أيامٌ مرَّت على رحيل أبي سفيان، ولا زلتُ غير قادرٍ على تصديق ذلك، هل فعلاً رحل؟ لعله نائم فقط، لعلها مزحة، ويا لها من مزحة ثقيلة، لا أستطيع أن أصدق.
لا زالت صورته وصوته يملئان جوارحي، أراه في كل مكان، وأسمع صوته في كل زاوية، أراه يتحرك هنا وهناك، يعانق هذا ويمازح هذا ويتهامس مع هذا، كل الناس أصدقاؤه وأحباؤه، لا إله إلا الله...
هل فعلاً رحلت يا أبا سفيان؟
هل فعلاً لن تعود ثانية؟ هل فعلاً لن نراك ثانية؟
من سيطرق بابنا، من سيشاركنا أفراحنا، من سيحضر أعراسنا وعقائقنا، من سيزين حفلاتنا، من سيمازحنا ويمازح أبناءنا؟
عندما رأيته مسجىً بيننا والقراء يقرؤون عليه القرآن، كنت شبه متأكدٍ أنه سينهض ويبتسم لنا ابتسامته الجميلة ويهدئ روعنا... انتظرته أن يفعل، لكنه لم يفعل.
عندما حملنا جثمانه إلى السيارة والحزن يعتصرنا، والمفجوعون والمفجوعات بفقده ينتحبون، ظننت مرة أخرى أنه سيُشيح الغطاء عن وجهه، ثم يقول لنا: لا عليكم أنا بخير... انتظرته أن يفعل، لكنه لم يفعل مرة أخرى.
هل فعلاً رحلت يا أبا سفيان؟
لا إله إلا الله.
إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا أبا سفيان لمحزونون، لكننا لا نقول إلا ما يرضي الله. رحمة الله عليك يا أبا سفيان.
ساعاتٍ فقط قبل رحيله كنا معاً، تناولنا طعام الإفطار سوية، تكلمنا في كل شيء، تمازحنا، كان يطلب أن نُحمِّل له بعض التطبيقات على هاتفه حتى يستطيع إرسال رسائل التهنئة بعيد الفطر، دعوناه لحضور عقيقة ابن أختي بعد ثلاثة أيام، اتفقنا على تنظيم يومٍ لأبناء الجالية الفلسطينية في المغرب، أبدى استعداده لمساعدتنا وقال أنه بصدد تهييئ مبنى السفارة الفلسطينية القديم وأنه مستعد لوضعه رهن إشارتنا... كان بحيويته المعهودة واستعداده لخدمة الكل حسب استطاعته بل وفوق طاقته...
هل فعلاً رحلت يا أبا سفيان؟
يوم الأربعاء 7/8 حين اتصل بي سفيان على الساعة العاشرة صباحاً ليبلغني الخبر الصاعقة، قال لي: أبو سفيان أعطاك عمره! قلت: من أبو سفيان؟ لا شك أنه يتكلم عن أبي سفيان آخر، قطعاً ليس أبو سفياننا؟ قال بل أبو سفياننا. انهارت قواي، الأسئلة تتوالى في رأسي، كيف؟ متى؟ أين؟ لماذا؟ قطع سفيان الإتصال قبل أن يجيب على أسئلتي، اتصلت بأخته دلال، أجابتني بصوتٍ باكٍ، لا حول ولا قوة إلا بالله، الخبر صحيح إذن، أعطتني بعض التفاصيل الإضافية التي تؤكد الخبر. لقد توفي بجلطة قلبية مفاجئة وهو يتبضَّع في أحد الأسواق المجاورة لبيته.
ذهبت إلى البيت، عليَّ أن أخبر إخواني، أن أخبر الوالد والوالدة، من نذير الشؤم الذي يستطيع أن ينقل مثل هذا الخبر الصاعقة؟ وجدت أخي الأكبر نائماً، أيقظته وأخبرته، صُعق وانهار، اتصلت بالوالدة، طلبت منها أن تجلس، أخبرتها، صُعقت هي كذلك وأخذت تكبر وتهلل وتحوقل، كان الوالد نائماً لكنه انتبه نتيجة الجلبة التي أخذت تعمُّ البيت، أخذ يتساءل: ما بكم؟ ما الخطب؟ لم أستطع أن أخبره، انسحبت باكياً فأخبره أخي، صعق وانهار كذلك.
لحق بنا أخي الأوسط ثم زوجتي، ركبنا سياراتنا وتوجهنا نحو الرباط، لا أحد يستطيع الكلام، لا يشق صمتنا إلا أصوات البكاء تنطلق من أحدنا بين الحين والآخر، أو بعض الجمل التي تعبر عن عميق الصدمة، لقد كنت أنا وإخوتي والوالد برفقته بالأمس إلى غاية الثانية عشرة ونصف ليلاً، فما الذي حصل إذن؟
لأول مرة، أجد أن الطريق إلى الرباط طويلة جداً (حوالي 90 كلم)، مع أنني قطعتها ذهاباً وإياباً ما لا يحصى من المرات، لكنها اليوم لا تريد أن تنتهي، كلنا نريد أن نصل بسرعة لنفهم ما حصل، أو ليقال لنا لقد كانت مزحة، وكنا نريدكم على مائدة إفطارنا اليوم...
بدأت الرسائل تتوالى على الهاتف كلها تؤكد الخبر وتنقل التعازي. حسبنا الله ونعم الوكيل.
وصلنا إلى بيت عمي، الحزن يلف البيت، سفيان ودلال لا يزالان في المستشفى لإكمال الإجراءات، سارة خرجت لإحضار ما يلزم، فبعد قليل سيمتلئ البيت بمئات المعزين.
الخالة أم سفيان، لا تكاد تنبس بكلمة، المسكينة قبل أقل من عام فقدت أخاها وها هي اليوم تفقد زوجها، وكلاهما عمالقة، وكلاهما رحلا دون سابق إنذار بجلطات مفاجئة، لها الله، لكنها صابرة، هنيئاً لها هذه القدرة على التحمل.
بعد قليل حضرت دلال ثم سفيان فسارة، لهم الله، فقدوا أباهم، وبهذه السرعة، حسبنا الله ونعم الوكيل، لكنهم ولله الحمد صابرون.
عشرات الناس يتقاطرون، الكل مصدوم، لقد نزل الخبر كالصاعقة، لا أحد كان يستطيع أن يتوقعه، لم تصدر من أبي سفيان أيُّ إشاراتٍ تدل على مرضٍ أو تعبٍ، فقد كانت صحته جيدة، ولا يشكو من أي مرض، بل كانت صحته أحسن بكثير ممن هم في مثل سنه، بل وأسنَّ منه، لكنه الأجل الذي ليس منه مهرب...
لا إله إلا الله،
برحيل أبي سفيان، أطوي مرحلة هامة من طفولتي وشبابي. علاقتنا بأبي سفيان علاقة غيرعادية، كنا نعتبره عمنا الوحيد في المغرب، مع أنه في الواقع ابن عمي، لكن فارق السن، وشخصيته الكاريزمية جعلتنا نعتبره عمَّنا. لقد كان حاضراً في كل مراحل حياتنا، في دراستنا، في زواجنا، في عقائق أبنائنا، ... باختصار في كل مناسباتنا. منذ وعيت على نفسي، كان أبو سفيان يأتي إلى بيتنا كل عطلة نهاية أسبوع، في غالب الأحيان كان يبات عندنا يوم السبت. تعوَّد الوالد مع أصدقائه على سهرة السبت حيث يلعبون الورق بينما يتحدثون في آخر المستجدات السياسية، كنت أحرص على مجالستهم متحملاً رائحة الدخان الكثيفة مقابل أن أستمتع بأحاديث السياسة الشيقة التي كانت تشُدُّني منذ صغري.
وبما أن السهرة كانت تتأخر ليلاً، فإنني غالباً ما كنت لا أستطيع أن أكملها معهم، في الصباح الباكر كنت أذهب لأفوز بالغنيمة: مجلات "فلسطين الثورة" وبيانات منظمة التحرير السياسية والعسكرية التي كان يُحضرها عمي بما أنه كان يعمل في مكتب المنظمة (لم يكن اسمها سفارة في ذلك الوقت). أقرأ كل تلك الإصدارات بنهمٍ من الغلاف إلى الغلاف، وأفرح للعمليات العسكرية وأحصي خسائر العدو، وأُمَنِّي نفسي باليوم الذي أكبر وأستطيع أن أتطوع أنا أيضاً في معسكرات الثورة لأصبح فدائياً وأنفذ عملياتٍ في عمق الأرض المحتلة وأوجع العدو، ولم لا أُزَفُّ شهيداً. كنت صغيراً ولكن أحلامي كانت كبيرة، كنت أحلم بيوم، يذيع فيه المذياع (الذي كان حينها المصدر الرئيسي للأخبار) أن القائد محمد منصور (أعني نفسي!) قام بتحرير فلسطين، وأنه يقوم في هذه اللحظات بمطاردة فلول اليهود الهاربين المنسحبين.
إيييه، سقى الله تلك الأيام...
ورحمة الله عليك يا أبا سفيان...
وصلنا إلى المسجد لصلاة الظهر ثم صلاة الجنازة، قافلة السيارات التي تبعت الجنازة تضم عشرات السيارات، ولا يرى أولها من آخرها. عند المسجد، وجدنا حشداً غفيراً ينتظرنا ممن توجهوا إليه مباشرة. لله درك يا أبا سفيان، كيف استطعت أن تعرف كل هؤلاء الناس وتجمعهم حولك؟ ما الذي حببهم فيك؟ رؤية الوزير عن قرب تعتبر عادة أمراً استثنائياً، أما اليوم، فالوزراء بيننا لا يحصون.
من المقرر أن يلقي أبو مروان، سفير فلسطين السابق، كلمة تأبين بعد الدفن يُعدِّد فيها نضالات وتضحيات الفقيد، طلب سفيان من الوالد بصفته كبير العائلة أن يلقي كلمة باسمنا، اعتذر الوالد لأنه لن يستطيع أن يتمالك نفسه ويوقف عبراته في ذلك الموقف، أنا أيضاً طلبت التماس العذر له لأننا كنا نخشى عليه من شدة التأثر، لا أحد منا استطاع استيعاب الصدمة بعد، فكيف به هو وقد كان رفيقه وصديقه على مدى قرابة خمسين عاماً. طلب مني الوالد ثم سفيان وأخي الأوسط أن أقوم أنا بإلقاء الكلمة. اعتذرت لأنني كنت أخشى أن أنهار أنا أيضاً، وذاك موقف لا يجوز الظهور فيه ضعيفاً. أمام إصرارهم قبلت. لكن ماذا عساني أن أقول؟ أي كلمات تؤدي للفقيد حقه، ومن أين لي برباطة الجأش؟
ألقى الملقون كلماتهم وأنا أحضر في ذهني ما سوف أقوله وأسأل الله أن يثبتني حتى لا تنسكب عبراتي. ثم طُلب مني أن أتقدم. شققت طريقي بصعوبة بين الحشود، استجمعت قواي، وصعدت فوق حجر مرتفع قليلاً ورفعت الصوت وقلت:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين،
الحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها نعمة،
الحمد لله،
الحمد لله،
الحمد لله،
وهنا أحسست أن الدمع سيغالبني، تحشرجت الكلمات في حلقي وعجزت عن الكلام وأوشكت أن أجهش بالبكاء، لكن الله سلّم، تمالكت نفسي، لا أدري من رَبَتَ على كتفي من الخلف، فاستعدت أنفاسي، ثم قلت مُكملاً:
لم أتخيل يوماً أنني سأقف في هذا الموقف لأنعي عمنا وحبيبنا وقائدنا. ماذا يمكنني أن أقول؟ رحمة الله عليك يا أبا سفيان، أشهد أنه كان محباً لفلسطين عاشقاً لترابها، قضى حياته كلها ساعياً لتحريرها ومنه تعلمنا حبها والاستعداد للتضحية في سبيلها. وإن كان الله قد تغمَّده برحمته قبل أن يرى حلمه، فنسأل الله أن يُعجِّل بتحرير فلسطين كاملةً وأن يجمعنا جميعاً ونصلي جميعاً في القدس الشريف يا رب العالمين. اللهم لا تُطل علينا بعدنا عن فلسطين يا رب العالمين. عزاؤنا في عمنا ووالدنا وقائدنا وحبيبنا أمران: الأمر الأول أن الله تغمَّده برحمته في هذه الأيام الطيبة المباركة، فنسأل الله الكريم أن يجعل هذه الأيام فأل خيرٍ وأن يتقبله وأن يرحمه ويغفر له ويتجاوز عن سيئاته وأن يغفر لنا وله. وعزاؤنا الثاني: هذه الحشود التي حضرت الجنازة، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الناس شهودٌ على الميت، فمن أثنوا عليه خيراً كان عند الله خيِّراً، ومن قالوا فيه غير ذلك، كان عند الله كما قالوا. وإننا لما نرى هذه الحشود الغفيرة، نأمل إن شاء الله أن تثنوا عليه خيراً ونسأل الله أن يتقبله عنده، ويغفر له ويرحمه. نسألكم بالله، وهو بين يدي الله، في أول منازل الآخرة أن تدعوا له بالثبات، اللهم ثبته، اللهم ألهمه الثبات، اللهم ألهمه حسن الجواب، اللهم إنه يسأل، اللهم فثبته، اللهم إنا نشهد أنه كان يشهد أنه لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمداً عبدك ونبيك ورسولك، اللهم فتقبله مسلماً، اللهم إنا نشهد أنه كان مسلماً فتقبله مع المسلمين يا رب العالمين، اللهم اغفر له وارحمه وتجاوز عنه واغفر لنا وله ولسائر المسلمين، والحمد لله رب العالمين. بارك الله فيكم وتقبل منا ومنكم أجمعين.
انفضت الجنازة، وعاد الناس إلى رحالهم، وتركنا عمنا تحت الثرى، بين يدي ربه، وقلوبنا تتقطع حزناً على فراقه، لتكون عبرةً لنا، أن الموت آتٍ لا محالة، مهما طال الزمان أو قصر، وأن الأجل إذا حان لا يدفع ولا يؤخر، وأن الموت لا يفرق بين كبير ولا صغير، ولا شريف أو وضيع، وصدق الله القائل: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ)) والقائل: ((فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)).
رحمة الله عليك يا أبا سفيان. اللهم أحسن عزاءنا فيه وألهم زوجته وبنيه وإخوانه الصبر على مصابهم. اللهم ووفقهم لما تحبه وترضاه واهدهم ليكونوا خير خلفٍ له. اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيراً منها.
تحضرني هنا أبيات للخنساء في رثاء أخيها صخر حيث تقول، فيما أراه ينطبق على أبي سفيان تمام الانطباق:
أَغَرُّ أَزهَرُ مِثلُ البَدرِ صورَتُهُ صافٍ عَتيقٌ فَما في وَجهِهِ نَدَبُ
سَقياً لِقَبرِكَ مِن قَبرٍ وَلا بَرِحَت جَودُ الرَواعِدِ تَسقيهِ وَتَحتَلِبُ
ماذا تَضَمَّنَ مِن جودٍ وَمِن كَرَمٍ وَمِن خَلائِقَ ما فيهِنَّ مُقتَضَبُ
***************
ذَكَرتُكَ فَاِستَعبَرتُ وَالصَدرُ كاظِمٌ عَلى غُصَّةٍ مِنها الفُؤادُ يَذوبُ
لَعَمري لَقَد أَوهَيتَ قَلبي عَنِ العَزا وَطَأطَأتَ رَأسي وَالفُؤادُ كَئيبُ
لَقَد قُصِمَت مِنّي قَناةٌ صَليبَةٌ وَيُقصَمُ عودُ النَبعِ وَهُوَ صَليبُ
الدار البيضاء، 11/08/2013.