أن الارتقاء باللغة إلى مستوى الإيقاع الموحد وجعل الكلمات متوافقة ضمن هرمون نسقي يتصاعد بالحس الشعري إلى مستوى القضية المعبرة عنها ودون الإخلال بذائقة هذا الإيقاع .. يحتاج إلى معرفة لغوية واسعة بحيث يستمر هذا النسق في حدود المعنى المراد الوصول أليه بعيدا عن طرح القضية المعبرة كهموم ذاتيه لا تشمل مجتمع يسعى نحو التغير. وهنا هي عملية الانتقال من الذات إلى الحركة الشاملة لذات المجتمع الذي يسعى إلى أحداث التغير في حياته كل هذا نجده في مجموعة الشاعر حسن حجازي (25 يناير و ميلاد جديدْ) حيث لا يكمن إحداث هذا إلا من خلال تثوير اللغة وإبعادها عن ركامها الساكن في الرؤيا التعبيرية فيها ولكي يصل إلى هذا يحول طاقة مشاعره الذاتية إلى طاقة بقدر ما يمتد بلغة التعبير إلى خارج ذائقة قدرة اللغة على التعبير لأن التعبير هنا هو مجارات حركة الثورة المتسعة لثورة الشعوب العربية، لهذا نجد الشاعر ولكي لا تصاب لغته الذاتية بالنكوص والتغريب بعيدا عن هموم الثورة الحقيقية للشعب، يحاول الشاعر حسن حجازي أن يعتمد على الصورة الشعرية والتي يجعلها هي المعبرة والمشعة بكل معاني الكلمات التي تستطيع أن تبني هذه الصور الشعرية بشكل كبير دون الوقوع في تمازج المعاني وتتحول النصوص لدية إلى مشاعر مسطحة لا تحمل العمق الحقيقي لبناء النص الشعري ذات المعنى الكبير والدلالة العميقة، ويعتمد هذا على الصبر والتأني وفي نفس الوقت على مزج ذائقة اللغة القادرة على موازاة الحركة المتغيرة في الواقع الذي حوله لهذا نراه يأتي بالتاريخ لإثبات أصلة الشعب المصري ولكي يسكب الرؤيا الثورية لدية بعد تاريخي عميق وشاسع.
حيث نلاحظ أن الشاعر يحضر الماضي ودون أخلال بواقع الحاضر بل لكي يضيف ويوسع منطقة التعبير ضمن هاجسه الثوري وكذلك لكي يكسب الثورة بعد شرعي تاريخي بالتغير، فنلاحظ أن الشاعر أحضر حورس ( حورس ! / الآن! /وفقط الآن ! /نحتاجكَ بشدة /فحلق على ربوعِِ الوادي /واحتضنَ الفجرَ الوليد /وانشر ميزانَ العدلِِ /على الوادي / فمصرُ الآن /تُولَدُ من جديد ! ) وحين جاء الشاعر بهذا لكي يكبر دلالات والمعنى في التاريخ المصري بأن هذا الشعب لا يرضى أن يستمر الظلم والاضطهاد له ولكي يثبت هذا من خلال هذا الرمز التاريخي (حورس) أي من أجل أن يرتقي بثورة الشعب إلى مستوى الرمز التاريخي في الإنضاج والفكر الذي تنتمي إليه هذه الثورة، وما هذه الثورة إلا التغير الحقيقي والحتمي من أجل أن يحقق الشعب كامل حقوقه في الحياة ودون الإخلال بسيرته التاريخية بل أعطاء لهذه المسيرة البعد الجديد الثوري لكي يرتقي الشعب إلى مستوى هذا التاريخ، والشاعر جاء بهذا الرمز في بداية مجموعته لكي يثبت عمق التغير الذي ينشده الشعب المصري ذو التاريخ الكبير والعظيم كانت هذه الثورة بهذا المستوى الكبير حيث أزالت كل من لا يحترم كيان هذا الشعب وقد أنتصر من أجل تاريخه وحاضره...
ويستمر الشاعر بهذه القدرة التي تعطي ثورة شعبه البعد الحقيقي لكل الثورات التاريخية والتي تسعى نحو تحقيق طموحها في الحياة لكن بعيدا عن أراقه الدم. لأن الشعب الذي يمتلك كل هذا التاريخ العظيم يمتلك كل المفاهيم الكبيرة التي تحدد المسيرة الجوهرية لأحداث التغير بعيدا عن التعصب والفوضى بل هو يريد التغير لكي يعيد إلى تاريخه كل ما كان من عظمة ويعيد حقوقه المسلوبة من قبل أشخاص لا يفهموا أو يحترموا الشعب وتاريخه الطويل .. (من فضلك / ارحل ! / من بعضِ كرمك /ارحل ! /
لم يَعُد لكَ مكان / في قلبي /ارحل ! / أريدُ ترتيبَ بيتي ) جاء النداء هذا لكي يحدث التغير الشامل ويعيد مجد هذا الشعب ولكن بعيدا عن الفوضى بل يحدث التغير بحكمة هذا الشعب الذي يريد الحياة لكي يحقق التوازن المطلوب في حقوقه والتغير قد حتم الآن فأرحل أيها القابع فحقوقنا قد سلبتها أننا لا نريد منك شيء سوى أن ترحل فأرحل .. فأي نداء هذا يحمل الحكمة والتاريخ الكبير، نحن لا نريد إلا حقوقنا ....
وليعطي هذا النداء البعد والمعنى والدلالة في الهدف الحقيقي للثورة، فالثورة لا طريق لها غير الحرية التي يريدها هذا الشعب، فأرحل لكي يجد الشعب حريته فلا طريق إليك إلا أن يحصل الشعب على حريته .. والشاعر هنا أستطاع أن يعطي الدلالة الموحية بأن زمن الحرية لا بد أن يأتي مهما تمسك الحاكم بالسلطة ولا بد أن يأتي هذا الزمن، والتاريخ يحتم هذا فكل شيء يؤدي لهذه الحرية التاريخ والحاضر الموعود بالحرية ولابد أن يأتي الخلاص (أينَ تذهب ؟ / كلُ الطرق تؤدي / للحرية ... / لميدانِ التحرير ! /كل صفحاتِ التاريخ / تؤدي للخامس والعشرين /من يناير ! / تؤدي إلى .... مصر / للخَلاصِ الأخير !! )
نشعر أن الشاعر حسن حجازي يمتلك المعرفة التاريخية التي من خلالها يستطيع أن يجد التنظير البستمولوجي الذي يقارب تجربة الثورات التاريخية مع تاريخ الحاضر ومن خلال الدالة الموحية بالمعنى وفق الاستعارات التي تعطي الرمز الحي باستمرار التاريخ المنظر لكل تغير يحدث في هذا الحاضر أي نشعر أن الشاعر يحافظ على فكرة النص بعيدا عن السقوط بالمباشرة في طرح مشاعره الوطنية، أي أن النص لدية بقدر وجود الحاضر فيه يمتلك عمق في التاريخ المفسر لكل ما يحدث في تطور الشعوب وقدرتها على أخذ حريتها الحقيقة وفق حقوقها المسلوبة من قبل السلطة، وطبعا هذه المعرفة تجعل النص لدى الشاعر يمتد بالاستعارة الموحية إلى الصورة الشعرية عالية الوضوح عميقة المعنى وفق تراكيب الدلالات الرمزية المأخوذة من التاريخ .. أي أن الشاعر يعتمد الأسلوبية كارتكاز لغوي يبعده عن الشكل دون التعبير الوجداني والملامس لهموم الشعب فالشاعر يحول الأسلوبية من الفرد إلى المجتمع الذي ينتمي إليه مبتعدا عن المشاعر السطحية ممتدا في المعنى العميق فيكون في هذه الحالة يحافظ على الشكل من أجل حصر المعنى ضمن ذائقة التعبير العميق وليس التسطيح ..حيث نجده يرجع إلى التاريخ وما فعله طارق بن زياد حين عبر إلى الأندلس لكي يحدد مسار المعنى ضمن النص الشعري لديه أي يكون النص لدية تكويني وليس تقريري (البحرُ /من أمامكم ! / والشعبُ /من خلفكم /فأينَ تذهبون ! /أينما توليتم /فثَمَّ وجهُ الشعب! / حبيبتي / اليومَ / صرت ِ أجمل / صرتِ أنضر /لمحتُ في عينيك ِ / بهاءَ إيزيس /طهارة َ مريم /نقاءَ هاجر /رأيتُ فيكِ وجه / الحبيبة : مصر ) ونجد الشاعر هنا ولكي لا يقع في الجملة الخبرية يحاول أن يزاوج بين التاريخ واللحظة التي يريد أن يعبر عنها ضمن مكنون الجملة الشعرية فهنا جاء بالرموز التاريخية والميثولوجية (طارق بن زياد، إيزيس، مريم ، هاجر ) لثبت أن كل شيء يتغير فلماذا الحاكم متمسك بالسلطة، وقد أستطاع أن يجد الفكرة التي توصله إلى الرؤيا المكونة لجملة الشعرية، كما نلاحظ أن الشاعر يحاول أن يمتد بشكل النص على قدر المضمون لأن الواقع الذي يصوره متحرك متغير وفق زمن الحدث التاريخي للثورة وبهذه الحالة فلو بقى محافظ على شكل دون المعنى تصبح الجملة المعبرة عن الواقع غريبة عنه لا تتواصل ولا تتطور مع الواقع، وبهذا الشاعر حدد أسلوبية التعبير المواكب للحدث التي يعبر عنه بشكل شعري بعيدا عن الخطاب ، حيث نجد هذا في المقطع التالي ( عندما انتفضَ الشعب / ابتسمت لنا الحياة / ورضِى عنا اللهُ /فمصرُ الآنَ / في آمان / مع خيرِ أجنادِ الأرض / تنهض وتَكْبُر / والله مصرُ / في أمانٍ / أكثر وأكثر ! ) هنا الشاعر حدد الدلالة التي توصل الشعب للامان وهنا الدالة التي توحي بهذا هو قدرة هذا الشعب على الثورة من أجل استرجاع حقوقه المسلوبة من قبل السلطة ، وهذه الدالة جعلها مركز ارتكاز لبؤرة النص وهي ثورة الشعب من أجل أخذ حقوقه، والشاعر يحول الحس الثوري لدى هذا الشعب إلى رؤيا يرى من خلالها مستقبله الذي يسعى إليه ، أي بيان أسباب الثورة والهدف المراد الوصول إليه، وقد أعطى الشاعر المعنى الذي على منهجه ثورة الشعب المصري، أي أعطى الأسباب الحتمية لقيام الثورة والمعنى المترتب على هذا، والشاعر أعاد تفكيك الواقع وجعله موضوعيا للثورة وحتميتها ..
في المقطع التالي يبدأ من التاريخ ويستمر بسرد الواقع الحالي ضمن هذا التاريخ أي أن لحظة الثورة هي الجزء الكبير لتاريخ هذا الشعب ، هنا يستفاد من الرموز الدينية ليعجل بالخلاص من الطاغية الذي سرق ثروة الشعب هو ولصوصه ( "تبت يدا / أبي لهبٍ وتب " / تبت يداهُ / بما قالَ وكذب / تبت يداهُ لما افترى / واستشرى / عندما أقسم ونَصَب / تبت يداهً / عندما استباحَ أحلامي / وتاجرَ بأيامي /فتركَ بلادي /فريسةً مستباحة مباحة / لحفنة من لصوصٍٍٍ / وقطاعٍٍِ للطُرق /تبت يداهُ ) وهنا أتى بالرمز أبي لهب والذي يرمز إلى الكفر و أمتد بهذا الرمز ليحدث المقاربة التاريخية والدينية، وكما قلت سابقا أن الشاعر يأتي بالمثيولوجيا لكي يجعل الحاضر امتداد لهذه المثيولوجيا وكذلك لكي يحدث إنضاج للفكرة التي يريد من خلالها التعبير عن الواقع أي لا يقع في الأوهام الحسية العاطفية ما جعل الشاعر يبتعد كليا عن الفكرة الإخبارية بل جعل الفكرة عمق يمتد من التاريخ للحظة الراهنة أي جعل التاريخ المعادل الموضوعي لواقع يسعى إلى التغير ليرتقي إلى مستوى التاريخ الذي ينتمي إليه ، وكذلك أستطاع الشاعر أن يوحد الفكرة والفعل مع الشعور لكي تتكامل عنده الرؤيا المصورة لأحداث الحاضر ضمن ذائقة الصورة الشعرية ، وقد أرتقت عنده الفكرة من مشاعره الداخلية إلى مستوى التفكير وهذا ما يجعله يبتعد عن الأنساق الجاهزة لتصوير الثورة بل يأتي بالتاريخ لكي تبقى الفكرة لدية حاملة الرؤيا والامتداد بهذه الرؤيا إلى الحدث والمعنى لهذه الثورة، وبهذا يعبر تعبير دقيق عن أهمية الشعر في رؤية الواقع كفكر أو أحساس واستنادا إلى مخزونه المعرفي الكبير الذي أستطاع من خلاله تفسير الواقع وحسب نماذج التاريخ، أي أستدرج التاريخ لكي يجد المعنى في الحاضر وليس العكس وهذا ما يميز الشاعر حسن حجازي فهو يسعى إلى جمع تجديد العالم الشعري مع تجديد عالم الواقع كرؤيا وكأنساق تاريخية ترتبط بالمعنى الجوهري لفكر الحاضر ورموز الماضي ..
وأخيرا ومن أجل أن يحتم التغير يطلق صيحته بالمعنى والرمز التاريخي القريب (أبناءُ المختار!/ أيها الثوار! / هُبّوا ... /فقد نهضَ المارد /حَطَمَ الأغلال/ دمّرَ الأسوار/ وصَهَرَ بيديه ِ/ أصنامَ الحديد ! )
وكذلك الذي يميز الشاعر بالمحافظة على الوضوح في نصوصه الشعرية عبر إدراكه أن الشعر لا ينزل إلى الواقع لكي لا يقع في إشكالية التسطيح والانحدار بل يرتقي بهذا الواقع إلى مستوى الرؤيا التي تحدد مسارات الشعر ضمن أي واقع معاش وهذا ما يجعله يوسع من دائرة المعنى لكل حركة في هذا الواقع أي يبعد الواقع الشعري عن فوضى الواقع، وهذا بالطبع يجعل الشعر لدية أنساق فكرية تعمق الرؤيا التي تنظر إلى الواقع حيث أن الشاعر الحقيقي يستطيع أن يكون قادرا على توفير الإيحاء وتوصيل الدالة في النص الشعري أي أن الشعر إيحاء بالدالة ولا يشير إليها بشكل مباشر لأن في هذه الحالة يفقد الشعر معناه وغاياته الحقيقة فالشعر هو التعبير الفني جوهري عن الحياة والوجود فهو الدفق العالي من الإحساس والإيحاء التي تقارب الواقع من أجل أدراك التغير الذي يحدث فيه أو السعي إلى تغير هذا الواقع من خلال الرؤيا بأيقاظ الطموح بالسعي نحو الأحسن والأفضل كما كان الشاعر هنا كان موفقا باستخدام اللغة التقارب الفعل مع الرؤيا الفكرية باستخدام ذائقة الفعل الدرامي في النص أي أن اللغة لا تفقد عمقها من خلال التعبير عن الواقع المعبر عنه بل تحاول أن تتطابق مع هذا الفعل بشكل متصاعد من أجل مجاراته ، لأن هذا الواقع يسعى إلى التغير وأحداث الثورة .
هذا ما نجده عند الشاعر حسن حجازي في أغلب نصوصه في هذه المجموعة والتي أستطاع بها أن يستدرج التاريخ من أجل توسيع الرؤيا لدية في تفسير ما يحدث من تغير والثورة التي تسعى لهذا التغير أي قام بإنضاج الواقع الحالي من خلال الرؤيا والمعنى التاريخ والرموز التي فيه وليس وفق أنساق الأيدولوجيا لكنه استفاد من الحركة الجدلية والحوارية بامتداد التاريخ واستمراره كفعل مؤثر في حركة الشعوب وسعيها إلى التغير والتحرر.
كاتب من العراق