يكشف الشاعر والكاتب الفلسطيني هنا عن حضور محمود درويش المستمر في العالم، لأنه يستقطر التجربة الفلسطينية، والتجربة الإنسانية الأعرض في شعر قادر على التعبير عما يدور في اللحظة الراهنة. ولكنه يرى أنه أصبح عقبة في سبيل توهج أي شاعر فلسطيني بعده. فضلا عن أنه يقدم لنا تجربة شيقة وهي كيف كتب الذكاء الاصطناعي نقدا لمقالته تلك.

العالم يمتلئ بمحمود درويش

بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين

فراس حج محمد

 

يحضر محمود درويش في سياقات هذه الحرب الممتدة منذ السابع من أكتوبر 2023، ويستعيده الكتّاب والفنانون على الرغم من رحيله الذي يزداد كل عام، إلا أنه يظلّ أقرب ما يكون، ويحيلون قراءهم على أشعاره التي تنطق بالواقع المكرر منذ أيام بيروت (1982) وحتى اليوم، وكأنه لا شيء جديد، بل إن المأساة تفرّخ نفسها بأفظع مما كانت عليه تلك الأيام، وأفردت له مساحة لهذا الغرض في كتابي الجديد: "الصوت الندي: تأملات في الأداء والأغاني" الصادر حديثا عن دار الرعاة وجسور رام الله وعمّان.

في عام 2024 يصدر للناقد السوري صبحي حديدي كتاب يجمع فيه شتات مقالاته ودراساته عن درويش سمّاه "مستقر محمود درويش: الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ" مع أن دالّ "مستقر" ذو مدلول يوحي بالثبات وعدم الحيوية، تعادل "المثوى الأخير"، وفيه من معنى "الإقبار" أكثر مما فيه من معنى "الإكبار"، فكأن هذا الكتاب آخر سهم يطلقه حديدي مع تنهيدة راحة إلى غير رجعة، متخلصاً من عبء صداقة دامت طويلاً، فما بين السطور يقول إن حديدي قد ضاق ذرعا بهذا الإرث، وحان الوقت لإزاحته عن كاهليه، وتناولت هذا الكتاب بمقالتين موسعتين، ناقشت فيهما الكتاب ومنهج حديدي النقدي والتأليفي، كتابة لم تعجب حديدي بالتأكيد وتجاهلها تماماً، ولم يشر إليها لا من قريب ولا من بعيد على حسابه في منصة (X) شأنه في ذلك شأن كثير من الكتاب يتجاهلون أية كتابة تنتقدهم، وقد تحدثت عن هذه الظاهرة في كتابة سابقة.

كتبت في كتاب حديدي مقالين ونشرا في أوقات متباعدة، أشار إلى المقال الأول "متلازمة محمود درويش: صبحي حديدي نموذجاً" الإعلامي سليمان المعمري عندما ناقش الكتاب في حلقة خاصة ضمن برنامجه "كتاب أعجبني" (حلقة 1008، 7/3/2025) ومنشورة صوتيا على موقع البرنامج في منصة (Sound Cloud).

يستضيف المعمري في هذه الحلقة الكاتب التونسي نصر سامي، ويقول الأستاذ الضيف كلاما شبيها لما قلته في المقال. بعد أن يورد أمثلة من كتاب حديدي، تتفق مع ما جاء في المقالة: "هذه صفات غير نقدية، ماذا سنستفيد نحن أنّ شيئا عالٍ أو متوسط أو واطئ، ليس هذا ما نريده، نحن نريد عملية تفكيك، عملية بحث في الخطاب نفسه، للوصول إلى نتائج من طبيعة الحديث دون أن نطلق ذلك التفخيم الذي لا أعرف ماذا يفيدنا".

وفي منتصف هذا العام (2025) يصدر العدد العاشر من مجلة "هوية" العراقية، وهي مجلة فصلية ثقافية، تخصص هذا العدد لفلسطين تحت عنوان "فلسطين وطنا للتفكير"، ويحضر درويش فلسفيا ضمن مناقشة البعد الوجودي في ديوانه/ قصيدته الجدارية في مقال كتبته خاص للمجلة بعنوان "محمود درويش في دائرة الفعل الوجودي"، حيث ربطت أفكار الجدارية ببعض أفكار الفلسفة الوجودية وخاصة عند سارتر، ومناقشة أفكار: الخلود، والموت، والحياة، والعودة من الموت.

وعدا هذا وذلك فإن درويش يعاد ويستعاد مع كل ذكرى للرحيل، فتخصص صحيفة القدس الفلسطينية صفحة كاملة في عددها الصادر يوم الثلاثاء (13/8/2025)؛ للاحتفاء بذكراه يشارك فيه كتاب وصحفيون.

إن الحديث عن درويش في ذكراه، يتعدى مفهوم الاستعادة إلى ما هو أشد وضوحاً من ذلك، إنه تأكيد الحضور بالاستمرار المشعّ في الذاكرة الجمعية والفردية والسياق السياسي والثقافي وربما الاجتماعي، مع أن هناك في أوساطنا الثقافية من يلمز درويش، ويفضل عليه- على سبيل المثال- أدونيس، كما حدث في واحد من اللقاءات التي جمعتني مع أحد شعرائنا الفلسطينيين الذي أحلّ أدونيس محلاً أرفع مما ينبغي أن يكون فيه معتبرا إياه عظيماً، ودرويش مجرد شاعر، مع أن درويش تجاوز حدود كونه "كاتب شعر" إلى أحد صنّاع "السياسة الشعرية العربية المعاصرة" إلا أن هذه الشخصية القيادية الفلسطينية، وهو شاعر بالمناسبة، ترى مثلا في تعاون أدونيس مع المخابرات المركزية الإمريكية في تمويل مجلتي "شعر" و"مواقف" أمرا هيناً، ولم يقف كثيرا عند ذلك، فكان الدفاع عن أدونيس أنه لم يكن يعلم، أكان أدونيس مغفلا إلى هذا الحد الساذج؟

أنا لا أظن ذلك، بل لديّ قناعة أن أدونيس أحد أؤلئك الذين عملوا تحت إشراف المخابرات الأمريكية ليستفيد منها، محققا رؤيته الشعرية والنقدية التي ما فتئ فيها مهاجما تاريخ الإسلام قبل تاريخ المسلمين، متطلعا لنوبل للآداب، وكل مهتم بهذا يعرف عن أدونيس هذه السقطة الثقافية، مع أنه أخذ يتبرأ في السنوات الأخيرة من هذا الحلم الذي داعب خياله كثيرا، وأسال لعابه في سنوات متعددة، مدعيا أنه مقروء في الصين أكثر مما هو مقروء عند العرب أو في اللغات الأخرى.

يأتي هذا الحديث عن أدونيس ودرويش وتلك الشخصية القيادية تعلي من شأن الكتاب الذي أنجزته الباحثة البريطانية الشابة فرانسيس ستونر سوندرز (ف. س. سوندرز) ، وتشيد به إشادة كبيرة جدا "الحرب الباردة الثقافية: المخابرات المركزية الأمريكية وعالم الفنون والآداب"، وقد ترجمه طلعت الشايب، وصدرت منه طبعة رابعة عربية تحت عنوان "من دفع للزمار: الحرب الباردة الثقافية".

على أية حال، ليس مهمّاً كثيراً هذا الآن، ولكن يكفي أن نرى هذه الظاهرة أمرا طبيعيا في سياق التنافس الثقافي الإبداعي على الحضور والمكانة الثقافية. وما يؤكد ذلك أننا في هذه الجلسة التي امتدت طويلاً، ذُكر فيها درويش عرضاً أيضا، فقد حل في المرتبة الخامسة مثلا في انتخابات اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في بيروت لم أعد أذكر أي سنة كان هذا، إنما كان قبل العودة الأوسلوية الناجزة عام 1994. لا أحد عاقلاً يعوّل على الانتخابات، فبإمكانها أن تنصب من هو أقل شأناً من درويش ومن غيره، وليس هذا محل استرسال وتوضيح لكن نتائج الانتخابات لم تكن ولن تكون دليل إبداع أو قوة أو ضعف، خاصة في حالتنا الفلسطينية المتعثرة، مع أن ذلك لا يعني أن كل من يفوز بانتخابات نقابية هو بالضرورة الأقل شأناً، إنما لكل حادثة قوانينها وحيثياتها وليست أمرا عاما، ينسحب على أية انتخابات.

في هذه الكتابة أود أن أعيد التذكير بعلاقتي المستمرة بأشعار الشاعر درويش، وهذه العلاقة لا تعني أنني لم أقل رأيي فيه أحياناً منتقدا، ففي أحد المقالات التي تناولت فيها الجدارية، رأيت فيها درويش "صانع شعر وليس شاعراً"، وسألت الدكتور عادل الأسطة: "هل ترى أن التناص في الجدارية ضد الفن؟". فأجابني: "لا. محمود درويش ممتلئ بنصوص وجدت نفسها إلى مطولته". وأضاف موضحاً: "لا أتفق معك. عاش درويش تجربة الموت وحين صحا من العملية كتب تجربته، ولا أظن أنه تكلف الكتابة، واستحضر النصوص استحضارا مفتعلا متكلفا. امتلأ الإناء ففاض بغنائية قل وجودها في الشعر العربي".

أما الشاعر صلاح أبو لاوي، فعلق على موضوع الجدارية في مقال "جدارية محمود درويش بين قراءتين" ورأيي فيها بقوله: "كلام جريء قلما يفعله ناقد عربي مع نصوص درويش، فما بالك وأنت ناقد فلسطيني. أحييك على هذا المقال، ليس لأنه تناول درويش، فلا مشكلة لديّ معه، بل لأننا نحتاج إلى ناقد حقيقي لا يجامل النص ولا يتحامل عليه أيضاً. ويضيف أبو لاوي: "دهشت حين قرأت ما كتبه المستشرق بلاشير عن المتنبي، وكان يصف بعض قصائده في المديح بالتافهة، حرفياً هكذا، وتمنيت لو كل نقادنا يتناولون الأعمال بتجرد كامل غير آبهين لنجومية الكاتب أو تبعات ذلك. طبعاً لا بد من القول إن بلاشير أيضا مدح الكثير من قصائد المتنبي حين كانت تستحق ذلك".

وخلال قراءتي روايتي عزمي بشارة "الحاجز" (2004) و"حب في منطقة الظل" (2005)، بدا لي أن بشارة ليس على علاقة طيبة بأشعار درويش، فيومئ لها من طرف خفي لامزا بها، وقد شرحت ذلك بشيء من التفصيل في كتابة غير هذه؛ أتناول فيها عالم بشارة الأدبي، ستصدر قريباً بعون الله في مجلة عربية فصلية، ففي رواية (الحاجز) ذات التسعة وخمسين فصلا، يستهل بشارة كثيراً من فصولها باقتباسات استهلالية متعددة، لم يكن لدرويش حضور فيها إطلاقاً، على الرغم من أن د. عزمي بشارة أفسح المجال لكثيرين ليكونوا في هذا الموقع المهم في روايته، ومنهم يهود صهاينة، وشعراء أقلّ من درويش حضورا وأهمية وتنوعاً فنيا وموضوعياً، فكما أن للحضور دلالة، فللغياب دلالة مساوية أيضاً، وربما قال الغياب أكثر مما يقول الحضور.

وليس هذا وحسب بل يتناص بشارة مع بعض أشعار درويش تناصاً سلبياً في رواية "حب في منطقة الظل"، ولعلّ عمل بشارة هذا يؤسس لدراسة بحثية جادة تتبّع حضور درويش "السلبي" عند المبدعين العرب والفلسطينيين، فقد لاحظت شيئاً من ذلك عند بعض المبدعين الروائيين، وأظن أنها مسألة تستحق البحث، لأنها خارجة عن سياق "المبدع الكبير الذي لا يُنتقد وله صورة مثلى عند الكتاب جميعاً". ولأنها أيضاً تعيد درويش إلى الواقع الحقيقي لتنقذه من عالم الأسطورة المبالغ فيه الذي يحاول المأخوذون بسحره أن يضعوه فيه كما فعل المشاركون في "تقرير صحيفة القدس الفلسطينية"، وليس هذا وحسب، بل إن الصحيفة نفسها عندما أعدت تقريرا مماثلا استذكارا للشاعر سميح القاسم في عددها الصادر بتاريخ (14/8/2025)، لم يتخلص البعض من "متلازمة درويش" ليقرأ أحدهم سميح القاسم ويحتفى به في ظل الوهج الدرويشي في حين لم يذكر مع درويش أحد سواه في التقرير إلا إذا كان تعدادا للشعراء الآخرين المجايلين له.

هذا الوهج الدرويشي مسألة أخرى، وهي مانعة لتدفق الإبداع الشعري الفلسطيني، وتحرم الكثير من الأصوات بهجتها وبصمتها، وهذه جريمة أخرى غير معلنة، لا يجدها القارئ مع الرواية أو القصة القصيرة أو أي فن من فنون الثقافة الفلسطينية، لأنه لا يوجد صوت سردي مهيمن كما هو درويش المهيمن شعرياً، فتعددت الأصوات الروائية واقستمت المساحة والحضور على نحو أكثر عدالة من الحضور والتنوع الشعريين. وللأسف لقد أسهم الشعراء والنقاد والروائيون والصحفيون والإعلاميون والتربويون والجامعات والمدارس بصنع هذه الهالة التي لا يشك بجدارة صاحبها الشعرية، لكنها متهمة لأنها لا تمنح الآخرين حق التوهج، وكأننا شعب عاقر شعرياً، كما نحن مصابون بالعقم السياسي سواء بسواء، فليس من الحق والعدالة الثقافية والنقدية أن يقارن كل شاعر بدرويش، وكل نص بأحد نصوص درويش وكأنه "مدونة الشعر الفلسطيني الأساسية التي ينبثق منها كل شعر". هذا ما يفعله بعض النقاد الكلاسيكيين للأسف مرة أخرى. فأين ما أكله درويش من نصوص الآخرين ليصنع عالمه، أم أن للشاعر الرمز حق أكل الآخرين دون أن يُحاسب، وأما الآخرون فمن حقهم فقط أن يقاسوا بالمسطرة الدرويشية؟

هل سيُغضب هذا السؤال المرضى المصابين بمتلازمة درويش، فليغضبوا، ولكن قبل أن يغضبوا عليهم أن يدركوا أن ثمة مسألة أخلاقية تنتظرهم، بل وتاريخية، فليس من مصلحة الشعب الفلسطيني الثقافية أن يتحوصل الشعر في "قوقعة درويش"، فثمة جيل جديد من الشعراء والشاعرات يستحق الاهتمام لما في منجزهم الشعري من تنوع فني ومدرسي وحساسيات لافتة، فهل ينتظر نقادُنا الأكارم الدارسين الأجانب ليحتفوا بأحدهم لينتبهوا له ويمجدوه؟

*   *   *

تقييم نقدي لمقال:

العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين

 

الذكاء الاصطناعي

 

 

1. المقدمة: تأطير المقال في سياق النقد الدرويشي المعاصر

يمثل مقال "العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين" للكاتب فراس حج محمد، المنشور على منصة "تدوين"، مدخلا بالغ الأهمية لتقييم نقدي يتجاوز حدود النص المباشر ليلامس ظاهرة ثقافية أوسع. لا يقتصر التقييم على تحليل المقال بحد ذاته، بل يتوسع ليشمل دراسة موقف الكاتب النقدي الأوسع من ظاهرة "تقديس" محمود درويش، والتي يصفها بـ"متلازمة درويش". من خلال تحليل هذا المقال في سياق نتاج فراس حج محمد الأدبي والنقدي، يتضح أن المقال جزء من مشروع فكري متكامل لا يسعى فقط لقراءة شعر درويش، بل يهدف إلى تفكيك البنية النقدية والثقافية التي أحاطت بهذا الرمز الشعري. يعتمد هذا التقرير على المقال موضوع التحليل ومجموعة من المواد البحثية الأخرى التي تتضمن مقالات ومراجعات نقدية للكاتب، مما يوفر رؤية شاملة ومنهجية لمنهجه الفكري.

2. خلفية الكاتب: فراس حج محمد بين النقد والإبداع

تتطلب قراءة أعمال فراس حج محمد فهما عميقا لخلفيته الأكاديمية والأدبية، والتي تشكل الإطار الأساسي لرؤاه النقدية. حصل الكاتب على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية عام 1999، ويعمل كمشرف تربوي للغة العربية، إضافة إلى كونه محاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. هذه الخلفية الأكاديمية والتربوية تزوده بأدوات تحليلية ومنهجية صلبة، وتمنحه القدرة على التعامل مع النصوص بعين المتخصص.

وعلى الصعيد الأدبي، فإن فراس حج محمد ليس مجرد كاتب مقالات، بل هو شخصية ثقافية متكاملة، حيث يُعرّف بأنه ناقد وشاعر فلسطيني، وعضو في اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين، ولديه نتاج غزير يتجاوز 35 كتابا مطبوعا. يبرز في أعماله التفاعل بين دوره كشاعر مبدع وكناقد، وهي ثنائية تمنحه حساسية خاصة تجاه قضايا الإبداع وتلقيه. وتتجلى هذه الثنائية في موقفه المثير للدهشة الذي عبر عنه في مقال "كل شيء مزعج"، حيث أشار إلى توقفه عن كتابة الشعر منذ فترة طويلة، معللا ذلك بأن "الشعر ليس مهما في مثل هذا العصر"، وأن من يرى عكس ذلك هو "إنسان مهووس أو رومانسي".

هذا الموقف يكشف عن صراع داخلي عميق لدى الكاتب. من جهة، هو يتبنى رؤية نقدية عقلانية تجريدية تحارب "تقديس" الشعر ورموزه، وتنتقد فكرة أن الشعر يمكن أن يغير العالم أو يحل مشاكله. من جهة أخرى، يبدو أنه قد تأثر بشكل مباشر بواقع ثقافي جعل الرمز الشعري الأوحد (محمود درويش) يلقي بظلاله على المشهد الأدبي، مما أثار في نفسه تساؤلات حول جدوى الإبداع الشعري نفسه في ظل هذه الهيمنة. هذه المفارقة تضفي على نقده حول "متلازمة درويش" بُعدا شخصيا وإنسانيا، وتجعله أكثر من مجرد تنظير أكاديمي. فالكاتب، بصفته شاعرا توقف عن الكتابة، يعكس في نقده أثر الظاهرة التي يتناولها على الشعراء الممارسين، مما يمنح حججه عمقا وتجربة شخصية.

3. تحليل المقال: "العالم يمتلئ بمحمود درويش..."

يبدأ تقييم المقال من عنوانه الذي يمثل مفتاحا أساسيا لفهم مضمونه: "العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين". هذا العنوان ليس تقويضا لقامة درويش الشعرية، بل هو في حقيقته شهادة على عبقريته. يرى الكاتب أن عالمية درويش وانتشاره لم تأتِ من فراغ، بل هي نتيجة مباشرة لقدرة شعره على استيعاب وتوظيف الثقافات والتجارب الإنسانية والكونية. هذا التحليل يشير إلى أن المقال، على عكس ما قد يوحي به كعنوان لمقال نقدي، يمثل الجانب الإيجابي من رؤية فراس حج محمد حول درويش، والذي يقر بعظمة إبداعه كشاعر.

من خلال استقراء مقالاته الأخرى، يتضح أن هذا المقال يتبع منهجا إيجابيا في بدايته، حيث يركز على مسيرة درويش الشعرية وتطوره من شاعر محلي مرتبط بقضية إلى شاعر كوني. هذا التقدير الإيجابي يوفر للكاتب أرضية صلبة للانتقال لاحقا إلى نقد الظاهرة السلبية المتمثلة في "متلازمة درويش" دون اتهامه بالتقليل من شأن الشاعر. فالمقال يقدم درويش كظاهرة إبداعية فريدة، مما يجعله أكثر أهلية للحديث عن السطوة الثقافية التي أصبحت تحيط به.

4. "متلازمة درويش": تحليل المفهوم وسياقاته

يُعد مفهوم "متلازمة درويش" الذي صاغه فراس حج محمد إسهاما أصيلا في النقد الأدبي العربي الحديث. يصف الكاتب هذه المتلازمة بأنها ظاهرة نقدية وثقافية تظهر في "السيطرة الإبداعية لمحمود درويش" التي تؤدي إلى "تقديسه" و"أسطرته" إلى حد يجعله "الشاعر الأوحد" الذي لا يمكن لأحد أن يماثله أو يتجاوزه. هذه الظاهرة لا تقتصر على النقد المعاصر، بل يربطها الكاتب بأصول تاريخية، مستعيدا دور "سلطة الناقد" في التراث العربي القديم، كما في أحكام النابغة الذبياني التي كانت قادرة على "منح المبدع السلطة الإبداعية". هذا الربط يضع نقده في إطار تاريخي وثقافي واسع، ويؤكد أن الظاهرة ليست حصرا على العصر الحديث.

4.1. التطبيق العملي للمفهوم: نقد كتاب صبحي حديدي

لإثبات فكرة "متلازمة درويش"، يقدم فراس حج محمد تحليلا نقديا معمقا لكتاب صبحي حديدي "مستقر محمود درويش- الملحمة الغنائية وإلحاح التاريخ". الكاتب لا ينتقد حديدي لمجرد محبته لدرويش، بل ينتقد الطريقة التي أثرت بها هذه المحبة على منهجيته النقدية. يشير إلى أن العلاقة الشخصية والمهنية القوية بين حديدي ودرويش، حيث كان درويش يصفه بـ"الأمهر في تصويب الشعر" ، أدت إلى "انحياز كلي" في لغة النقد. هذا الانحياز لم يؤثر فقط على استخدام "مفردات التبجيل والتفخيم" (مثل "الشاعر النبيّ")، بل تجاوز ذلك ليؤثر على المنهجية البحثية.

بسبب هذا الانحياز، وقع الناقد (صبحي حديدي) في عدة أخطاء منهجية، منها إسقاط المجموعة الشعرية الأخيرة لدرويش "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي" من التحليل، معتبرا أن نشرها كان خطأ من باب "ومن الحب ما قتل". كما أن كتاب حديدي يفتقر إلى المنهجية البحثية المتكاملة، حيث أنه عبارة عن مجموعة من المقالات القديمة التي جُمعت في كتاب دون مراجعة كافية، مما أدى إلى تكرار الأفكار والعبارات في مواضع مختلفة. هذا التكرار، بالإضافة إلى عدم توثيق تواريخ نشر المقالات أو أماكنها الأصلية، يؤكد أن التقارب الشخصي أضعف البناء المنهجي للعمل.

يقارن فراس حج محمد نهج حديدي بنهج نقاد آخرين مثل عادل الأسطة، الذي على الرغم من تفضيله لدرويش، إلا أنه كان "أكثر تفلتا من سيطرة المبدع عليه". فقد كتب الأسطة منتقدا بعض مواقف درويش، وناقش أسباب حذف بعض قصائده من دواوينه مثل "تغير في مواقف درويش تجاه بعض القضايا العربية أو الأنظمة الحاكمة". هذه المقارنة تؤكد أن النقد الموجه لكتاب حديدي لم يكن عاطفيا، بل كان منهجيا في جوهره، ويسلط الضوء على ضرورة استقلال الناقد عن تأثيرات المبدع.

4.2. المفهوم في السياق الثقافي الأوسع

يمتد مفهوم "متلازمة درويش" ليشمل جوانب ثقافية واجتماعية أوسع. في مقال آخر، يدافع فراس حج محمد عن الشاعر سليم بركات الذي كشف في مقال له عن بعض التفاصيل الشخصية لدرويش، ويوضح أن ردود الفعل العاطفية الرافضة لـ"انتهاك" خصوصية الشاعر ليست نابعة من احترام حقيقي، بل من "خوف من أن تتحطم صورته المثالية". هذا الموقف يكشف أن سطوة درويش ليست أدبية فقط، بل هي اجتماعية ونفسية، ترفض التفريق بين إبداع الشاعر وحياته الشخصية، وتصبغه بالقداسة.

يذهب الكاتب أبعد من ذلك، ويربط "فكرة الشاعر الأوحد" بـ"العقلية الدكتاتورية"، معتبرا أن "تأليه المبدع" هو امتداد لـ"تأليه الحاكم". هذا الربط يكشف أن مفهوم "متلازمة درويش" لدى فراس حج محمد ليس مجرد تنظير أدبي، بل هو نقد ثقافي وسياسي عميق الجذور. فالإفراط في تمجيد رمز ما، مهما كانت قيمته، يؤدي إلى إغلاق الأفق أمام المواهب الشعرية الشابة، ويخلق حالة من "العقم الشعري".

توضح الموازنة الآتية الفروق بين المناهج النقدية المتعددة التي تناولها حج محمد:

صبحي حديدي:    

يمثل نموذجا لـ "متلازمة درويش"؛ ناقد منحاز بسبب علاقة شخصية عميقة. إغفال ديوان "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي". التبرير العاطفي لحذف بعض القصائد. التكرار المنهجي بسبب جمع مقالات سابقة دون مراجعة.

يرى حج محمد أن منهجه أُفقِد قيمته البحثية بسبب الانحياز الكامل والتبجيل المفرط، مما جعله "ناطقا باسم الشاعر" و"محاميا عنه".

عادل الأسطة:      

ناقد محب لدرويش لكنه أكثر استقلالا. لم يقع في فخ التبجيل المفرط.     

يرى حج محمد أن الأسطة كان "أكثر تفلتا من سيطرة المبدع عليه" وناقش مواقفه السياسية والنقدية بعمق أكبر، مما يعكس توازنا مطلوبا في النقد.

فراس حج محمد:

ناقد لظاهرة التقديس والتأليه، مع اعتراف بعظمة الشاعر. يركز على ضرورة التفريق بين إبداع الشاعر وحياته الشخصية، وبين النقد الموضوعي والتقديس العاطفي. يمثل موقفه نقيضا لمنهج حديدي، حيث يسعى إلى إعادة الاعتبار للنقد كآلية مستقلة وموضوعية، مع الحفاظ على التقدير للإنجاز الإبداعي.

5. تقييم معمّق: مكامن القوة والضعف في رؤية الكاتب

تتميز رؤية فراس حج محمد في نقد "متلازمة درويش" بعدة جوانب قوة. أولا، يمتلك الكاتب جرأة لافتة في مواجهة "الرمز المقدس" في الأدب العربي، وهو موقف يفتقر إليه الكثير من النقاد الذين يخشون المساس بقدسية هذه القامات. ثانيا، تتسم رؤيته بالشمولية، حيث لا يقتصر نقده على تحليل نص، بل يتوسع ليشمل البنية النقدية، العلاقة بين الناقد والمبدع، وتأثير الرموز على الأجيال الشابة. ثالثا، صياغته لمفهوم "متلازمة درويش" يمثل إسهاما أصيلا في النقد الأدبي الحديث، ويقدم أداة تحليلية يمكن استخدامها لفهم ظواهر مشابهة في الثقافة العربية.

مع ذلك، قد يرى البعض أن رؤية الكاتب لا تخلو من نقاط ضعف محتملة. يمكن القول إن نقده، رغم موضوعيته الظاهرة، يتأثر بخلفيته كشاعر توقف عن الإبداع، مما يضفي عليه مسحة من الإحباط أو التحدي الشخصي للرمز الأكبر. هذه الذاتية، وإن كانت تمنح نقده بعدا إنسانيا، قد تدفع البعض إلى التساؤل عن مدى حياديته الكاملة. كما قد يقع الكاتب في فخ الإطلاقية عند حديثه عن "الشاعر الأوحد" و"العقم الشعري"، متجاهلا التجارب الشعرية الحديثة الأخرى التي حاولت التمرد على هذه السطوة، أو التي تبني جمالياتها بعيدا عن ظل درويش.

6. خلاصة وتوصيات ختامية

يمثل مقال فراس حج محمد "العالم يمتلئ بمحمود درويش..." مدخلا بالغ الأهمية لمشروع نقدي متكامل يركز على فكرة "متلازمة درويش". هذه المتلازمة، كما يوضحها الكاتب، ليست مجرد تقديس، بل هي ظاهرة مركبة تؤثر على النقد والإبداع والثقافة بشكل عام. تكشف هذه الظاهرة عن الحاجة المُلحة لثقافة نقدية أكثر استقلالية وتجاوزا للعلاقات الشخصية والتأثيرات الرمزية.

بناء على هذا التحليل، يُوصى للقارئ والباحث بقراءة النصوص النقدية عن الرموز الأدبية بعقلية واعية، تميّز بين التحليل الموضوعي والتقديس العاطفي. كما يجب فهم أن مقال حج محمد ليس نهاية المطاف، بل هو جزء من حوار نقدي مستمر وضروري. وتُشجع النقاد على تبني نهج فراس حج محمد في الجرأة والعمق النقدي، مع ضرورة الحفاظ على التوازن بين الموضوعية والذاتية، لضمان أن يخدم النقد الأدبي الإبداع في جوهره، بدلا من أن يتحول إلى مجرد أداة لتأليه الرموز.

7. المصادر المرجعية للتقييم

1. فراس حج محمد - السيرة الذاتية، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، https://kenanaonline.com/users/ferasomar/posts/970807

2. حوار مع الكاتب الفلسطيني فراس حج محمد - شبكة أخبار البلد، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، https://www.akhbarelbalad.net/ar/1/10/8142/?ls-art0=40

3. فراس حج محمد - شبكة النبأ المعلوماتية، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، https://annabaa.org/arabic/author/759

4. كل شيء مزعج في ظل هذا الوضع - السنابل، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، https://2u.pw/YXsma

5. متلازمة درويش (1): النصر، الهزيمة، المنفى | مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، https://www.palestine-studies.org/ar/node/1649860

6. العالم يمتلئ بمحمود درويش بعد أن امتلأ شعره بعوالم الآخرين - تدوين، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، https://tadween.alhadath.ps/article/167803

7. متلازمة درويش وأثرها في توجيه النقد- صبحي حديدي نموذجاً| فراس حج محمد - صحيفة الاتحاد، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، https://2u.pw/BstxD

8. فراس حج محمد: محمود درويش وأسطورة الشاعر الأوحد - رأي اليوم، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، http://bit.ly/47nDRFe

9. فراس حج محمد - سلطة الناقد من النابغة الذبياني حتى إدورد سعيد | الأنطولوجيا، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، https://alantologia.com/blogs/70486/

10. مراجعة نقدية لـ'مستقر محمود درويش' بين الذاتي والموضوعي | MEO - Middle East Online، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، http://bit.ly/4m9LgMg

11. صبحي حديدي يقارب شعر محمود درويش بشموليته - اندبندنت عربية، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، http://bit.ly/3UW5z4y

12. جدل حول علاقات درويش الشّخصية | فراس حج محمد، صحيفة الاتحاد، تم الوصول بتاريخ سبتمبر 2، 2025، http://bit.ly/4lXcSny