هذه قصة جديدة للقاص العراقي المرموق يخوض فيها تجربة التعبير عن الواقع الذي يعيشه المغترب الشرقي في أوروبا، مقدما عبرها صفحة جديدة من تاريخ سرد العلاقة الشائكة والمعقدة بين الشرق والغرب في هذا المنعرج الصعب من تاريخها.

من الطارق؟

قـصــة

عائد خصباك

فضلت السيدة هالكــه ريشتر البقاء في غرفتها صباحـا إلى آخر دقيقة متاحة لها ، قبل أن تأخذ طريقها إلى الردهة رقم8 في الطابق الرابع بمستشفى اليزابيث بمدينة كولن لتبدأ عملها في الوقت المحدد ، تقع غرفتها في المبنى الملحق بالمستشفى ، حيث تقع غرف غيرها من الممرضات من اللواتي ترى الإدارة ضرورة عدم مغادرتهن مكان العمل إلا في العطل الأسبوعية و أثناء عطل المناسبات. قبل نصف ساعة استيقظت السيدة هالكه ريشتر من نومها ، و قد سار الوقت معها بشكل حسن ، انتهت أخيرا من ارتداء الملابس بعد أن دققت في بياض بنطلونها فوجدته مقبولا و ربتت أناملها فوق ردائها الأبيض مستحسنة هيأته ، كان عندها نصف ساعة أخرى و هذا ما يجعلها مطمئنة أكثر الى أن كل شيء يسير على ما يرام . كانت ستارة النافذة الوحيدة منسدلة شفافة و ناعمة ، و من خلف الزجاج السميك تتخايل بنايات المدينة العالية و قسم من برج تلفزيون كولن ، كل شئ شجعها على تحضير كوب من القهوة تشربه قبل أن تخرج، ستترك أمر شعرها تمشطه فيما بعد ، كذلك جوربيها اللذين وضعتهما على مسند الكرسي ، و حذاءها الملقى على جنبه بعد أن دفعته بعيدا . جلست على طرف السرير ، كانت تقلب صفحات إحدى المجلات وكوب القهوة على المنضدة عندما فوجئت بباب الغرفة يفتح و برجل يلقي عليها تحية الصباح و هو يدخل بكثير من الضجة مع الأشياء التي أدخلها بعده ، كان واحدا من المنظفين الذين كثيرا ما يتغيرون أو يتناوبون فيما بينهم ممن يأتون غالبا بعد أن يفرغ المبنى من شاغليه ، مع ذلك يحتاج الموقف أن توضح له أن ما فعله كان خطأ من وجهة نظرها ، عليه أن يدق الباب أولا ، فتقول : من الطارق؟ لكنها لم تقل شيئا و لم تهب معترضة ، لم تكن في يوم ما من اللواتي يسمحن بأن يدخل عليهن أحد وقتما يريد ، بالنسبة لها أن غرفتها هذه هي المكان الوحيد في المستشفى الذي يتوفر فيه طابعها الشخصي ، لم يرها أحد و قد خلعت الدور الذي هي فيه و ارتدت ملابس أخرى غير ملابس العمل ، لم يرها أحد و هي تتصرف في غرفتها مثل أي واحدة أخرى بحرية تسمح لها بإلغاء دور الممرضة التي في داخلها ، هناك موقف واحد فقط عليها الآن فعله بعدما فاجأها الرجل بدخوله للدفاع عن ما تؤمن به و هو أن تلبس جوربيها و الحذاء و أن تمشط شعرها على عجل و تخرج ، لكنه لم يعطها فرصة لأن تفعل ما تريد عندما ترك ما معه و نظر إليها ، فأبقت رأسها أمامه مرفوعا لا يرمش لها جفن ، أما شعرها فقد انفكت عراه و سال على جانبي وجهها الذي بدا نحيفا أكثر ، كانت قد تجاوزت الأربعين ، ومع أنها نحيفة الجسم لم يقل لها أحد أنها بحاجة إلى المزيد من الاهتمام بنفسها ،و لكنها سمعت بعدما اقتضت بعض الظروف من يقول أنها جريئة و لا ترضى بالخطأ ، و تحسن التصرف و لا تطالب بما يخصها فقط ، و عندها ولاء لمن يستحق الرعاية من أولئك المرضى الذين تحت إشرافها ،

من النادر أن تنسى أسماء و وجوه من مروا عليها من أولئك ، و بالنسبة للبعض منهم ، كانوا يتصلون بالردهة رقم 8 ليطمئنوا إلى أنها ما تزال موجودة هناك . كانت تصحح لمن يخطأ معلومة حدثت في المستشفى ، و شجعت من ضعف الأمل عنده ، رأى الآخرون نشاطها في مجال حقوق الأفراد ، رغم أنها نادرا ما تتحدث في هذا الموضوع و يرون أيضا أن نشاطها مقبولا في الدفاع عن حق المرضى بتحديد وقت يسمح فيه لحيواناتهم البيتية بزيارتهم ، فذلك يعود بالفائدة لكل من الطرفين ،هم يرون اهتمامها بالأسورة و الخواتم و أنواعها و أشكالها و مصادرها دليلا على رقة فائضة في نفسها ، علما أنها لا ترى ذلك في نفسها ، فلم يحصل أن طوقت رسغها بسوار ، على الأقل منذ أن عملت ممرضة ، و لم تضع في إصبعها سابقا غير خاتم الزواج .

قال الرجل : سيدة هالكه ريشتر ، غرفتك ليست مريحة.
لا شك أنها عرفت من خلال الكلمات القليلة التي نطقها بشكل غير متقن أنه أحد المهاجرين الذين وجدوا لهم عملا في هذا المستشفى ، فضلا عن لون بشرته الذي يشير إلى أنه قدم من احدى بلدان الشرق الأوسط أو غيرها ، ربما أرادت أن تقول له أرجوك ، أنت بالذات لا تتحدث عن الذي يريحني ، لكنها لم تقل شيئا .
- هذه الإضاءة ، كيف تستطيعين القراءة على ضوء المصباح المنضدي ، لقد طلع النهار ، ألا ترين مثلي أن الضوء الذي يدخل من النافذة أكثر جمالا و فائدة .
ـ أعرف ، لكني أفضل أن تكون الأشياء في غرفتي كما أريد .
ـ هذا مؤسف سيدة هالكه ريشتر ، أين مفرش الأرض بلونه الأزرق الفاتح الذي تفضلينه ، و ورق الحائط هذا ، لماذا لا يتغير بعد أن تهالك من شدة القدم ، أليس من المناسب للسرير أن يكون في الجهة الثانية بدل موقعه الحالي؟ و إذا دفعت المنضدة و هذه الكراسي إلى مكان قريب من النافذة ألا يعطي ذلك الإحساس لمن يدخل الغرفة مثلي بأن المكان صار أكثر اتساعا ؟
ـ شكرا لاهتمامك ، الأزرق الفاتح لون جميل ، هو لون مفرش الأرض في منزلي .
ـ يمكنني أن أحضر لك بعض النباتات الخضراء و بعض شتلات الورد لو طلبت مني ذلك ، فليس هناك ما يدعو لأن تتركي الغرفة خالية منها .
ـ في الوقت الحالي لا أريد .
ـ امرأة مثلك لها منزلها الخاص في مدينة (ديورن) تستطيع أن تصل بالفولكس فاكن التي عندها بأقل من ساعة ، منزل لا تنقصه وسائل الراحة ، امرأة تعرف ماذا يريد منزلها لأن يكون أجمل منزل ، كيف تقنع بأن لا تطل غرفتها التي في المستشفى على نافورة مثل تلك التي عندها في الحديقة؟ كيف لا تكون الستارة التي هنا نازلة من فوق على النافذة كما هناك ؟

أرادت أن تعقب على ما سمعته لكن الدهشة أوقفتها ذاهلة دون حراك، أن يعرف هذا الرجل الذي تراه لأول مرة اسمها و قد ذكره أمامها أكثر من مرة فهذا أمر طبيعي ، ربما قرأه على اللوحة المعلقة بجانب الباب ، لكن هذه المعلومات الخاصة التي لم يكن فيها خطأ من أين له الحصول عليها؟ من أين له هذه المعلومات عن المنزل الذي في ديورن ، و النافورة التي في الحديقة ، و شكل الستائر ؟ ولم يبق إلا أن تسمع منه شيئا عن الصفحة التي انطوت من حياتها ، و التي عاشتها في ذلك البيت قبل عشرين سنة ، في بداية عملها ممرضة في مستشفى اليزابيث بعدما أصبحت الحياة مع زوجها لا تطاق فانفصلا عن بعضهما ، ترك لها المنزل و اختفى من حياتها نهائيا ، سمعت فيما بعد أنه كون أسرة ثانية في غرب البرتغال ، و فيما بعد سافر إلى جنوب البرازيل و كون له أسرة ثالثة ، و بينما كان هو يتنقل بين هذه الدول استطاعت هي أن ترجع الحياة للمنزل الذي تهاوت أركانه ، تعطيه رعايتها كلما أتيحت لها فرصة الذهاب إليه ربما نهاية كل الأسبوع ،أخذت تقلع الحشائش كلما نمت في أحواض الورد ، و تقص الفروع التي لا أمل من وراءها في بعض الأشجار ، بعد ذلك بسنة اشترت ستائر جديدة ، و بعدها بسنتين أنشأت نافورة في الحديقة ، تستطيع من غرفة نومها رؤية تدفق الماء في مفاصلها . كانت مقتنعة أنها استطاعت مع مرور الوقت أن ترى في شفاء المرضى راحة له .

مرت لحظات ، انتظرت من الرجل أن يبدأ عمله ، أن يشغل المكنسة الكهربائية مثلا ، أو يبدأ بالحمام الملحق بالغرفة لكنه قال و هو يلاحظ المجلة التي تركتها على المنضدة:
ـ أنا في حيرة ، ماذا يمكن أن تقرئي هنا ، ما هذه التي تشغلك عن أشياء أخرى كثيرة ؟
لم تصدق أنها كانت تسمع منه ذلك ، فقالت :
ـ أنك بالتأكيد لا تعرف ما تقول و ربما تجهل الحدود التي يجب أن تكون بين كل شخصين .
ـ أرجوك دعيني أوضح لك موقفي من هذه الأشياء.
ـ أنا التي أرجوك ، ليس لدي الكثير من الوقت لألتحق بعملي .
تقدم الرجل الى الكرسي يسحبه قليلا ويدعوها للجلوس ، أرادت أن تثنيه عن عزمه لكن بات واضحا أنه لا يريد أن يسمع منها اعتراضا ،بل كان مصمما على أن تجلس لتسمعه ، و عندما لم يعد لديها القدر الكافي من قوة التحمل ،طلبت منه و برجاء أن يغادر الغرفة إلى أي غرفة أخرى ، ثم يعود إليها فيما بعد بعدما تكون قد هيأت نفسها للخروج، ليست أكثر من عشر دقائق على أكثر تقدير .
مع ذلك ، عندما خرجت من الغرفة بعد عشر دقائق ، شعرت أنها ليست غاضبة من تصرفه معها ، و ستنسى الأمر رغم ما فيه من غرابة ، و في الوقت المحدد كما في كل يوم وصلت إلى الردهة .
بعد ذلك حدثت هناك تطورات أخرى ، عندما عرفت من زميلات لها يسكن مثلها في المبنى الملحق بالمستشفى ، شيئا عن ذلك الرجل الذي دخل عليها في الغرفة ، سمعت من واحدة بعد يومين من هذه الحادثة أنه أعطى الحق لنفسه في أن يفتح دولابها الشخصي بحضورها و راح يقلب في الملابس المعلقة ، مبديا رأيه في ألوان الفساتين و موديلاتها و أنها راحت تجادله و تخالفه الرأي أو تؤيده ، لكنها توصلت معه إلى حلول وسطى بهذا الشأن ، و قد قالت لها زميلة أخرى أنه فتح أحد أدراج دولابها و قلب في حمالات صدرها و جواربها و ما فوق الجوارب ، كان منها ما هو ملفوف بعضه ببعض على طريقة من تنتزعها و ترميها في الدرج كيفما اتفق ، فأبدى لها انزعاجه من أن تترك مثل هذه الأمور بهذا الإهمال ، و قد شكرته لأنه بذل مجهودا لإعادة النظام إلى الدرج و أصبح كل شئ من ذلك في مكانه الصحيح .
تسمع عن ذلك الرجل مثل هذه الأخبار و غيرها كل يوم ، تنقلها إحداهن بشيء من العرفان بالجميل لذلك الذي أدخل في حياتها هنا في المستشفى بعض الأمل ، و قد تسألها تلك : ألم يأت عندك بعد؟ ألم يقلب في أدراجك ؟ فتسكت ، مفضلة أن تبدو أمامها مشغولة بالعمل إلى أقصى حد .

أخذت تنتظره كل صباح كانت على استعداد لأن تجلس على الكرسي كما طلب منها ، لكنه لا يأت ، ترجع ظهرا إلى غرفتها فتجدها نظيفة مرتبة ، لم يكن يهمها أن تراها كذلك بقدر ما كانت تريد التأكد من أنه مر بها ، و ليس أحد غيره ، حاولت أن تفاجئه في غرفتها عندما انتهزت أكثر من فرصة لتذهب إلى هناك أحيانا في العاشرة صباحا أو بعدها ، لكن محاولاتها باءت بالفشل ، أحيانا ترى أنه لم يصل بعد أو أنها وصلت إلى غرفتها متأخرة . انتهت السيدة هالكة ريشتر إلى أن مزاجها أ صبح متغيرا ، و من مظاهر ذلك أنها لم تعد تثق في قدرتها على اختيار الملابس و أنواعها و موديلاتها ، من تلك التي تشتريها من المحلات عندما تغتنم فرصة استراحة تكفي للتسوق أثناء العصر ، علما أنها لا تحتاج إليها إلا في حالات مغادرتها المستشفى ، اشترت في هذه الفترة القصيرة ثلاثة أو أربعة فساتين ولم تكن تفعل مثل ذلك من قبل ، و أكثر من هذا العدد بنطلونات و قمصانا ، و قد ضمت إلى مجموعتها هذه أنواع من الشالات بألوان و أحجام مختلفة منها ما هو مصنوع من الحرير و منها من الساتان أو غير ذلك ، و دائما أصبح قلقها من أن هذه الأعداد ربما لا تكفيها لأن تملأ بها خزانة غرفتها و الأدراج ، و قد كانت تتقصد أن تضع فيها قطع ملابسها الداخلية كيفما اتفق .
كل ذلك و البهجة التي تأتيها من وراء هذه الأفعال لا تعرف طريقا إلى صدرها .

قبل أن تأوي إلى فراشها ، كانت تنظر لكل ما اشترته و قد فتحت أبواب خزانتها و الأدراج و لا تدري هل سيحالفها الحظ غدا ، هل يأتي و يفتح و يعبث و يبدي رأيه في هذا الشيء أو ذاك ، اضطرت أيضا إلى شراء ما لا يعجب أحد و لا يرضي ذوقا ، و قد دفعت مقابلها النقود راضية ، فهل ستسمع منه تعنيفا لهذا الذي فعلته بإيقافها عند حدها. و في الصباح تجلس على طرف سريرها يائسة تقلب صفحات إحدى المجلات و كوب القهوة قد برد على المنضدة ، و أذنها على الممر ، تريد التقاط أية حركة ، اقتراب من باب غرفتها . و في الردهة عندما تذهب لا تكاد تتحرك هناك إلا في حدود ما هو مطلوب منها ، لم تكن متفائلة و لا متشائمة ، و قد بدا لها أن ليس من اللائق و لا حتى من السليم أن يظهر عليها ما يثير شك أحد ، أو أن الأفكار قد تذهب بها بعيدا ، لم تنزل من عينيها دمعة واحدة و لم تهتز صدرها لقوة النشيج الذي يجتاحها أحيانا ،مع أن صبرها كاد ينفد ، لماذا يفعل بها ذلك ، و ما الذنب الذي اقترفته هل اقترفت جريمة بحقه عندما لم تلب طلبه في الجلوس ؟ عليه أن يعرف الآن أنها مستعدة أن تجلس . هل الأخريات بأفضل حال منها و قد حظين بكل ما سمعته منهن عنه ؟ كانت على يقين أنها سوف لا تفتح له الخزانة فقط إذا طلب منها ذلك ، و إنما مستعدة لعمل التغييرات التي اقترحها في الغرفة ، متى إذن سينظر في ملابسها المعلقة و متى سيقلب بأطراف أصابعه ما هو ملفوف بعضه ببعض في أدراج الخزانة قبل أن يضمه بحنان إلى بقية ما في المجموعة .

أوت هالكة ريشتر إلى فراشها لكن النوم لم يأتها بعد ، و كانت قبل ذلك قد قلبت في كل ما اشترته ، أحيانا و هي بهذه الصورة تسمع صوت خطوات من كن عائدات من نوبتهن الليلية الى غرفهن، بعض من تلك الممرضات عندما يلوح لهن نور غرفتها مضيئا من أسفل الباب يهمسن لبعضهن : يبدو أن السيدة العجوز لم تأو بعد إلى فراشها!