بكت مريم الفتاة الصغيرة بكاء مرّا . ومسحت دموعها بطرف يدها . لم تكن تدري ماذا تفعل : كان المطر غزيرا جدا يكاد لا يتوقف ، وصندوق لعبتها المفضلّة تقطر ماء ، وكانت مريم مغسولة بالمطر البادر الذي يلسع مسامه جسدها وعظامها بقسوة شديدة .
نظرت صوب الى بقايا البيت ، ورأت أنه تحوّل الى كتلة من الردم والدمار . لم تفهم ماذا جرى : قبل يوم كانت تجلس مع والديها بجانب المدفأة والآن تحوّل البيت الى كتلة من الردم . كانت تفهم بشعورها البسيط الأول البسيط أن البيت لم يعد موجودا . ونادت بصوت يائس خائف ومرعوب : ماما ماما وين أنتي ؟! بابا بابا وين أنت ؟! لكن لم يخرج من كوم الدمار أي صوت !
كانت قطعة من الباطون التي تمسك بها قضبان حديدية هي التي حمت مريم . وعندما حلّ كل هذا الخراب بالبيت أرتعبت مريم وشعرت ان كل ما ظلّ عالقا من سقف البيت سيسقط عليها ويسحقها . أنسحبت الى الخارج وبدأت تحاول أن تفهم بعض ما جرى وما سيجري . ضمّت لعبتها الى صدرها تريد أن تجد دفئا ما ، لكن الماء المتقطّر منها كان باردا جدا ، وبكت كما لم تبك من قبل : ماما .. ماما أنا هون تعالي خذيني من هون ! لكن لم تأت الأم ولا الأب ولم يخرج أي صوت من الردم . أجالت بصرها في أرجاء المكان ، فرأت شجرة الزيتون المعمّرة جدا والتي كانت تلعب بجانبها أحيانا مع أولاد خالها الذين ربما قتل معظمهم في هذه الحرب .
وجرّت صندوق لعبتها بخيط أصفر على الأرض غير مبالية بالوحل الذي كان يلتصق به . وأقتربت من جذع شجرة الزيتون المنخور والمسوّس الذي كانت تختبيء فيه أحيانا لتلعب لعبة الغميضة مع أقربائها الذين كانوا يأتون لزيارتهم بين حين وآخر . في الماضي كانت لا تفهم معنى هذه اللعبة ، لكنها كانت تضحكها حين كانوا يعثرون عيها مختبئة في عمق الجذع . وتساءلت بينها وبين نفسها : هل سيخّربون هذه الزيتونة كمان ؟!
مشت ببطء ودخلت الى عمق الجذع وأخذت حبات المطر تتساقط منها . جلست ووضعت صندق اللعبة في حضنها وتساءلت حزينة وخائفة : متى سيرجع أبي وأمي ؟! ونظرت الى ركام البيت ولم تر أحدا وقالت لنفسها : بعد شوي بتعتّم الدنيا .
كان جذع الزيتونة شبه ناشف . فارتاحت مريم للأمر . كان كل ما في الجذع يساعدها على الراحة ، خاصة من الرطوبة والبرد القارس .
بعد وقت قصير بدأ التعب والخوف والبرد يتعبها ويرعبها . وكانت تشعر بضوء البرق يخترق جفنيها فيما تظل هي تتهته من النعاس والتعب .
وشيئا فشيئا زحف النوم الى جفنيها وغفت وهي تحلم بأبيها وأمها والمدرسة والكتب والدفاتر التي كانت تدرس فيها . ثم حلمت أن أمها تحضر لها هدية كانت عبارة عن ليغو جديد تستطيع أن تبني به بيتا جديدا . وربتت أمها في الحلم رأسها وكتفها وقالت لها كما كانت تقول لها دائما : دائما تعملين على تركيبالبيوت ، فلا بد أن تصبحي مهندسة عندما تكبرين !
أبتسمت مريم وهي تحلم ، فيما كان اللون الأزرق الغامق يحتل ما تحت جفنيها ووجهها . وأبتسمت أكثر عندما سمعت صوت أمها تناديها : مريم مريم !
وبعدها همدت !
(23 شباط 2024)