ذكاء القلب
على مدى عقود من الزمن نعمتُ بصداقة محمود درويش. من بيروت السبعينات الى بيروت القرن الحادي والعشرين، نما هذا التواطؤ وتطور عابراً البحار والبلدان والتجارب. خلال حصار بيروت صيف 1982، كانت اللقاءات شبه اليومية. لم تكن فرصتي للافلات من شقتي وقد تحولت الى مقر للرفاق وغرفة عمليات عسكرية. وانما اللقاءات فسحات استثنائية للصداقة والتضامن والأمل. وكان محمود قد انتقل حينها من شقته الى أحد فنادق شارع الحمراء حيث الماء متوافر للحمّام اليومي، والكهرباء بالكاد تنقطع، وعلى البار بيرة مثلجة وعازفة على البيانو. هكذا أخذنا نرجم الحصار بالموسيقى والشعر. وفي غرفته في ذاك الفندق تلى عليّ وعلى سعدي يوسف الآيات الاولى من تلك الملحمة التي سوف تسمّى "مديح الظل العالي": "إقرأ بإسم الفدائي الذي خلقا/ من جزمة أفقا". وفي تلك الغرفة انعقدت حلقات الوداع بين رفاق السلاح والقضية الواحدة على اختلاف بلدانهم العربية. وحده محمود يرفض مغادرة بيروت: أنا شاعر لست بمقاتل. لكنه سوف يضطر الى المغادرة بعدما احتلت القوات الاسرائيلية المدينة. تشاء صدف حياة كل منا أن نعود لنلتقي في باريس بعد عامين وفي أسرة تحرير "الكرمل". وخلال آحاد باريس الهانئة عندما تنعقد الجلسات حول الكبّة النيئة اللبنانية تعدّها نوال عبود يرطّبها كأس عرق، يصرّ محمود على أن يزيّن الكبّة بـ"الحوسة" الفلسطينية (قليّة لحم وبصل) يطبخها بنفسه. يغازل جنى اليافعة: "جُ تيم" وتجيبه: "موا أوسّي". ولإسم جنى آنذاك عنده ذكريات. وعندما أصيب منه القلب في المستشفى النمسوي ومات ميتته الاولى لثوان سألت: ـ ما الموت؟ ـ لونه أبيض. اردفت: ـ انتبه الى قلبك. انه عضو عادي عند سائر البشر. أما القلب عندك فهو أداه انتاج. فانطلق في تساؤلات طفلية عن غرائب الاحدية والعدد في الجسم البشري: كيف يعقل أن يكون للمرء مليون شعرة وقلب واحد فقط! رقّصنا الساحة في إشبيلية مع الياس صنبر وفاروق مردم لحضور مؤتمر للمثقفين الاسبان بدعوة من خوان غويتسولو. وطيّرنا الحمام بعدما خرجنا من مخزن الالبسة وقد اختار كل منا، عن غير انتباه، السترة الجلدية عينها التي اختارها الآخر. ولم يرق لمحمود التشابه، فلم يطل به الامر حتى أهدى سترته الى أحد الاصدقاء. ولِمَ لا؟ "إن التشابه للرمال وأنت للازرق". من "ايامنا" معاً اننا اعتزمنا رحلة الى اليمن على أمل تنفيذ مشروع فيلم عن امرئ القيس يكتب محمود السيناريو ويخرجه الصديق ميشال خليفي. قررنا أن نسير على خطى الشاعر الامير في دوعن، ببلاد حضرموت. وصلنا صنعاء والجو متوتر بين الحزبين الحاكمين. وبين الرئيس ونائبه. وكالعادة، بل فوق العادة في تلك المرة، توتر محمود الى أبعد حد قبل أمسيته الشعرية. لم يكن يعرف ماذا يتوقع من الجمهور اليمني. ولكن بقدر توتر محمود، كان انفراج الناس الذين تفاءلوا بأن شيئاً لن يحصل لأن محمود موجود بينهم. فتوافدوا بكثرة للقاء الشاعر. مع ذلك، لم يطق محمود المكوث اياماً في الفندق بعدن في انتظار طائرة الى وادي حضرموت فقفلنا راجعين، فلا اقتفينا آثار شاعر "قفا نبكِ" ولا ذقنا عسل دوعن. محمود اليومي لطالما عجبت كم ان محمود لا يشبه سائر الشعراء، أو انه لا يشبه على الاقل الصورة النمطية الشائعة عن الشاعر. لا أثر فيه للبوهيمية. لا لحية له. ولا شارب. وهو حليق كل الوقت. ليس حزيناً ولا مكتئباً. أو انه لا يريك وجهه اذا ما سيطر عليه الغمّ. أنيق منتهى الاناقة. نظيف. جميل. ومجامل أحياناً. منظّم ودقيق في مواعيده بطريقة مدهشة. ثابت في طقوسه. يكتب صباحاً على مكتبه. يكوّر يده أمام الورقة، مثل الاولاد ايام الامتحانات، يخفي ما يكتب عن فضولي غير مرئي يتلصص عليه. أو يريد أن ينقل عنه. سألته لماذا. قال لست أدري. ربما خفرا. وربما لأني لست واثقاً من أني سوف أبقي ما كتبت. لا يتردد في تمزيق قصيدة لم تصل الى مستوى يريده. ولا يتردد في اهمال قصيدة اذا ما قرأ قصيدة أفضل منها. مزّق قصيدة في رثاء بابلو نيرودا بعدما قرأ قصيدة إيتل عدنان "بابلو نيرودا شجرة موز". بعد الغداء والقيلولة، يقرأ بنهم. الروايات خصوصاً. لا يخفي انه يحلم بكتابة رواية. ولكنه يسارع الى الاعتذار لأنه لن يجيد كتابة الروايات. وهو محقّ في ذلك. فعلى نحو غير إرادي، يتحول الكلام بين يديه دوماً الى موسيقى. في المساء يمارس الصداقة. يشرب في السهرات ولكنه لم يصل مرة الى السكر، على حد معرفتي، ولا يطيل السهر على كل حال. هذا شاعر لا مهنة له الا الشعر، وإن امتهن الصحافة للقيام بالأود. نادراً ما يترك وراءه نصاً بخط اليد. نادراً ما يكتب الرسائل. لا يريد أن يبقى منه إلا شعره. ليس يريد أن يبقى منه شيء إلا الشعر. الـ"أنا" والـ"هنا" وخزته فلسطين الى الشعر منذ شهق الطفل: "من اين جاؤوا؟" وصرخ غاضباً في وجه أهل لم يستطيعوا منع انفصال الجسد عن المكان الاول. ولسعه الضابط الاسرائيلي بسوط الهوية عندما رفض تسجيل اسمه في عداد أبناء قريته ظناً منه أن الفتى الاشقر الشعر من أبناء جلدته. فردّ الفتى: "سجّل! أنا عربي!". مذ ذاك وشعر محمود درويش يشتغل على استعادة وصل الجسد بالمكان. فعلى وقع جدلية الـ"هنا" والـ"أنا" ولدت شاعريته ونمت وخصبت ونضجت وجمُلت وتأوجت. "المكان الرائحة الاولى قهوة تفتح شباكا غموض المرأة الاولى ابٌ علّق بحراً فوق حائط المكان خطوتي الاولى الى اول ساقين اضاءا جسدي المكان المرض الاول... والمكان هو ما كان وما يمنعني الآن من اللهو المكان الفاتحة المكان السنة الاولى. ضجيج الدمعة الاولى التفاتُ الماء نحو الفتيات. الوجع الجنسي في أوله، والعسل المُرّ...". وإن يتسامح الشاعر مع مكان ليس هو "ما كان"، فقد يتسامح مع بيروت، الخيمة الاخيرة والنجمة الاخيرة. وإذ حرم بيروت، حرم المنفى والوطن معاً ("لا منفى لي/ لأقول لي وطن/ الله يا زمن). ومع ان مفتاح شعر محمود هو جدل الهنا والأنا، يظل الشاعر عصياً على التصنيف. رومنطيقي؟ يجوز قول ذلك في وجه من أوجه إنتاجه المتعددة. مثل الهنود الحمر، يلجأ الى الطبيعة ليقاوم بها آلات القتل التي يحملها الرجل الابيض. يقاوم بالشجرة والحصان والقمر. لكن الطفل الذي فيه يريد أن يعبث بكل شيء حتى بالطبيعة: "لو استطيع أعدتُ ترتيب الطبيعة ههنا صفصافة وهناك قلبي ههنا قمر التردد ههنا عصفورة الانتباه هناك نافذة تعلّمكِ الهديلا وشارع يرجوكِ أن تبقي قليلا" شاعر غنائي؟ لا يكفي. فهو عطف اوديسة العودة الى حيث الأم تنتظر على إلياذة فلسطينية أودعها "ايام" شعب بأكمله. ذاكرة شعب. نعم. ولكنها مفتوحة على المستقبل لا متشبثة بالماضي. كُتب على محمود درويش أن يكون "شاعر القبيلة" فلم يكتفِ بالنطق بإسمها، صار مربيها ومعلّمها. رفض أن تذهب القبيلة بالصوت الفردي. بل ارتفعت نبرة صوته الفردي فوق ضجيج القبيلة. يريدونه نواحا بكاء، فيما هو يربّي الأمل مثلما يربّي المزارع النحل. ازعم أن هذا الرجل هو أبرز مفكر سياسي عند الشعب الفلسطيني. ليس فقط في معرفته الاستثنائية بالصهيونية ودولة اسرائيل، وحسّه العميق بنبض شعبه، بل بفضل قوة المخيلة عندما الشعر يجد حلولاً استعصت على السياسة وأهلها، كما قال ماياكوفسكي. لقد اجبر محمود درويش الفلسطيني ليجبر الاسرائيلي على أن يتأنسن. وفرض بالشعر حق شعب في ارضه. يجوز القول إن الشعر لا يستطيع الكثير في نزاع مع اسلحة الدمار. ولكنه مع ذلك يستطيع. فمن يعرف حالات عديدة نشبت خلالها أزمات وزارية حول تدريس قصائد لشاعر بحدّة الازمة التي نشبت داخل الحكومة الاسرائيلية اذا انقسمت بين مؤيدي تدريس شعر محمود درويش في المدارس ومعارضيه. وأي انتقام، ولو رمزياً، للضحية من جلادها أبلغ من أن يضطر الجلاد آرييل شارون الى الاعتراف بأنه يقرأ شعر محمود درويش ويعجب به. أما السلطة فاقترب منها ولكن من دون أن يتماهى معها، أو ان يخدمها. ولسان حاله: ما أضيق الدولة ما أطول الرحلة ما أوسع الثورة. ثم انه ليس مجرد شاعر هوية. الهوية عنده مفتوحة على الامام والأمل والتقدّم، الثالوث الذي يقضّ مضاجع الما بعد حداثيين. أليس هو القائل في قصيدة "طباق" التي بها رثى إدوارد سعيد: "ان الهوية بنت الولادة ولكن/ في النهاية إبداع صاحبها/ لا وراثة ماضٍ"! ذكاء القلب محمود درويش هو الذكاء الذي ليس هو مجرد عقل. والقلب الذي ليس هو مجرد عاطفة وشعور. والموهبة المصقولة بالثقافة وبشغف لا يشبع الى المعرفة. وهو كتلة أحاسيس ترفعها المخيلة الى أرقى مستويات النبل والجمال. الجمال لذاته وبذاته. شعر محمود درويش هو ذكاء القلب. ندّابون عدميون يتساءلون: ماذا قدّم العرب للثقافة العالمية؟ ببساطة، قدّمنا محمود درويش. دعك من التخليط. هذا شاعر لا يعوَّض. وانسان لا يعوَّض. وصديق لا يعوَّض. ولا حاجة الى البلاغة واللعب على الكلمات عن الموت. فالمعنى هو عند المتنبي العظيم، أكبر ملهمي محمود: إن الموت ضرب من القتل. محمود درويش قتيل. وهذه جريمة لا عقاب عليها. وكل ما كتبه محمود عن الموت يدور مدار هذه المأساة: الموت هو الجريمة الوحيدة التي لا مكان لها في القانون الجزائي. انها الجريمة الوحيدة التي لا عقاب عليها! كاتب لبناني
على مدى عقود من الزمن نعمتُ بصداقة محمود درويش. من بيروت السبعينات الى بيروت القرن الحادي والعشرين، نما هذا التواطؤ وتطور عابراً البحار والبلدان والتجارب. خلال حصار بيروت صيف 1982، كانت اللقاءات شبه اليومية. لم تكن فرصتي للافلات من شقتي وقد تحولت الى مقر للرفاق وغرفة عمليات عسكرية. وانما اللقاءات فسحات استثنائية للصداقة والتضامن والأمل. وكان محمود قد انتقل حينها من شقته الى أحد فنادق شارع الحمراء حيث الماء متوافر للحمّام اليومي، والكهرباء بالكاد تنقطع، وعلى البار بيرة مثلجة وعازفة على البيانو. هكذا أخذنا نرجم الحصار بالموسيقى والشعر. وفي غرفته في ذاك الفندق تلى عليّ وعلى سعدي يوسف الآيات الاولى من تلك الملحمة التي سوف تسمّى "مديح الظل العالي": "إقرأ بإسم الفدائي الذي خلقا/ من جزمة أفقا". وفي تلك الغرفة انعقدت حلقات الوداع بين رفاق السلاح والقضية الواحدة على اختلاف بلدانهم العربية. وحده محمود يرفض مغادرة بيروت: أنا شاعر لست بمقاتل. لكنه سوف يضطر الى المغادرة بعدما احتلت القوات الاسرائيلية المدينة.
تشاء صدف حياة كل منا أن نعود لنلتقي في باريس بعد عامين وفي أسرة تحرير "الكرمل". وخلال آحاد باريس الهانئة عندما تنعقد الجلسات حول الكبّة النيئة اللبنانية تعدّها نوال عبود يرطّبها كأس عرق، يصرّ محمود على أن يزيّن الكبّة بـ"الحوسة" الفلسطينية (قليّة لحم وبصل) يطبخها بنفسه. يغازل جنى اليافعة: "جُ تيم" وتجيبه: "موا أوسّي". ولإسم جنى آنذاك عنده ذكريات. وعندما أصيب منه القلب في المستشفى النمسوي ومات ميتته الاولى لثوان سألت:
ـ ما الموت؟ ـ لونه أبيض.
اردفت:
ـ انتبه الى قلبك. انه عضو عادي عند سائر البشر. أما القلب عندك فهو أداه انتاج.
فانطلق في تساؤلات طفلية عن غرائب الاحدية والعدد في الجسم البشري: كيف يعقل أن يكون للمرء مليون شعرة وقلب واحد فقط!
رقّصنا الساحة في إشبيلية مع الياس صنبر وفاروق مردم لحضور مؤتمر للمثقفين الاسبان بدعوة من خوان غويتسولو. وطيّرنا الحمام بعدما خرجنا من مخزن الالبسة وقد اختار كل منا، عن غير انتباه، السترة الجلدية عينها التي اختارها الآخر. ولم يرق لمحمود التشابه، فلم يطل به الامر حتى أهدى سترته الى أحد الاصدقاء. ولِمَ لا؟ "إن التشابه للرمال وأنت للازرق".
من "ايامنا" معاً اننا اعتزمنا رحلة الى اليمن على أمل تنفيذ مشروع فيلم عن امرئ القيس يكتب محمود السيناريو ويخرجه الصديق ميشال خليفي. قررنا أن نسير على خطى الشاعر الامير في دوعن، ببلاد حضرموت. وصلنا صنعاء والجو متوتر بين الحزبين الحاكمين. وبين الرئيس ونائبه. وكالعادة، بل فوق العادة في تلك المرة، توتر محمود الى أبعد حد قبل أمسيته الشعرية. لم يكن يعرف ماذا يتوقع من الجمهور اليمني. ولكن بقدر توتر محمود، كان انفراج الناس الذين تفاءلوا بأن شيئاً لن يحصل لأن محمود موجود بينهم. فتوافدوا بكثرة للقاء الشاعر. مع ذلك، لم يطق محمود المكوث اياماً في الفندق بعدن في انتظار طائرة الى وادي حضرموت فقفلنا راجعين، فلا اقتفينا آثار شاعر "قفا نبكِ" ولا ذقنا عسل دوعن.
محمود اليومي لطالما عجبت كم ان محمود لا يشبه سائر الشعراء، أو انه لا يشبه على الاقل الصورة النمطية الشائعة عن الشاعر. لا أثر فيه للبوهيمية. لا لحية له. ولا شارب. وهو حليق كل الوقت. ليس حزيناً ولا مكتئباً. أو انه لا يريك وجهه اذا ما سيطر عليه الغمّ. أنيق منتهى الاناقة. نظيف. جميل. ومجامل أحياناً. منظّم ودقيق في مواعيده بطريقة مدهشة. ثابت في طقوسه. يكتب صباحاً على مكتبه. يكوّر يده أمام الورقة، مثل الاولاد ايام الامتحانات، يخفي ما يكتب عن فضولي غير مرئي يتلصص عليه. أو يريد أن ينقل عنه. سألته لماذا. قال لست أدري. ربما خفرا. وربما لأني لست واثقاً من أني سوف أبقي ما كتبت. لا يتردد في تمزيق قصيدة لم تصل الى مستوى يريده. ولا يتردد في اهمال قصيدة اذا ما قرأ قصيدة أفضل منها. مزّق قصيدة في رثاء بابلو نيرودا بعدما قرأ قصيدة إيتل عدنان "بابلو نيرودا شجرة موز".
بعد الغداء والقيلولة، يقرأ بنهم. الروايات خصوصاً. لا يخفي انه يحلم بكتابة رواية. ولكنه يسارع الى الاعتذار لأنه لن يجيد كتابة الروايات. وهو محقّ في ذلك. فعلى نحو غير إرادي، يتحول الكلام بين يديه دوماً الى موسيقى. في المساء يمارس الصداقة. يشرب في السهرات ولكنه لم يصل مرة الى السكر، على حد معرفتي، ولا يطيل السهر على كل حال. هذا شاعر لا مهنة له الا الشعر، وإن امتهن الصحافة للقيام بالأود. نادراً ما يترك وراءه نصاً بخط اليد. نادراً ما يكتب الرسائل. لا يريد أن يبقى منه إلا شعره. ليس يريد أن يبقى منه شيء إلا الشعر.
الـ"أنا" والـ"هنا" وخزته فلسطين الى الشعر منذ شهق الطفل: "من اين جاؤوا؟" وصرخ غاضباً في وجه أهل لم يستطيعوا منع انفصال الجسد عن المكان الاول. ولسعه الضابط الاسرائيلي بسوط الهوية عندما رفض تسجيل اسمه في عداد أبناء قريته ظناً منه أن الفتى الاشقر الشعر من أبناء جلدته. فردّ الفتى: "سجّل! أنا عربي!". مذ ذاك وشعر محمود درويش يشتغل على استعادة وصل الجسد بالمكان. فعلى وقع جدلية الـ"هنا" والـ"أنا" ولدت شاعريته ونمت وخصبت ونضجت وجمُلت وتأوجت.
"المكان الرائحة الاولى قهوة تفتح شباكا غموض المرأة الاولى ابٌ علّق بحراً فوق حائط المكان خطوتي الاولى الى اول ساقين اضاءا جسدي المكان المرض الاول... والمكان هو ما كان وما يمنعني الآن من اللهو المكان الفاتحة المكان السنة الاولى. ضجيج الدمعة الاولى التفاتُ الماء نحو الفتيات. الوجع الجنسي في أوله، والعسل المُرّ...".
وإن يتسامح الشاعر مع مكان ليس هو "ما كان"، فقد يتسامح مع بيروت، الخيمة الاخيرة والنجمة الاخيرة. وإذ حرم بيروت، حرم المنفى والوطن معاً ("لا منفى لي/ لأقول لي وطن/ الله يا زمن). ومع ان مفتاح شعر محمود هو جدل الهنا والأنا، يظل الشاعر عصياً على التصنيف. رومنطيقي؟ يجوز قول ذلك في وجه من أوجه إنتاجه المتعددة. مثل الهنود الحمر، يلجأ الى الطبيعة ليقاوم بها آلات القتل التي يحملها الرجل الابيض. يقاوم بالشجرة والحصان والقمر. لكن الطفل الذي فيه يريد أن يعبث بكل شيء حتى بالطبيعة:
"لو استطيع أعدتُ ترتيب الطبيعة ههنا صفصافة وهناك قلبي ههنا قمر التردد ههنا عصفورة الانتباه هناك نافذة تعلّمكِ الهديلا وشارع يرجوكِ أن تبقي قليلا"
شاعر غنائي؟ لا يكفي. فهو عطف اوديسة العودة الى حيث الأم تنتظر على إلياذة فلسطينية أودعها "ايام" شعب بأكمله. ذاكرة شعب. نعم. ولكنها مفتوحة على المستقبل لا متشبثة بالماضي. كُتب على محمود درويش أن يكون "شاعر القبيلة" فلم يكتفِ بالنطق بإسمها، صار مربيها ومعلّمها. رفض أن تذهب القبيلة بالصوت الفردي. بل ارتفعت نبرة صوته الفردي فوق ضجيج القبيلة. يريدونه نواحا بكاء، فيما هو يربّي الأمل مثلما يربّي المزارع النحل. ازعم أن هذا الرجل هو أبرز مفكر سياسي عند الشعب الفلسطيني. ليس فقط في معرفته الاستثنائية بالصهيونية ودولة اسرائيل، وحسّه العميق بنبض شعبه، بل بفضل قوة المخيلة عندما الشعر يجد حلولاً استعصت على السياسة وأهلها، كما قال ماياكوفسكي. لقد اجبر محمود درويش الفلسطيني ليجبر الاسرائيلي على أن يتأنسن. وفرض بالشعر حق شعب في ارضه.
يجوز القول إن الشعر لا يستطيع الكثير في نزاع مع اسلحة الدمار. ولكنه مع ذلك يستطيع. فمن يعرف حالات عديدة نشبت خلالها أزمات وزارية حول تدريس قصائد لشاعر بحدّة الازمة التي نشبت داخل الحكومة الاسرائيلية اذا انقسمت بين مؤيدي تدريس شعر محمود درويش في المدارس ومعارضيه. وأي انتقام، ولو رمزياً، للضحية من جلادها أبلغ من أن يضطر الجلاد آرييل شارون الى الاعتراف بأنه يقرأ شعر محمود درويش ويعجب به.
أما السلطة فاقترب منها ولكن من دون أن يتماهى معها، أو ان يخدمها. ولسان حاله:
ما أضيق الدولة ما أطول الرحلة ما أوسع الثورة.
ثم انه ليس مجرد شاعر هوية. الهوية عنده مفتوحة على الامام والأمل والتقدّم، الثالوث الذي يقضّ مضاجع الما بعد حداثيين. أليس هو القائل في قصيدة "طباق" التي بها رثى إدوارد سعيد: "ان الهوية بنت الولادة ولكن/ في النهاية إبداع صاحبها/ لا وراثة ماضٍ"!
ذكاء القلب محمود درويش هو الذكاء الذي ليس هو مجرد عقل. والقلب الذي ليس هو مجرد عاطفة وشعور. والموهبة المصقولة بالثقافة وبشغف لا يشبع الى المعرفة. وهو كتلة أحاسيس ترفعها المخيلة الى أرقى مستويات النبل والجمال. الجمال لذاته وبذاته. شعر محمود درويش هو ذكاء القلب. ندّابون عدميون يتساءلون: ماذا قدّم العرب للثقافة العالمية؟ ببساطة، قدّمنا محمود درويش.
دعك من التخليط. هذا شاعر لا يعوَّض. وانسان لا يعوَّض. وصديق لا يعوَّض. ولا حاجة الى البلاغة واللعب على الكلمات عن الموت. فالمعنى هو عند المتنبي العظيم، أكبر ملهمي محمود: إن الموت ضرب من القتل. محمود درويش قتيل. وهذه جريمة لا عقاب عليها. وكل ما كتبه محمود عن الموت يدور مدار هذه المأساة: الموت هو الجريمة الوحيدة التي لا مكان لها في القانون الجزائي. انها الجريمة الوحيدة التي لا عقاب عليها!
كاتب لبناني