعندما رتب حياتهما ووضع لها نظامها المحكم، استطاع أن ينساها ويتركها تسير بذاتها وفق القواعد المقررة، لكنه اليوم يريد أن يخرق كل القواعد، يريد أن يضاجعها بشبق غير روتينى وفى أى مكان فى الشقة غير حجرة النوم، يريد أن يأكل ملوخية بعد المضاجعة مع أن موعد الملوخية يأتى بعد ثلاثة أيام، لفت نظره سعيد الحاوى يضرب طفلا ولا أحد يستطيع تخليصه من يده، اخترق الجمع وشد الصبى من يد سعيد الحاوى، واضطر بعد مشادة كلامية قصيرة لدفع ثمن البراويز التى حطمتها كرة الطفل، تمنى لو كان هذا الطفل الشقى ابنه، الأطباء قالوا أنه لا عيب فيه، وزوجته أيضا لا عيب فيها، فلماذا لا يكون لهما ابن؟ هل هو رعبه الدفين من أن يموت ويترك ابنه طفلا وحيدا كما فعل فيه أبوه؟ هل ترفض أعماق زوجته أن يكون لها ابن منه؟ عندما يصل إلى هذا السؤال يتعمد أن يشغل نفسه بأى شئ لأنه لن يتحمل الأسئلة التى ستترتب عليه، استوقفه بائع العرقسوس العجوز، صب له كوبا كبيرا، شربه ببطء وتلذذ، ضحك من أعماقه عندما حدثه العجوز عن الفوائد الجنسية للعرقسوس، اتجه إلى بيته وضحكه ما زال يرن فى أعماقه، وقف أمام الباب، سمع صوت زوجته؛ كأنه قادم من بئر، يتذلل: واحد آخر من فضلك!. أخرج مفتاح الباب من جيبه، صوت عدنان السباك الضخم يرن فى أذنيه: إنها ثالث مرة، ألا تشبعين؟. وضع المفتاح فى الطبلة، قبل أن يحركه تذكر أنه نسى أن يدفع لبائع العرقسوس، أسرع نازلا السلالم، نادى بائع العرقسوس، ناوله ربع جنيه، طلب منه أن يحدثه بالتفصيل عن الفوائد الأخرى للعرقسوس، ضحك وطلب كوبا آخر شربه على دفعتين، ذهب إلى المعلم فرج وأخبره أن له صديقا فى الضرائب يمكن أن يحل له كثيرا من مشاكله، شكره المعلم فرج، وصمم أن يقدم له كوب زنجبيل وشيشة تفاحة، غامزا بعينيه، متحدثا بلهجة مفخمة عن الفوائد المجربة لهما بصفته صاحب سابقتين سمينتين، وقهقه المعلم فرج مطلقا رذاذا فى وجهه، رأى عدنان يقف أمامه حاملا شنطة العدة:

  • الحساب عشرين جنيه يا أستاذ مسعود، كله تمام، لقد قمت بالواجب وأكثر!.

ناوله عشرين جنيها، تابعه ببصره حتى اختفى فى منزل آخر، ثم قام عائدا إلى بيته، تناول غداءه، نام كحجر، وفى الليل أعطته نفسها بحيوية ذكرته بالأسابيع الأولى المنسية!!