القصة هي درة تاج الأدب النثري لاشك، أما القصة الجزائرية فهي العلاقة بين الأرض والكبرياء الإنساني، فأنت لا تجد عند القاص الجزائري روح الانهزام، ولا تجد عنده ضميراً مصطنعاً، هكذا قال لي الصديق الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار حينما شرفني وحاورته عام 2002.
الضمير المصطنع .. هكذا إذن لخص وطار مدى تميز القصة الجزائرية – ربما عن غيرها – بكونها ضد كل ما هو مزيف وأنها تتفاعل مع الواقع في توافق منطقي للبحث دوماً عن مفاتيح ومنطق ثوري للأحداث وهذا – في اعتقادي – ما كلف الشعب الجزائري ما يقرب من مليون ومائة ألف شهيد، ثمناً لاستقلاله وحريته لكونه ببساطة شعب نستطيع وصفه باطمئنان أنه رمز للكبرياء الإنساني الحر بشكل عام ليس في وطننا العربي فقط وإنما على مستوى العالم ككل.
والمبدع الجزائري هو شريحة نقية تدل بجلاء على عنصر شعبه وأمته، وقد حمل هذا المبدع على عاتقه مسئوليات وطنية كبيره منذ كفاحه الأول ضد المحتل وحتى وقتنا الحاضر أهمها الحفاظ على الهوية واللغة والتراث من أن يتآكلوا بفعل الثقافة الغربية ودافع باستماتة – ومازال – في أن تكون الجزائر وطناً وحارساً من حراس اللغة والدين والتاريخ وربما يحضرني في هذا الصدد خلاصة ما قاله الباحث والعلامة الجزائري شريبط أحمد شريبط في مبحث له نادر الإحكام عن القصة الجزائرية والصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام 1998 تحت عنوان "تطوّر البنية الفنية في القصة الجزائرية المعاصرة 1947 - 1985 ": لقد حفلت القصة الجزائرية منذ عام 1947م بتطور الرؤية الفنية، ويقظة الوعي الثوري، وأن القصة الجزائرية المعاصرة نشأت بالفعل على يد رجال المقاومة أصحاب الإيمان بعروبة الجزائر المدافعين عن الهوية (التاريخ والتراث) واللغة والدين كمحمد بن العابد الجلالي، ومحمد سعيد الزهراوي في حوالي عام 1924 ويعتبر شريبط عام 1924 هو عام بدايات القصة الجزائرية المعاصرة بالفعل، وإن كان يرى الطيب ولد ألعروسي مدير مكتبة معهد العالم العربي في باريس أن مع اكتشاف رواية "حكاية العشاق فى الحب والاشتياق" لمؤلفها الجزائري محمد بن إبراهيم (1806- 1886) والتي كتبها عام 1847، أن قناعات مؤرخي الرواية العربية اهتزت بالفعل؛ ففي حين كان يرى المؤرخون أن تاريخ الرواية العربية يبدأ بصدور رواية (زينب) لمحمد حسين هيكل عام 1912، يأتي اكتشاف السنة التي صدرت فيها رواية محمد بن إبراهيم “حكاية العشاق” وهي سنة 1847 كي يقلب معطيات نشأة تاريخ الرواية العربية ويغيّر وجه المكتبة العربية باعتبارها الرواية العربية الأولى بدلا من رواية زينب لمحمد حسين هيكل التي صدرت سنة 1912.
ورغم كون القصة العربية عامة والجزائرية خاصة في بداياتها – من وجهة نظري - لا تدنو إلى مستوى تجارب متواضعة وإنما كلاسيكية سردية ووصفية في غالب فصولها إلا إنها في ذات الوقت لا ترقى لمستوى التطور الفني المتعارف عليه تقنياً ونقدياً، ويكفينا – حسباً – أن تكون البدايات جادة وتحمل من الحس الوطني ويقظة الوعي ما يدفعنا للفخر برموزها الأوائل، بل وسيزيدنا فخرا لو صح البحث في مسألة أن محمد بن إبراهيم هو أول من كتب القصة العربية في عام 1847 وسبق محمد حسين هيكل بستة وستين عاماً، إذ ستدفعنا صحة ذلك البحث إلى الإحساس الأعلى بالقيمة لعمق جذور فن القصة العربية المعاصرة الزمني أمام القصص الغربي المعاصر، أما بالنسبة للقصة القصيرة المعاصرة - ولكي تتم الإحاطة - فلابد أن لا نغفل كلمات الدكتور عبد المنعم تليمة (الأستاذ بكلية الآداب – جامعة عين شمس بمصر) حول تاريخ القصة القصيرة المعاصرة حيث يقول: "وتذهب بعض الآراء إلى أن أول قصة قصيرة عربية بالشكل المتعارف عليه كانت قصة "في القطار" لمحمد تيمور، والتي نشرت في جريدة "السفور" سنة 1917، بينما هناك آراء أخرى تقول بأن أول قصة قصيرة عربية تظهر في العصر الحديث كانت لميخائيل نعيمة، وهي قصة "سنتها الجديدة" التي نشرت في بيروت عام 1914".
وربما يعتبر الكثيرين – وأنا منهم – أن أول نوفمبر عام 1954 - تاريخ قيام حرب التحرير الوطنية الكبرى - هو التاريخ الحقيقي للقفز فوق البدايات والتطور الفعلي في فن القصص الجزائري المعاصر سواء على صعيد الشكل أو المضمون، حيث عايشت " القصة " وتعايشت مع رجال الثورة وقاومت معهم المحتل بالكلمة والتصوير والتحفيز، وربما من القصاصين الذين تفرغوا للقصص الثوري فاضل المسعودي وعثمان سعدي ومحمد الصالح الصديق وعبد الله ركيبي، أما أبرزهم ممن أعتبرهم الكثير من النقاد والمتابعين لحركة الأدب في الجزائر أنهم كتاب جيل الثورة الفعليين (1954-1962) فكان الطاهر وطار وأبو العيد دودو وعبد الحميد بن هدوقة، واسيني الأعرج، رشيد بوجدرة ، - رغم إيماني من وجود العشرات غيرهم على نفس القامة الفنية لكن لم تكتب لهم الشهرة لأسباب ربما لاعلاقة لها بالأدب وانزووا بقامتهم في زاوية مظلمة من زوايا التاريخ ينتظرون من يفتش عن أعمالهم ويطلق أرواحهم مرة أخرى للنور ويرد لهم جميل كفاحهم الأول بعد انزوائهم في غياهب التهميش - ويمكننا الاطمئنان بعد عدة مباحث وقراءات لليقين بأن أول نص روائي جزائري معاصر مكتوب بالعربية ويحمل كل المواصفات الفنية المتعارف عليها نقديا هو رواية ريح الجنوب لعبد الحميد بن هدوقة (1925 - 1996) التي كتب لها الصدور في الجزائر عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع سنة 1971.
ونحن في هذا المقال لسنا بصدد الحديث الأكاديمي عن القصة الجزائرية كتاريخ ولكننا بصدد قراءة نقدية أولية لما بعد التاريخ، قراءة نقدية أولية معاصرة للقصة الجزائرية الآن ومبدعيها الحاليين الذين رغم اغتراب المناخ الثقافي العربي إلا أنهم آثروا إلا أن يكتبوا بالعربية لا الفرنسية ويتفاعلوا مع الثقافة الأم دونما اغتراب في كفاح نادر ومحمود ومن هؤلاء كان لابد لنا أن نأخذ أنموذجا فكان الأديب القصصي المعاصر أحمد ختاوي وكان اختيارنا له اختيارا عشوائيا لا يتبعه قصد أو ترصد وحيث سبقتنا إليه أعماله مثلما سبقتنا إلى غيره أعمالا كثيرة في غاية النضج والوعي لكتاب معاصرين أمثال ياسمينة صالح، خليل حشلاف، الـسعـيد مرابــطي، عيسى بن محمود، وغيرهم كثير لا يتسع المقال لذكرهم وإن كانوا بقامتهم وقيمتهم الإبداعية ملئ الوعي والضمير بالفعل.
يقول الدكتور عبد المالك مرتاض أن المضمون الاجتماعي في القصة الجزائرية المعاصرة قد استحوذ على خيال الكثير من كتاب القصة وخاصة محور الفقر ويعتبر مرتاض أن أهم عنصر في القضايا الاجتماعية هو عنصر الأرض والسكن والهجرة من أجل العمل، ثم يعلق " فما هذه المشاكل الاجتماعية إلا ثمرة من ثمرات الفقر الجاثم"، وربما لا أجد – مع الدكتور عبد المالك مرتاض - عيبا في أن يفضح القاص حالة اجتماعية سلبية داخل وطنه بل هي قمة الوعي الإبداعي، لكوننا لم ولن نكون مواطنين أصحاب قداسة في وطن من الملائكة فقط فذلك عين الشذوذ وذروة الخيال المريض إذ أن الوطن كما فيه الورع فيه الفاسد وكما يرفل حراً بأرواح مخلصيه نجده في فوضى أحيانا ممن يحاولوا أن يبيعوه بدراهم قليلة، ونجيب محفوظ على سبيل المثال لم يترك سلبية في وطنه إلا وأقام عليها حجة إبداعه القصصي وهي سبب قيمته كروائي بين أهله، وأتصور أن وطنا بلا فقر هو وطن بلا مبدعين، ووطن بلا غانية يستحيل أن تجد فيه رابعة العدوية.
وهنا تكمن قيمة القصص عند ختاوي، فهو لا يدعك – كقارئ – تفلت من يده بل يدفعك في كل صورة من صور إبداعه داخل العمل القصصي إلى أن تتأمل حتى تصل إلى درجة استفزاز الخيال لديك فتثري بخيالك الذي تم استفزازه – ايجابيا – سيناريو القصة لتصبح دون أن تدري مشاركا فيها وجزءا أصيلا منها بعدما أعطاك هو مفاتح الولوج والانغماس. والقصص عند ختاوي يظهر لك فيه مدى عشقه واندماجه في محبة بلاده من أعلى نقطة في صحراء وطنه وحتى ظل النقطة عندما يدنو الوطن شمالا من البحر. وهو يسلط الضوء دوما على القضايا الإنسانية في مجتمعة، مهموم من وعثاء الفقر والتهميش، غارق في الرمز تجاه عروبته التي يعتبرها الشريان الأورطي ووسيلة النجاة الوحيدة لعالمه المليء بالمتناقضات وحيث هذا العالم لا يرى أقرب النقاط إليه كما ينبغي ... لا يرى وطنه كما ينبغي، إنه يجنح دائماً بشفرة خاصة إلى تلك العلاقة الحميمية التي يجب أن تربط الكل بالأرض وربما استلهمني ارتباط ختاوي بالأرض وعشقه لها ولإرثه الحضاري منها إلى ترديد كلمات الشاعر المصري نجيب سرور حين قال:
حاسب على الأرض
حاسب وأنت بتدوسها
لو تنطق الأرض
كنت توطي وتبوسها
فرغم الفقر وتدني الحالة الاجتماعية عند القاعدة العريضة من أبناء الوطن ورغم الغضب من تعثر الأحلام يدفعنا ختاوي إلى التماس الحل في الأرض والوطن وذلك في غالب أعماله التي أذكر منها، "إبط السفينة"، أطياف الرخام"، "بلح الليل"، نهيق المقهى"، أيوب يختلس أوجاعه"، "منارة من عبث"، "العبور إلى قيظ الهجير"، ونوفيلا " الترعة"، ولعل من أهم رواياته التي أعتبرها – بشكل شخصي - من أهم الروايات العربية في الفترة الأخيرة بل والتشديد على وجوب الاهتمام بها نقداً وتحليلاً ليس جزائريا فحسب بل عربيا أيضا هي رواية " المدينة بدم كذب " التي صدرت مؤخراً عن منشورات ليجوند بالجزائر والتي سأتحدث – حتماً - عن فاصل منها لأهميتها.
والظاهر عند ختاوي في غالب إبداعه أنه لا يقدم حلولا شخصية ذاتية من عنده لإيمانه بأنه مبدعاً ليس عليه أولا إلا تشريح مجتمعه واستبيان مواطن الضعف والقوة فيه ومن هذه النقطة تجده يقدم علامات استفهام في إطار إنساني عميق الدلالة لا يخلو من الرمزية تدفعك لان لا تجد حلا إلا في الأرض والوطن وليس في الاغتراب والهجرة، ختاوي يدفعك للثورة على ذاتك، على بؤسك، على من لعبوا بأقدارك وأحلامك وقادوك إلى حاضر شبه مظلم، يدفعك للثورة قبل الإنعتام التام.
إنه يستصرخ الناس، يستصرخ الكل في العودة للجذور، للبحث عن الذات الأصلية، الوجه الحقيقي للشخصية التي نمتلكها ويعرفها ويألفها فينا الوطن منذ أن صار وطناً، ففي قصة " الدقائق التي لاذت بالفرار" المكتوبة عام 2005، يأخذك ختاوي بسيناريو مكتوب بعناية إلى حالة الفقر التي يعاني منها البسطاء، قاعدة الوطن وحماته الأصليين، فالأم ولدها جائع وثدييها فارغين، والأب تم تسريحه من عمله ويطارده الدائنون، ومن هذه الانطلاقة يحكم ختاوي قبضته على مشاعرك الإنسانية ويبدأ في بناء الرمز الذي يريده للدلالة على خطب أكبر من الظاهر المعلن، فالأم وطن أما الأب فهو الرمز المسئول عن ذلك الوطن ومستقبله (الطفل)، والكل محاصر حصار الجوع والبطالة رغم فتوة الأب وقدرته على الحماية والعطاء إلا أن الجوع صنع الدائنين الذين أوشكوا على وأد المستقبل وقتله في عبارة مؤثرة على لسان الأم (الوطن): طلائع الفجر وتباشير الصباح لاحت .. تحمد الله .. الطفل لم يفق، تقول في حسرة ومرارة وضيق في التنفس، والدائنون لزوجي كثيرون"، فالوطن عند ختاوي ثار على المحتل ولاحت بالثورة طلائع فجر وتباشير صباح لكن رغم ذلك فالمستقبل تائه مغيب نائم لا يفيق وربما هذه الحالة ترضي – قسراً - الأم لعجز الأب الآن عن خلق واقع وحاضر مشرق لكون الحاضر والواقع غارقان في مستنقع الديون، واقع وحاضر لا يكفيان ولا يدفعان لري ظمأ مستقبل يتعطش لكفاح الواقع واستثمار طاقات الحاضر وجهد الكل فيه، يرفع ختاوي صافرة التحذير لنا ويعلقها راية على كل خارطة الوطن وجغرافية المكان، فنحن إن كنا قد أخرجنا المحتل من بلادنا بالفعل إلا أننا تركنا له حق التحكم في أقدارنا ومستقبلنا، حتى أثقلت ديونه كاهل الوطن وكاهل مواطنيه، لم نعد نرى – رغم الاستقلال – مستقبلا يقظاً نستطيع استنهاضه وتحديد ملامحه بل ويتملكنا الخوف من ان نفقده من شدة التبعية بالديون والاغتراب السياسي والاجتماعي بل واغتراب الوعي والعقل في أحايين كثيرة.
وختاوي إلى جانب تحذيره القوي ينتبه دوماً في أن يلقي الخوف جانبا في حماسة ثورية ليدفع الناس إلى الاستفاقة كما في قصة " عناد في منتصف الوجع" التي كتبها عام 2008، في عبارات لا تخلو من الرمزية يوقظ فيها وعي القارئ حيث يقول في عبارة مهمة:
كم أنا وديع! .. ظللت أرسم لوحاتي في يومياتي بالماء الوردي .. المفعم بالخطايا".
عبارة جاء بها ختاوي من ساحل عبقري للعبارات، فهو يصرخ بها في وجه من تولوا مسئولية الوطن وحكموه سواء منهم من حكم بالثورة وساد أو من ساد بلا ثورة، لقد رسموا مستقبل الناس بالوعود والورود والمكاسب الثورية والتحررية وكأن البلاد بهم ستتحول لبلاد السمن والعسل وحيث لم نر فيه – لحد الآن - سوى البؤس والفقر ومحاولة طمس ملامح الكبرياء فينا حتى تحولت وعودهم إلى أكاذيب وورودهم إلى أشواك وبمرور المد الثوري الذي صنعوه - بعدما أداروا ظهورهم للناس - تناسل الكذب فولد خطايا لا تغتفر ينبهنا لها ختاوي قبل فقدان الهوية وضياع الوطن، ويوجه كلامه من خلالها للطغاة في قول رائع:
لقد كنت ودودا مع الفوضى، ولكن الآن حان الوقت كي يصمت المحموم بعبق الخطايا والآثام.
ثم يقفز بنا لقول أكثر إثارة وثقة في وجه الكذبة:
أريد الصفح والعفو عن الفراشة التي تمتص رحيقها .. عن السفح المغموس في وحلك..".
عبارات ثورية واعية تمتلك أدوات إدراك الحال حتى عندما يسقط الطين على وجه ختاوي في نهاية القصة والذي يعتبره الأصل والحب والذي مع سقوطه - هنا - على وجهه وهنا فقط ستخرج الزهرة من لعنتها ليمتصه السفح (الناس والوطن) ليظل ويبقى للوطن عناده وكبريائه.
ولو أفردنا للرمز (الأرض – الوطن) عند ختاوي عنان التحليل والشرح ما وسعنا مقال وإنما لا يسعه إلا دراسة لأن الرمز عند مجمل أعمال ختاوي هو السبب الرئيس لأهمية أعماله بل وأهمية منهجه في كتابة القصة والرواية والتي يختلف فيهما عن كل من سبقوه ويتفرد من خلالهما بشخصية إبداعية لها وزنها ووجهها وطبيعتها وحيث يصب الكل في عشق الوطن.
وختاوي عندما يظهر لنا عشقه للوطن ورفضه لاغتراب العقل والوعي الوطني، لا يظهر لنا ذلك عن جهل، فهو إلى جانب ثقافته العربية الرفيعة يتمتع بثقافة فرنسية رفيعة المستوى، وهو يعلم بثقافتيه حال الاغتراب وحال الوطنية والانتماء، عن قرب وعن وعي، بل ويطبق ما يؤمن به على نفسه إذ يصر على الكتابة بلغة الوطن الأم رغم علمه ويقينه بما يعترى الوطن اليوم من حالة اغتراب وضعف ثقافي يمثلان منحنى خطر في طريق الثقافة العربية المعاصرة عموماً، وربما يصور ختاوي ذلك في روايته المهمة بل والأهم في الفترة الحالية وهي رواية "المدينة بدم كذب" والتي لابد أن تلقى اهتماما اكبر وبقعة ضوء اشد عليها لما تحويه من إسقاط خالص القيمة فيما يمر به الوطن والوعي والعقل العربي اليوم من فوضى الاغتراب وضعف الانتماء، وحيث الوطن عند ختاوي كما يقول هو في روايته: رحلة من الذات إلى الذات مسافة البرزخ، وحيث يصنع شخصيات روايته بعناية ودقة شديدين، فلكل اسم رمزيته ودلالته وأيدولوجيته، بل حتى الأمكنة داخل هذه الرواية تتمتع برمزية ودلالات بعضها استمتعنا بفك شفراته والكثير مازلنا نستمتع بمحاولة فك اللثام عنه، فعائشة أصبحت الخادمة عند محمود لتخدم المقامرين في خمارته وحيث تحفظ أغاني سميرة توفيق في الأردن وأغاني الريف المغربي للشيخة الحمداوية وتتغنى بهما وهي تدور حول المقامرين، وأظن انه تصور يوضح إلى أي مدى أصبحنا نقامر بكل شيء في زمن الجوع والفقر، نبيع الدين والتاريخ والتراث لنشتري بهم ثمنا قليلا أو ربما ادني من ذلك منتظرين أن يعطف علينا المقامرين بالشعوب وأقدار الأمم بكلمة استحسان يخرجوها لنا مضطرين تحت وطأة ظرف أو حاجة لهم في نفس يعقوب.
ختاوي في هذه الرواية "المدينة بدم كذب" يقفز فوق السرد وهو يكتب بلغة أقرب إلى لغة السينما فهو غزير المشاهد يهتم بالتفاصيل وله حوارات كثيرة ولكن رغم أن الحوار دائما ما يخفف من كثافة العمل الروائي إلا أن الحوار في هذه الرواية هو من طراز السهل الممتنع فهو ليس بسيطا بجانب أنه يحمل الكثير من الرمزية ولكنه بالرغم من ذلك مفهوما ويدفعك للتركيز فيه بقوة حتى لا تتسرب منه فكرة أو يضيع منه خاطر.
وختاوي يقفز في روايته " المدينة بدم كذب " بين جغرافيا الزمان والمكان، الماضي والحاضر، والجزائر في وجدانه الروائي جزء من محيط عربي واسع يملأه بالهموم، المحيط كله تملأه الهموم، ولا تجد فصلا في هذه الرواية إلا وفيه رمزا لهذا الهم، مثل تلك الفقرة:
الصيف على الأبواب .. فلسطين في خلدي .. اختاري يا عزيزتي:- البطاطا .. ماء اللحظة – كنفاني – أم شطيرة الخنزير .. أم مدى قادم هذا المساء على طاولة الخمارة؟؟.
إنها فقرة ذكية تحمل قبل أن يدفع فيها القارئ للاختيار الدفع لأن يجس القارئ حسه الوطني والعروبي أولاً، انه اختيار صعب ذلك الذي فرضه ختاوي على القارئ، هل سنختار الوطن أم عبودية الغرب .. ماء اللحظة أم شطيرة الخنزير لنصبح عبيد طاولات قمارهم التي يقامرون فيها بالأوطان وأقدار الناس.
ثم يأتي ختاوي في فقرة مؤثرة تدفع للتأمل الصامت والغاضب والمستفز في آن واحد حين يقرر أن ما يعلق في ذاكرته من القرآن الكريم الآن (العرف – الأصل – الهوية) لا يتعدى بضع آيات وهو الذي كان يحفظه كله يوما ما، لقد تلاشت أحزابه كلها من ذاكرته، لم يعد سوى اغتراب الوعي في زمن الخمارة.
أتصور أن رواية "المدينة بدم كذب" تحتاج إلى وقفة نقدية جادة من خلال نقاد أصحاب مسئولية إبداعية عروبية وليس فقط مسئولية إبداعية محلية الصنع لأهمية تلك الرواية وقيمتها بل وكونها من أهم المطبوعات الروائية الصادرة في الفترة الأخيرة وحيث وضعت أيدينا على واحد من أهم كتاب الرواية العربية المعاصرين الذين استثمروا الرمز لصالح قضايا أوسع واشمل من الانكفاء على الذات المحدودة، فهو كمبدع جزائري يعتبر الجزائر نقطة نور ينطلق منها إبداعه ليدلل من خلاله على كل مشاكلنا العربية والإقليمية والسياسية بروح مهذبة رقيقة لا تحمل عنصرية أو أفضلية أو سخرية، إنه يعتبر القاهرة وعمان والقدس والرياض وصنعاء والرباط وكل عواصم العرب هي العاصمة الجزائر، الكل عنده وطنه، لا فرق بين الفلاح الحارث للأرض في قرى " بوسمغون " مدينته الجنوبية في الجزائر مرقد الولي الصالح أحمد التيجاني وبين فلاح قرى مدينة في السودان أو مصر أو العراق أو موريتانيا، بل أنه وبحكم كونه كان أمينا وطنيا باتحاد الكتاب الجزائريين وفي هيئته التنفيذية يرى أن عروبة المبدع هي أصل وطنيته لأن الوطن إذا تعرى من محيطه صار لقيطا، وأهم نقطة عري وأهم سبب لصناعة الوطن اللقيط عند ختاوي هو اغتراب الوعي الوطني العربي وفوضى الأيديولوجيات.
لاشك أن ختاوي يحتاج إلى قراءة أكثر قوة لأعماله وأكثر إحاطة فقد استمتعت بقراءة بعض قصصه أكثر من مرة وربما يحضرني تصوره الأخير في ذات الرواية " المدينة بدم كذب":
سقوط غرناطة لم يكن سوى سقوط الدمع في المآقي .. لم يكن سوى جحراً تختبئ فيه الفئران.
ثم يقفز قفزة درامية رائعة ومتقنة ليصنع لنا حوارا محترفاً يضغط به على الألم والجرح ليدفعنا بالشعور إلى أن هناك جرحا بالفعل حين يقول على لسان بطل روايته:
-- هل لي أن أكمل وضوئي الذي مازال معلقاً؟
-- لا .. أجله إلى موعد آخر
-- غير ممكن
-- بل ممكن وأكثر من ممكن
-- لكن من أنت .. لا أراك
-- طيف في دمعك
-- وضوئي تأجل مثلما تؤجل الأحاجي
-- للوضوء رب يحميه .. لا تقلق
-- صرخة الجرح أفلت كما الشجرة، كما النجم، هوت على رؤوس قطط كانت تتوضأ حسب طريقتها الخاصة، كان
يكمل وضوئه وسط قطط لفظتها أمواج (المحيط الأطلسي) عندما قالت غرناطة: أجل يا ولدي الدمع يجب ما قبله. ما أروع ذلك الحوار الذي يستدرجنا به ختاوي إلى نهاية عمله بما يحمله من ثورة وعمق وطني له قيمته، وربما أجدني مضطرا أيضا أن استدرج نفسي إلى النهاية وحيث أعمال ختاوي تأخذك إلى ما لانهاية، ولا أجد أروع من عبارة له كتبها في قصة " ويركل شكواه " المنشورة عام 2009 يقول فيها:
الأرض حامل .. لا تتلذذ بمولودها .. تتقيأ الوحل في أشكاله المستعصية .. تتوحم على الموز في عز الخريف وعلى الرمان في عز الصيف هما موجودان بوفرة، والريح حامل أيضاً لكنها عاقر، مثل خاتم الخطوبة والزفاف والطلاق، وخرج من المحكمة يركل شكواه، فيما استدركته المعاني، وهو يرش قصائد سميح القاسم بالتبن وبقايا عصير أيام خلت.
عبارة أقرب للحالة السياسية والاجتماعية والإنسانية في وطننا، ختاوي نفسه أحد أقرب الكتاب العرب لوجداننا السياسي والاجتماعي والإنساني.
وأخلص في كلمتي إلى بيت من قصيدة " قبلة في جبين الملتقى " للشاعر الجزائري أحمد دوغان:
"لا يأمن الوطن الجريح من العدا حتى يصـون تـرابه الشـريان".
كاتب واعلامي مصري
vob5@hotmail.com