قيض لي مرافقة جوقة الكروان العبلينية بدعوة من صديقتي الشاعرة آمال عوّاد رضوان عضو جوقة الكروان، في طريقها الى مدينة طيبة المثلث بتاريخ 17-5-2012 لإحياء حفل تخريج الفوج التاسع والخمسين لطلاب ثانوية عتيد طيبة المثلث، وفي الحافلة كان أعضاء جوقة الكروان من مغنيين وعازفين يتجاذبون أطراف الحديث والنكات، ويدندنون بما يخطر ببالهم من أغان سيقدمونها على منصة التخريج، وحين وصلنا المدينة بدت لي هادئة، لم تعكر صفوها حادثة القتل التي كانت في ليلة أمس، كأنما لسان حال المدينة يقول: "للحياة وجهان؛ الوجه المظلم المعتم الذي يغزوه الشر والظلام، والوجه الآخر الذي ينعم بالنور والضياء، وينظر غده بكثير من الآمال والتفاؤل"!
تستقبلنا قاعة قصر الأفراح الواسعة وقد غصت بالمقاعد البيضاء والطاولات الليلكية، وأمام كلّ مقعد وردة جورية أعدّت خصيصًا للطلاب المحتفى بهم وبالأهل والوافدين للحفل، وما بين الجوريّ والأبيض والليلكي تتداخل الألوان الأخرى، تحاول أن تعدّ المكان أجمل إعداد، والجوقة بأعضائها وعازفيها ومعاونيها يوزعون الآماكن والآلات، والمايسترو نبيه عوّاد كعادته يراجع النصوص والأغاني، ويضع اللمسات الأخيرة ويوزع الأدوار، كأني به قائد كتيبة يقبل على معركة من نوع آخر، معركة عتادها الأصوات وأدواتها الآلات الموسيقية وذخيرتها العزف والغناء والأصوات، وفي مراجعة مسؤولة تأخذني من اللحظة والمكان والزمان، تسحبني إليها صبية أخرى في فناء المدرسة وجدران العلم، أعود إليها وأغني لها، فطالما لعبنا في ساحتها الخضراء، وطالما ارتقينا أشجارها الغناء، كأننا طيور تشدو على الأغصان، وكأننا زهور في روضها الفتان، مدرستي وداعًا لن ننكر الجميل!
ورغمًا عني وعن تلك الصبية الجالسة على المفترق، تسحبني جوقة الكروان مني ومنها إلى قصص أخرى، و"يا قصص عم تكتب أسامينا ع زمان الماضي وتمحينا/ ويا قصص من بالك شيلينا وبقلب الحاضر خلينا/ شو بدك بزمان الماضي نحنا ما خلقنا لماضينا/ يتبسم احتجاجي قائلا:
"هو الماضي يلاحقنا وإن حاولنا أن ننسلخ منه وعنه، ويظلّ في ذاكرتنا يعالجنا ونعالجه بالشوق والحنين"، وأكاد أعرف ما يجول في خاطر المحتفى بهم وبذاك الفوج الذي يتأهب لمغادرة الروض، ليقفوا على مفترق الحياة ومساراتها المتعددة. هو الخوف والإرباك من الآتي، والتشبث بالمكان الذي تجذر في دواخلهم، تغنيه جوقة الكروان وتنشده، "يا ليل طوّل شوية ع الصحبة الحلوة دية/ الغالي علينا غالي ولا عمره ح يتنسى".
نعم.. أضع علامة تأكيد أن كلّ غال لا يمكن أن يناله داء النسيان، وكيف ينسونه وقد حفر في أعماق ذاكرتهم حكايات وحكايات، و"سوا ربينا وسوا مشينا وسوا قضينا ليالينا، ومعقول الفراق يمحي أسامينا؟" مستحيل يا جوقة الكروان، فأنا في الستين لم أزل أذكرهم بنات وأبناء صفي، وأذكر مقالبنا وشقاوتنا وفرحنا وحزننا ومماحكاتنا لذاك الزمن الذي لم يزل في عمق الذاكرة، وإن تساءلت أصوات جوقة الكروان "قولك بعد الرفقة والعمر العتيق/ بنوقع متل ورقة كلّ مِن ع طريق"؟
أما وهذه، فبكلّ أسف هي الواقع المتوقع، كلّ من على طريقه وطريقته التي اختارها، قد يلتقون هنا وهناك يتذكرون ويفترقون بوقوع ومن غير وقوع، وباختصار مع هذه الأنغام التي واكبت توافد الأهل وأخذ أماكنهم بمستقبلهم، كان الغناء أكثر من مميز يتدرج في صعوده وانطلاقه إلى الفضاء وإلى الآفاق الأوسع، متعرجًا من حناجر ملتزمة الأداء والإتقان، بعزف مموّج ما بين حزن وهدوء وفرح وفورة بركان وسكينة، كأنه يحكي القادم من الأيام لهؤلاء الذين كانوا ذات يوم أطفال، ويقفون الآن صبايا وشبابا لينصتوا إلى العزف الكرواني يحكي لهم حكاية عمر تخللت أيام الدراسة، وتُعدّهم لمواجهة غدهم!
أتراهم يلتقون من جديد؟ كيف تكون ألوان الحياة؟ وهل يظل الأبيض والليلكي والجوريّ يحتضنهم كما يحتضن هذه القاعة؟
ياه يا عمر الطفولة والصبا أشتاقك.. كما قالتها آمال عوّاد رضوان!
وأنتبه إلى امتلاء القاعة بمئات الأهالي وبممثلين عن بلدية الطيبة سامي تلاوي مدير عام بلدية الطيبة، والسيدرة درية ابو عيطة نائبة مدير قسم المعارف في السلطة المحلية، ومفتش المعارف العربية والمدارس الثانوية عصام جبارة، ومندوبين عن شبكة المدارس والكليات العلمية والتكنولوجية عتيد الأستاذ تيسير محاميد، بانتظار هلة الطلاب وطلة الطالبات، ويعلو صوت المربية ريم مصاروة الجهوري يدعو الأهل للوقوف والطلاب المحتفى بهم للحضور إلى القاعة واتخاذ أماكنهم، ليس قبل أن ترحب بالسيد تيسير محاجنة مرافق المدرسة ومرشدها، وبالمفتش عصام جبارة وبجوقة الكروان العبلينية الجليلية وبقائدها المايسترو نبيه عوّاد، وبراعي الاحتفال مدير المدرسة الأستاذ حسني حاج يحيى وبالأهل والحضور!
نعم هكذا نطوي صفحة من صفحات العلم متأهبين لخطوات أخرى، لتعلن عن تخريج 280 طالبا من كوكبة الفوج التاسع والخمسين، ووقوفا على الأقدام وانغام الجوقة نستقبل الخريجين، وأقف في لحظة انفعال وتأثر وعودة إلى الماضي الذي لم يزل يعشش فينا، ولم يستطع أن يمحو من الذاكرة أسامينا، و"خطة قدمكم على الأرض هدارة، أنتم الأحبة وأنتم الصدارة"، وبمشاركة التصفيق الملتهب يطل الطلاب بملابسهم البيضاء السوداء، ويأخذون أماكنهم وسط مجد من الدمع الانفعالي تقرره هذه اللحظات الأكثر من مميزة!
تتولى عرافة الحفل الطالبتن هلا شيخ يوسف وإرم مصاروة، وافتتح البرنامج بتلاوة مباركة للقرآن الكريم للطالب فادي جبالي، تلتها كلمات الضيوف من البلدية والتفتيش وشبكة عتيد، وتنبري آلات التصوير لتسجيل الحدث بعدساتها، وجوقة الكروان تمضي في غناء الحدث "حلوين من يومنا والله وقلوبنا كويسة/ بنقدم أحلى فرحة ومعاها مية مسا/ يا ليل طوّل شوية ع الصحبة الحلوة دية، هو دعاء في القلب تهتف به الحناجر مجلجلة، يردد لليالي الطيبة صداها فوق المنصة، كي يطيل عمر الفرح وعمر الألفة والمودة والصحبة الكويسة، وألقاني كما تصرح جوقة الكروان، لا يمكن ان يُنسى الماضي ما دام الشوق سهران ويانا، وما دام الحب يضمنا وما دامت الدنيا فرحانة لفرحنا.
وسط الوان من الفرح والغبطة والسرور جرى حفل بهيج لمراسيم تخريج 280 طالبا وطالبة في صفوف الثواني عشر بثانوية الطيبة عتيد. اليوم تسدلون الستار على مرحلة من حياتكم لمباشرة حياة جديدة كما الكواكب الساطعة والسيوف القاطعة، نريدكم أبناءنا، فأنتم الأمل ومعكم الغد يتجدد، وبكم تصنع الأمجاد، فتقدموا واثقي الخطى والخطوات!
وتأخذنا الأنغام المسجلة إلى خطوات أخرى من دبكة شعبية تؤديها فرقة المدرسة بإشراف المدربة المربية أحلام عوض، لتعود جوقة الكروان تشدو للقصص والحكايات وتستنهض الهمم وهلي يا سنابل هلي لتهل مواهب الخريجين بفقراتها الفنية المتنوعة من كلمات معبرة ألقتها كلّ من بانة مصاروة، هزار حاج يحيى، رجاء حاج يحيى وشذا ياسين، ثم عزف موسيقي مزدوج ومتميز على آلتي الأورغ والطبلة للطالب أحمد شوقي وميرال عازم، وعرض متميز لفرقة الدبكة المدرسية، وفرقة درامز لايف المدرسية في استعراض ايقاعيّ سريع على البالونات المنفوخة تحت رعاية نادي الأحلام للياقة البدنية بإدارة المعلمة أحلام عوض، وتتوالى فعاليات المدرسة في استهلال لكلمة مدير المدرسة حسني الحاج يحيى؛ الذي أشاد بإنجازات المدرسة التحصيلية واللامنهجية والتربوية، وما حققته المدرسة من نجاحات باهرة هذا الموسم وما قبله في امتحانات البجروت، ووجه الشكر لطاقم الهيئة التدريسية والعاملين على العطاء المتواصل ودعم مسيرة التربية والتعليم في المدرسة، ومن ثمّ تعلن المربية ريم مصارة عن اشادتها الملتهبة بجوقة الكروان وأدائها الملتزم، وتدعوها لتغني للأرض "الأرض بتتكلم عربي" و"لتكتب بحروفها اسم بلادنا على الشمس التي لا تغيب"، وفي فرح تهديها "لأم الجدايل وأم الأساور"، ليطرزها موّال للأم بأداء الفنان الكرواني ونس أبو شحادة، ثم يكون توزيع الشهادات، وتأبى أن تغادرنا الطيبة إلا بعد وجبة عشاء في منتصف ليل آخر بوجهه ونكهة قهوته المهيلة، ولتظل جوقة الكروان عنوان حفل التخريج الطيباوي على مدى ست سنوات متتالية، وعنوان المكان وعنوان الحضور في فترة يقف فيها الطلاب على مفترق الحاضر والغد!