حين يمتزج الحلم بالمأساة بين مهرج الملك وفنان الشعب.
رواية" قط أبيض جميل يسير معي"للروائي يوسف فاضل تنتمي للكتابة الصادمة، يعيش القارئ مصدوما بين ثنايا سطورها، تخلخل مفاهيمه، يهيم على وجهه باحثا دون جدوى عما يريده الكاتب، تأخذه الدهشة وهو يعبر عباب سخريته وجرأته وبساطته وانسياب كلماته وهي تتدحرج ببطء لبناء سرد متين كسفينة تعبر الفيافي في ليلة افتقد فيه البدر.
يوسف فاضل من طينة المبدعين الكبار الصامتين لسانا والمشاغبين إبداعا، امتطى صهوة الكتابة في أول سيناريو له "حلاق درب الفقراء" شد الرحال بعده بأعمال إبداعية مسرحية وروائية، مقتفيا أثر الحكي بمعاول أكثر عمقا استلهمها من اطلاعه الواسع على الأدب الفرنسي.
يطل علينا بعمل جديد خلع من خلاله أقفالا صدئة، كانت تحجب الرؤية الصحيحة على ما كان يقع، بطبعة أنيقة (دار الآداب – بيروت-2011). راصدا ومسائلا هذه المرة العهد السابق وما ارتكب في أيامه من حماقات ومآسي يعجز اللسان عن وصفها ، مقتحما ممرات حارقة، قد يصعب الاقتراب منها، ما لم يتسلح صاحبُه بأرواح القط السبع كي يتمكن من وضع اليد على جروح لم تندمل بعد وخزاتها المؤلمة . ومن هذه القوة التي يتميز بها القط، استمد الكاتبُ على ما أعتقد عنوانَ روايته، لأن لا أثر لظلال القط الأبيض الجميل في رحلة الكاتب إلا من إشارتين عابرتين.
أو الأرجح استوحاها من أسطورة بوذية (جعلت من حضور القط مع الأستاذ البوذي ضرورة ملحة لنجاح أي خطاب توجيهي أو درس من الدروس في المعابد البوذية *(1).
نحن إذن أمام حكاية اتخذت من الحلم رافعتها لسماء السرد، لخداع الزمن الجديد، حتى لا يعطي لشخصيتيْ الرواية، مهرِّج الملك بلّوط وابنه حسن المجنّد و فنان الشعب صفة الواقعية.
تنتمي رواية يوسف فاضل إلى الكتابات الصادمة كما ذكرت سابقا، فالجمل مشحونة بدلالات قوية رغم قصرها ، تزرع بعد كل نقطة انتهاء، ألغاما تنفجر في لاوعي القارئ، محدثة تشظيا في اللامفكرفيه، فأحداث الرواية عاشها مهرِّج حقيقي مراكشي الهوية، غرفَ الكاتبُ من مَعين شذرات مما يُحكى عنه ، فحوّلها المبدع من محكي شفاهي يُتداول بالمقاهي والجلسات الحميمية إلى تأريخ زمني مكتوب ، بصفته معولا قادرا على تحويل الشفاهي الفوضوي إلى مكتوب مصفى ومنقح من الشوائب، وحارسا أمينا على نقل الوقائع وإضفاء عليها طابع الخلود والاستمرارية.
(إنه وعي جديد بسؤال الكتابة الروائية ورؤية إبداعية جديدة للعلاقة بين الذات والمجتمع والتاريخ، أشكال روائية تمارس لعبتها في تشكيل العالم السردي ، وخلق نتوءات ومنعرجات من خلال تشظية السرد واستثمار الحلم والتذكر وتهجين اللغة الروائية)2*.
راوية يوسف فاضل لعبة حكائية، سراب للقارئ، ما أن يلتقط الطعم اللذيذ حتى يغيبَ في غوْر لا يقدر على مجاراة تياراته القوية.
بلّوط مهّْرج الملك، وابنه حسن الفنان الملتزم بقضايا شعبه، كلاهما يعيشان مأساتهما. الأول من داخل السلطة ، ومن أعلى هرمها، والثاني من خارجها، وفي أسفل درجات التهميش. مساران متوازيان لا يقبلان الالتقاء، وكأن الكاتب أراد أن يحسم بأن كلا المنتمِيْين يصله لظى سلطة الاستبداد، الأول يصاب بهوس إضحاك الملك، والثاني إضحاك الجماهير على ما تفعله الحكومة بعباد الله الصالحين والغير الصالحين، خدمة مجانية يقدمها لأدعياء المعارضة، حيث مصير الشباب يتحكم فيه منطق الزعامة ، فلا وصول دون تأشيرة الزعيم .
اشتغل الكاتب على محكي تاريخي يتداول باستحياء، وتخييل مستمد من واقع الكثير من الشباب الضائعين و المستغلين من طرف من يدعون معارضة المستبدين لطرح إشكالات كبرى أرقت وما زالت بال المبدعين والمفكرين والفلاسفة (التسلط- الجبروت- العبث من خلق صراعات واهية –العلاقات الجنسية – منظومة التخلف بكل أبعادها. . .
فالمواطن في مجتمع مستبد، كرة مصنوعة بخرق بالية ، تتقاذفها أرجل السلطة ومن يدعي معارضتها ، يتعرض المواطن خلالها لأبشع أنواع الاحتقار، فتتولد إثر ذلك أمراضُُ نفسية مزمنة، يخاف المهرّج من غضبة الملك ، لأن شخصيته المسلوبة أضحت في حاجة لخدمة أسياده، منها يستمد قوته وجاهه داخل مجتمعه ، إنه النموذج الذي يخضع لسلطة القهر ليمارس قهرَه على الآخرين ، فكلما ارتمى الشخص في أحضان السلطة هابه الجميع واحترمه. وبالمقابل يعيش ابنه حسن الطالب المجند الذي دفعه وعيه المتقد للدفاع عن القيم الجميلة عبثا في أبهى تجلياته، فهو مجند في الخدمة العسكرية بالصحراء مع شباب آخرين، لكنه لا يعرف لماذا أوتي به إلى هناك، ولا من هو عدوه، إنه تائه وسط الرمال الحارقة، يعيش قصة حب ملتهبة مع زينب ، المغنية التي تشتغل في ملهى ليلي.
تعلُّق حسن بهذا الخيط الروحاني وهروب المهرِِّج بلوط الأب من عش الزوجية ، وبحثه المستمر عن الملذات والأجساد البضة، ربْط أراد من خلاله الكاتب أن يوضّح أن من يبيع نفسه للسلطة مستعد لبيع أغلى رباط مقدس يجمعه بأحبائه.
يقول الأستاذ والناقد محمد برادة " لقد تمكن يوسف فاضل في هذه الرواية من استثمار ظاهرة المهرّج والملك، المرتبطة بطقوس السلطة في المغرب لينسج رؤية مزدوجة ، تجسد المسافة الفاصلة بين عالمين-عالم الأب البطريركي الحامل عقلية السلطة المخزنية، وعالم الابن المتمرد الذي يجرؤ على الرفض، ويتعلق بالحب داخل مجتمع لايبالي بالعواطف. *3
الرواية مشحونة بدلالات مهمة، أراد من ورائها تمرير رسائل مشفرة، وتسجيل أدق التفاصيل عنها، التقطها عبقر تعايشه داخل مجتمعه. منها:- اغتراب جل شخصيات الراوية ، -نقد ممارسي اديولوجية الإشتراكية من خلال شخصية الطبيب وزوجه-التعليم من خلال نكت تحكى عن المعلم- ضياع شبابنا في صراع وهمي بسبب العبث السياسي و تجنيدهم.
-المعارضة المزيفة التي تستغل طاقات الشباب لخدمة أجندتها. . .
- رعونة وصلف العاملين بالجيش، جسَّدها الجنرال بوريشة الذي يتاجر في كل شيء(الوطن ، الإنسان، الحيوان، النبات
- حياة البذخ والترف في القصور"إنشاد القصائد الماجنة مصحوبة بالعزف على العود لأنها محببة لدى الكثيرين من الذين أزور قصورهم" (ص20) مشاهد صادمة حملتها سطور الرواية بسخرية سوداء، عرت واقعا كان متدثرا بأوراق التوت، مشاهد مأساوية عاشتها شخصيات الرواية، يدرك القارئ مدى توترها النفسي من خلال الجمل القصيرة ورغبة الكاتب في إظهار آلامهم، لا وقت لديهم للفرح أو للأمل.
وذلك برؤية نقدية حداثية بعيدا عن البهرجة السياسية، ارتكزت على تعرية ممارسات متخلفة تتحكم في أنساق تفكيرنا كمجتمع متخلف يحكمه العبث. من خلال حلم ، يحملنا الروائي للسفر معه، كأنما اتكأ على مقولة نيتشه"لسنا صادقين إلا في أحلامنا" وزجِّنا في متون السرد المتشعب والمتعدد الأصوات. الرواية مجزأة من رقم واحد إلى أربع وعشرين ومقسمة إلى أحد عشر يوما، تقودك متسلسلة بضمير واحد الأنا، كما يتوهم القارئ، لكن الذات هنا هي من تتكلم ، وإن تعددت الأصوات، فالكاتب هنا هو من يقود أبطاله ، ممسكا بخيوط اللعبة كلها، لا يعطي لأي كان فرصة المشاركة في نسج الحكاية، انغمس بذاته في اختراق تشعبات ومتاهات في تقمص مدهش لبطلي الرواية.
"لأن الذات هي كل ومركز في الوقت نفسه ، في حين، أن الأنا دائرة صغيرة داخل الدائرة الكبرى الخاصة بالذات ، ( الأنا) تتعلق بالماضي والحاضر، فيما تتعلق الذات بالماضي والحاضر والمستقبل، فالذات هي مصدر الأحلام". *4
البناء العام للرواية متماسك، فالراوي شرع منذ البداية في تصفية حساباته مع كل المظاهر الزائفة، لم يقم بدور الناصح أو الوجه أو المصلح، طفق في قلب التربة مستعملا أدوات لغوية بسيطة، مفهومة، لكنها طافحة بقوة دلالتها ، يُخرج ما في جوفها بلطف. مجموعة من الشباب تساق إلى بؤرة حرب دون أن يهضموا معنى تواجدهم هناك. شخصية لاهفة وراء لقمة العيش ، تتحايل على الزمن لتعيش .
مأساة المهرج وعودته منهزما ، باحثا عن ملاذ في أحضان من تخلى عنهم. وهي إشارة ذكية ترمز إلى العودة بمعناها الفلسفي، الرجوع إلى نقطة الصفر، وتقبل الوضع السابق اضطرارا بعد أن يصاب المرءُ بالوهن والضعف، وتقبل أسرته ذلك من موقع ضعف لا من موقع قوة . اللقطات الرائعة لبؤس أغلبية المشاهد في الرواية، لم يترك للأمل ولو ثقبا صغيرا ينفذ منه، ما عدا وخزات السخرية التي تخرج من مسامها المرارة والألم.
تتشابك الأحداث معلنة في النهاية استسلامها لقوة الواقع، رجوع المهرج مهزوما بعد أن لفظته غضبات المخزن المتكررة، لكن الكاتب يأبى إلا أن تستمر الحياة بإضافة عنصر الغرابة على منجزه السردي حين اختتم حكايته على لسان الابن حسن :" لن أندم على شيئ، وبالأخص ، عليَّ الذهاب غدا إلى المقبرة لحضور جنازتي. "ص254 .
حضور الموت في الحياة وحضور الحياة في الموت، هي سمة غرائبية في الكتابة الإبداعية تعني الاستمرارية وانتظار ما سيسفر عنه الغد. نهاية توخى منها الهروب من التقريرية التي طبعت جل سمات شخصيات الرواية ، فقد صوّرها كأنها شاخصة أمامنا، فمن عاش تلك الفترة يتعرف دون أي جهد يذكر على هويات أصحابها، لكنه أضفى عليها مسحة خفيفة من الصدق ، لإعطائها دينامكية، يحدس القارئ من خلالها أن ما حدث ليس غريبا أن يقع في مجتمع طبقي تحكمه الشعارات والانفراد بالرأي. رواية يوسف فاضل استطاعت أن تصّور فظاعة الحرب وأهوالها وما تخلفه ثقافة الاستبداد من مآسي داخل المجتمع. إن مبدع هذا العمل بحق كاتب مهموم، متحرِّق، توشك أن تسمع أناته وخفقان قلبه في كل فكرة ينقدها أو ينصرها، وفي كل جملة قصيرة يسطرها، إنه عمل يستحق منا أكثر من وقفة. لقد أعطى لعمله قبسا من روحه وذاتيته في إطار السرد الروائي دون الإخلال بجوهر الواقع.
هوامش
1*-باولو كويلهو:الإتحاد الإشتراكي، أكتوبر2012عدد 10210
2*-مريم دمنوتي، المساء 29-10-2010 - عدد 1277
. 3*-- محمد برادة: الاتحاد الاشتراكي عدد 10010فبراير2012
4*-الغرابة، المفهوم وتجلياته في الأدب، عالم المعرفة، -يناير 2012 –ع 384
روائي من المغرب